Pages

Kamis, 20 Oktober 2011

Ilahiyat Ja'far Subhani


                        الالهيات، ج‏1، ص: 1
                        الالهيات (ج 1)

                        بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

تصدير بقلم المحاضر
الحمد للَّه‏الّذي علم السرائر، وخبر الضمائر، له الإحاطة بكل شي‏ء، والغلبة لكل شي‏ء، والقوة على كل شي‏ء، دلّت عليه أعلام الظهور، وأدرك بذاته خفيّات الأمور، إمتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، ولاقلب من أثبته تبصره، سبق في العلم فلا شي‏ء أعلى منه، وقَرُب في الدنو فلا شي‏ء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شي‏ء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به، لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الّذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى اللَّه عما يقول المشبّهون به، والجاهلون له، علواً كبيراً.
والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله، وبعيثه وصفوة خلقه، الّذي أرسله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بيّنه وأحكمه، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إذ أنكروه، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من‏
                        ****
 غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته، وخوفهم من سطوته.
وعلى آله الذين هم موضع سرّه ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، واذهب ارتعاد فرائصه.
وعلى صحبه المنتجبين الذين قرؤا القرآن فاحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، وأحيوا السنّة، وأماتوا البدعة، صلاة دائمة ما دامت السماء ذات أبراج، والأرض ذات فجاج «1».
أما بعد:
فقد التحق النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بالرفيق الأعلى وقد ترك بين الأمة وديعتين عظيمتين، وأمانتين كبيرتين عرّفهما بقوله:
 «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللَّه وعترتي، كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» «2».
وعلى ضوء هذا البيان من نبي العظمة، فالكتاب والعترة مقياس الحق ونبراس المعرفة، لا يضل من تمسك بهما أبداً، ففيهما أعلام الهداية، ودلائل الحقيقة، وأنوار للنهى والعقول.
                        4

وكان المتوقع من أمة ورثت هذه التركة النفيسة الغالية أن تكون مرصوصة الصفوف ومتوحدتها، غير مختلفة في الأصول والفروع، سالكة سبل الحياة بهدوء وطمأنينة. ولكن- يا للأسف- حدثت حوادث وطرأت حواجز عرقلت خطاها، وصدتها عن نيل تلك الأمنية المنشودة. فظهرت بينها آراء متشعبة، ونبتت فيها فرق تحمل عقائد وأفكاراً لا توافق حكم الثقلين، وتضاد مبادئ الإسلام وأُسسه. وما هذا إلَّالأجل عدم تمسكهم بما أمر النبي بالتمسّك به، وهذا واضح لمن راجع تاريخ المسلمين. وليس المقام مناسباً لتفصيله، «ودع عنك نَهَباً صيح في حجراته ...».
علم الكلام وليد الضروريات الزمنية
قام المسلمون بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، بفتح البلاد، ومكافحة الأمم المخالفة للإسلام، وكانت تلك الأمم ذات حضارة وثقافة في العلوم والآداب، وكان بين المسلمين رجال ذوو علاقة متأصلة بكسب العلوم السائدة في تلك الحضارات. فأدت تلك العلاقة إلى المذاكرة والمحاورة أولًا، وترجمة كتبهم إلى اللغة العربية ثانياً.
وقد كانت معارف اليونان والرومان والفرس منتشرة في بلاد إيران والشام وما والاها الّتي فتحها المسلمون بقوة الإيمان، وضرب السيوف، فعند ذاك استولى المسلمون عليالعلوم اليونانية والإيرانية، ونقلوها عن السريانية والفارسية إلى العربية «3».
وأعان على أمر الترجمة وجود عدّة من الأسرى في العواصم الإسلامية، فصار ذلك سبباً لانتقال كثير من آراء الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامي وانتشارها بينهم. وكان بين المسلمين من لم يتدرع في‏
                        5

مقابلها، بل كان بينهم من لم يتورع في أخذ الفاسد منها، فأصبحوا مغمورين في هذه التيارات الفكرية، ونجمت فيهم الملاحدة نظراء: ابن أبي العوجاء، وحماد بن عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن أياس، وعبد اللَّه بن المقفّع، وغيرهم من رجال العيث والفساد. فهؤلاء اهتموا بنشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الروم والفرس بما فيها من الضلال والإلحاد، مع ما فيها من الحقائق الصحيحة. إلى أن عاد بعض المتفكرين غير مسلّمين للإسلام إلّابالقواعد الأساسية كالتوحيد والنبوّة والمعاد. فكانوا ينشرون آراءهم علنا، ويهاجمون بها عقائد المؤمنين «4».
وهذا هو العامل الأوّل لانتشار الفوضى في العقائد والأعمال والأخلاق والآداب. وهناك عامل ثان لهذه الحركة الهدّامة وهو حرية الأحبار والرهبان المتظاهرين بالإسلام في نقل ما ورثوا من القصص والأساطير من طريق العهدين والكتب المحرّفة. فوجدوا في المجتمع الإسلامي جواً مناسباً لإظهار البدع اليهودية والسخافات المسيحية والأساطير المجوسية فافتعلوا أحاديث نسبوها إلى الأنبياء والمرسلين، كما افتعلوا بعضها على لسان النبي الأكرم، فحسبها السذج من الناس والسوقة، حقائق ناصعة وعلوماً ناجعة ملؤوا بها صدورهم وطواميرهم وتفاسيرهم للكتاب العزيز «5».
ففي هذا الجو المشحون بالغزو الفكري من جانب الأعداء، وعدم تدرّع المسلمين في مقابل هذه الشبهات والشكوك شعر المفكرون المخلصون من المسلمين بواجبهم، وهو الدفاع عن العقيدة الإسلامية بنفس الأصول الّتي يدين بها المخالفون، والطرق الّتي يسلكها المعادون. وكان نتيجة ذلك تأسيس علم الكلام لغاية الاستدلال على صحتها وذب الشكوك والشُبّه‏
                        6

عنها. وفي ظل ذلك ظهرت طوائف من المتكلمين بمناهج مختلفة، كل يحمل لواء الدفاع عن الإسلام، ومقاومة التيارات الإلحادية والثنوية. وقد نجحوا في ذلك نجاحاً نسبياً وإنْ لم يتوفق في الوصول إلى الحق في جميع المجالات سوى القليل منهم «6».
نعم، كان هذا المقدار من النجاح جديراً بالإطراء، لأن هذه الصفوة من المتفكرين وقعت بين عدوين: داخلي وخارجي.
أما الأوّل: فهم أهل الحديث والقشريين والسطحيين من المسلمين الذين كانوا متأبّين عن الخوض في المسائل العقلية، ويكتفون بما وصل اليهم من الصحابة، ويقتصرون على ما حصلوا عليه من الدين بالضرورة، وهم الحشوية من أكثر أهل الحديث والحنابلة أخيراً. وآفّتهم عدم التفريق بين الحديث الصحيح والزائف، والكلام الحق والمفترى، والعقائد الإسلامية والبدع اليهودية والمسيحية المستوردة من طريق الأحبار والرهبان المستسلمين ظاهراً، والحاقدين عليه باطناً.
حتّى ظهر القول بالتشبيه والتجسيم، واعتناق ما ينبذه العقل الفطري بسبب هذه المرويات.
وأما العدو الخارجي: فهم الملاحدة والثنوية، فكانوا يعادون أهل التفكير من المسلمين لما يجدون فيهم من القدرة على الاحتجاج والمناظرة، ومع ذلك فقد ساد التفكير على المسلمين من القرن الثاني إلى العصور الأخيرة، فقام المفكرون بتأليف أسفار ضخمة حول العقائد والمعارف على المناهج الّتي استحسنوها وضبطوها.
                        7

ضرورة تكامل الأبحاث الكلامية
إنَّ المتكلمين الإسلاميين قد قاموا بواجبهم في مقابل الملحدين والثنوية والسطحيين من أهل الحديث، وأدّوا ما عليهم من الرسالة، غير أنَّ تقدم الحضارة في الأعصار الأخيرة، وتطور العلوم وتفتح العقول، أوجد تحولًا كبيراً في تحليل الأبحاث والدراسات العقلية والفكرية، فلأجل ذلك اصبحت الكتب الكلامية القديمة، غير ملبية لحاجات العصر، خصوصاً بالنسبة إلى الأسئلة الجديدة الّتي طرحها علماء النفس والاجتماع في مجال الدين والتدين، هذا من جانب. ومن جانب آخر، اعتمد المادّيون في تحليل الكون على أصول خاصة ربما تورث شكوكاً وشبهات في الأذهان والأوساط الإسلامية. فيجد الباحث فيها نقائص يجب رفعها.
أما أولًا: فإن الكتب الكلامية الّتي أُلفت من القرن الثالث إلى أواخر القرن الثامن أو التاسع، تبحث في نقاط ثلاث لا يهمها فعلًا إلا الثالث.
أ- الأمور العامة: كالبحث عن الوجود والماهية والإمكان والوجوب والامتناع والعلّة والمعلول والوحدة والكثرة، وغير ذلك من المباحث الّتي تعدّ من عوارض الموجود بما هو موجود من دون أن تختص بعوارض الموجود الطبيعي أو الرياضي. وقد عرفت ب «النعوت الكلية الّتي تعرض للموجود من حيث هو موجود».
ب- الطبيعيات: كالبحث عن الجسم الطبيعي والتعليمي، وبساطته وتركّبه، فلكيّة وأثيرية، والقوى الحيوانية والنباتية، وغير ذلك ممّا يرجع إلى الموجود المتخصص بكونه طبيعياً. وقد عرّفت ب «الأحكام العارضة على الجسم الطبيعي بما هو واقع في التغيير والتبدّل».
ج- الإلهيات: وهو البحث عن اللَّه سبحانه وصفاته وذاته وأفعاله. وكانت الوظيفة العليا للمتكلمين البحث عن الأمر الثالث والتركيز عليه. غير
                        8

أنهم طلباً لمجاراة الحكماء والفلاسفة خاضوا في البحث عن الأمرين الأولين، حتّى يستغني الباحث الكلامي في الأبعاد الثلاثة عن كتب غيرهم.
ولو كان تركيزهم على الأمور الثلاثة أمراً مستحسناً في تلك الأدوار، فإنه أصبح اليوم أمراً مستدركاً غير ناجع.
فإنَّ الحكماء قد بلغوا الغاية في تحليل الأمور العامة، واصطلحوا عليها ب «الفن الأعلى» أو «الإلهيات بالمعنى الأعم»، فمن تدرّس هذه الناحية في الفلسفة الإسلامية فهو في غنى عن كل ما ذكره المتكلمون في كتبهم، مع كون أبحاثهم غير وافية بما هوالمطلوب منها.
كما أن علماء الطبيعة من عصر النهضة إلى زماننا هذا، قد توغلوا في العلوم الطبيعية، وشققوا الشعر في تلك الحقول، وذلك بفضل أدوات التجربة الّتي أوجدت ضجة وتحوّلا كبيرين في هذا المجال. فصار البحث عن العلوم الطبيعية الدارجة في الكتب الكلامية، شيئاً غير مفيد إلّاأن يكون لأجل الوقوف على آراء المتقدمين من الباحثين الّذي يطلق عليه «تاريخ العلم».
فلأجل هذين الأمرين اشتملت الكتب الكلامية الدارجة على أمور غير لازمة، يجب حذفها عن مصب الاهتمام والتركيز على «الإلهيات».
وأما ثانياً: فإنَّ ما جاء به المتكلمون في أبواب إثبات الصانع وحدوث العالم مختصر جداً لا يفي بدفع الإشكالات والشكوك المبثوثة في طريق الإلهيين الجدد، يلمس ذلك كل من قرأ الكتب النفسية والاجتماعية والفلسفية المادية الّتي تركز على تحليل حدوث النظام والأنواع على أسس خاصة، ببيانات خادعة لعقول البسطاء، بل المتعلمين.
فلأجل ذلك يجب أن تكون الكتب الكلامية ناظرة إلى ما وصلت إليه يد الباحث المادي من الشكوك والفروض الّتي يفتخر ويتبجح بها. فالبحث‏
                        9

عن الإلهيات من دون النظر إلى ما جاءت به المناهج المادية بحث مبتور. فالمتعلم على الطراز السابق إذا جادل العالم المادي ربما يقع فريسة لأفكاره الضارية، أو يعود شاكّاً فيما يعتقده، أو تتجلى الأصول العقيدية عنده بمظهر الوهن وعدم الرصانة. مع أنَّ ما اعتمد عليه المادي أسسٌ سرابيَّة لكنها خادعة، لا يعرف خداعها إلَّاالمطلع على ما تسلّح به المادي.
وأما ثالثاً: فمشكلة العرض في الكتب الكلامية ملموسة جداً. فإنهم عرضوا أفكارهم بتعقيد وغموض، ربما لا يتحملها ذوق الطالب المعاصر في العصر الحاضر، الّذي يطلب أنْ يكون المعقول كالمحسوس. فلأجل ذلك نرى المتون محشاة بالحواشي والحواشي مطرّزة بالتعاليق، وما ذلك إلَّالأن المتأخر يرى نقصاً واضحاً في كتاب المتقدم فيقوم بتكميله على نحو ربما يوجب غموضاً فوق غموض.
وأما رابعاً: فإنَّ أكثر الكتب الكلامية ألّفت لبيان منهج خاص يرتضيه المؤلف، فصارت قاصرة عن بيان سائر الأنظار والمناهج الّذي نعبّر عنه بالبحث المقارن.
كانت هذه العوامل تجيش في ذهني لأقوم بما هو الواجب عليّ في الأحوال الحاضرة، وقد خدمت هذا العلم منذ شرخ الشباب إلى أنْ نيّفت على الستّين، وقد رأيت أنَّ ترك ذلك ربما يكون تقاعداً عن حكم اللَّه سبحانه، وتقاعساً عن الواجب، فقمت بإلقاء هذه المحاضرات في جامعة العلوم الإسلامية ب «قم» المقدّسة، بعد ما ألّفت دورات كبيرة وصغيرة في العقائد والأصول. وأرجو منه سبحانه أن يهديني إلى مهيع الحق، ويصدني عن الجور في الحكم، أو الصدور عن عاطفة وهوى، واللَّه سبحانه هو الهادي إلى الحق اللاحب.
                        10

المزايا الموجودة في هذه المحاضرات‏
ولأجل ما ذكرناه في الفصل السابق، بذلنا السعي لأن تكون هذه الدراسات فارغة عن النقائص المذكورة «وإنْ كان الفعل البشري لا يخلو أبداً من نقص أو نقائص، وما ألّف إنسان شيئاً، إلَّاإذا نظر إليه في غده رآه ناقصاً غير واف بالمراد وقال: لو قدّمت هذا لكان أحسن أو أخرت هذا لكان أفيد ولو ولو ...» فهي تشتمل على الميزات التالية:
الأولى: التركيز على المسائل اللازمة المفيدة في المجتمع وترك ما لا فائدة فيه، أو ما تكفل البحث عنه سائر العلوم «7».
الثانية: الاعتماد في نقل المناهج والمدارس الفكرية على المصادر الأصلية لأصحابها، ورعاية العدل والإنصاف عند القضاء فيها. نعم الأمانة في النقل والعدل في القضاء كلمتان خفيفتان على اللسان ولكنهما ثقيلتان في الميزان.
          وكَمْ مِنْ عائبٍ قولًا صحيحاً*             وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقِيمِ‏

الثالثة: تنظيم المسائل تنظيماً هندسياً بحيث تكون المسألةُ المتقدمة مبدءً للبرهان في المسألة التالية، ولا أقُل لا تكون مبتنية على المسائل المتأخرة.
الرابعة: طرح المباحث بشكل هادئ يلائم روح العصر، والبرهنة عليها بوجه مقنع للطالب، بعيد عن النقاش والرد، وإنْ كان غير خال عن الإشكال، لأجل كونه فكراً بشرياً.
                        11

الخامسة: قد بذلنا العناية البالغة في الاستدلال بالآيات القرآنية، وأحاديث العترة الطاهرة الذين عرفهم الرسول قرناء للكتاب وحلفاءه في حديث الثقلين. والاستدلال بالكتاب والحديث تارة على نحو الإستلهام، وأخرى على نحو الاستدلال. وموقفهما في مجال الاستلهام موقف المفكر الّذي يطرح فكرته مع البرهان ويدليه إلى المخاطب من دون إعمال تعبد منه، كما هو الحال في البراهين الّتي أقامها القرآن في مجال إثبات الصانع ونفي الشريك عنه. فنعتمد على ما ذكره لا بما أنه كتاب سماوي جاء من جانبه سبحانه إذ المفروض أنه بعد لم تثبت المسائل المتقدمة عليه، فكيف يمكن أن يتخذ حجة، بل بما أن كلامه مشتمل على برهان يكفي في إثبات المطلوب سواء أكان ذلك البرهان بصفة كلامه تعالى أو لا. ولأجل ذلك نعرف القرآن بصفة الإستلهام، فكأنه بمنزلة المعلم يأخذ بيَدَيّ متعلمه ويرشده إلى آماله.
وموقفهما في مجال الإستدلال موقف من ثبت حجية قوله وصدق كلامه، فيخبر عن موضوعات غيبيّة نأخذ قوله وإن لم نعرف برهانه، ولكن بما أنَّ قوله أحد الحجج فهو كاف في الأخذ به وإن لم يعلم تفصيل برهان قوله كما هو الحال في إخباراتهما بعد ما ثبت حجيتهما.
تقييم جهود المؤلف‏
هذا ما يرجع إلى المحاضر، وهناك فضل كبير يرجع إلى مؤلفنا الفاضل المحقق الشيخ حسن محمد مكي العاملي- دامت تأييداته- فقد قام بسعي بالغ وهمة عالية بضبط هذه المحاضرات ضبطاً دقيقاً، وإخراجها بهذه الحلّة القشيبة، والثوب النقي الفضفاض، وصبّها في قوالب رصينة، رائعة الأسلوب، فائقة النظام، خالية عن التعقيد والإبهام، تعلو عليها جودة السرد، وحسن السبك، ورصانة البيان. فحيّاه اللَّه، وجزاه خير الجزاء،
                        12

على هذا المجهود الجبار الّذي أرجو من فضله تعالى أن يبقى، مدى الأجيال، ذكراً مذكوراً، وعملًا مبروراً وسعياً مشكوراً.
وقد أشرفت على جميع ما حبّرته يراعته، إشرافاً تاماً إلَّاما زاغ عنه البصر أو طغى عليه الوهم. وهذا هو الجزء الأول الّذي يزفه الطبع إلى طلاب الحقيقة والمعارف، وأرجو من اللَّه سبحانه أن يوفقه لإخراج الجزء الثاني الّذي يشتمل على مباحث هامة في الوحي والنبوة والإمامة والخلافة وحشر الإنسان في المعاد. حتّى تتم سلسلة المباحث في جزئين، وسيكون محور الدراسة التخصصية في المراحل العليا في جامعة العلوم الإسلامية ب «قم المقدسة».
ومؤلفنا المكرّم قد سبق أقرانه بسبق غير منكور، وسعي مشكور وقد كتب من أبحاثنا الفقهية والأصولية شيئاً كثيراً قابلًا للذكر، وبعضها جاهز للطبع. وهو ثمرة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهو حفيد الشهيد السعيد إمام الفقه الشيخ (محمد بن مكي العاملي الشهير بالشهيد الأول)، (رضوان اللَّه عليه) الّذي استشهد بيد الجور والعدوان في بلاد الشام عام (786 ه). فجزى اللَّه الوالد والولد البارّ أحسن الجزاء إنه خير مأمول وغاية مرجو، ونحن على ثقة أنَّ المحاضر والمؤلف يلقيان بعض ما يلقاه كل مخلص للحق، ومدافع عن الحقيقة، واللَّه من وراء القصد، وله الحمد أوّلًا وآخراً وظاهراً وباطناً.
حرّره ظهيرة يوم الجمعة السادس والعشرين‏
من شهر رمضان المبارك من شهور عام 1408 ه. ق.
جعفر السبحاني‏
                        13

كلمة المؤلف:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏
والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى الأصفياء من عترته والمنتجبين من صحبه.
قد اشتدت حاجة الأوساط الاسلاميةالعامة والخاصّة- أعني العرفيّة والعلميّة- إلى تنقيح المطالب الأصولية الّتي تُبنى عليها العقيدة الإسلامية، وتخليصها عن الشوائب، بعد أن تشتّت فيها الآراء بتشعب الميولات والأهواء، وكاد الحق في مسائل عقائد الدين أن يندثر، ومناراته أن تنطفئ، إلّافي صدور الخاصة من حملته ووعاته، الذين جرّدوا أنفسهم عن الأهواء، ونفضوا أيديهم عن دراهم الأمراء.
وسدّاً لهذا
__________________________________________________
 (1). الخطبة برمّتها مأخوذة من خطب الإمام علي عليه السلام في مواضع مختلفة من نهج البلاغة، لاحظ الخطب 2 و 49 و 85 و 181 و 147.
 (2). حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة أخرجه الحفاظ في صحاحهم ومسانيدهم وما نقلناه مأخوذ من مسند الإمام أحمد (م 242 ه)، ج 3، ص 17 و 26. وأخرجه في كنز العمال، ج 1، ص 47، الحديث 945. وقد جمع المتتبع الخبير السيد مير حامد حسين الهندي (م 1306) أسناده ومتونه وطبع في ستة أجزاء وهي جزء من أجزاء كتابه الكبير الذائع الصيت «عبقات الأنوار».
 (3). الكامل: 5/ 294، حوادث سنة 240 ه، و ص 113.
 (4). الكامل: 5/ 294، حوادث سنة 240 ه، و ص 113.
 (5). لاحظ ميزان الاعتدال: 1/ 593؛ أمالي المرتضى: 1/ 127؛ مقدمة ابن خلدون: 439؛ المنار: 3/ 545.
 (6). راجع في الوقوف على البارعين في علم الكلام من الشيعة كتاب «تأسيس الشيعة الكرام لفنون الإسلام» للسيد حسن الصدر. وللوقوف على البارعين فيه من السنة: «مقالات الإسلاميين» للشيخ الأشعري، و «تبيين كذب المفتري» لابن عساكر، و «طبقات المعتزلة» لابن المرتضى، وغيرها من الكتب المؤلفة في هذا المضمار.
 (7). كالبحث عن الأسعار: إنخفاضها وارتفاعها، والآجال، وعوض الألآم الّتي تصيب الأطفال والحيوانات الّتي صارت الشغل الشاغل في الكتب الكلامية، والبحث عن الأول على عاتق العلوم الإقتصادية والثاني على عاتق كتب التفسير.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 2
الفراغ المخيف، شدّ سماحة العلامة شيخناً الأستاذ جعفر السبحاني التبريزي، دام حفظه وعلا سؤدده، ساعد الجد، فأسدل على الراحة ستارها، وجهّز لعُلى المُنى رِحالها، وثابَر أعواماً تُعَدّ بالعقود، ترك فيها المرغوب للنفس والمنشود، حتّى أدرك ما في أبيات الزبر مسطور فناله، وغاص وراء كل مستور فطاله.
                        14

ثم أفاض زبدة ما استنهل من معين كتاب اللَّه وسنّة نبيّه وعترته الهادية، وقواعد الفلسفة والحكمة المتعالية، فتلقيت ذلك- بفضل اللَّه سبحانه ومنّه عليّ- بمل‏ء وعيي، وبذلت في ضبط مطالبه وسعي، حتّى خرج بين يديك سِفراً كالزُّهرة في السماء نوراً، وجُدَيً في السَّناء علوّاً. كتابٌ جامع لأسّ المطالب العقائدية وفروعها، يحل المعضلات، ويدفع الشبهات، عميق الفكرة، رصين العبارة وواضحها، دقيق التبويب والتحديد.
فاللَّه سبحانه هو المسؤول أن يتقبل منّا هذا العمل ويُعمّ به النفع لأبناء جيلنا والأجيال الآتية، ويكون نبراساً للحق ومناراً للهداية بمنّه وفضله وكرمه. وصلى اللَّه على محمد وآله الطاهرين.
حسن محمد مكي‏
رابع شوال المكرم 1408 ه. ق‏
قم المشرفة
                        15

كلمة المؤلّف للطبعة الجديدة:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏
الشكر للَّه‏على ما أوْلى.
لقد لاقى كتاب «الإلهيات» مُذْ أَبصر النور، رواجاً وإقبالًا في المحافل العلمية، لما تمتّع به من ميّزات، أبرزها:
1- المنهجيّة في العرض: حيث طرحنا مباحث الأصول متسلسلة على نهجٍ موافق للتسلسل العقلي المنطقي للموضوعات الكلاميّة، مع إرجاع كلِّ بحث إلى موضعه المناسب. فبدأنا بمباحث عامة حول معرفة الدين وأُصوله، ثم بحثنا في أَدلّة إثبات الصانع، ثم في صفاته، وفيها أدرجنا مباحث العدل والبَداء والقضاء والقدر والجبر والإختيار، ثم في النبوة العامّة، فالنبوّة الخاصّة، فالإمامة، فالمعاد.
2- التدرُّج في البحث: ففي كلِّ اصل استعرضنا تعريفاته اللّغوية، ثم الإصطلاحية. وإن كانت له ثمّة مقدمات كلامية ضرورية طرحناها، كمسألة التحسين والتقبيح العقليين بالنسبة إلى مباحث الحكمة. ثم خضنا في أصل البحث، ثم فرّعنا عليه ثمراته وأهم الأسئلة والإشكالات الّتي قد تُطرح حوله، وأجبنا عليها. كما في ذيل بحث عالَمِيّة الرسالة وخاتميّتها من مباحث النبوة العامة، والأسئلة حول إمامة المهدي عليه السلام بعد البحث فيها، وأسئلة المعاد بعد طرح مباحثه، وغير ذلك الكثير. وهذا ما أعطى المباحث مرونة، وصَبَغَها بصبغة عَمَليّة، وأَخرجها من حالة التنظير الجافّ.
ومن هذا القبيل طرح النماذج وتحليلها، كما يُلاحظ كثيراً في بحث إعجاز القرآن الكريم. إضافة إلى طرح الأسئلة على الباحث، ليُعْمِل ذهنه في حلِّها.
                        16

وفي هذا السياق، لاحظنا في بعض المواضع أنّ فروع بعض المباحث موسّعة بحيث يكون إدراجها ضمن المباحث الأمّ موجبا للتباعد بين أجزائها، وضياع العنوان والفكرة الرئيسية فيها، فأفردناها بالبحث في فصول خاصّة، كما فعلنا في بحث البَداء، وبحث القضاء والقدر، وبحث الجبر والإختيار، الّتي تُعَدّ فروعاً للحكمة الإلهية، فأدرجنا كلّاً في فصل خاص.
3- الشُّموليَّة في الإستدلال: كما يظهر من عنوان الكتاب، حيث استعرضنا الأدلة على ضوء ما يرشد إليه العقل والكتاب الحكيم والسُّنَّة المطهّرة. كما استعرضنا أدلة المتكلّمين وأدلة الفلاسفة أيضاً. وناقشنا ما احتاج منها إلى المناقشة، ممّا جعل هذا الكتاب فريداً في بابه.
وغير ذلك من الميّزات الّتي يلاحظها الباحث الكريم، كالسهولة في التعبير وتوخي أبسط ما يؤدّي المعنى المطلوب، وتجنّب التعقيد والإبهام.
طُبِعَ الكتاب، وسُرعان ما نفذت نسخه، فأُعيدت طباعته بشكله الأول مرتين، وكل ذلك في عامين من الزمن.
وفي هذه المدة تيسّر لنا بفضله تعالى- تصحيحه وتوضيح بعض يسير من عباراته، وتحقيقه تحقيقاً كاملًا باستخراج فهارس آياته وأحاديثه وأشعاره وأعلامه ومصادره وغير ذلك.
وقد ارتأينا- لضخامة الكتاب- تقسيمه إلى أربعة أجزاء بدلًا من مجلّدين ضخمين، ليكون أسهل للتناول والإستفادة.
وهنا لابد من التذكير بأنّ كتاب «نظرية المعرفة» الّذي حررناه من محاضرات الأستاذ العلامة السبحاني- دام ظله- قد أعددناه ليكون مَدْخلا إلى هذا الكتاب. ولذا ينبغي عدُّه ممهّداً لدراسة هذه المجموعة العقائدية، وعدم الغفلة عنه.
وختاماً، أرى لزاماً عليَّ أن أُقدّم شكري إلى ولدي الروحي الشيخ رشاد شومان العاملي- رعاه اللَّه- لما بذله من مجهود في استخراج وتنظيم فهارس الكتاب. وإلى المركز العالمي للدراسات الإسلامية لما بذله من عناية في تقديم الكتاب بحلّته الجديدة هذه.
والحمد للَّه‏رب العالمين‏
حسن مكي العاملي‏
شوال المكرم 1411 ه
                        17

الفصل الأول مقدمات أصوليَّة عامة
1- حياة الإنسان والقيم الأخلاقية.
2- ما هوالدّين؟ وما هي جذوره في الفطرة الإنسانية
3- دور الدين في الحياة.
4- المعرفة المعتبرة.
5- المعارف العليا في الإسلام.
6- لماذا نبحث عن وجود اللَّه سبحانه؟
                        الالهيات، ج‏1، ص: 3
بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏
نصدر بحوثنا الكلامية بجملة من المقدمات المفيدة التي لا غنى عنها، للتعرف على واقع الدين و مفهومه، و جذوره في الفطرة الإِنسانية، و دوره في حياة الإِنسان، و المعرفة المعتبرة في الإِسلام.
1- حياة الإِنسان و القيم الأَخلاقية
لا نتصور إنساناً يملك من العقل شيئاً، يخالف التقدم الصناعي و يعارضه، بل يقوده إلى دعم «التكنولوجيا» التي تؤتيه الراحة و الرفاه.
غير أَنَّ المشكلة في هذه الآونة من حياة البشر تنبع من موقع آخر، و هو استغلال الغرب هذه «التكنولوجيا» لصالح الإنتاج و التوزيع، و جعله الأَخلاق و المشاعر الإِنسانية ضحيَّة لهذه الغاية.
نداء يطرق الأَسماع من بعيد:
و في هذه الظروف الحَرِجة بالنسبة للإِنسان المثالي، ظهر أُناس ذوو
                        الالهيات، ج‏1، ص: 4
ضمائر حية و قلوب مستنيرة يَشْكون هذه الحالة المحيطة بالإِنسان، و يطردون الحياة الآلية المصطنعة. و قد أَحسّوا أَنَّ الإِنسان قد وصل إلى الدَّرَك الأَسفل من القيم الأَخلاقية، و أَنَّ الحياة الآلية (جَعْل الطاقات الإِنسانية و القيم ضحية الإِنتاج و التوزيع) لا توصله إلى السعادة على الإِطلاق، بل تقوده إلى تحصيل المال و الثروة بسرعة، و في الوقت نفسه إلى تحطيم القيم و المثل و ضياعها. و من هذا المنطلق حاول هؤلاء إضفاء طابع روحي على حياة الإنسان حتى تتوزان الحياة المادية مع الحياة المعنوية.
و نحن إِذْ نبارك لهؤلاء العلماء خطوتهم نذكّرهم أَنَّ القرآن الكريم قد وصف الحياة المادَّية الخالية من المعنويات و القيم بأَنها طيف يدور بين اللَّعب و اللَّهو و الزينة و التفاخر و ينتهي بالتكاثر في الأَموال و الأَولاد:
قال سبحانه: «اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مّنَ اللَّهِ وَ رِضْوَانٌ وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» «1».
ترى أَنه سبحانه يقسم الحياة المادية إلى أَقسام خمسة و كأنها تدور من بدايتها إلى نهايتها بين هذه المدارج و هي:
1- اللعب.
2- اللهو.
3- التزين و التجمل.
4- التفاخر.
5- التكاثر في الأَموال و الأَولاد.
__________________________________________________
 (1). سورة الحديد: الآية 20.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 5
و يعتقد العلماء أَنَّ كل قسم من هذه الأقسام يشغل مقداراً من عمر الإِنسان ثم يندفع إلى القسم الآخر حسب تكامل سنه و اشتداد قواه، و لعل كل واحد منها يأخذ من عمر الإنسان ثمان سنوات، ثم الخامس يستمر معه إلى خاتمة حياته و لا يفارقه حتى يموت.
ثم إِنَّ الآية المباركة تشبّه هذه الحياة الفارغة من القيم، بنبات مخضرّ لا دوام لا خضراره و لطافته، فسرعان ما يتحول النبات الأَخضر إِلى الأَصفر الذي ينفر منه الإنسان.
فمثل الإنسان الغارق في مستنقع المادة كمثل هذا النبات حيث يبتدئ حياته بالإِخضرار و اللطافة و يستقر في نهاية المطاف، جيفة في بطن الأَرض، إِلّا من قرن حياته المادَّية بالحياة المعنوية غير المنقطعة بموته و زهوق روحه.
و إِنَّ القرآن الكريم أَيضاً يصوّر الحياة المادية بشكل آخر و يقول:
 «وَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى‏ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «1».
فالحياة المادية في ريعانها تتجلى بصورة شي‏ء واقعي له من الزهو و الجمال ما يغري به كالسراب الذي يخدع العطشان، فإذا انتهى إلى نهاية المطاف من عمره، يقف على أَنها لم تكن شيئاً واقعياً يسكن إليه.
إِنَّ الحياة الإِنسانية إنَّما تأخذ المنحى السليم إذا تفاعلت مع الجانب الروحي، ليكون للدين والقيم والأخلاق مكانة مرموقة في حياته، كما أنَّ لحاجاته الماديه ذاك المقام المنشود. و إنَّما تتجلى هذه الحقيقة، أي لزوم التوجه إلى الدين، إذا وقفنا على أمرين:
__________________________________________________
 (1). سورة النور: الآية 39.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 6
1- ما هو الدّين؟ وما واقعه؟
2- ما هو دوره في حياة الإنسان؟
*** 2- ما هو الدّين؟ و ما هي جذوره في الفطرة الإِنسانية؟
لا يحاول الدّين إِرجاع البشر إلى الجهل و التخلف، بل هو ثورة فكرية تقود الإِنسان إلى الكمال و الترقّي في جميع المجالات. و ما هذه المجالات إلى أَبعاده الأَربعة:
أ تقويم الأَفكار و العقائد و تهذيبها عن الأَوهام و الخرافات.
ب- تنمية الأصول الأخلاقية.
ج- تحسين العلاقات الإِجتماعية.
د- إلغاء الفوارق العنصرَّية و القوميَّة.
و يصل الإِنسان إلى هذه المآرب الأَربعة في ظل الإِيمان باللَّه الذي لا ينفك عن الإِحساس بالمْسؤُوليَّة، و إليك توضيحها:
أمّا في المجال الأَول، أعني إصلاح الأَفكار و العقيدة فنقول: لا يتمكن الإِنسان المفكر من العيش بلا عقيدة، حتى أولئك الذين يضفون على منهجهم طابع الإِلحاد، و يرفعون عقيرتهم بشعار اللَّادينية، لا يتمكنون من العيش بلا عقيدة في تفسير الكون و الحياة. و إليك نظرية الدّين لواقع الكون و الحياة.
إِنَّ الدين يفسر واقع الكون و جميع الأَنظمة المادية بأَنها إِبداع موجود عال قام بخلق المادة و تصويرها و تحديدها بقوانين و حدود، و قد أخضعه لنظام دقيق، فالجاعل غير المجعول، و المعطي غير الآخذ.
كما أَنَّه يفسر الحياة الإِنسانية بأَنها لم تظهر على صفحة الكون عبثاً و لم‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 7
يُخلق الإِنسان سدى، بل لتكوّنه في هذا الكوكب غاية عليا يصل إليها في ظل تعاليم الأَنبياء و الهداة المبعوثين من جانب الخالق إلى هداية مخلوقَه.
هذا هو تفسير الدين لواقع الكون سر الحياة، غير أَنَّ المادّي يحاول تفسير الكون بشكل مغاير، و هو يقول:
إِنَّ المادة الأُولى قديمة بالذات و هي التي قامت فأَعطت لنفسها نظماً، و أَنَّه لا غاية لها، و لا للإِنسان القاطن فيها.
و بعبارة أُخرى، إِنَّ للكون في نظرية الإِنسان الإِلهي بداية و نهاية، فإِنَّ نشوءه من اللَّه سبحانه، كما أَنَّ نهايته- باسم المعاد- إلى اللَّه تعالى.
غير أَنَّ الكون في نظرية الإِنسان المادي فاقد للبداية و النهاية، بمعنى أَنَّه لا يتمكن من ترسيم بداية، و أَنَّه كيف تحقق و تكوّن و وُجد؟ بل كلّما سأَلته يجيبك: ب «لا أدري». كما أَنَّه لا يتمكن من تفسير نهايته و غايته، ولو سألته عن ذلك لأجابك ب «لا أَعلم». فهذا العالم عند الفيلسوف المادي أشبه بكتاب مخطوط مخروم قد سقطت من أوله و آخره أَوراق مما أَدخله في إِطار الإِبهام، فلا يقف الإِنسان على بدئه ولا على ختامه فالفيلسوف الماديّ جاهل ببدء العالم و ختامه و ليس له هنا جواب سوى «لا أَدري».
و بعبارة ثالثة: لم تزل الأَسئلة الثلاثة التالية عالقة بذهن الإِنسان منذ أَنْ عرف يمينه من يساره، و هي:
1- إِنَّه من أَين؟
2- و إلى أَين؟
3- و لماذا خُلِق؟.
و هذه الأسئلة الثلاثة يجيب عنها الفيلسوف الإِلهي بأجوبة رصينة تتضح من خلال هذه الرسالة، و إجمالها أنَّ البداية من اللَّه، و أنَّ نهاية المطاف هي‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 8
اللَّه سبحانه «إِنَّا للَّه‏وإنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ» «1»
، و أَنَّ الغاية هي التخلّق بالقيم و المثل الأخلاقية و الإِتصاف بأسمائه و صفاته سبحانه، غير أنَّ المادي يَكِلُّ عند الإِجابة عن هذه الأسئلة و لا يأتي بشي‏ء مقنع.
و على هذا الأساس قلنا اءنَّ للدّين دوراً في تصحيح الأفكار و العقائد.
و من خلال المقارنة بين الفكر الإلهي والمنهج المادي في الإِجابة على الأسئلة الثلاثة يعلم الإِنسان أنَّ التكامل الفكري إنما يتحقق في ظل الدين، لأنه يكشف آفاقاً وسيعة أمام عقليته و تفكيره، في حين أنَّ المادي يملأ الذهن بالجهل والاءِبهام، بل يقوده إلى الخرافات. إذ كيف يمكن للمادة أن تمنح نفسها نُظُماً؟ و هل يمكن أن تّتحد العلّة والمعلول، و الفاعل و المفعول، والجاعل والمجعول؟.
هذا ما يتعلق بدور الدين في مجال إِصلاح الفكر والعقيدة.
وأمَّا في المجال الثاني، و هو ما يتعلق بتنمية الدَّين للأصول السامية للأَخلاق فنقول: إِنَّ العقائد الدينية تعد رصيداً للأصول الأَخلاقية إِذ التقيد بالقيم ورعايتها لا ينفك عن مصاعب وآلام يصعب على الإِنسان تحملها إلّابعامل روحي يسهّلها ويزيل صعوبتها له، وهذا كالتضحية في سبيل الحق والعدل ورعاية الأَمانة و مساعدة المستضعفين. فهذه بعض الأصول الأَخلاقية التي لا تنكر صحّتها، غير أَنَّ تجسيدها في المجتمع يستتبع آلاماً و صعوبات، كما يستتبع الحرمان من بعض اللذائذ، فما هو ضمان تحقق هذه الأصول؟.
إِنَّ الإِعتقاد باللَّه سبحانه وأنَّ في إِجراء كل أصل من الأصول الأخلاقية أَجراً كبيراً يصل إليه الإِنسان في الحياة الأخروية، خير عامل لتحبيذ الإِنسان وتشويقه على إِجرائها والتلّبس بها في حياته الدنيويَّة، و لولا ذاك الإِعتقاد لأَ صحبت الأَخلاق نصائح وعظات جافة لا ضمان لإِجرائها.
__________________________________________________
 (1)
. سورة البقرة الآية 156.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 9
و في هذا الصدد يقول ويل ديوارانت المؤرخ المعاصر: «لولا الدّين لتجلت الاخلاق و كأَنها أَشبه بالمبادلات الإِقتصادية، و لصارت الغاية منها الفوز بالنجاح الدنيوي بحيث لو كان النجاح و الفوز مضاداً للقيم لتمايل عنها، لكون الغاية في جانب اللاقيم، و إِنما هي العقيدة الدينية التي تترك الإِحساس بالمسؤولية في روح الإِنسان» «1».
و أَما في المجال الثالث، و هو ما يتعلق بتوطيده العلاقات الإِجتماعية، فنذكر فيه ما ذكرنا في دعمه الأَخلاق السامية، فإِنَّ العقيدة الدّينية تساند الأصول الاجتماعية لأنها تصبح عند الإِنسان المتديّن تكاليف لازمة، و يكون الإِنسان بنفسه مقوداً إلى العمل و الإِجراء.
غير أنَّ تلك الأصول بين غير المتديّنين لا تراعى إِلّا بالقوى المادَّية القاهرة. و عندئذ لا تتمتع الأصول الإِجتماعية بأي ضمان تنفيذي و هذا مشهود لمن لاحظ حياة الأمم المادّية غير الملتزمة بمبدأ أو معاد.
و أما المجال الرابع، أعني إلغاءه الفوارق العنصرية و القومية المفروضة على عاتق المستضعفين بالقوة و السلطة و الإِغراء و الجهل و تشويه الحقائق.
فنقول: إِنّ الدّين يعتبر البشر كلهم مخلوقين لمبدأ واحد، فالكل بالنسبة إليه حسب الذات و الجوهر كأسنان المشط، و لا يرى أي معنى للتمييز و التفريق و ترفيع بعض و تخفيض بعض آخر، كما لا يرى معنى لوجود أناس اتخمهم الشبع و آخرين أهلكهم الجوع و الحرمان.
فهذه هي المجالات الأربعة التي للدين فيها دور و تأثير واضح، أَفيصح‏
__________________________________________________
 (1). لذائذ الفلسفة، ص 478.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 10
بعد الوقوف على هذه التأثيرات المعجبة أنْ نهمل البحث عنه، و نجعله في زاوية النسيان؟
غير أن هنا نكتة نلفت نظر القارئ إليها، و هي أنَّه ليست كل عقيدة تتسم باسم الدين قادرة على خلق هذه الآثار و إبداعها، و إنما تقدر عليها كل عقيدة دينية تقوم على أساس العقل، و تكون واصلة إلينا عن طريق الأنبياء الصادقين، ففي مثل تلك العقيدة نجد الحركة و الحياة و في غير هذه الصورة يصبح الدين عقائد خرافية تتجلى بصورة الرهبانية و الميول السلبية إلى غير ذلك من الآثار السيئة التي نلمسها في العقائد الدينية التي لا تمت إلى الوحي و رجال الدين الحقيقي بصلة.
فالمفكر الغربي إذ يتهم الدّين بأَنَّه عامل التخلف و الإنحطاط، و مضاد للتقدم و الرقي، فهو يهدف إلى أَمثال هذه العقائد الدينية.
و هناك نكتة أخرى و هي: إِنَّ الدين الحقيقي يلغي الفوارق السلبية التي لا تمت إلى أَساس منطقي بصلة، و أَما المميزات الإِيجابية التي لا تنفكّ عن أَفراد البشر فهي غير ملغاة أَبداً، فكما أنَّ أَصابع اليد الواحدة تختلف كل واحدة منها عن الأخرى، كذلك أَفراد البشر يتفاوتون من حيث العقل و الفكر و الحركة و النشاط.
فالفوارق التي تنشأ من نفس طبيعة الإنسان غير قابلة للحذف و التغيير، و ما يرفضه الدين و يحذفه عن مجال الحياة هو الإِمتيازات النابعة من القوة و السلطة.
إلى هنا تعرفنا على الجوانب الحقيقية للدين و حان الآن وقت التعرف على جذوره في فطرة الإنسان.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 11
الدين و الفطرة:
الإِيمان بالمبدأ والتوجه إلى ما وراء الطبيعة من الأمور الفطرية التي عجنت خلقة الإِنسان بها، كما عجنت بكثير من الميول و الغرائز.
أقول بشكل عام إِنَّ إِدراكات الإِنسان تنقسم إلى نوعين:
1- الإِدراكات التي هي وليدة العوامل الخارجة عن وجود الإِنسان بحيث لولاها لما وقف الإِنسان عليها بتاتاً، مثل ما وقف عليه من قوانين الفيزياء و الكيمياء و الهندسة.
2- الإِدراكات النابعة من داخل الإِنسان و فطرته من دون أن يتدخل في الإِيحاء عامل خارجي. كمعرفة الإِنسان بنفسه و إِحساسه بالجوع و العطش، و رغبته في الزواج في سن معينة، و الإِشتياق إلى المال و المنصب في فترات من حياته. تلك المعارف- و إِنْ شئت سميتها بالأَحاسيس- تنبع من ذات الإِنسان و أَعماق وجوده. و علماء النفس يدّعون أنَّ التوجه إلى المبدأ داخل تحت هذا النوع من العرفان.
إِنَّ علماء النفس يعتقدون بأَنَّ للنفس الإِنسانية أَبعاداً أَربعة يكون كلُّ بعد منها مبدأً لآثار خاصة.
أ- روح الإِستطلاع و استكشاف الحقائق، و هذا البعد من الروح الإِنسانية خلاق للعلوم و المعارف، و لولاه لما تقدم الإِنسان منذ أن وجد في هذا الكوكب، شبراً في العلوم و استكشاف الحقائق.
ب- حبّ الخير، و النزوع إلى البرِّ و المعروف، و لأَجل ذلك يجد الإِنسان في نفسه ميلًا إلى الخير و الصلاح، و انزجاراً عن الشر و الفساد.
فالعدل و القسط مطلوب لكل إنسان في عامة الأَجواء و الظروف، و الظلم و الجور منفور له كذلك، إلى غير ذلك من الأَفعال التي يصفها كل إِنسان بالخير أو الشر، و يجد في أَعماق ذاته ميلًا إلى الأَول و ابتعاداً عن الثاني،
                        الالهيات، ج‏1، ص: 12
و هذا النوع من الإحساس مبدأٌ للقيم و الأَخلاق الإِنسانية.
ج- عشق الإِنسان و علاقته بالجمال في مجالات الطبيعة و الصناعة فالمصنوعات الدقيقة و الجميلة، و اللوحات الفنية و التماثيل الرائعة تستمد روعتها و جمالها من هذا البعد.
إِنَّ كل إِنسان يجد في نفسه حبّاً أَكيداً للحدائق الغناء المكتظة بالأَزهار العطرة و الأَشجار الباسقة، كما يجد في نفسه ميلًا إلى الصناعات اليدوية المستظرفة و حباً للإِنسان الجميل المظهر، و كلها تنبع من هذه الروح التي عجن بها الإِنسان، و هي في الوقت نفسه خلّاقة للفنون في مجالات مختلفة.
د- الشعور الدينى الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ، فيدعو الإِنسان إلى الإِعتقاد بأَنَّ وراء هذا العالم عالماً آخر يستمد هذا العالم وجوده منه، و أنَّ الإِنسان بكل خصوصياته متعلق بذلك العالم و يستمد منه.
و هذا البعد الرابع الذي اكتشفه علماء النفس في العصر الأَخير و أَيدوه بالإِختبارات المتنوعة مما ركز عليه الذكر الحكيم قبل قرون و أَشار إليه في آياته المباركات، نعرض بعضها:
أ-
 «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» «1».
إِنَّ عبارة «فِطْرَةَ اللَّه» تفسير للفظة الدّين الواردة قبلها، و هي تدل بوضوح على أنَّ الدّين- بمعنى الإِعتقاد بخالق العالم و الإِنسان، و أَنَّ مصير الإِنسان بيده- شي‏ء خلق الإِنسان عليه، و فُطر به كما خلق و فُطِر على كثير من الميول و الغرائز.
__________________________________________________
 (1). سورة الروم: الآية 30.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 13
ب-
 «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» «1».
أيْ عرَّفْنا الإِنسان طريقَ الخير و طريقَ الشر. و ليس المراد التعرف عليهما عن طريق الأنبياء بل تعريفهما من جانب ذاته سبحانه، و إن لم يقع في إِطار تعليم الأَنبياء، و ذلك لأَنه سبحانه يقول قبله «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِي كَبَدٍ* ...* أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَ لِسَانًا وَ شَفَتَيْنِ* وَ هَدَيْنهُ النَّجْدَيْنِ» فالكل من معطياته سبحانه عند خلق الإِنسان و إبداعه.
و هذا إنْ دلّ على شي‏ء فإنما يدل على أنَّ النظرية التي اكتشفها علماء معرفة النفس مما ركّز عليها الوحي بشكل واضح، و حاصلها إِنَّ الدين بصورته الكليَّة أَمر فطري ينمو حسب نمو الإِنسان ورشده، و يخضع للتربية و التنمية كما يخضع لسائر الميول والغرائز.
*** 3- دور الدين في الحياة
لقد بان مما ذكرنا واقع الدين و مفهومه و أنَّه أمر مكنون في فطرة الإِنسان، غير أَنَّه يجب علينا أَنْ نعرف دوره في الحياة، و أَنَّه له التأثير الكبير في حياة الإِنسان العلمية و الإِجتماعية، و لأَجل إِيقاف القارئ على تأثير الدين في هذه المجالات الحيويَّة نشير إلى بعضها:
أ- الدين مبدع للعلوم:
نحن نستعرض في هذا البحث مدى تأثير النظريتين المتضادتين (الدّين و الإِلحاد) حول نشوء العالم، في استكشاف الحقائق و التطلع إلى‏
__________________________________________________
 (1). سورة البلد: الآية 10.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 14
السنن السائدة فيه، من دون جنوح- فعلا- إلى صحة إحدى الفرضيتين.
لا شك أَنَّ في تفسير العالم و تبيينه نظريتين متقابلتين لا تجتمعان أَبداً، و سنبين فيما بعد الصحيح منهما، غير أَنَّ الذي نركز عليه هنا هو تحديد تأثير كل واحدة من النظريتين على تكامل العلوم ورقيها.
النظريَّة الأُولى:
تعتمد على أَنَّ العالم من الذرة إلى المجرة إِبداع عقل كبير، و موجود جميل، غير متناه في القدرة و العلم، فهو بعلمه و قدرته أَبدع العالم و خلقه.
النظريَّة الثانية:
إِنَّ مادة العالم أَزلية ليس للعِلْم و لا القدرة، الخارجين عنها، أي صنع و تأثير فيه، فلو وجدت فيه سنن، فإنما هي وليدة التصادف أَو ما يشبهه من الفروض العلمية التي تشترك جميعها في القول بإِفاضة المادة الصمَّاء العمياء على نفسها السنن و القوانين.
نحن لا نريد التَّركيز على إحدى الفرضيتين لأن الحقيقة ستتجلى في الأَبحاث الآتية، و إِنما نركز على معرفة أَية نظرية من النظريتين تحث الإِنسان على التحقيق و تثير روح البحث في نفسه؟
هل القول بأَن عالم المادة صنع موجود غير متناه في العِلْم و القدرة، قد أَبدع المادة و أَجرى فيها السنن و القوانين بفضل علمه و سعة قدرته؟
أو القول بأنَّ المادة لم تزل أزلية و ليس فيها للعِلْم و القدرة صنع، و لو صارت ذات سنن و قوانين فإنما هي وليدة الصّدفة أو وليدة التضاد الحاكم عليها- كما هو أحد الفروض للماديين الماركسيين- أو ما يقرب من ذلك.
فأي النظريتين هو المؤثر في تقدم العلوم و تكاملها؟
لا شك أَنَّ الباحث عن الكون لو تدرَّع بالنظرية الأُولى يجد في نفسه‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 15
حافزاً على التحقيق و إِحساساً بأَنَّ العالم غير منفك عن السنن و النظم، و عليه أَنْ يتفحَّصَ عنها.
و هذا بخلاف الباحث المعتنق للنظرَّية الثانية، لأَنَّ تحقق الصدفة أو التضاد السائد بين أجزاء المادة، لا يورث العِلْم بحتمية حدوث سنن و أَنظمة في داخل المادة حتى يبحث عنها الإِنسان فلا يصح للباحث عن سنن العالم و المستطلع للحقائق السائدة فيه، أنْ يتكئ على منصة الدراسة إِلّا أَنْ يكون معتقداً بالنظريَّة الأُولى دون النظرية الثانية.
و هذا ما ادَّعيناه في صدر البحث من أَنَّ العقيدة الدينية خلاقة للعلوم و باعثة للتحقيق.
و قد خرجنا بهذه النتيجة و هي أَنَّ الدين بمعنى الإِعتقاد بكون العالم مخلوقاً لعلم و قدرة، عامل كبير في تقدم العلوم البشرية، و أَنَّه يثير روح التعمق و التدبر في الإِنسان المحقق، في حين إِنَّ اللادينية و الإِعتقاد بأَصالة المادة و عدم اتصالها بمبداً أقوى لا يثير شوق البحث و التحقيق.
نعم، ها هنا سؤال ربما يخالج ذهن القارئ و هو أنَّ هناك عدة فرق من دعاة المادية، من المكتشفين لأَسرار الطبيعة و نظمها، فلو كان الإِلحاد يعرقل خطى التحقيق و التقدم، فكيف وصل هؤلاء إلى ما وصلوا إليه من الكشف و التحقيق؟
الجواب:
إِنَّ هؤلاء و إِن كانوا يحملون شعار الإِلحاد، لكنها شعارات على السنتهم، و أَما قلوبهم فتخفق بخلاف ذلك، بمعنى أَنَّهم يعتقدون في صميم قلوبهم بخضوع العالم لقوة كبرى أَجرت فيه السنن و النظم، التي هم بصدد كشفها و التعرف عليها، و لولا ذاك الإِيمان و الإِعتقاد بخضوع العالم لتلك القوة، لما حصل لهم الإِيمان بأَنَّ المادة ذات سنن و نظم، أَرضها و سماءَها، قريبها و بعيدها، حتَّى النجوم و المجرات المتوغلة في أَعماق‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 16
الكون فإِنَّ إصرارهم على كشف النظم فرع الإِيمان بوجودها فيها، و لا يحصل الإِيمان و الإِذعان إِلّا لمن اعتقد خضوع العالم لقوة كبرى عالمة قادرة، أَجرت فيها السنن. و إِلّا فالإِعتقاد بأَزلية المادة و كون السنن الحكيمة وليدة التصادف لا يوجب أَي إِذعان بوجود النظم في جميع أَجزاء العالم، قريبها و نائيها.
و بعبارة أَوضح: إِنَّ كل مستكشف قبل الشروع في الإِستكشاف ذو عقيدة خاصة، و هي أنَّ كل ذرة من ذرات هذا العالم حيّها و ميتها، قريبها و بعيدها، مشتملة على قانون يريد هو أَنْ يستكشفه و يفرغه في قالب العِلْم، فعندئذ نسأل من أَين حصل لهذا المكتشف هذا الإِذعان و الإِعتقاد. لا بد أَنْ يكون لهذا العلم مبدأ و مصدرٌ، فما هذا المنشأ؟
فإِنّ قال: «إِني أَعتقد بأَنَّ مجموع العالم إِبداع قوة كبرى ذات علم و قدرة هائلين أَوجدت العالم بعلمها و قدرتها و حكمتها»، لصح له أَنْ يعتقد بأَنَّ كل جزء من أَجزاء هذا العالم ذو نظام، لأَنَّ فعل العالم القادر الحكيم لا ينفك عن النظم و لا يوجد فيه اختلال و لا اضطراب.
و إِنْ قال: «إِني أَعتقد بأَزلية المادة و أنَّ المادة الصماء صارت ذات نظام في ظل الصدفة طيلة الأَزمنة المتمادية»، فيقال له: إِنَّ الإِعتقاد بالصدفة لا يلازم الإِذعان بالنظام مائة بالمائة بل يحتمل أَنْ يوجد هناك نظام كما يحتمل أَنْ لا يوجد.
فتفسير الإِذعان بوجود النظام مائة بالمائة عن طريق الإِعتقاد بالصدفة باطل جداً لأَنه من قبل تفسير العلم القطعي، بشي‏ء لا يوجد العلم بل يوجد الإِحتمال، لأَن الإِعتقاد بالصدفة مبداً لاحتمال وجود النظام لا الإِذعان بوجوده، فلابد لهذا الإِذعان من علَّة أُخرى غير الصدفة، و ليس هي إِلّا
                        الالهيات، ج‏1، ص: 17
الإِعتقاد بكون الشعور و القدرة دخيلين في إِنشاء العالم و إِخراجه إلى حيز الوجود.
و إِنْ شئت أَفرغ هذا البيان بقالب منطقي و قل: لكل مكتشف قبل الإنشغال بالكشف، إذعان بوجود النَّظم و السنن في هذا العالم، و هو يريد كشفها، هذا من جانب.
و من جانب آخر، إنَّ المادي يرى العامل الوحيد لظهور السنن هو الصدفة، و لكنها ليست عاملًا مورثاً للإِذعان بل أقصى ما تورثه هو الاحتمال. مع أنَّ المستكشف يحمل العلم بالسنن لا أنه يحتمل أنْ يكون هناك سنّة و نظام.
فيجب أنْ يفسّر ذاك الإذعان بعامل ثان و ليس هو إلّا قيام العالم، حدوثاً و بقاء، بعلم و قدرة أزليين.
ب- الدّين دعامة الأخلاق‏
قد تعرفت على دور الدين في إثارة روح التحقيق في الإِنسان، لكن له دوراً آخر في تركيز الأخلاق و تحكيم أصولها في المجتمع، و إليك بيانه:
لا شك أَنَّ إقامة الأخلاق و التمسك بالقيم الأخلاقية، لا ينفكّ عن الحرمان في بعض الأحايين و ترك اللذائذ النفسانية في ظروف أُخر، و عندئذٍ يجب أنْ نبحث عن عامل النجاح في هذا المعترك.
فمن جانب: إنَّ الإِنسان مقهور للميول النفسانية و الغرائز المتعدية التي لا تعرف لنفسها حدّاً و هي تريد أنْ تفجر أمامها، و تنال كل لذيذ و ملائم، وافق القيم أمْ خالفها، و هذا شي‏ء يحسه كل إنسان في كثير من فترات حياته.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 18
و من جانب آخر: إنَّ الفطرة الإِنسانية توحي إلى صاحبها بحفظ القيم و العمل بالأخلاق كما أنَّ علماء التربية يوصون بذلك. و عند ذلك يجد الإِنسان في نفسه صراعاً عنيفاً بين ميوله، فلا بد لنجاحه في هذا المعترك من عامل يرجح كفّة الفطرة الإِنسانية الموحية بحفظ الأخلاق و العمل بالقيم، فما هو هذا العامل خصوصاً في الفترات التي يغيب فيها الرقيب، و تنام فيها العيون، و لا يسأل الإِنسان عما يفعل؟.
هنا يتجلى الدّين بصورة عامل قوي يرجح كفة الأخلاق، و يوحي للإِنسان بالعمل بالقيم و كبح جماح الغرائز، لأن المتديّن يعتقد بأنَّ كل ما يعمل من خير و شرّ في هذه الدنيا، سيحاسبه اللَّه سبحانه عليه بأشد الحساب و أدقّه «وَ مَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَافِي السَّمَاءِ» «1».
و هذا بخلاف ما إذا كان ملحداً و لم يعتقد بكتاب و لا حساب لا في الحياة و لا بعدها فلا يرى في معترك صراع الغرائز و تنازعها في كيانه رادعاً عن نقض الحدود و تجاهل القيم غير عنصر ضعيف التأثير يُدعى بالفطرة الإِنسانية، التي سرعان ما تتقهقر أمَام طوفان الشَّهوات، و النَّزوات.
و هذا شي‏ء ملموس لا نطيل الكلام فيه.
ج- الدّين حصن منيع في خضمّ متقلبات العَالَم‏
إنَّ الحياة في هذا الكوكب حليفة التعب والوصب، و الإنسان يعيش في السرَّاء و الضرَّاء، يفقد الأعزة و يواجه البلايا و النوازل إلى غير ذلك من الملمّات المؤلمة القاصمة للظهر، فما هي السلوى في مواجهة علقم الحياة و حنظلها؟.
__________________________________________________
 (1). سورة يونس: الآية 61.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 19
أقول إنَّ الدّين هو السلوى الكبرى التي تجعل الإِنسان جبلًا راسخاً تجاه الحوادث المؤلمة غير متزعزع في البلايا و لا متزلزل عن الكوارث، لماذا؟ لوجهين:
أما أولًا فإنه يعتقد أنَّ ما يجري في الكون من خير و شر، فهو من مظاهر مشيئة الخالق الحكيم الذي لا يصدر منه شي‏ء إلّا عن حكمة و لا يفعل إلّا عن مصلحة، فهذه الكوارث، مرّة ظواهرها، حلوة بواطنها، و إنْ كان الإِنسان لا يشعر بذلك في ظرف المصيبة و الابتلاء، ولكنه يقف عليه بعد كشف الغطاء و انجلاء الحقائق.
و ثانياً
فإنَّ الإِنسان إذا صبر تجاه المصائب و استقبلها بصدر رحب و وجه مشرق يكون مأجوراً عنده سبحانه بصبره و ثباته و استقامته، و رضاه بتقديره و قضائه قال سبحانه: «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رَّبّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُوْلَئكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» «1»
. فعند ذلك يتجلى الدّين كدواء يسكّن الآلام و يخفّف المصائب، بل ربما يستقبلها ببشاشة و انشراح، غير أنَّ المادي في ذاك المجال فاقد البلسم لجراحات حياته، و فاقد الدواء لا ضطراباته، لأنه لا يعتقد بأن وراء المادة عالماً يحشر فيه لإِنسان، و يثاب بصبره، و يؤجر بأعماله فهو يعتقد بأنَّ دائرة الكون محدودة بالمادة، يبدأ منها و ينتهي إليها، فلا مناص منها إلّا إليها، و هي صماء و عمياء لا تقدر على تسكين جروح الإنسان و ترفيه روحه، فلأجل ذلك نرى الانتحار شائعاً بين تلك الزمرة، عند المصائب، و أما الزمرة المؤمنة بالحياة الأُخروية، فيستقلّون آلام المصائب عند حلولها و يسلّون أنفسهم بالصبر و الثَّواب على خلاف الماديّين حيث يستكثرونها و يستسلمون أمامها.
__________________________________________________
 (1)
. سورة البقرة: الآيات 155- 157.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 20
فلو صحَّ لنا تشبيه المعقول بالمحسوس و إفراغ المعاني العالية في قوالب حسية ضيقة، فلا عتب علينا إذا قلنا بأن الدين تجاه التيارات المؤلمة القاصمة للظهر، الموجبة للإِنفجار، كصمام الأمان في المسخّنات البخارية التي لم يزل بخارها يزداد حيناً بعد حين، فلولا صمام الأمان الذي يوجب تسريح البخار الزائد، لانفجر المسخن في المعمل و أورث القتل الذريع و الحريق الفظيع، و قد اعتذرنا عن هذا المثال بأنه من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.
*** 4- المعرفة المعتبرة
إِنَّ الخطوة الأولى لفهم الدّين هي الوقوف على المعرفة المعتبرة فيه.
فالدّين الواقعي لا يعتبر كل معرفة حقاً قابلًا للاستناد، بل يشترط فيها الشروط التالية.
أ-
المعرفة القطعية التي لا تنفكّ عن الجزم و الإِذعان و رفض المعرفة الظنّية و الوهميّة و الشكّية، قال سبحانه:
 «وَ لَاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا» «1»
. ترى أنَّ الآية ترفض كل معرفة خرجت عن إطار العِلمْ القطعي، و لأجل ذلك يَذمّ في كثير من الآيات اقتفاءَ سنن الآباء و الأجداد، اقتفاء بلا دليل واضح، و بلا عِلْم بصحته و إتقانه، يقول سبحانه: «بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ* وَ كَذَ لِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» «2».
__________________________________________________
 (1). سورة الاسراء: الآية 36.
 (2). سورة الزخرف: الآيتان 22- 23.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 21
والقرآن ينقل أخبار الكثير من المضلّلين حيث يعضّون أناملهم من الندم يوم القيامة بقوله: «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا* وَ قَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» «1».
ب-
تعتبر المعرفة، إذا كانت نابعة من أدوات المعرفة الحسّية و القلبية أو العقلية، يقول سبحانه: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «2».
فالسَّمع و الأبصار رمز الأدوات الحسّية، و الأفئدة كناية عن العقل و الإِدراكات الصحيحة الفكرية، و الإِدراكات الخارجة عن إطار تلك الأدوات غير قابلة للاستناد.
و إنما اعتمد من بين أدوات المعرفة على هذين (الحِسْ و العقل) لأنهما أكثر صواباً و أعظم نتيجة و أما غيرهما من الأدوات التي يعتمد عليها مرضى القلوب فهي غير قابلة للاستناد، و لهذين الأمرين من أدوات المعرفة شعوب و فروع قد بيّنت في علم «نظرية المعرفة».
نعم هناك سؤال يطرح نفسه و هو أَنَّه إذا كان اقتفاء الآباء و الأجداد و تقليدهم أمراً مذموماً فلماذا جوّزه الإِسلام في باب معرفة الأحكام الفرعية العملية؟ إذ يصح لكل مسلم أنْ يأخذ مذهبَه في الفروع و الأحكام من إمام الفقه و عالمه، أو ليس ذلك تقليد لهم كتقليد الكفار لآبائهم؟.
و الإِجابة على هذا السؤال واضحة، إذ أن أخذ الأحكام عن المجتهد البارع المتخصّص في فنّه، ليس من قبيل التقليد المذموم و هو الرجوع إلى الغير، و تقليده بلا دليل، لأنَّ رجوع الجاهل إلى العالِم و اقتفائه أثَره رجوع‏
__________________________________________________
 (1). سورة الاحزاب: الآيات 66- 68.
 (2). سورة النحل: الآية 78.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 22
إليه مع الدليل، و عليه سيرة العقلاء في جميع المجالات، فالجاهل بالصنعة يرجع إلى عالمها، و جاهل الطب يرجع إلى خبيره، و هكذا دواليك، و هذا كله في الأمور الفرعية.
و أما المسائل الأصولية، فهي مسائل جذورية، و الأمر فيها يدور بين الإِثبات المحض، كما هو الحال عند الإِلهيين، و النفي المحض كما هو عند المادّيين، فلا يصحّ التقليد فيها، إذا ليس هناك قدر مشترك حتى يؤخذ به ويرجع في الزائد عليه إلى المتخصص، فإن كلَّا من الإِلهي و المادّي يدّعي كونه متخصصاً في هذا العلم.
فلا جل ما ذكرنا، يجب على الإِنسان الغور في المسائل الأصولية من دون جعل فكرٍ سنداً و حجّة.
*** 5- المعارف العليا في الإِسلام‏
إِنَّ الإِسلام يحثّ على التعرف على أمور ثلاثة من بين الموضوعات المختلفة و يعتبرها ذات أهميّة لمن يطلب الواقع.
1- معرفة الكون و الطبيعة:
هذه المعرفة مما يؤكد القرآن بحماس على تحصيلها يقول سبحانه: «قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ» «1».
و يقول أيضاً: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِاُوْلِي الْأَلْبَابِ» «2».
__________________________________________________
 (1). سورة يونس: الآية 101.
 (2). سورة آل عمران: الآية 190.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 23
فلا محيص للإِنسان المتديّن عن دراسة الطبيعة و الغور في أعماقها حسب معطياته و قابلياته.
2- معرفة الإِنسان نفسه:
و هي من ضروريات المعارف التي أكَّد عليها كما أكَّد على سابقتها، قال سبحانه: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَ فِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى‏ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى‏ كُلّ شَي‏ءٍ شَهِيدٌ» «1».
و تضافرت الروايات على أهميّة معرفة النَّفس و أنَّ الإِنسان من خلال التعرف عليها و كل الطبيعة التي يعيش فيها، يعرف ربّه.
3- معرفة التاريخ:
إِنَّ القرآن يؤكد على معرفة التاريخ بما أنه مثار العبر و العظات، يقول سبحانه: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِاُوْلِي الْأَلْبَابِ» «2».
و يقول سبحانه: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «3».
هذه هي الموضوعات التي يحبّذ الإِسلام على التعرّف عليها كل من يريد أنْ يلمس الحقائق و يصل إلى الواقع، فالمعرض عن هذه المعارف، محجوب عن معرفته سبحانه و سننه في الكون.
*** 6- لماذا نبحث عن وجود اللَّه سبحانه؟
و قبل أنْ نركز على أسباب معرفته سبحانه و دلائل وجوده، نقوم‏
__________________________________________________
 (1). سورة فصلت: الآية 53.
 (2). سورة يوسف: الآية 111.
 (3). سورة الأعراف: الآية 176.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 24
بالإِجابة عن سؤال كثيراً ما يطرح نفسه بين الشباب، و هو مأخوذ من دسائس الماديين لا سيما الماركسيين في الأوساط الإِسلامية.
و حصيلة السؤال هو: إنَّ البحث عن ما وراء المادة بحث لا صلة له بالحياة، و ليس من الموضوعات التي تقع في إطار الحياة التي يحياها الإِنسان في أدوار عمره المختلفة، من صباه إلى شبابه إلى كهولته و شيخوخته. و البحث عمّا وراء الطبيعة و أنَّ هناك موجودات عليا مجردة عن المادة و أحكامها، كالملائكة و العقول و النفوس، وفوقها مبدعها و مبدع جميع العوالم: مادّيها و مجرّدها، لا ينفع في الحياة ولو أُثبت بألف دليل، فَصَرْفُ الوقت حول هذه المباحث يعوق الشاب عن القيام بوظائفه اللازمة.
و الإِجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الإِطّلاع على ما ذكرنا، فقد عرفت أنَّ للدّين دوراً قوياً و تأثيراً عظيماً في تكامل العلوم كما أنه ضمان للأخلاق، و خير دعامة لها، بل ضمان لتنفيذ القوانين الصالحة، و الحصن الحصين في متقلبات الأحوال.
فإذا كان له ذلك الشأن العظيم في حياتنا العلمية و الأخلاقية و الاجتماعية فطي الصفح عنه و الاشتغال بغيره، خسارة عظيمة للإِنسانية. فما يتشدَّق به المادي من أنَّ البحث عن الدّين و ما وراء الطبيعة لا صلة له بالحياة، مكذوب على الدين و كلام خال عن التحقيق. نعم، ما ذكرنا من دور الدّين و تأثيره في الجوانب الحيوية من الإِنسان، إنَّما هو من شؤون الدّين الحقيقي الذي يواكب العلم و الأخلاق و لا يخالفهما، و أما الأديان المختلفة المنسوبة إلى الوحي و السماء بكذب و زور فخارجة عن موضوع بحثنا.
دفع الضرر المحتمل:
إِنَّ هناك عاملًا روحياً يحفّزنا إلى البحث عن هذه الأمور الخارجة عن إطار المادة و الماديات، و هو أنَّ هناك مجموعة كبيرة من رجالات الإِصلاح‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 25
و الأخلاق الذين فدو أنفسهم في طريق إصلاح المجتمع و تهذيبه، وراحوا ضحية رقيّه، توالوا على مدى القرون و الأعصار و دعوا المجتمعات البشرية إلى الاعتقاد باللَّه سبحانه و صفاته الكمالية، و ادَّعوا أنَّ له تكاليف على عباده و وظائف وضعها عليهم، و أنَّ الحياة لا تنقطع بالموت و ليس الموت آخرها و آخر مقطع منها، و إنما هو جسر يعبر به الإِنسان من دار إلى دار، و من حياة ناقصة إلى حياة كاملة، و أنَّ من قام بتكاليفه و وظائفه فله الجزاء الأوفى، و أمّا من خالف واستكبر فله النكاية الكبرى.
هذا ما سمعته آذان أهل الدنيا من رجالات الوحي و الإِصلاح، ولم يكن هؤلاء متهمين بالكذب و الإِختلاق، بل كانت علائم الصدق لائحة من خلال حياتهم و أفعالهم و أذكارهم. عند ذاك يدفع العقل الإِنسان المفكر إلى البحث عن صحة مقالتهم دفعاً للضرر المحتمل أو المظنون الذي يورثه مقالة هؤلاء. و ليس إخبار هؤلاء بأقل من إخبار إنسان عادي عن الضرر العاجل أو الآجل في الحياة الإنسانية، فترى الإنسان العاقل يهتمّ بإخباره و يتفحص عن وجوده حتى يستريح من الضرر المخبر عنه.
و هذا ما اعتمد عليه علماء الكلام في إثبات لزوم البحث عن معرفة اللَّه سبحانه. فأوجبوا هذا البحث دفعاً لذاك الضرر المحتمل أو المظنون.
معرفة اللَّه و شكر المُنعِم:
لا شك أنَّ الإِنسان في حياته غارق في النعم، فهي تحيط به منذ نعومة أظفاره إلى أخريات حياته، و هذا الشي‏ء مما لا يمكن لأحد إنكاره.
و من جانب آخر إنَّ العقل يستقل بلزوم شكر المنعم، و لا يتحقق الشكر إلَّا بمعرفته.
و على هذين الأمرين يجب البحث عن المنعِم الذي غمر الإِنسان‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 26
بالنّعم و أفاضها عليه، فالتعرف عليه من خلال البحث إجابة لهتاف العقل و دعوته إلى شكر المنعِم المتفرع على معرفته.
هذه الوجوه الثلاثة (دور الدّين في الحياة، دفع الضرر المحتمل، و لزوم شكر المنعم عقلًا) التي ألمعنا إليها بالإِجمال تحفز الإِنسان إلى البحث عن معرفة اللَّه و الاهتمام بها أكثر من اهتمامه بما هو دخيل على حياته المادية، و إنما يعرض من يعرض عن هذه المسائل لعلل روحية غير خافية على الباحث، إذ لا شك أنَّ معرفة اللَّه، و الاعتقاد به لا ينفكّ عن الالتزام بقيود و حدود في الحياة و رعاية الأصول الأخلاقية و الاجتماعية، و القيام بالوظائف الفردية، و كل ذلك ينافي الحرية المطلقة و الإِباحية التي يتوخاها الماديون و المنسلكون في عدادهم. فإنكار الدّين و المبدأ ليس إنكاراً لنفسه بل للفرار مما يترتب عليه من الضمانات و الإلتزامات، و القيود و الحدود.
و هي تخالف هوى الإِنسان الإباحي الذي لا يرى أصلًا في الحياة إلّا اللذة.
*** إلى هنا انتهت المقدمات التي أردنا إيرادها لبيان مفهوم الدّين و جذوره في الفطرة الإِنسانية و دوره في حياة الإِنسان و وجوب معرفة اللَّه تبارك و تعالى. و يقع الكلام بعدها في أدلة وجود الخالق المبدع لهذا الوجود.
***
                        الالهيات، ج‏1، ص: 27
 الفصل الثاني الطّرق إلى معرفة اللَّه‏
* برهان النَّظم* برهان الإِمكان* برهان حدوث المادّة
                        الالهيات، ج‏1، ص: 29
الطّرق إلى معرفة اللَّه‏
هناك كلمة قيّمة لأهل المعرفة و هي: إنَّ الطرق إلى معرفة اللَّه بعدد أنفاس الخلائق بل فوقها بكثير و كثير، فإنَّ لكل ظاهرة من الظواهر الطبيعية وجهين، يشبهان وجهي العملة الواحدة، أحدهما يحكي عن وجودها و حدودها و خصوصياتها و موقعها في الكون، و الآخر يحكي عن اتّصالها بعلّتها و قوامها بها و نشوئها منها. فهذه الظاهرة الطبيعية- من الوجه الأول- تقع موضوع البحث في العلوم الطبيعية، فيأخذ كل باحث جهة خاصة من هذا الوجه حسب تخصصه و ذوقه و اطّلاعه، فواحد يبحث عن التراب و المعادن و آخر عن النبات و الأشجار، و ثالث عن الحيوان إلى غير ذلك من الموضوعات.
كما أنها من الوجه الثاني تقع طريقاً لمعرفة اللَّه سبحانه و التعرف عليه من ناحية آثاره:
          إِنَّ آثارَنَا تَدُلُّ علينَا*             فَانْظُروا بَعْدَنا إلَى الآثارِ

و بما أنَّ الظواهر الطبيعية، جليلها و حقيرها لها و جهان، فقد أكَّد الإِسلام على معرفتها و الغور في آثارها و خصوصياتها، قائلًا: «قُلِ انظُرُواْ
                        الالهيات، ج‏1، ص: 30
مَاذَا فِي السَّمَاواتِ وَ الْأَرْضِ» «1»
، لكن لا بمعنى الوقوف عند هذا التعرف و اتخاذه هدفاً، بل بمعنى اتخاذ تلك المعرفة جسراً لمعرفة بارئها و خالقها، و من أوجد فيها السُّنَن و النُّظُم.
إِنَّ الفرق الواضح بين تعرّف المادي على الطبيعة و تعرّف الإِلهي عليها هو أَنَّ الأول ينظر إلى الطبيعة بما هي هي، ويقف عندها من دون أنْ يتخذها وسيلة لتعرف آخر، و هو التعرف على مبادئ وجودها و علل تكونها، في حين أنَّ الإِلهي، مع أنَّه ينظر إلى الظواهر الطبيعية مثلما ينظر إليها المادي ويسعى إلى التعرف على كل ما يسودها من نُظُم و سُنَن، فإِنَّه يتخذها وسيلة لتعرف عال و هو التعرف على الفاعل الذي قام بإيجادها و إجراء السُّنن فيها، فكأَن النظرة في الأولى نظرة إلى ظاهر الموجود، و في الثانية نظرة إلى الظاهر متجاوزاً منها إلى الباطن.
و بعبارة أوضح، إنَّ المادي يقتصر في عالم المعرفة، على معرفة الشي‏ء و يغفل عن معرفة أخرى، و هي معرفة مبداً الشي‏ء من طريق آثاره و آياته، فلو اكتفينا في معرفة الظواهر بالمعرفة الأولى حبسنا أنفسنا في زنزانات المادة، ولكن إذا نظرنا إلى الكون بنظرة وسيعة و أخذنا مع تلك المعرفة معرفة أخرى و هي المعرفة الآيوية لوصلنا في ظل ذلك، إلى عالم أفسح ملي بالقدرة و العلم و الكمال و الجمال. و على ذلك فكل المظاهر الطبيعية مع ما فيها من الجمال و الروعة و مع ما فيها من النُظم و السُنن آيات وجود بارئها و مكونها و منشئها، و عند ذلك يتجلى للقارئ صدق ما قلنا من أنَّ الطرق إلى معرفة اللَّه بعدد الظواهر الطبيعية بدءاً بالذرة و انتهاء إلى المجرة. و لأجل ذلك نرى أنَّ رجال الوحي و دعاة التوحيد يركّزون في معرفته سبحانه على الدعوة إلى النظر في جمال الطبيعة و روعتها فإِنها أَصدق شاهد
__________________________________________________
 (1). سورة يونس: الآية 101.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 31
على أَنَّ لها صانعاً و مبدعاً، و هذا مشهود لمن طالع القرآن و تدبّر في آياته.
فهو من خلال توجيه الإِنسان إلى الطبيعة و إلى السماء و الأَرض و ما فيها من كائنات، يريد هدايته إلى مبدئها، و يكفي في ذلك قوله سبحانه: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لآَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» «1».
إِنَّ البراهين الدالَّة على وجود خالق لهذا الكون، و مفيض لهذه الحياة، كثيرة متعددة، و نحن ذاكرون فيما يلي بعضاً منها. ولكي تقف على أوضحها و أَقربها إلى الحس و التجربة نركز البحث على برهان النّظم الذي يتجاوب مع جميع العقول على اختلاف سطوح تفكيرها.
***__________________________________________________
 (1). سورة البقرة: الآية 164.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 33
البرهان الأَول‏
بُرهان النّظم‏
يبتني برهان النَّظم على مقدمات أربع‏
الأولى:
إِنَّ وراء الذهن الإِنساني عالماً مليئاً بالموجودات، محتفاً بالظواهر الطبيعية. و إِنَّ ما يتصوره الإِنسان في ذهنه هو انعكاس للواقع الخارجي، و هذه المقدمة قد أطبق عليها الإِلهيّ و الماديّ رافضَيْن كل فكرة قامت على نفي الواقعية و لجأت إلى المثالية، بمعنى نفي الحقائق الخارجية.
إِنَّ كل إِنسان واقعي يعتقد بأَنَّ هناك قمراً و شمساً و بحراً و محيطاً و غير ذلك. كما يعتقد بوجوده، و ذهنه و الصور المنعكسة فيه، و هذه هي الخطوة الأُولى في مضمار معرفة اللَّه، و هي التصديق بالواقعيات. و يشترك فيها الفلاسفة الواقعيون، دون المثاليين بمعنى الخياليين.
و بذلك يظهر أنَّ رمي الإِلهي بالمثالية بمعنى نفي الواقعيات، افتراءٌ و كذبٌ عليه، إِذ لا يوجد على أديم الأرض من يكون إِلهيا و في الوقت نفسه ينفي واقعيات الأَشياء و الظواهر الطبيعية. ولو وجد هناك إِنسان بهذه العقيدة
                        الالهيات، ج‏1، ص: 34
فليس من تلك الزمرة، و إِنما هو من المنحرفين عن الفطرة السليمة الإِنسانية.
و ما ربما يحكى عن بعض العرفاء من أَنَّ الموجود الحقيقيّ هو اللَّه سبحانه و ما سواه موجود بالمجاز، فله معنى لطيف لا يضرّ بما قلناه، و هذا نظير ما إِذا كان هناك مصباح في ضوء الشمس، فيقال: إِنَّ الضوء ضوء الشمس و لا ضوء لغيرها، فهكذا وجود الممكنات، المفتقرات المتدليات بالذات، بالنسبة إلى واجب الوجود القائم بالذات.
الثانية:
إِنَّ عالم الطبيعة خاضع لنظام محدد، و إِنَّ كل ما في الكون لا ينفك عن النّظم و السنن التي كشفت العلوم الطبيعية عن بعضها، و كل ما تطورت هذه العلوم خطا الإِنسان خطوات أُخرى في معرفة الكون و القوانين السائدة عليه.
الثالثة:
أصل العلية، و المراد منه أنَّ كل ما في الكون من سنن و قوانين لا ينفكّ عن علة توجده و أنَّ تكون الشي‏ء بلا مكوّن و تحققه بلا علة، أمر محال لا يعترف به العقل، بالفطرة، و بالوجدان و البرهان. و على ذلك فكل الكون و ما فيه من نظم و علل نتيجة علة أوجدته و كونته.
الرابعة:
إِنَّ دلالة الأَثر تتجلى بصورتين:
أ-
وجود الأَثر يدل على وجود المؤثر، كدلالة المعلول على علّته، والاية على صاحبها، و قد نقل عن أَعرابي أَنَّه قال: «البعرة تدل على البعير، و أَثر الأقدام يدل على المسير»، إلى غير ذلك من الكلمات التي تقضي بها الفطرة. و هذه الدلالة مما لا يفترق فيها الماديّ‏و الإِلهي، و إِنما المهمّ هو الصورة الثانية من الدَّلالة.
ب-
إِنَّ دلالة الأَثر لا تنحصر في الهداية إلى وجود المؤثر، بل لها دلالة أُخرى في طول الدلالة الأُولى، و هي الكشف عن خصوصيات المؤثر
                        الالهيات، ج‏1، ص: 35
من عقله و علمه و شعوره، أو تجرده من تلك الكمالات و الصفات و غيرها. و لنوضح ذلك بمثال:
إِنَّ كتاب «القانون» المؤلف في الطب، كما له الدَّلالة الأُولى و هي وجود المؤثر، له الدَّلالة الثانية و هي الكشف عن خصوصياته التي منها أَنَّه كان إنساناً خبيراً بأُصول الطب و قوانينه، مطّلعاً على الدَّاء و الدَّواء، عارفاً بالأَعشاب الطبية، إلى غير ذلك من الخصوصيات.
والملحمة الكبيرة الحماسية لشاعر إيران (الفردوسي) لها دلالتان:
دلالة على أَنَّ تلك الملحمة لم تتحقق إلا بظل علَّة أَوجدتها، و دلالة على أَنَّ المؤلف كان شاعراً حماسياً مطلعاً على القصص و التواريخ، بارعاً في استعمال المعاني المتناسبة مع الملاحم. و مثل ذلك كل ماتمر به مما بقي من الحضارات الموروثة كالأبنية الأثرية، و الكتب النفيسة، و الصنائع المستظرفة اليدوية و المعامل الكبيرة و الصغيرة، إلى غير ذلك مما يقع في مرأى و منظر كل إِنسان. فالمهم في هذا الباب هو عدم الإِقتصار على الدلالة الأُولى بل التركيز على الدلالة الثانية بوجه علمي دقيق.
و على ضوء هذه القاعدة يقف العقل على الخصوصيات الحافة بالعلة، و يستكشف الوضع السائد عليها، و يقضي بوضوح بأَنَّ الأَعمال التي تمتاز بالنظام و المحاسبة الدقيقة، لا بد أَنْ تكون حصيلة فاعل عاقل، إستطاع بدقته أن يوجد أثره و عمله، هذا.
كما يقضي بأنَّ الأَعمال التي لا تُراعَى فيها الدّقة اللازمة و النظام الصحيح، تكون ناشئة عن عمل عامل غير عاقل، و فاعل بلا شعور و لا تفكير، فهذا ما يصل إليه العقل السليم بدرايته. و لتوضيح الحال نأتي بالمثالين التاليين:
المثال الأول:
لنفترض أَنَّ هنا مخزناً حاوياً لأطنان عدة من مواد البناء بما فيها الحجر و الحديد و الإِسمنت و الجص و الخشب و الزجاج و الأَسلاك‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 36
و الأنابيب و غيرها من لوازم البناء، ثم وضع نصف ما في هذا المخزن تحت تصرف أَحد المهندسين أَو المعماريين، لينشئ به عمارة ذات طوابق متعددة على أَرض منبسطة.
و بعد فترة من الزمن جاء سيل جارف و جرف ما تبقى في المخزن من مواد الإِنشاء و تركها على شكل تل على وجه الأرض.
إِنَّ العمل الأَول (العمارة) قد نتج عن عمل و إِرادة مهندس عالم.
أَمَّا الثَّاني (التل) فقد حدث بالفعل الطبيعي للسيل من دون إِرادة و شعور.
فالعقلاء بمختلف مراتبهم و قومياتهم و عصورهم يحكمون بعقلانية صانع العمارة، و مدى قوة إِبداعه في البناء، من وضعه الأعمدة في أَماكنها المناسبة و إِكسائه الجدران بالمرمر، و نصبه الأَبواب في مواضعها الخاصة، و مدّه الأَسلاك و أَنابيب المياه الحارة و الباردة و وصلها بالحمامات و المغاسل، و غير ذلك مما يتبع هندسة خاصة و دقيقة.
ولكن عندما نخرج إلى الصحراء كي نشاهد ما صنعه السيل، فغاية ما نراه هو انعدام النَّظام و الترتيب فالحجر و المرمر قد اندثر تحت الطين و التراب، و القضبان الحديدية قد طرحت إلى جانب، و الأَسلاك تراها مقطعة بين قطعات الآجرّ، و الأَبواب مرمية هنا و هناك، و غير ذلك من معالم الفوضى و التبعثر. و بشكل عام، إِنَّ المعدوم من هذا الحشد هو النظام و المحاسبة، إِذ لا هندسة و لا تدبّر.
فالذي يُستنتج أنَّ المؤسس للبناء ذو عقل و حكمة، و المُحْدِث للتل فاقد لهما، فالمهندس ذو إِرادة والسيل فاقد لها، و الأَول نتاج عقل و علم، و الثاني نتاج تدفق الماء و حركته العمياء.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 37
المثال الثاني:
لنفترض أنَّنا دخلنا إلى غرفة فيها شخصان كل منهما جالس أمام آلة طابعة يريدان تحرير قصيدة لأحد الشعراء فالأول يحسن القراءة و الكتابة، و يعرف مواضع الحروف من الآلة و الآخر أمّي لا يجيد سوى الضغط بأصابعه على الأزرار، فيشرعان بعملهما في لحظة واحدة.
الذي نلاحظه أنَّ الأول دقيق في عمله يضرب بأصابعه حسب الحروف الواردة في القصيدة دون أن يسقط حرفاً أو كلمة منها.
و أَمَّا الآخر، الأُمي البصير، فيضرب على الآلة دون علم أَو هدىً و لا يستطيع أَنْ يميز العين من الغين، و السين من الشين: و نتيجة عمله ليست إِلّا الهباء و إِتلاف الأَوراق، و لا يأتي بشي‏ء مما أَردناه:
فنتاج الأول محصول كاتب متعلّم، و نتاج الثاني محصول جاهل لا علم له و لا خبرة و لو أُعطي المجال للألوف ممن كف بصرهم و حرموا لذة العلم و التعلم أَنْ يحرروا نسخة صحيحة من ملايين النسخ التي يحررونها لاستحال ذلك، لأَنهم يفقدون ما هو العمدة و الأَساس.
و لعلَّنا نشاهد في كل جزء من هذا الكون مثل تلك الصفحة التي حررت فيها قصيدة الشاعر و ترانا ملزمين بالإعتراف بعلم و معرفة و حسن أُسلوب كاتبها و نجزم بأَنه بصير لم يكن فاقداً للعلم، و لم يكن فعله مشابهاً لفعل صبي رأى نفسه في غرفة خالية، فطرق في خياله أَنْ يلهو و يلعب على آلة طابعة كي ينتج تلك الصفحة من قصيدة الشاعر.
و بعد ذكر الأَمثلة المتقدّمة يتَّضح لنا الفرق بين الأعمال التي تصدر عن إِرادة و تدبّر، و التي تحدث عن طريق الصدفة، إِذ لا إرادة فيها و لا تدبر.
و هذه القاعدة التي يدركها العقل (لا بفضل التجربة بل في ضل التفكر و التعقل) هي روح برهان النَّظم الذي هو من أَوضح براهين الإِلهيين في‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 38
إِثبات الصانع و رفض الإِلحاد و المادية، و اشملها لجميع الطبقات. و ملخص بيانهم في تطبيق هذه المقدمة على العالم، هو أَنَّ العلم لم يزل يتقدم و يكشف عن الرموز و السنن الموجودة في عالم المادة و الطبيعة و العلوم كلها بشتى أَقسامها و أَصنافها و تشعبها و تفرعها تهدف إلى أمر واحد و هو أَنَّ العالم الذي نعيش فيه، من الذرة إلى المجرة عالم منسجم تسود عليه أَدق الأَنظمة و الضوابط، فما هي تلك العِلَّة؟ أقول: إنها تتردد بين شيئين لا غير.
الأول:
إنَّ هناك موجوداً خارجاً عن إطار المادة عالماً قادراً واجداً للكمال و الجمال، قام بإيجاد المادة و تصويرها بأدق السنن، و تنظيمها بقوانين و ضوابط دقيقة، فهو بفضل علمه الوسيع و قدرته اللامتناهية، أوجد العالم و أجرى فيه القوانين، و أضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهداً في كشفها، و مستغرقاً في تدوينها، و هذا المؤثر الجميل ذو العِلم و القدرة هو اللَّه سبحانه.
الثاني:
إِنَّ المادة الصَّماء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة، و ليست مسبوقة بالعدم، قامت بنفسها بإِجراء القوانين الدقيقة، و أَضفت على نفسها السُّنن القويمة في ظل إِنفعالات غير متناهية حدثت في داخلها و انتهت على مر القرون و الأَجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أَدهش العقول و أبهر العيون.
إِذا عرضنا هاتين النظريتين على المقدمةالرابعة لبرهان النظم، و هي قادرة على تمييز الصحيح من الزائف منهما، فلا شك أنها ستدعم أُولاهما و تبطل ثانيتهما لما عرفت من أنَّ الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول و الأَثر، تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر و العلّة، فالسّنن و النُّظم تكشف عن المحاسبة والدقة، و هي تلازم العِلْم و الشعور في العلَّة، فكيف تكون المادة العمياء الصمَّاء الفاقدة لأي‏شعور هي التي أوجدت هذه السُّنن و النُّظم؟.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 39
و على ضوء ذلك فالسُّنن و النُّظم، التي لم يتوفق العلم إِلا لكشف أَقل القليل منها، تثبت النظرية الأولى و هي احتضان العلَّة و اكتنافها للشعور و العِلْم و ما يناسبهما، و تبطل النظرية الثانية و هي قيام المادة الصَّماء العمياء بإِضفاء السُّنن على نفسهابلا محاسبة و دقة بتخيل أَنَّ انفعالات كثيرة، حادثة في صميم المادة، انتهت إلى ذاك النظام المبهر تحت عنوان «الصدفة» أو غيرها من الصراعات الداخلية التي تلوكها أَلسنة الماركسيين.
و على ذلك فكل علم من العلوم الكونية، التي تبحث عن المادة و خصوصياتها و تكشف عن سننها و قوانينها، كعملة واحدة لها وجهان، فمن جانب يعرّف المادة بخصوصياتها، و من جانب آخر يعرّف موجدها و صانعها. فالعالم الطبيعي ينظر إلى واحد من الوجهين كما أَنَّ العارف ينظر إلى الجهة الأخرى و العالم الربّاني ينظر إلى كلتا الجهتين و يجعل الأُولى ذريعة للثانية. و بهذا نستنتج أنَّ العلوم الطبيعية كلها في رحاب إثبات المقدمة الرَّابعة لبرهان النظم، و أَنَّ اكتمال العلوم يعين ذلك البرهان بأوضح الوجوه و أدقّ الطرق، و أَنَّ الإِعتقاد بالصانع العالم القادر يصاحب العِلْم في جميع العصور و الأَزمان.
و في الختام نركز على نقطتين:
الأُولى:
إِنَّ القرآن الكريم ملي بلفظة «الآية» و «الآيات»، فعندما يسرد نُظُم الطبيعة و سُنَنَها، و يعرض عجائب العالم و غرائبه، يعقبه بقوله:
 «إِنَّ في ذلِكَ لآية لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون» أَو «يذَّكَّرون» أَو «يعقلون» إلى غير ذلك من الكلمات الحاثة على التفكر و التدبر، و هذه الآيات تعرض برهان النَّظم بأوضح أشكاله على لسان الفطرة، بدلالة آيوية «1» مشعرة بأَنَ‏
__________________________________________________
 (1). الآيوية: منسوب إلى الآية، و هي دلالة خاصة إبتكرها القرآن الكريم وراء سائر الدلالات التي كشف عنها المنطقيون في أبحاثهم العلمية، و المراد من الدلالة الآيوية هو ما ركَّزنا عليه من أَنَّ التعمق في الأَثر و التدبر في خصوصياته، يهدينا إلى وجود المؤثر و خواصه، ففي تلك الدلالة، الآية ملموسة و محسوسة، و إِنْ كان ذو الآية غير محسوس و لا ملموس.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 40
التفكر في هذه السنن اللاحبة و النظم المحيَّرة يكشف بوضوح عن أَنَّ جاعلها موجود، عالم قادر، بصير و من المحال أَنْ تقوم المادة الصمّاء العمياء بذلك. و لأجل أَنْ يقف القارئ الكريم على بعض هذه الآيات نشير إلى ما ورد في سورة النحل في هذا المضمار:
1- قوله سبحانه: «يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنَابَ وَ مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» «1».
2- قوله سبحانه: «وَ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» «2».
3- قوله سبحانه: «وَ اللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» «3».
4- قوله سبحانه: «وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» «4».
5- قوله سبحانه: «ثُمَّ كُلِي مِن كُلّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» «5».
__________________________________________________
 (1). سورة النحل: الآية 11.
 (2). سورة النحل: الآية 13.
 (3). سورة النحل: الآية 65.
 (4). سورة النحل: الآية 67.
 (5). سورة النحل: الآية 69.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 41
الثانية:
إِنَّ برهان النَّظم و إِنْ كان يعتمد على مقدمات أَربع غير أَنَّ الثلاثة الأُول مما اتفق فيه جميع العقلاء إلّا شذّاذ الآفاق من المثاليين المنكرين للحقائق الخارجية. و إِنما المهم هو التركيز على توضيح المقدمة الرابعة باستعانة من العلوم الطبيعية و الفلكية و غيرها التي تعد روحاً و أَساساً لتلك المقدمة. و في هذا المضمار نجد كلمات بديعة لخبراء العلم من المخترعين و المكتشفين: يقول «كلودم هزاوي» مصمم العقل الإِلكتروني: طلب مني قبل عدة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائية، تستطيع أَنْ تحل الفرضيات و المعادلات المعقدة ذات البعدين، و استفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات و اللوازم الالكترو ميكانيكية، و كان نتاج عملي وسعيي هذا هو «العقل الالكتروني».
و بعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل، و تحمل شتّى المصاعب و أَنا أَسعى لصنع جهاز صغير، يصعب عليَّ أن أتقبل هذه الفكرة و هي أَنَّ الجهاز هذا، يمكن أَنْ يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمم.
إِنَّ عالمنا مملو بالأَجهزة المستقلة لذاتها و المتعلقة بغيرها في الوقت ذاته، و تعتبر كل واحدة منها أَعقد بكثير من العقل الإِلكتروني الذي صنعته، و إِذا استلزم أَنْ يكون للعقل الالكتروني هذا مصمم فكيف يمكننا إِذن أَنْ ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة و أعمال فيزيائية و تفاعلات كيميائية، فلا بد من وجود مصمّم حكيم خالق لهذا الكون و الذي أنا جزء حقير منه «1».
و العجب من الفرضية التي يعتمد عليها الماديون خلفاً عن سلف،
__________________________________________________
 (1). العلم يدعو للإِيمان، ص 159.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 42
و يقولون بأنّ الإِنفعالات اللامتناهية اللاشعورية انتهت صدفة إلى هذا النظام البديع.
يقول البروفسور «أَدوين كونكلين» في حق هذه النظرية: إِنَّ هذا الإِفتراض لا يختلف عن قولنا: «انَّ قاموساً لغوياً ضخماً أَنتجته المطبعة إِثْر انفجار فيها».
إِنَّ نظام الكون الدقيق يجعل العلماء يتنبأون بحركة السيارات و الأَقمار الفلكية، و التعبير عن الظواهر الطبيعية بمعادلات رياضية.
إِنَّ وجود هذا النظام في الكون بدلًا من الفوضى، لدليل واضح على أَنَّ هذه الحوادث تجري وفق قواعد و أسس معينة و أنّ هناك قوة عاقلة، مهيمنة عليه، و لا يستطيع كل من أوتي حظاً من العقل أَنْ يعتقد بأَنَّ هذه المادَّة الجامدة الفاقدة للحس و الشعور- و في إِثْر الصدفة العمياء- قد منحت نفسها النظام، و بقيت و لا تزال محافظة عليه «1».
إِنَّ هناك مئات الكلمات حول تشييد برهان النَّظم و عرضها بشكل أَدبي، علمي، موافق لروح العصر، و قد اكتفينا بعرض هذا المقدار.
***__________________________________________________
 (1). المصدر السابق نفسه.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 43
برهان النَّظم بتقرير ثان‏
الإِنسجام آية دخالة الشعور في وجود الكون‏
إِنَّ التقرير السابق لبرهان النَّظم كان يعتمد على ملاحظة كل ظاهرة مادية، مستقلة و منفصلة عن سائر الظواهر، فالنظام السائد على الخلية منفصلًا عن سائر الظواهر، كان محل البحث و النظر.
و مثله سائر الظواهر المادية ذات الأَنظمة البديعة كحركة الشمس و القمر و غيرها، غير أَنَّه يمكن تقرير هذا البرهان بشكل آخر يعتمد على‏ الإِنسجام السائد على العالم، و الإِتصال البديع بين أَجزائه فيستدل بالإِنسجام و الإِتصال على‏ أَنَّ ذاك النظام المتصل المنسجم إِبداع عقل كبير و علم واسع، و لولا وجوده لما تحقق ذلك النظام المعجب المتصل المتناسق.
إِنَّ الأبحاث العلمية كشفت عن الإِتصال الوثيق بين جميع أَجزاء العالم و تأثير الكل في الكل، حتى‏ أَنَّ صفصفة أَوراق الشجر غير منقطعة عن الريح العاصف في أقاصي بقاع الأرض و حتى أَنَّ النجوم البعيدة التي تحسب مسافاتها بالسنين الضوئية، مؤثرة في حياة النبات و الحيوان و الإِنسان، و هذا الإِنسجام الوثيق، الذي جعل العالم كمعمل كبير يشدّ بعضه بعضاً، أَدل‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 44
دليل على تدخل عقل كبير في إِبداعه و إِيجاده بحيث جعل الكل منسجماً مع الكل.
و بعبارة واضحة، إِنَّ الضبط و التوازن في الكون السائدين على الطبيعة أَوضح دليل على تدخل عقل كبير في طروئهما، و لأجل أن تتبين ملامح هذا التقريب نأْتي بالأَمثلة التالية:
1- إِنَّ حياة كل نبات تعتمد على مقدار صغير من غاز ثاني أوكسيد الكاربون، الذي يتجزأ بواسطة أَووراق هذا النبات إلى كاربون و أوكسجين، ثم يحتفظ النبات بالكاربون ليصنع منه و من غيره من المواد، الفواكه و الأَثمار و الأَزهار و يلفظ الأوكسجين الذي نستنشقه في عملية الشهيق و الزفير الأساسية في حياة الإِنسان.
ولو أَنَّ الحيوانات لم تقم بوظيفتها في دفع ثاني أو كسيد الكاربون، أو لم يلفظ النبات الأوكسجين، لا نقلب التوازن في الطبيعة و استنفذت الحياة الحيوانية، أو النباتية كل الأوكسجين أو كل ثاني أوكسيد الكاربون، و ذوى النبات و مات الإِنسان.
فمن ذا الذي أَقام مثل هذه العلاقة بين النبات و الحيوان و أَوجد هذا النظام التبادلي بين هذين العالمين المتباينين؟ أَلا يدل ذلك على وجود فاعل مدبر وراء ظواهر الطبيعة هو الذي أَقام مثل هذا التوازن؟.
2- منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبَّار في أوستراليا كسياج وقائي ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة واسعة وزاحم أَهالي المدن و القرى‏، و أتلف مزارعهم و لم يجد الأَهالي وسيلة لصده عن الإِنتشار و صارت أوستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!!.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 45
وطاف علماء الحشرات في أرجاء المعمورة إلى أَنْ وجدوا أَخيراً حشرة لا تعيش إلّاعلى ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره وهي سريعة الإنتشار وليس لها عدو يعوقها في أوستراليا و ما لبثت هذه الحشرة أَنْ تغلب على الصبار، ثم تراجعت و لم يبق منها سوى بقية للوقاية تكفي لصد الصبار عن الإِنتشار إلى الأَبد «1».
فكيف عرفت هذه الحشرة أَنَّ عليها أَنْ تقضي على الزائد من الصبار و تكف عن الباقي لتحفظ أَشجار الصبار على توازنها فلا تطغى على الأَشياء الأُخرى؟ أَلا يكشف هذا التوازن و الضبط عن خالق مدبر حكيم؟.
3- كان ملّاحُو السفن الكبيرة في العهود الماضية يصابون بمرض الأسقربوط (و هو من أَمراض سوء التغذية و ينشأ عن نقص فيتامين (ث))، ولكن أحد الرحالة اكتشف دواءً بسيطاً لذلك المرض و هو عصير الليمون، ترى من أَين نشأت هذه العلاقة بين الفواكه التي تحوي فيتامين (ث) و هذا المرض، ألا يدل ذلك على أَنَّ خالق الداء خلق الدواء المناسب له، و لولا هذا التوازن لعمّت الكارثة وانعدم النوع الإِنساني و غاب كلية عن وجه البسيطة؟.
4- عندما نزل المهاجرون الأولون أوستراليا و استقروا فيها، استوردوا اثني عشر زوجاً من الأرانب و أطلقوها هناك، و لم يكن لهذه الأَرانب أَعداء طبيعيون في أوستراليا، فتكاثرت بشكل مذهل، مما تسبب بإِحداث أَضرار بالغة بالأَعشاب و الحشائش، ولم تنفع المحاولات الكثيرة لتقليل نسل هذه الأَرانب حتى اكتشف فيروس خاص يسبب مرضاً قاتلًا لها، فعادت المروج الخضراء يانعة، وزاد على أَثر ذلك إِنتاج الأغنام و المواشي.
__________________________________________________
 (1). العلم يدعو للإِيمان، ص 159.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 46
أليس هذا التوازن الدقيق المبرمج في مظاهر الطبيعة و الذي يؤدي أَي تخلخل فيه إلى أَضرار بالغة، دليلًا قاطعاً على وجود الخالق الخبير و الإِله المدبر وراء الطبيعة؟
5- الماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمد، و لهذه الخاصية أهميتها الكبيرة بالنسبة للحياة إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد، بدلًا من أَنْ يغوص إلى قاع المحيطات و البحيرات و الأَنهار، و يكون تدريجياً كتلة صلبة لا سبيل إلى إخراجها و إذابتها. و الجليد الذي يطفو على سطح البحر يكون طبقة عازلة تحفظ الماء تحتها عند درجة حرارة فوق درجة التجمد، و بذلك تبقى الأسماك و غيرها من الحيوانات المائية حية، فإِذا جاء الربيع ذاب الجليد بسرعة و بلا عائق.
فهل يمكن إِعزاء كل هذا الضبط و الدقة في المقاييس و النسب إلى فعل المادة الصمَّاء العمياء البكماء، و الحال إِنَّه يكشف عن تدبير و حساب و يحكي عن نظام متقن و عظيم و يدل على أَنَّ وراء كل ذلك خالقاً حكيماً هو الذي أَوجد هذا التوازن المدهش و الضبط الدقيق.
أَجل إِنَّ ذلك التوازن و هذا الضبط يشهدان على دخالة الشعور و الحكمة و العقل في إِدارة هذا العالم و تدبيره و تسييره و هي أمور لا تتوفر في الصدفة بل تتوفر في قوة عليا شاعرة هادفة تدرك مصلحة الكون و احتياجات الحياة إِدراكاً كاملًا و شاملًا، فتخضع الكون لمثل هذه الضوابط و العلاقات.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 47
برهان النظم بتقرير ثالث‏
الهادفية آية تدخل الشعور في تطور النظم:
إِنَّ النظرة الدقيقة في عالم الكون تهدينا إلى نظام خاص نسميه بنظام الخدمة، بحيث نرى أنَّ أَنظمة خاصة في الكون جعلت في خدمة أَنظمة كونية أُخرى بحيث لا بقاء للثانية بدون الأُولى، و لذالك نلاحظ صلة قويمة بين المظاهر المختلفة. فعندئذ يطرح السؤال التالي: إِنَّ هذه الكيفية الملموسة في عالم الكون كيف برزت في عالم الوجود؟.
أَمِنْ ناحية الصدفة، و هي أقل شأناً من أَنْ تبدع أَنظمة يكون قسم منها في خدمة القسم الآخر، و هي عاجزة عن إِيجاد فرد بهذا الشكل الدقيق فكيف بهذه المجموعة الكبيرة؟.
أَمْ من ناحية «خاصية المادة» التي ربما يلتجئ إِليها بعض الماديين. و هي أَيضاً أَعجز عن القيام بالتفسير. فإِنَّ «فرضيّة الخاصية» تهدف إلى أَنَّ لكل خلية، أَوْ لكل ذرة من الذرات أَثراً خاصاً ينتهي إلى موجود خاص و هو ذو نظام. و أَمَّا كون أنظمة كبيرة في خدمة أَنظمة مثلها فلا يمكن أَنْ يفسر
                        الالهيات، ج‏1، ص: 48
بخاصية المادة، فإِن هذا أثر المجموع لا أثر كل جزء من أجزاء المادة. و لنأتي بمثال: لا شك أنَّ لتكون المرأة و الأجهزة التي خلقت بها عللًا مادية تظهرها على صفحة الوجود، فلها مع ثدييها و الخصوصيات الحافَّة بها و اللبن الذي يتكون في صدرها عللًا مادية تنتهي إلى تلك الظواهر.
كما أَنَّ لتكون الطفل في رحمها و ولادته على نحو يتناسب و الخصوصيات القائمة بها و تكونه بفم خاص و مجاري تغذية خاصة تعتمد على اللبن فقط، إِنَّ لكل ذلك عللًا مادية لا تُنكر.
إِلا أَنَّ هناك أَمراً ثالثاً و هو كون المرأة بأجهزتها الماديّة في خدمة الظاهرة الثَّانية بعامة أجهزتها بحيث لولا الأُولى لما كان للثانية مجال العيش و إِدامة الحياة. فعندئذ نسأل عن هذه الكيفية التي سميناها بنظام الخدمة، هي وليدة أَية علة؟
هل الصدفة جعلت الأولى وسيلة للثانية، و هي عاجزة عن إِيجادها بهذه الكمية الهائلة، ولو صح التفسير بها لصح في مولود أو مولودين لا في هذه المواليد غير المتناهية و غير المعدودة، إِلَّا بالأَرقام النجومية.
أو من ناحية خاصية المادة و هو إِذن عقيم، لأن فرضية الخاصية، على فرض صحتها، تهدف إلى تفسير النظام الجزئي بخاصية المادة، و أَمَّا تفسير الكمية من النُّظُم التي يقع بعضها في خدمة البعض بخاصية المادة فهو مما لا تفي به تلك الفرضية، و لا يقول به أصحابها، و الإِنسجام و التخادم مما لا يمكن أَنْ يكون أَثراً لخلية واحدة أو نحوها.
إِنَّ العقل في هذا الموقف يقضي بوجه بات بأَنَّ هذا النظام و هذه الخصوصية وليدة مبدع عالم قادر قد نسّق هذه النُّظُم بأطروحة علمية، و خريطة خاصة جعلت الظاهرة الأُولى ذريعة للثانية، و أَوجد الأُولى قبل أَنْ‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 49
يبدع الثانية بزمن، و هذا ما نسميه بالهادفية، و أنَّ الخلقة غير منفكَّة عن الهدف، كما أنَّ القول به لا ينفك عن إِشراف مبدع عالم قادر على الكون و هو الذي يتبناه الإِلهيون باسم إِله العالم.
و بعبارة واضحة نرى أَنَّ يد القدرة و الإِبداع قد هيَّأتْ قبل ولادة الطفل بأَعوام، أَجهزة كثيرة يتوقف عليها عيش الطفل و حياته في مسير الحياة، و تداركت ما يتوقف عليه حياة الطفل في أوليات عمره بوجه بديع، و هذا أَوضح دليل على أنَّ الكون لا يخلو من هدف، و أَنَّ مبدعه كان هادفاً. و هو لا ينفك عن تدخل الشعور، و رفض الصدفة عن قاموس تفسير الكون و تحليله.
و كم‏ترى من نظائر بارزة و أَمثلة رائعة لهذا النوع من الهادفية في صفحة الكون طوينا عنها الكلام.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 51
برهان النَّظم بتقرير رابع‏
برهان حساب الاحتمالات في نشأة الحياة
و يمكن تقرير برهان النَّظم بصورة رابعة و ليست هي دليلًا مستقلًا و إِنما هو اختلاف في التقرير، فروح البرهان واحدة، وصور التقرير مختلفة، و هذا التقرير ما نسميه ب «برهان حساب الإِحتمالات في نشأة الحياة».
الحياة رهن قيود و شروط
إِنَّ تكوّن الحياة فوق الأرض نتيجة اجتماع شروط عديدة يكون كل شرط منها بمثابة جزء علّة لوجود ظاهرة الحياة، و تكون ظاهرة الحياة مستحلية بفقدان واحد منها فضلًا عن كثير منها أو جميعها، و هذه الشروط منها ما يرتبط بالفلك، و منها ما يرتبط بالهواء المحيط و الغازات، و منها ما يرتبط بالأرض و ما فيها من نبات و حيوان و جماد. و قد تكفلت العلوم الطبيعية بتبيين تلك الشروط و نحن في غنى عن سردها، غير أَنَّا نقول: إِنَّ هذه الشروط من الكثرة إلى درجة يكون احتمال اجتماعها بالترتيب و النسق الذي يؤدي إلى استقرار ظاهرة الحياة عن طريق الصدفة، احتمالًا في مقابل ما لا يحصى من الإِحتمالات، و يكون الإِحتمال في الظآلة على وجه لا يعتمد عليه. مثلًا إِنَّ تحقق الحياة يحتاج إلى عوامل و أَسباب نشير إلى أَقل القليل منها:
                        الالهيات، ج‏1، ص: 52
1- يحيط بالأَرض التي نعيش على متنها غلاف سميك من الغازات يسمى بالغلاف الجوي يبلغ سمكه ثمانمائة كيلومتر و هو بمثابة مظلة و اقية تصون الكرة الأَرضية من التعرض لخطر النيازك التي تنفصل يومياً من الكواكب و تتناثر في الفضاء منذ ما يقرب من عشرين مليوناً من السنين و لولا هذا الغلاف لسقطت على كل بقعة من الأَرض ملايين النيازك المحرقة.
2- الأَرض تبعد عن الشمس مسافة 93 مليون ميلًا، و لأجل ذلك تكون الحرارة التي تصل إليها من الشمس بمقدار يلائم الحياة، و يتناسب مع متطلباتها، فلو زادت المسافة بين الشمس و الأرض على المقدار الحالي إلى الضعف مثلًا لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس، و لو نقصت هذه المسافة إلى النصف لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض الضعف، و في كلتا الصورتين تصير الحياة غير ممكنة.
3- إِنَّ الهواء الذي نستنشقه مزيج من غازات شتى منها النيتروجين 78% و الأوكسيجين 21%، فلو تغير المقدار و صارت نسبة الأُوكسيجين في الهواء 50% لتبدلت جميع المواد القابلة للإِشتعال إلى مواد محترقة، و لبلغ الأَمر إلى درجة لو أَصابت شرارة غابة، لأحرقت جميع ما فيها دون أَنْ تترك غصناً يابساً، ولو تضاءلت نسبة الأُكسجين في الهواء و بلغت 10% لفقدنا أكثر العناصر التي تقوم عليها حضارتنا اليوم.
هذه نماذج من الشروط العديدة التي يتوقف عليها إِمكان الحياة في هذه الكرة، و هي إلى درجة من الكثرة تكاد لا تعد فيها و لا تحصى. و على هذا الأَساس نرجع إلى صلب الموضوع فنقول: إِنَّ لظهور الحياة على وجه البسيطة عوامل ضرورية لا بدّ منها فإِذا ما فقدت عاملًا من عواملها اللامتناهية انعدمت الحياة و استحال على الكائنات الحية استمرارها.
و على ذلك فإِنَّ فرض توفر هذه الشروط اللازمة المتناسقة، بانفجار المادة العمياء بنحو الصدفة، احتمال ضئيل لا يعتمد عليه، لأن المادة
                        الالهيات، ج‏1، ص: 53
الأولى عند انفجارها كانت تستطيع أن تظهر بما لا يحصى. من الصور المختلفة التي لا تستقر فيها الحياة إلّا بصورة خاصة أو بحالة واحدة، فعندئذٍ يتساءل كيف تفجّرت المادة الأولى بلا دخالة شعور و عقل واسع إلى هذه الصورة الخاصة التي تمكّن الحياة من الإِستقرار.
فلنأخذ من جميع الظواهر الحيوية حشرة صغيرة بما تحويه من ملايين العناصر المختلفة و قد ركبت بنسبها المعينة الخاصة. فبوسع المادة الأُولى أَنْ تظهر بأَشكال مختلفة غير صالحة لحياة الحشرة، و إِنَّما الصالحة لها واحدة منها.
و عندئذ نتساءل: كيف استطاعت المادة الأُولى عن طريق «الصدفة»، من بين الصور الكثيرة الخضوع لصورة واحدة صالحة لحياتها؟!
و هذا البرهان هو البرهان المعروف في العلوم الرياضية بحساب الإِحتمالات، و على توضيحه نأتي بمثال:
نفترض أَنَّ شخصاً بصيراً جالساً وراء آلة طابعة و يحاول بالضغط على الأزرار، و عددها مائة بما فيها الحروف الصغيرة والكبيرة، أَنْ يحرر قصيدة لشاعر معروف كقصيدة لبيد التي يقول فيها:
          ألا كُلُّ شَي‏ء مَا خلا اللَّه باطلُ*             وَ كُلُّ نَعيمٍ لا محالةَ زائلُ‏

فاحتمال أَنَّ الضربة الأُولى أَصابت صدفة الحرف الأَول من هذه القصيدة (أ)، و الضربة الثانية أصابت كذلك الحرف الثاني منها (لا)، و الضربة الثالثة أَصابت صدفة الحرف الثالث منها (ك)، و هلم جرّاً .... هو احتمال في مقابل احتمالات كثيرة لا يمكن بيانها بالأرقام الرياضية المقروءة.
و إِنْ أرْدتَ تحصيل ذلك الرقم الرياضي فعليكَ أَنْ تضرب عدد حروف الآلة الطابعة في نفسها بقدر عدد حروف القصيدة المراد تحريرها، فلو كانت حروف الآلة الطابعة مائة، و عدد حروف البيت من القصيدة (38) فسوف يكون عدد الاحتمالات واحد أمامه (76) من الأصفار.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 54
و لو أَضفنا إلى البيت الأول بيتاً آخر، فإِنَّ احتمال تحرير هذين البيتين على يد صاحبنا الأعمى صدفة، سيصل إلى عدد يقرب من الصفر.
و يستحيل على المفكر أَنْ يتقبل هذا الإِحتمال الضئيل- الذي هو المناسب لتحقق المراد- من بين تلك الإِحتمالات و الفرضيات الهائلة. و كل من يرى‏ البيتين و قد حُرّرا بالآلة الطابعة و بصورة صحيحة، يقطع بحكمة و علم محررها. و لم تكن لتحدث عن طريق الصدفة العمياء.
هذا بالنسبة إلى قصيدة فكيف بالكون و الحياة الناشئين من اجتماع ملايين الملايين من الشرائط و العوامل بنسب معينة في غاية الإِتقان و الدّقة، فهل يصح لعاقل أَنْ يتفوه بأَنَّ هذه الشرائط للحياة تواجدت عند انفجار المادة الأُولى و تحققت صدفة من بين هذه الاحتمالات الكثيرة. و يعد الإِعتماد على هذا الإِحتمال، رياضياً، اعتماداً على صفر، و في ذلك يقول العلامة (كريسي موريسن):
 «إِنَّ حجم الكرة الأَرضية و بعدها عن الشمس، و درجة الحرارة في الشمس، و أَشعتها الباعثة للحياة، و سمك قشرة الأَرض، و كمية الماء، و مقدار ثاني أوكسيد الكاربون، و حجم النيتروجين، و ظهور الإِنسان و بقاءه على قيد الحياة كل هذه الأُمور تدل على خروج النظام من الفوضى (أَي إِنَّه نظام لا فوضى)، و على التصميم و القصد. كما تدل على أنه- طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة- ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة. كان يمكن أَنْ يحدث هكذا، ولكن لم يحدث هذا بالتأكيد» «1».
و تقرير هذا البرهان و هذه الصورة الرياضية، يدل على أنَّ برهان النَّظم يتماشى مع جميع العصور، و يناسب جميع العقول و المستويات، و لا
__________________________________________________
 (1). العِلْم يدعو للإِيمان- كريسي موريسن.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 55
ينحصر تقريره بصورة واحدة. و بهذا يعلم سر تركيز القرآن على ذاك البرهان، و في الآية التالية إشارات إليه. قال سبحانه: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لآَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» «1».
*** إِشكال على برهان النَّظم:
إِعترض الفيلسوف الإِنكليزي ديفيد هيوم «2» على برهان النَّظم بما حاصله أنَّ أساس برهان النَّظم- كما توهمه هيوم و فلاسفة الغرب- قائم على أنَّنا شاهدنا أنَّ جميع المصنوعات البشرية المنظَّمة لا تخلو من صانع ماهر، فالبيت لا ينشأ بلا بنّاء، و السفينة لا توجد بلا عمال، فلا بدَّ للكون المنظّم من صانع خالق أيضاً لشباهته بتلك المصنوعات البشرية.
ثم انتقد هذا الإِستدلال بأَنَّه مبني على التَّشابه بين الكائنات الطبيعية، و المصنوعات البشرية. ولكن هذا التشابه بمجرده لا يكفي لسحب و تعدية حكم أَحدهما إلى الآخر لاختلافهما، فإِنَّ مصنوعات البشر موجود صناعي بينما الكون موجود طبيعي فهما صنفان لا تسانخ بينهما، فكيف يمكن أَنْ نستكشف من أَحدهما حكم الآخر؟
و صحيح أنَّنا جرَّبنا مصنوعات البشر فوجدناها لا توجد إِلا بصانع‏
__________________________________________________
 (1). سورة البقرة الآية 164.
 (2). و هو اسكتلندي المولد، ولد عام 1711 م و توفي عام 1776 م. و كان يعد من أَكبر الفلاسفة المشككين، و قد أورد هذا الإِشكال في كتابه‏المسمى ب «المحاورات» و هو مؤلف على شكل حوار بين شخصين افتراضيين أَحدهما يمثل مشككاً في برهان النَّظم باسم «فيلون» و الآخر يمثل المدافع عنه باسم «كلثانتس».
                        الالهيات، ج‏1، ص: 56
عاقل، و لكننا لم نجرّب ذلك في الكون، فإِنَّ الكون لم يتكرر وجوده حتى يقف الإِنسان على كيفية خلقه و إِيجاده، بل واجهه لأول مرة، و بهذا لا يمكن أَنْ يثبت له علّة خالقة على غرار مصنوعات البشر إِلا إِذا جرّبه من قبل عشرات المرات، و شهد عملية الخلق و التكوّن كما شاهد ذلك و جرَّبه في المصنوعات البشرية، حتى يقف على أَنَّ الكون بما فيه من النّظام لا يمكن أَنْ يوجد من دون خالق عليم و صانع خبير. هذا هو محصل إِشكاله أَوردناه بغاية الوضوح.
إِنَّ ماذكره من الإِشكال ينم عن فهم ساذج وسطحي للغاية لبرهان النَّظم، و يعرب عن فقدان الغرب لمدرسة فلسفية متكاملة تدرك و تستوعب برهان النَّظم بصورته الصحيحة، فإِنَّ هذا البرهان لا يرتبط أَبداً بالتشابه و التمثيل و التجربة، و إِنَّما هو برهان عقلي تام، يحكم العقل فيه بعد ملاحظة طبيعة النظام و ماهيته بأَنَّه صادر من فاعل عاقل و خالق قدير.
توضيح ما ذكرناه أَنَّ برهان النَّظم ليس مبنياً على التشابه بين مصنوعات البشر و الموجود الطبيعي كما جاءَ في اعتراض «هيوم»، حتى يقال بالفرق بين الصنفين، و يقال هذا صناعي و ذاك طبيعي و لا يمكن إِسراء حكم الأَول إلى الثاني.
و لا على التماثل- الذي هو المِلاك في التجربة- حتى يقال إِنَّا جربنا ذلك في المصنوعات البشرية و لم نجرّبه في الكون لعدم تكرر وقوعه و عدم وقوفنا على تواجده مراراً، فلا يصح سحب حكم الأَول على الثاني و تعديته إليه.
و إِنَّما هو قائم على ملاحظة العقل للنَّظم و التناسق و الإِنضباط بين أَجزاء الوجود، فيحكم بما هو هو، من دون دخالة لأَية تجربة و مشابهة، بأَنَّ موجد النَّظم لا محالة يكون موجوداً ذا عقل و شعور، و إليك البيان:
                        الالهيات، ج‏1، ص: 57
إِنَّ برهان النَّظم مركَّب من مقدمتين، إِحداهما حسّية و الأَخرى عقليَّة و دور الحسّ ينحصر فى إِثبات الموضوع، أَيْ وجود النظام في الكون و السنن السائدة عليه، و أَمَّا دور العقل فهو يرجع إلى أَنَّ هذا النّظام بالكيفيَّة و الكميَّة المحددة، لا يمكن أنْ يكون نتيجة الصّدفة أَو أَيِّ عامل فاقد للشعور.
أَمّا الصغرى، فلا تحتاج إلى البيان. فإِنَّ جميع العلوم الطبيعيَّة متكفلة ببيان النُّظُم البديعة السائدة على العالم من الذرة إلى المجرة، و إِنَّما المهم هو بيان الكبرى، و هي قضاء العقل بأَنه وليد دخالة عقل كبير في حدوثه من دون استعانة في حكمه بمسألة التشابه أَو التجربة. بل يستقل به مجرداً عن كل ذلك فنقول:
1- الإِرتباط المنطقي بين النظام و دخالة الشعور
إِنَّ العقل يحكم بوجود رابطة منطقية بين النظم و دخالة الشعور، و ذلك لأَنَّ النظم ليس في الحقيقة إِلّا أُمور ثلاثة:
1- الترابط بين أَجزاء متنوعه مختلفة من حيث الكمية و الكيفية.
2- ترتيبها و تنسيقها بنحو يمكن التعاون و التفاعل فيما بينها.
3- الهادفية إلى غاية مطلوبة و متوخاة من ذلك الجهاز المنظم.
والنظام بهذا المعنى موجود في كل أَجزاء الكون من ذرته إلى مجرته، فإذا نظر العقل في كل جوانب الكون ابتداءً من الذرة و مروراً بالإِنسان و الحيوان و النبات وانتهاءً بالنجوم و الكواكب و المجرّات و رأى فيها أجزاءً مختلفة في الكمية و الكيفية أَولًا، و منسقة و مرتبة بنحو خاص ثانياً، ورأى كيف يتحقق بذلك الهدف المنشود من وجودها ثالثاً، حكم من فوره بأَنَّ ذلك لا يمكن أَنْ يصدر إِلّا من فاعل عاقل، و خالق هادف شاعر، يوجد الأجزاء المختلفة كمّاً و كيفاً، و يرتبها و ينسّقها بحيث يمكن أَنْ تتفاعل فيما بينها و تتعاون لتحقيق الهدف المطلوب من وجودها.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 58
و هذا الحكم الذي يصدره العقل لا يستند إلى شي‏ء غير النظر إلى ماهية النظام و طبيعة الآبية للتحقق بلا فاعل عاقل مدبر. و هو لا يستند لا إلى التشابه و لا إلى التجربة كما تخيل (هيوم) و أَضرابه.
إِنَّ ملاحظة العقل لما في جهاز العين أَو الأذن أَو المخ أَو القلب أو الخلية من النظام، بمعنى وجود أَجزاء مختلفة كمّاً و كيفاً، أولًا، و تناسقها بشكل يمكنها من التفاعل فيما بينها ثانياً، و تحقيق الهدف الخاص منها ثالثاً، يدفع العقل إلى الحكم بأنها من فعل خالق عليم، لاحتياجها إلى دخالة شعور و عقل و هادفية و قصد.
و بهذا تبين أَنَّ بين الجهاز المنظّم، و دخالة العقل و الشعور رابطة منطقية. و إِنْ شئت قلت: إِنَّ ماهية نفس النظام بمقوّماته الثلاثة (الترابط، و التناسق، و الهادفية) تنادي بلسانها التكويني: إِنَّ النظام مخلوق عقل واسع و شعور كبير.
2- تقرير الرابطة المنطقية بين النظام و دخالة الشعور بشكل آخر
إِنَّ العقل عندما يرى اجتماع ملايين الشرائط اللازمة لاستقرار الحياة على الأرض بحيث لو فقد بعضها لاختلت الحياة، أو عندما يرى‏ اجتماع آلاف الأَجزاء و العناصر اللازمة للإِبصار، في العين، بحيث لو فقد جزء واحد أو تقدم أو تأخر عن مكانه المعين لاختلت عملية الرؤية واستحال الإِبصار، يحكم أَنَّ هناك عقلًا جباراً أرسى مثل هذا النظام، و أوجد مثل هذا التنسيق و الإِنسجام و الترتيب و التوفيق، و يحكم بدخالة الشعور في ذلك و نفي حصوله بالصدفة و الإِتفاق، لأنَّ اجتماعها عن طريق الصدفة كما يمكن أن يكون بهذه الصورة المناسبة كذلك يمكنه أن يكون بما لا يعدّ ولا يحصى من الصور و الكيفياتْ الأُخرى غير المناسبة، و حينئذٍ يكون احتمال استقرار هذه الصورة من بين تلكم الصور الهائلة، احتمالًا ضعيفاً جداً يكاد يبلغ الصفر الرياضي في ضآلته، و هو ما لا يذهب إليه الإِنسان العادي فضلًا عن العاقل المحاسب.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 59
أَجل، إِنَّ هذه المحاسبة الرياضيَّة التي يُجريها العقل إِذا هو شاهد النظام السائد في الكون، تدفعه إلى الحكم بأَنَّ هناك علة عاقلة اختارت هذه الصورة من بين تلك الصور الهائلة بقصد و إِرادة، و جمعت تلك الشرائط اللازمة بهذا الشكل المناسب للحياة «1».
و بهذا يبقى برهان النظم قوياً صامداً سليماً عن أَيَّ نقد و لا يرتبط بشي‏ء من التمثيل أَوْ التجربة كما تصور «هيوم»، و إِنما هو العقل وحده ينتهي إِليه عن طريق ملاحظة نفس ماهية النظام من دون تنظيرها بشي‏ء، و بهذا يتساوى الموجود الطبيعي والمصنوع البشري. فالعقل إذا رفض الإِذعان بأَنَّ الساعة وجدت بلا صانع أَو أنَّ السيارة وجدت بلا علة، فإِنما هو لأَجل ملاحظة نفس الظاهرة (الساعة و السيارة) حيث يرى‏ أَنَّها تحققت بعد ما لم تكن، فيحكم من فوره بأَنَّ لها موجداً. و ليس هذا الحكم إِلا لأَجل الإِرتباط المنطقي بين وجود الشي‏ء بعد عدمه، و لزوم وجود فاعل له، و إِنْ شئت قلت لأَجل قانون العلية و المعلولية الذي يعترف به العقل في جميع المجالات.
كما أَنَّ حكم العقل في المقام بأَنَّ الموجود المنظم مخلوق عقل كبير، ناشئ من الإِرتباط المنطقي بين النظام و دخالة الشعور، أَو استحالة ظهور النظام صدفة للمحاسبة الرياضية التي مرّت، لا لأَن العقل مثل أَو جرّب فتوصل إلى هذه النتيجة.
و حصيلة الكلام: إِنَّ طبيعة النظام و ماهيته في الأشياء التي نراها تنادي بلسان تكوينها أَنَّها صادرة عن فاعل شاعر و خالق عاقل، و هذا هو الذي يجعل العقل يذعن بوجود مثل هذا الخالق وراء النظام الكوني، من دون النَّظر إلى شي‏ء آخر «2».
__________________________________________________
 (1). راجع التقرير الرابع لبرهان النَّظم، فقد أَشرنا فيه إلى ماها هنا مفصّلًا.
 (2). إِنَّ الأسئلة المتوجهة إلى برهان النَّظم لا تنحصر بما ذكرناه، و إِنْ كان هو أَقواها. و قد ذكر الأُستاذ (دام ظله) جميع الإِشكالات المطروحة حول هذا البرهان و تربو على السبع، و أَجاب عنها في كتاب «اللَّه خالق الكون» فمن أراد التوسع فيها فليرجع إلى الصفحات التالية من: (220 إلى 279).
                        الالهيات، ج‏1، ص: 61
البرهان الثاني‏
برهان الإِمكان‏
و توضيحه يتوقف على بيان أمور:
الأمر الأول:
تقسيم المعقول إلى الواجب و الممكن و الممتنع.
إنَّ كل معقول في الذهن إذا نسبنا إليه الوجود و التحقق، فإما أن يَصِحَّ اتصافُه به لذاته أو لا.
الثاني هو ممتنع الوجود كاجتماع النقيضين.
و الأَول: إما أَنْ يقتضي وجوبَ اتصافه به لذاته أو لا. و الأول هو واجب الوجود لذاته.
و الثاني، هو ممكن الوجود لذاته، أعني به ما تكون نسبة كل من الوجود و العدم إليه متساوية.
و بعبارة أخرى: إذا تصورنا شيئاً، فإما أنْ يكون على وجه لا يقبل الوجود الخارجي عند العقل أو يقبله. و الأول هو الممتنع بالذات كاجتماع النقيضين و ارتفاعهما، و اجتماع الضدين، ووجود المعلول بلا علة.
و الثاني، إما أنْ يستدعي من صميم ذاته ضرورة وجوده و لزوم تحققه‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 62
في الخارج، فهذا هو الواجب لذاته. و إما أَنْ يكون متساوي النسبة إلى الوجود و العدم فلا يستدعي أَحدهما أَبداً، و لأجل ذلك قد يكون موجوداً و قد يكون معدوماً، و هو الممكن لذاته، كأفراد الإِنسان و غيره.
و هذا التقسيم، دائر بين الإِيجاب و السلب و لا شق رابع له، و لا يمكن أَنْ يُتصور معقول لا يكون داخلًا تحت هذه الأَقسام الثلاثة.
الأَمر الثاني:
وجود الممكن رهن علّته.
إِنَّ الواجب لذاته بما أَنَّه يقتضي الوجود من صميم ذاته، لا يتوقف وجوده على وجود علة توجده لا ستغنائه عنها.
كما أَنَّ الممتنع حيث يستدعي من صميم ذاته عدم وجوده فلا يحتاج في الإِتصاف بالعدم إلى علة. و لأَجل ذلك قالوا إِنَّ واجب الوجود في وجوده، و ممتنع الوجود في عدمه، مستغنيان عن العلة، لأن مناط الحاجة إلى العلة هو الفقر و الفاقة، والواجب، واجبُ الوجود لذاته. و الممتنع، ممتنعُ الوجود لذاته. و ما هو كذلك لا حاجة له في الإِتصاف بأَحدهما إلى علة. فالأَول يملك الوجود لذاته، و الثاني يتّصف بالعدم من صميم الذات.
و أما الممكن فبما أَنَّ مَثَلَه إلى الوجود و العدم كَمَثَلِ مركَزِ الدائرةِ إلى محيطها لا ترجيحَ لواحد منها على الآخر، فهو في كلٍّ من الإِتصافين يحتاج إلى علة تخرجه من حالة التساوي و تجرُّه إما إلى جانب الوجود أَو جانب العدم.
نعم، يجب أن تكون علة الوجود أمراً متحققاً في الخارج، و أما علة العدم فيكفي فيها عدمُ العلة. مثلًا: إن طردَ الجهل عن الإِنسان الأُمّي و إحلال العلم مكانَه، يتوقفُ على مبادى‏ء وجوديةٍ، و أما بقاؤه على الجهل و عدم العلم فيكفي فيه عدم تلك المبادئ.
الأمر الثالث:
في بيان الدور و التسلسل و بطلانهما.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 63
الدور
عبارة عن كون الشي‏ء مُوجِداً لشي‏ءٍ ثانِ، و في الوقت نفسه يكون الشَّي‏ء الثاني موجداً لذاك الشي‏ء الأَول. و هذا باطل لأنَّ مقتضى كونِ الأَول علة للثاني، تقدُّمُه عليه و تأخُّرُ الثاني عنه: و مقتضى كون الثاني علة للأول تقدُّمُ الثاني عليه. فينتج كونُ الشي‏ء الواحد، في حالة واحدة، و بالنسبة إلى شي‏ء واحد، متقدِّماً و غير مُتَقَدِّم، و متأخراً و غير متأخر. و هذا هو الجمع بين النقيضين، و بطلانه كارتفاعهما من الضروريات البديهية. فينتج أنَّ الدّورَ و ما يستلزمه محال.
و لتوضيح الحال نمثل بمثال: إِذا اتفق صديقان على إمضاء وثيقة و اشترط كلُّ واحدٍ منهما لإِمضائها، إمضاءَ الآخر، فتكون النتيجة توقُّفُ إمضاء كلٍّ على إمضاء الآخر و عند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاةً إلى يوم القيامة، لما ذكرنا من المحذور.
و هاك مثالًا آخر: لو أَراد رجلان التعاون على حمل متاع، غيرَ أَنَّ كلًّا يشترط في اقدامه على حمله إِقدام الآخر. فلن يحمل المتاع إلى مكانه أَبداً.
و أما التسلسل فهو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل و المعاليل الممكنة، مترتبةً غير متناهية، و يكون الكل متَّسِماً بوصف الإِمكان بأَنْ يتوقف (أ) على (ب)، و الثاني على (ج)، و الثالث على رابع و هكذا دواليك تتسلسل العلل و المعاليل من دون أَنْ تنتهي إلى نقطة.
و باختصار: حقيقة التسلسل لا تخرج عن حدود تَرَتُّبِ علل و معاليل، تكون متناهيةً من جانب- أعني آخرها- و غيرَ متناهيةٍ من جانب آخر، أعني أوّلها. و على ذلك، يتسم الجزء الأخير بوصف المعلولية فقط بخلاف سائر الأَجزاء، فإِنَّ كلًا منها مع كونه معلولًا لما فوقه، علة لما دونه، فالمعلولية وصف مشترك بين الجميع، سائدة على السلسلة و على أجزائها كلها بخلاف‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 64
العلية فهي غير صادقة على الجزء الأخير. هذا واقع التسلسل و أما بيان بطلانه:
إِنَّ المعلولية كما هي وصف عام لكل جزء من أجزاء السلسلة، وصف لنفس السلسلة أَيضاً. و كما أَنَّ كلِّ واحدة من الحَلقات معلولة، فهكذا مجموعها الذي نُعبِّر عنه بسلسلة المعاليل المترتبة، أَيضاً معلول. فعندئذ يَطرَحُ هذا السؤال نفسَه: إِذا كانت السلسلةُ الهائلة معلولةً، فما هي العلةُ التي أَخرجَتها من كَتْمِ العَدَمِ إلى عالم الوجود، و من الظُّلْمَةِ إلى عالم النور؟ مع أَنَّ حاجَةَ المعلول إلى العلّةِ أَمرٌ بديهي. و قانونُ العليّةِ من القوانينِ الثابتة لا ينكره إِلَّا الغبي أَو المجادل في الأمور البديهية، هذا من جانب. و من جانب آخر إِنَّ السلسلة لم تقف ولن تقف عند حدّ حتى يكونَ أولُ السلسلة علةً غيرَ معلولٍ، بل هي تسير و تمتد بلا توقف عند نقطة خاصة، و على هذين الأمرين تتسم السلسلة بسمة المعلولية من دون أنْ يكونَ فيها شي‏ءٌ يَتَّسِمُ بِسِمَةِ العليَّةِ فقط. و عندئذ يعود السؤال: ما هي العلة المحققة لهذه السلسلة المعلولة، المخرجة لها عن كتم العدم إلى حيّز الوجود؟
ولك إجزاءُ هذا البيان في كل واحدةٍ من حلقات السلسلة، كما أُجْرِيَ في نفسِ السلسلة بعيِنها و تقول: إذا كان كلُ واحدٍ من أَجزاءِ السلسلة معلولًا و متسِماً بِسِمَةِ المعلولية، فيطرح هذا السؤال نَفْسَهُ: ما هي العلة التي أخرجت كلَّ واحدةٍ من هذه الأجزاء الهائلة الموصوفة بوصف المعلولية، من حَيِّزِ العدم إلى عالَم الوجود.
و إذا كانت المعلولية آيةَ الفقر و علامة الحاجة إلى العلة، فما تلك العلةُ التي نفضت غبار الفقر عن وجه هذه الحلقات و البَسَتْها لِبَاسَ الوجود و التحقّق و صيّرتها غنية بالغَير؟.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 65
إِنَّ معلولية الأَجزاء التي لا تنفك عن معلولية السلسلة آية التعلق بالعلة، و علامة التدلي بالغير، و سمةُ القيام به.
فما هي تلك العلة التي تتعلق بها الأَجزاء؟ و ما ذاك الغير الذي تتعلق به السلسلة؟
و أنت إذا سألت كل حلقة عن حالها لأجابتك بلسانها التكويني بأنها مفتقرة في وجودها، متعلقة في جميع شؤونها بالعلة التي أوجدتها. فإذا كان هذا حال كل واحدة من هذا الحلقات، كان هذا أيضاً حال السلسلة برمّتها. و عندئذٍ نخرج بهذه النتيجة: إنَّ كلَّ واحدة من أجزاءِ السلسلة معلولة، و المركب من المعاليل (السلسلة) أيضاً معلول. و المعلول لا ينفك عن العلّة، و المفروض أنَّه ليس هنا شي‏ء يكون علّة و لا يكون معلولًا و إلّا يلزم انقطاع السلسلة و توقفها عند نقطة خاصة قائمة بنفسها أعني ما يكون علة و لا يكون معلولًا، و هذا خلف.
فإنْ قلت: إِنَّ كلَّ معلول من السلسلة مُتَقَوِّم بالعلّة التي تتقدمه، و متعلق بها، فالجزء الأَول من آخر السلسلة وجد بالجزء الثاني، و الثاني بالثالث، و هكذا إلى ما شاء اللَّه من الأَجزاءِ غير المتناهية و الحلقات غير المحدودة. و هذا المقدار من التعلّق يكفي في رفع الفقر و الحاجة.
قلت: إِنَّ كل معلول، و إِن كان يستند إلى علة تتقدمه ويستمد منها وجودَه، ولكن لما كانت العلل في جميع المراحل متسمةً بسمة المعلولية كانت مفتقرات بالذات، و مثل هذا لا يوجد معلولَه بالإستقلال، و لا ينفض غبار الفقر عن وجهه بالأَصالة، إذْ ليسَ لهذه العلل في جميع الحلقات دور الإِفاضة بالأَصالة و دور الإِيجاد بالإِستقلال بل دور مثل هذه العلل دور الوسيط والأَخذ من العلة المتقدمة و الدفع إلى معلوله، و هكذا كل حلقة نتصورها علة لما بعدها. فهي عند ذاك لا تملك شيئاً بذاتها و إنما تملك ما تملكه من طرف العلة التي تتقدمها و مثلها حال العلل الأخرى من دون استثناء في ذلك. و مثل هذا لا يصيِّر السلسلة و لا أَجزاءَها غنية بالذات بل تبقى على ما
                        الالهيات، ج‏1، ص: 66
و صفناها به من كونها مفتقرات بالذات و متعلقات بالغير. فلا بدّ أَنْ يكون هناك علة وراء هذه السلسلة ترفع فقرها و تكون سناداً لها.
و بعبارة أخرى: انَّ كلَّ حلقة من هذه الحلقات (غير الأخيرة) تحمل سمتين: سمة العلية، و بهذه السمة تُوجِدُ ما قبلها، و سمةِ المعلولية و بهذه السمةِ تعلن أَنَّهَا لم تملك ما ملكَتْهُ ولم تدفع ما دفعَتْهُ إِلى معلولها إِلَّا بالاكتساب مما تقدمها من العلّة. و هذا الأَمر جارٍ و سائدٌ في‏كل حلقة و كل جزء يقع في أفق الحس أو الذهن. فإِذاً تصبح نفسُ السلسلة و جميعُ أَجزائِها تحمل سمة الحاجة و الفقر، و التعلّقِ و الرَّبطِ بالغير. و مثل تلك السلسلة لا يمكن أَنْ تُوجَد بنفسها إلَّا بالإِستناد إلى موجود يحمل سمةً واحدة و هي سمةُ العلية لا غير ويتنزه عن سمة المعلولية. و عند ذاك تنقطع السلسلة و تخرج عن كونها غير متناهية إلى التناهي.
تمثيلان لتقريب امتناع التسلسل‏
إذا أردْتَ أن تستعينَ في تقريب الحقائقِ العقْلية بالأمثلة الملموسة فهاك مثالين على ذلك:
الأول:
إنَّ كل واحدة من هذه المعاليل- التي نشير إليها بالإِشارة العقلية و إن لم نقدر على الإِشارة إليها عن طريق الحسّ لكونها غير متناهية- بحكم فقرها الذاتي، بمنزلة الصفر. فاجتماع هذه المعاليل بمنزلة اجتماع الأصفار. و من المعلومٍ أنَّ الصِّفْر بإضافة صِفْر، بإضافة صِفْرٍ، صِفْرٌ مهما تسلسل، و لا ينتج عدداً صحيحاً. فلأجل ذلك يحكم العقل بأنَّه يجب أن يكونَ إلى جانب هذه الأصفار عدداً صحيحاً قائماً بالنفس حتى يكون مصححاً لقراءتها، و لولاه لما كان للأصفار المجتمعة الهائلة أيُّ دورٍ في المحاسبة، فلا يُقْرَأ الصفر مهما أُضيفَتْ إليه الأصفار.
الثاني:
إنَّ القضايا المشروطة إذا كانت غيرَ متناهية و غيرَ متوقفة على‏
                        الالهيات، ج‏1، ص: 67
قضيةٍ مطلقة، لا تخرج إلى عالم الوجود. مثلًا إذا كان قيام زيدٍ مشروطاً بقيام عمرو، و قيامُه مشروطاً بقيام بكر، و هكذا دواليك إلى غير النهاية، فلن يتحقق القيام عندئذ من أي واحد منهم أَبداً- كما إِذا شرط الأَول إِمضاءَه للورقة بإِمضاءِ الثاني، و الثاني بإِمضاءِ ثالث و هكذا، فلن تُمْضَى تلك الورقة إلى الأبد- إلَّا إِذا انتهت تلك القضايا إِلى قضيةٍ مُطْلَقَةٍ بأَنْ يكونَ هناك من يقومُ أَو يمضي الورقة من دون أَنْ يكون فعلُه مشروطاً بشي‏ء.
فهذه المعاليلُ المتسلسلة- بما أَنَّ وجودَ كلٍّ منها مشروط بوجودِ علةٍ تتقدمه- تكون قضايا مشروطةً متسلسلةً غيرَ متناهيةٍ فلا تَخْرُجُ إلى عالم الوجود ما لم تصل إلى قضيةٍ مطلقَةٍ، أَي إلى موجود يكون علةً محضةً و لا يكونَ وجوده مشروطاً بوجودِ علَّةٍ أخرى، و عندئذ يكون ما فرضناه متسلسلًا غير متسلسل، و ما فرضناه غير متناه متناهياً.
فقد خرجنا بهذه النتيجة و هي أَنَّ فَرْضَ عِلَلٍ و معاليلَ غير متناهية، فرضٌ محال لاستلزامه وجود المعلول بلا علة. فيكون الصحيح خلافَه أَي انقطاع السلسلة، إذ لا واسطة بين الإِيجاب و السلب «1».
إلى هنا تمت المقدمات التي لها دور فى توضيح برهان الإِمكان و إليك نفس البرهان.
تقرير برهان الإِمكان‏
لا شك أَنَّ صفحة الوجود مليئة بالموجودات الإِمكانية بدليل أنها توجَد
__________________________________________________
 (1). إنّ بطلان التسلسل من المسائل المهمة في الفسلفة الإِلهية و قد طرحه الفلاسفة في أَسفارهم و أَثبتوا البطلان بحجج كثيرة تناهز العشر. ولكنَّ أَكثرها غيرُ مُقنع لأَنهم استدلوا على البطلان بالبراهين الهندسية التي لا تجري إلا في الامور المتناهية و ما ذكرناه من البرهان، برهان فلسفي محض مقتبس من أصول الحكمة المتعالية التي أَسَّسها صَدْرُ الدين الشّيرازي و أَرْسى قواعدها تلامذة مدرسته و أبرزهم في العصر الأخير سيّدنا الراحل المغفور له العلّامة الطباطبائي قدس سره.
                        الالهيات، ج‏1، ص: 68
و تنعدم، و تَحْدُث و تفنى، و يطرأ عليها التبَدل و التغيّر، إلى غير ذلك من الحالات التي هي آيات الإِمكان و سمات الافتقار.
و هذه الموجودات الإمكانية، الواقعة في أفق الحس إمَّا موجودات بلا علة أَوْ لها علّة. و على الثاني فالعلّة إِمّا ممكنة أَوْ واجبة. ثم العلّة الممكنة إما أَنْ تكون متحققة بمعاليلها (أي الموجودات الإِمكانية)، أَوْ بممكن آخر.