Pages

Selasa, 18 Oktober 2011

Allamah Thaba'thabai "RAHASIA-RAHASIA MALAKUT" 1-86

                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 15
                        اسرار الملكوت (1)

                        ديباجة

                        بسم الله الرحمن الرحيم‏

الحمد لله حمداً لا حدَّ له، ومدحاً لا عدَّ له، حمداً يليق بذات المعبود الأحديّة، الذي نظم الوجود بحكمته البالغة ومشيئته القاهرة، وقدَّره من مرحلة الهويّة المطلقة إلى أحطِّ مراتب التعيّنات، وحصر حقيقة تعلّق الموجودات وحيثيّتها الملكوتيّة بيد قدرته التي لا تزال، بمفاد الآية الكريمة إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [1].
أَزِمّةُ الأُمُورِ طُرّاً بِيَدِهِ والكُلُّ مُسْتَمِدَّةٌ مِنْ مَدَدِهِ [2]
المهيمن الذي اختصَّ برداء الكبرياء، والفاطر مخلوقاته على العبوديّة والانقياد؛ يا من انقادت له الأمور بأزمّتها طوعاً لأمره [3].
المدبّر الذي برشحات أوصاف كماله يسير كلّ موجود إلى غاياته الكماليّة، ويفد إلى منتهى فعليّته؛ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [4].
المصوِّر الذي خلق الإنسان من طين لازب وقوّمه في أحسن تقويم،
__________________________________________________
 [1] سورة يس، الآيتان 82 و 83.
 [2] شرح منظومة السبزواري، ص 3.
 [3] المصباح، الكفعمي، ص 275؛ و البلد الأمين، ص 375؛ و مهج الدعوات، ص 75.
 [4] سورة طه، الآية 50.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 16
وسخّر له الأرض وما فيها؛ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [1].
المنعم الذي شرَّف النفس الناطقة لبني آدم، بأن خلع عليها لباس الخلافة الإلهيّة، وخصَّ البشر بقابليّة التشرّف بمراتب الأسماء والصفات؛ يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [2]. والذي شرَّف الإنسان ورفعه بتربيته العالية، من مرحلة انغماسه في حضيض الكثرات المظلمة إلى أوج مدارج اليقين، وأوصله إلى منزلة «لي مع الله»، التي يغبطه عليها سائر المخلوقات في العوالم العلويّة والملائكة المقرّبون.
وسلامٌ متواصلٌ وصلاةٌ متواترةٌ على ساحة المحبوب؛ رسول الإسلام الكريم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، الذي يمثِّل بوجوده الملكوتي ظهور المشيئة المطلقة، ونقطة الالتقاء بين قوسي الأحديّة والواحديّة، ونفس ناسوتيّته القدسيّة هادية للسبل، ومرشدة للنفوس إلى ساحة القدس والأمن الإلهيّ.
خُلقُهُ العظيم تجلٍ ل: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [3] وفيضان رحمته غير المتناهية بيان وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [4] وفصل كلامه إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [5] وصدق مرامه وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [6].
وعلى وصيّه وخليفته من بعده، قائد الغرِّ المحجَّلين ويعسوب الدين، قسيم الجنّة والنَّار وساقي السلسبيل الزلال، أمير المؤمنين عليّ بن أبي‏
__________________________________________________
 [1] سورة الروم، الآية 20.
 [2] سورة الانشقاق، الآية 6.
 [3] سورة القلم، الآية 4.
 [4] سورة الأنبياء، الآية 107.
 [5] سورة الطارق، الآيتان 13 و 14.
 [6] سورة النمل، الآية 6.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 17
طالب عليه السلام، وعلى ابنته الطاهرة وأسوة نساء بني آدم، شفيعة يوم الجزاء، السيّدة فاطمة الزّهراء سلام الله عليها، وعلى أولادهم المعصومين؛ أعلام التقى ومنار الهدى وشفعاء يوم الجزاء، الأئمّة الميامين وحبل الله الممدود بينه وبين الخلق أجمعين، وبالخصوص قطب رحى الوجود، ومركز دائرة الشهود، والصراط الأقوم بين العباد والمعبود؛ الإمام الحجّة ابن الحسن العسكري أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، وجعلنا الله من شيعته ومواليه والذابّين عنه بمحمّد وآله الأطهار، آمين.
                        حثّ الأولياء الإلهيين وتأكيدهم على مطالعة حديث عنوان البصري والعمل به‏

كثيراً ما كان الحقير في حياة والده المعظّم، والعارف الحكيم والسالك الواصل، والباقي ببقاء الله والعالم بأمر الله، حضرة العلّامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد حسين الحسيني الطهراني أفاض الله علينا من بركات علومه ومعارفه وجعل روحي فداه، يسمع منه ضمن أحاديثه العرفانيّة وجلساته الأخلاقيّة ومحاوراته السلوكيّة مع الأخلّاء الروحانيّين، وأصدقاء الإيمان الحثَّ الشَّديد والتشويق الأكيد على مطالعة الحديث الشريف لعنوان البصري.
وكان يقول: عندما تشرّفنا بالذَّهاب إلى النَّجف الأشرف لتحصيل العلوم الإلهيّة، والاستفاضة من باب العلم النّبويّ، ومنبع البهاء والعظمة العلويّة؛ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، كنت أقرأ هذا الحديث مرّتين في الأسبوع بناء على توصيات المرحوم العلّامة الطباطبائي رضوان الله عليه، وأتأمّل في معانيه وأغوص في بحاره، كما كنت أحمله دائماً في جيبي، وأجعله رفيق طريقي حيثما ذهبت.
وكذلك كان آية الله العظمى وحجّته الكبرى أستاذ العرفان الفريد ومربّي النفوس الحاج السيد عليّ القاضي الطباطبائي رضوان الله عليه، يأمر تلاميذه وطلابه بمطالعته والتدبّر في مضامينه والعمل بها، ويؤكّد عليهم هذا
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 18
الأمر، بل كان يعتبر ذلك شرطاً لقبول أيّ شخص كي يكون من جملة تلاميذه، والمتربِّين على يديه.
                        نشاط العلّامة الطهراني حين إقامته في طهران‏

وقد تحمّل أستاذنا الأكرم والوالد المعظّم روحي فداه، بعد عودته من النجف الأشرف وإقامته في طهران، مسؤوليّة القيام بوظيفة الإرشاد وتبليغ مباني الشريعة، امتثالًا لدستور أستاذه السلوكي آية الله الأنصاري رضوان الله عليه، وكان مضافاً إلى إقامة صلاة الجماعة وارتقاء منبر الوعظ والإرشاد في مسجد القائم عليه السلام، وإحياء الشعائر الإسلاميّة وإقامة مجالس الحزن والفرح على أهل البيت، ودعوة جميع العلماء وعامّة الناس للمشاركة في هذه المجالس المفيدة والقليلة النظير، فضلًا عن طبع بطاقات المعايدة في المناسبات المختلفة وتوزيعها، وطرح المسائل الحياتية في المجتمع الإسلامي وبيان الأسس الأصيلة للمدرسة الإسلاميّة في هذه المواضيع، وإبراز الجوانب المخفيّة منها قد أقدم على تشكيل جلسات أخلاقيّة متنقِّلة في صباح كلّ جمعة لأخوة السلوك والعديد من الأصدقاء ومرتادي المسجد وغيرهم، وكان يلقي فيها حقائق راقية ومواضيع كثيرة الابتلاء؛ تتعلّق بالحياة الطيّبة في مدرسة أهل البيت. وقد امتازت هذه الجلسات بأهميّة عالية جدّاً، حيث تمّ التعرّض فيها لوظيفة المسلمين في زمن غيبة إمام العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، ووجوب إقامة حكومة إسلاميّة، وعدم الخضوع والانقياد والتسليم لحكّام الجور، ووجوب التمهيد والاستعداد وتهيئة وسائل استقرار الولاية الإلهيّة، ولزوم مواجهة المخطّطات الشيطانيّة ودفع كيد دول الكفر المستعمرة.
وممّا ميّز هذه الأبحاث بشكل واضح عمّا سبقها من سائر ما كتب وقيل حول هذه المواضيع، أنّها أبحاث منبعثة من روح الشريعة، تهدف لبيان أهمّ المباني الفقهيّة، وتوضح مغزى كلمات المعصومين صلوات الله وسلامه‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 19
عليهم أجمعين، كما أنّها توجب قوّة البصيرة الاجتماعيّة والسياسيّة وحدّة النظر في المسائل والأحداث الحاكمة على الأمم الأخرى.
وكان لطبيعة المواضيع المثارة في تلك الجلسات كالإشارة إلى التواؤم بين التطوّر الفكري والنظري في أبعاد مختلفة من العقيدة، وبين الارتقاء المعنوي في بعده الروحي دورٌ في إضفاء جوٍ خاصّ عليها مع انبساط روحيٍّ غريب. وقد هيّأ استمرار هذه الجلسات الجوَّ المناسب لخوضه في المسائل التي كانت جارية على المسلمين، ومساعدة قائد الثورة الإسلاميّة في إيران حضرة آية الله العظمى السيّد الخميني رحمة الله عليه والاشتراك معه في العمل الثوري.
ومن جملة الأمور التي أنتجتها هذه الجلسات أيضاً هي تربية الشباب الغيورين والمتحمّسين والمتأثرين بمدرسة الوحي الذين وقفوا حياتهم على إعلاء كلمة التوحيد، والعمل على استقرار النظام الإسلامي القيّم، كما أنّ من جملة خصائصها أنّها تركت أثراً عميقاً في روحيّة المشاركين فيها ونفسيّتهم. فقد نُقل عن بعضهم أنّه كان يشعر بانقلاب كبير في داخله، ونزعة للتغيّير الذاتي بمجرّد حضوره الجلسة الأولى.
وكان الوالد في ليالي الثلاثاء بعد قراءة القرآن الكريم في مسجد القائم يفيض على مسامع وقلوب المشتاقين للمعارف الإلهيّة، لمدّة ساعة، حظّاً وافراً ونصيباً وافياً من شرح الأحاديث القدسيّة من المجلّد السابع عشر من كتاب البحار (الطبعة الحجريّة)، وشرح دعاء أبي حمزة الثمالي والآيات التوحيديّة من القرآن الكريم. وكان في سائر ليالي الأسبوع يلقي دروساً في تفسير القرآن؛ ابتدأت من سورة الحمد المباركة واستمرت إلى أواخر سورة الأنعام، وقد بقي على هذه الحال أكثر من اثنين وعشرين سنة، حتّى هاجر إلى المشهد الرضوي الأقدس على ثاويه آلاف التحيّة والإكرام.
والخلاصة، أنّ العلّامة الوالد قدّس الله نفسه الزكيّة، قد وُفِّق بالتوفيق‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 20
الربّاني مدّة إقامته في طهران للوصول إلى الكثير من أهدافه الراقية، والتي كانت عبارة عن نشر المعارف الإلهيّة وتبليغ الشريعة المحمّديّة الغرّاء، على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام، فضلًا عن البيان الصحيح لمنهج ومسار الأئمّة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما أنّه روى قلوب المشتاقين لأنوار الهداية في سبل السلام، من معين ماء ولاية أهل البيت عليهم السلام الذي لا ينضب، بحيث إنّ أصحابه فضلًا عن تلامذته لم يشاهدوا من هذا العالم الكبير وميزان العلم والعمل، أيّ نقص أو فتور؛ لا من الجهة العلميّة وكسب المعارف الإلهيّة، ولا من الجهة السلوكيّة والتربية الأخلاقيّة، بل كان يُرى منه إفاضة الرشحات العلميّة والفيوضات الربّانيّة، أكثر بكثير من توقّعهم وتصوّرهم الذاتي ومطالبهم وحاجاتهم السلوكيّة التي كانوا يطمحون إليها. وكأنّه كان يفكّر بأفق أوسع بكثير ونظر ثاقب يفوق ميزان النظر العادي والملاكات المتعارفة، وينظر إلى الآفاق البعيدة وغير المتوقّعة، وكان يخاطب في حديثه بواطن النفوس المستعدّة في المستقبل، ويناجي قلوبهم ليفتح لهم طريق السلوك، ويهيّئ لهم زاد سفرهم إلى الله ومؤونة منازلهم في طريقهم إليه تعالى، وقد قال مراراً للحقير: اعلم أنّي لم أكتب وأتحدّث بهذه المطالب للحاضرين الآن فقط، بل هناك من سوف يستفيد من هذه المسائل في المستقبل إن شاء الله؛ «ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه» [1].
         فَأَصْبَحْتَ ذا عِلْمٍ بِأَخْبَارِ مَنْ مَضَى             وأَسْرَارِ مَنْ يَأْتِي مُدِلًّا بِخِبْرَةٍ [2]

تجدر الإشارة إلى أنّ جلسات الذكر والأنس للعلّامة الوالد مع الرفقاء وأخلَّاء السلوك، قد استمرت إلى ما بعد تشرّفه بالبقاع القدسيّة، وبقيتْ إلى نهاية عمره الشريف.
__________________________________________________
 [1] أصول الكافي، ج 1، ص 403.
 [2] ديوان ابن الفارض، ص 123.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 21
                        دواعي إقامة مجالس شرح حديث عنوان البصري‏

وهكذا فقد تركَ رحيل ذلك العزيز وفقده، آهاتٍ محرقةً وحسراتٍ دائمةً في قلوب محبِّيه ومريديه الصالحين، وكان لسان حالنا حين استذكار أيّام الوصال الحميمة، وليالي الوجد المفعمة بالعشق والأنس، والأحاديث العرشيّة الباعثة للحياة في الروح، واللّحظات الممتعة لمجالس الوعظ والأخلاق، وجذبات الأنفاس القدسيّة، ونشأة العوالم الربوبيّة من جهة، وإحساسنا بألم الفقدان ولوعة الهجران وحيرة الحرمان والفراغ من جهة أخرى ما ذكره حافظ الشيرازي في شعره:
         ياد باد آنكه نهانت نظري با ما بود             رقم مهر تو بر چهره ء ما پيدا بود
             ياد باد آنكه چو چشمت بعتابم مي كشت             معجز عيسويت در لب شكّرخا بود
             ياد باد آنكه رخت شمع طرب مى افروخت             وين دل سوخته پروانه ء ناپروا بود
             ياد باد آنكه چو ياقوت قدح خنده زدى             در ميان من ولعل تو حكايتها بود
             ياد باد آنكه صبوحي زده در مجلس انس             جز من ودوست نبوديم وخدا با ما بود
             ياد باد آنكه در آن بزمگه خُلق وادب             آنكه او خنده ء مستانه زدى صهبا بود
             ياد باد آنكه نگارم چو كمر بربستي             در ركابش مه نو پيك جهان پيما بود
             ياد باد آنكه خرابات نشين بودم ومست             وآنچه در مسجدم امروز كمست آنجا بود
             ياد باد آنكه به اصلاح شما مى شد راست             نظم هر گوهر ناسفته كه حافظ را بود [1]

لكن ما الفائدة بعد هذا؛ فلا ذاك العلَّامة العزيز موجود بيننا، وليس هناك رجل يمكنه أن يضي‏ء لنا حتّى القليل من منبع النور والعظمة والبهاء. فكما اعتبر أمير المؤمنين عليه السلام أنّ أصعب يوم في حياته كان يوم ارتحال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكذلك كان لوفاة هذا الرجل الإلهيّ ثلمة لا تسدّ وصدمة كبيرة في نفوس تلامذته المخلصين.
ولم تمض مدّة على هذه الفاجعة، حتّى شكا الكثيرُ من الأخلّاء الروحانيّين ورفقاء الطريق من هذه الوضعيّة المؤسفة ومن الفراغ المعنوي والعلمي والروحي الكبير، فطلبوا من هذا الفقير مسودّ الوجه لقربه من العلّامة أن يقيم محفل أنس ومجلس بحث، تدور رحاه حول مباني الطريق‏
__________________________________________________
 [1]- ديوان حافظ، تصحيح بژمان بختياري، ص 106، غزل 239.
والمعنى:
لطالما أذكر! يوم كنّا تحت رعايتك الروحيّة، حيث كانت آثار عشقك ظاهرة في وجوهنا
لطالما أذكر! يوم كانت تقتلني نظرتك العاتبة إليّ، فكانت تحييني شفاهك المعسولة كمعجزة عيسى‏
لطالما أذكر! يوم كان وجهك كشمعة العيد يشعّ بالنور، وكان هذا القلب كالفراشة المتهوّرة تحترق بنار الشمعة
لطالما أذكر! يوم كان كأس الياقوت المتلألئ، قائماً بيني وبين شفتيك كانت هناك حكايات‏
لطالما أذكر! يوم كنّا نرتشف كأس الصباح في مجلس الأنس، لم يكن إلا أنا والحبيب وكان الله يرعانا
لطالما أذكر! يوم كان ذاك الخُلق والأدب في محفل الفرح، فقد كانت بسمة العاشق هي كأس الشراب‏
لطالما أذكر! يوم شدّ الحبيب رحاله لزيارة العالم، فكان القمر الجميل هو الرسول المبشّر بذلك‏
لطالما أذكر! يوم كنت أسكن الخرابات وأتنقّل كالمجنون، فقد كان عند روحي ما أفتقده اليوم وأنا في مسجدي‏
لطالما أذكر! يوم كان بإصلاحك يتقوّم كلّ شي‏ء، فكلّ جوهر منظوم يلقيه حافظ إنّما صار جميلًا بسبب ذلك.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 22
وأسراره ولطائف السير وظرائفه، يذكر فيه ما علق في ذهنه وبقي في خاطره من كلمات ذلك العالم.
لكنّ هذا الفقير لم يكن ليفكِّر بل حتّى ليتصوّر أن يدخل مثل هذا الميدان، أو يقدم على بيان مثل هذه المعارف الحقَّة والعلوم الإلهيّة، لأنّ وجود ذاك الإنسان وجود فعليّ وتامّ وخالص من كلّ عيب ونقص، ومتحلٍّ بالصفات والأسماء والملكات الكماليّة لذات الباري جلّ وعلا، وهذا الفقير مسودّ الوجه في تمام النقصان وتمام الحرمان، فلسان حاله:
         سيه روئى ز ممكن در دو عالم             جدا هرگز نشد والله أعلم 1

وقد امتنعت عن قبول طلب أخوة الإيمان والأعزّة الروحانيّين بادئ الأمر، وتذرّعت بعلل شتّى، إلى أن زاد اهتمامهم وكثر طلبهم لتشكيل هذه المجالس والتحدُّث حول هذه المطالب، حتّى رأيت أن أستجيب لهم وكلّي خجلٌ من لطفهم لسببين؛ أولًا: حتّى لا أظلم هؤلاء الأخوة بردِّهم وكسر خاطرهم، وثانياً: جرياً على قاعدة «ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك كلُّه».
         آب دريا را اگر نتوان كشيد             هم بقدر تشنگي بايد چشيد 2

وقلت فلتكن هذه المجالس رأفة بقلوب اليتامى المحترقة والمتألِّمة لفقدان ذلك العارف الواصل والمربّي الحاذق، والأسوة في التخلّق بأخلاق الله وأخلاق رسوله الكريم والأئمّة الميامين عليهم جميعاً أفضل صلوات الله وسلامه.
__________________________________________________
 (1) گلشن راز، ص 72.
والمعنى: أنّ المسوّد وجهه بالإمكان الذاتي يبقى ممكناً في كلا العالمَين؛ عالم المادّة وعالم الروح، ولن يختلف مصيره والله العالم.
 (2) أي: إذا لم تقدر على الإحاطة بماء البحر كلّه، فاشرب منه بمقدار حاجتك.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 23
         مهر جهانسوز چو پنهان شود             شب پره بازيگر ميدان شود (1)

ولا شكّ في أنّ نفس انعقاد مجالس ذكر الله وتعداد النعم والألطاف الإلهيّة، والبحث حول المعارف المتقنة للتوحيد والولاية، وكيفيّة الوصول إلى ذروة العرفان الحقيقيّة، مع ما يلازم ذلك من إخلاص النيّة وصفاء الخاطر، وتطهير الضمير من شوائب الكثرة، يعتبر من أهمّ الضرورات وعلى رأس سلّم الأولويات المتّصفة بأقصى درجات الإلزام، وقد قيل:
عند ذكر الصَّالحين تنزل الرحمة [2].
أي أنّ الرحمة الإلهيّة وفيضان العناية الربانيّة تجري عند ذكر العظماء والأولياء وبيان سيرتهم وأهدافهم وطريقتهم.
وقد ورد في «منية المريد»:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا مررتم في رياض الجنّة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال: حِلَقُ الذِّكر؛ فإنّ لله سيّارات من الملائكة يطلبون حِلَقَ الذِّكر، فإذا أتوا عليهم حفُّوا بهم (وأحاطوهم برحمة الله وبهائه ونوره) [3].
من هنا تقرَّر أن يدور محور هذه المجالس حول عرض المباني العرفانيّة وأصول التربية السلوكيّة والتهذيب النفسي، لذلك تمَّ انتخاب حديث عنوان البصري المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ليكون منطلقاً للمباحث الأخلاقيّة والمواعظ السلوكيّة، حيث ورد تأكيد شديد من قبل الأولياء السابقين وأدلَّاء الطريق على الاهتمام بالعمل على طبقه، باعتباره مبيّناً للسفر
__________________________________________________
 (1) أي: عندما تغيب الشمس المضيئة، يصير الخفّاش فارس الميدان.
 [2] بحار الأنوار، ج 90، ص 349.
 [3] منية المريد، الشهيد الثاني، ص 106؛ و بحار الأنوار، ج 1، ص 205.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 24
نحو الله والارتقاء إلى أعلى مراتب القرب ولقاء الحضرة الأحديّة، وبعنوان كونه أحد الأصول الموضوعة والقوانين المدوَّنة لهذا الطريق.
                        الغاية من تأليف هذا الكتاب هو نشر آراء العلّامة الطهراني والاستفادة منها

ولا يخفى أنّ الغرض الأصلي والغاية الأساسيّة من هذه المجالس، هي الاستفادة من كلمات وكتابات المرحوم الوالد رضوان الله عليه، لهذا السبب انصبَّ الاهتمام، بقدر الإمكان، على نقل المواعظ الأخلاقيّة والكلمات الحِكَميَّة والحكايات المعبِّرة الموجودة في كتبه والمضبوطة في تسجيلاته، والتصرُّف بأقلّ قدر ممكن من قِبَل الحقير في شرح وتفسير عبارات هذا الحديث ذات المضامين العالية. من هنا يمكن القول بأنّ المطالب المطروحة في فصول ومجالس هذا الكتاب، مطابقة أو قريبة جدّاً لمباني وأفكار وأسلوب الوالد في شرح مضامين هذا الحديث الشريف.
والجدير بالذكر أنّ طريقة كتابة هذا الكتاب، وإن تعدَّت كونها شرحاً محضاً لحديث عنوان البصري، وتجاوزت الحدّ المتعارف لمصطلح التأليف، إلا أنّ القارئ العزيز سيجد أنّ من المناسب جدّاً ذكر هذه المواضيع، بحيث لا يرى مانعاً من اندراجها فيه، ولن يؤاخذ المؤلف الحقير على إطالته الكلام في مسائل جانبيّة، بل سوف يتعرَّف من خلال الأمور الدقيقة المطروحة في الأبواب المختلفة بعبارة سلسة، على حقائق الإسلام النورانيّة ومباني التشيُّع الأصيل، ويطَّلع على أساس العرفان الحقيقي لمدرسة أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، ذاك العرفان الذي ينبع من معين علوم مدرسة الوحي وعقائدها، ليجري على قلم أولياء الحقّ ولسانهم، وأفعال العرفاء بالله.
                        مصادر حديث عنوان البصري‏

وأما راوي الحديث عنوان البصري فقد ورد اسمه في كتب الشيعة قليلًا حين نقلهم لهذا الحديث، حيث نقله المرحوم السيد محسن الأمين العاملي في «أعيان الشيعة»، ج 4، ص 72 من كتاب «منية المريد» للشهيد
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 25
الثاني [1]، ونقله أيضاً محمّد بن محمّد بن الحسن الحسيني العاملي العيناثي المعروف بابن القاسم في كتاب «الإثنا عشريّة في المواعظ العدديّة»، حيث قال فيه: «إنّ هذا الحديث من روايات العامّة من مرويات عنوان البصري» [2]. كما أنّ المرحوم المجلسي نقل عن الشيخ البهائي‏
__________________________________________________
 [1]- يكفي في بيان أهميّة كتاب منية المريد وعظمته أن نشير إلى ما ذكره العظماء من علماء الشيعة، وما بذلوه من عناية وتوجّه خاص، فضلًا عن توصيتهم لتلاميذهم بمطالعته والتأدّب بالآداب المذكورة فيه. ومن جملة هؤلاء الميرزا الشيرازي حيث يقول: «كم هو جدير بأهل العلم وطلاب العلوم الدينيّة أن يواظبوا على مطالعة هذا الكتاب ويتأدّبوا بآدابه ويعملوا بما ورد فيه». وقد أشار إلى أهميّة هذا الكتاب كلٌّ من: المرحوم السيد محسن الأمين العاملي في كتاب أعيان الشيعة، ج 7، ص 154 و 156، وابن العودي تلميذ الشهيد الثاني في كتاب الدرّ المنثور، ج 2، ص 186، والمرحوم الشيخ عبد الله المامقاني صاحب كتاب تنقيح المقال في كتاب مرآة الرشاد الذي يحتوي على وصاياه لابنه، والسيّد صدر المتألّهين في كتاب شرح أصول الكافي. واعتبره المجلسي من جملة مصادر بحار الأنوار، كما اعتمد عليه الحرّ العاملي في كتابه الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسيّة.
 [2] لكن مع كون راوي هذا الحديث عامّياً، إلّا أنّنا نرى أنّ هذه الرواية ذات المضامين العالية قد وردت في العديد من الكتب الروائيّة والأخلاقيّة والعرفانيّة، ممّا يكشف أنّ علماء الشيعة العظام قد اهتمّوا بها. بل نرى أنّ بعض فقرات هذا الحديث الشريف قد وردت في كتبنا الأصوليّة والفقهيّة في مقام الاستدلال كمصدر ودليل وشاهد، وأمّا خصوصيّة الراوي وكونه عاميّاً فلم توجب قطّ ضعفاً في الإسناد إلى الإمام عليه السلام، بل كان الحديث محطَّ قبول علماء الشيعة وأعلامهم مع كثرتهم واختلافهم وكشاهد على ذلك، نذكر بعض المصادر التي أوردت هذا الحديث:
كتاب الكشكول للشيخ البهائي؛ وكتاب الإثنا عشريّة في المواعظ العدديّة لابن القاسم، ص 140؛ و مشكاة الأنوار، ص 325؛ و بحار الأنوار، ج 1، ص 224؛ و الكنى والألقاب، ج 2، ص 85؛ وكتاب الإمام الصادق عليه السلام، للشيخ محمّد حسين المظفّر، ج 2، ص 53؛ و أعيان الشيعة، ج 4، ص 72، حيث نقل هذا الحديث بتمامه في هذه الكتب. وقد نقلت أجزاء من الحديث ضمن مناسبات مختلفة في كلٍّ من: منية المريد، ص 148؛ و وسائل الشيعة، ج 27، ص 172، و مستدرك الوسائل، ج 11، ص 290، وج 16، ص 210، وج 17، ص 322؛ و مستدرك السفينة، ج 2، ص 469، وج 4، ص 252، وج 7، ص 352، ج 8، ص 179؛ و بحار الأنوار، ج 2، ص 260؛ وكتاب شجرة طوبى، ج 1، ص 38؛ و مجمع البحرين، ج 3، ص 108؛ و الإمام جعفر الصادق لعبد الحليم الجندي ص 161، وص 340؛ وكتاب طرائف المقال في علم الرجال، ج 2، ص 460.
وكذلك وردت بعض الفقرات من هذا الحديث في مقام الاستدلال لإثبات المطلوب في الكتب/ الأصوليّة من قبيل: الرسائل للشيخ الأنصاري، ص 347؛ و نهاية الأفكار، ج 3، ص 246؛ وفي الكتب الفقهيّة من قبيل الحدائق الناضرة، ج 1، ص 76؛ و مستمسك العروة، ج 3، ص 287، وغيرها من الكتب الأخرى.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 26
أعلى الله مقامهما الحديث نفسه في كتابه بحار الأنوار.
وعلى كلّ حال، فمع التأمُّل والتدبُّر في مضامين هذا الحديث الشريف لا يبقى أيُّ مجال للشكّ في أنّ هذه المطالب والمضامين قد صدرت واقعاً من مصدر الوحي ومنبع التشريع، كما يُشَاهَد فيه بوضوح روح التربية والتزكية الإلهيّة الصحيحة الصادرة من لسان المعصوم عليه السلام.
وأخيراً، نسأل الله المنّان أن يمنَّ علينا من خلال التمسّك بالولاية الكلّيّة الإلهيّة، وثبات أقدامنا على صراط المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ودربهم، والالتزام بالأوامر والبرامج السلوكيّة لصادق آل محمّد عليه السلام بتبديل جميع حيثيّاتنا الاستعداديّة إلى جهات فعليّة كماليّة، ويكشف عنَّا حجب الجهل بضياء العلم واليقين ونور البهاء والعظمة، وينقل نفوسنا الناسوتيَّة إلى الأرواح المجرّدة اللاهوتيّة فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [1].
اللهمّ وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإيّاك في الليل والنهار يعبدون، برحمتك يا أرحم الراحمين [2].
مشهد المقدسة
أذان الظهر من يوم الأربعاء 30 ربيع الأول 1420 هجري قمري‏
السيد محمّد مُحسن الحسيني الطهراني‏
__________________________________________________
 [1] سورة القمر، الآية 55.
 [2] مقتبس من المناجات الخمسة عشر، مناجاة المريدين.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 28
                        مقدمة

                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 30
بسم الله الرحمن الرحيم‏
الحمد للمعبود الواحد الأحد، الذي يحمده الملأ الأعلى، ويسبّحه ويبجّله سكَّان الأرض والسماء، الذي أفاض بوجوده الأقدس على الماهيّات الممكنة، ونوَّر ظلماتها بأنوار مظاهر جماله وجلاله، وبفضل مشيئته القاهرة خصَّ الإنسان من بين سائر مخلوقاته بتاج الكرامة وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [1]، وخلع عليه لباس خلافة الغيب المكنون، وألبسه الرِّداء الرفيع أَوْ أَدْنَى [2] من حريم قدسه وكبريائه، وأعدَّ النفوس المتعلّقة بالناسوت للوصول إلى جوهر الملكوت، وهيَّأ الذوات المنغمسة بعالم الكثرات للعودة إلى الفناء في حقيقة الذات. وبموجب وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [3] أوجد الإنسان بنفخة رحمانيّة من سرّ الوجود، وحصر قابليّة حمل الأمانة الإلهيّة الكبرى بذات الإنسان القدسيّة، وبمقتضى وحدته الجامعة منحه إمكانيّة العروج إلى أعلى مراتب الرقيّ، والنزول إلى أدنى منزلة في مظاهر الكون، وبذلك كان مفتخراً لعالم الوجود، ومستوجباً لسجود ملائكة
__________________________________________________
 [1] سورة الإسراء، الآية 70.
 [2] سورة النجم، من الآية 9.
 [3] سورة الحجر، من الآية 29.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 31
السماوات وساكني عوالم الأنوار؛ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ* [1].
وسلامٌ متواصلٌ وتحيّةٌ متواترةٌ على رفيعي المنزلة؛ من الأنبياء والحجج الإلهيّة، الذين تحمّلوا جميع أعباء الرسالة بعزم متين وقدم راسخة لإعلاء كلمة التوحيد، ولم يفتروا أو يقصّروا لحظةً في سبيل الوصول إلى هدفهم، ولم يتنازلوا قيد أنملة عن منهجهم الصحيح وطريقهم القويم أمام الضغوط والمصاعب، واعتبروا أنّ الثمرة الوحيدة للرسالة وأجر تبليغها هو رقيُّ الأمّة ورشدها قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [2].
خصوصاً على ثمرة عالم الوجود وجوهره، المظهر الأتمّ للصفات الإلهيّة والأسماء الحسنى، ومَجلى الأنوار الباهرة لحضرة المعبود، ومظهر نشأَتَي الغيب والشهود؛ أبو الأكوان بفاعليّته وأمّ الإمكان بقابليّته (3)؛ محمّد ابن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، الذي نشأته الناسوتيّة فيضان الرحمة والمغفرة للعالي والداني، ونفحات أنفاسه الملكوتيّة منبع الحياة الطيّبة للعارفين والسالكين وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [4]، وجميع الأنبياء هالة لنور إنعامه، وقوت الأولياء من فتات موائد كرمه، وحقيقة مراتب الوجود قائمة بتدلِّيه وتعلُّقه؛ لولاك لما خلقت الأفلاك [5]، وكمال التعيّنات‏
__________________________________________________
 (3) أي: أنّه أب لعوالم الوجود من جهة فاعليّته، وأمٌّ لجميع المخلوقات من جهة القبول والاستعداد؛ وذلك لأنّه بسبب تحقّق هاتين الحيثيّتين المختلفتين؛ الأولى حيثيّة نزول حقيقة الوجود بالإضافة الإشراقيّة. والثانية تشكّل تلك الحقيقة في قوالب وظروف متفاوتة وتعيّنها بتعيّنات مختلفة، ترتسم كيفيّة بدء الخلق وختمه. حيث يعبّر عن الحيثيّة الأولى بالحيثيّة الفاعليّة ويعبّر عن الثانية بالحيثيّة القابليّة، وكلتا هاتين الحيثيّتين من وجوده المبارك متحقّقتان في نفسه الشريفة.
 [1] سورة التين، الآيات 46.
 [2] سورة الفرقان، الآية 57.
 [4] سورة الأنبياء، الآية 107.
 [5] مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج 1، ص 217.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 32
متحقِّقة بالتربيّة الملكوتيّة لنفسه الزاكية، والصالحون مرآةٌ لشمس جماله؛ قال: إنما بُعثتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق [1]، والمرسلون طلائع لظهوره مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمًا [2].
وعلى آله وعترته الذين جعل الله تعالى مودَّتهم أساساً لتكوُّن السماوات والأرضين؛ قال: يا ملائكتي ويا سكان سماواتي! إنّي ما خلقت سماءً مبنيّة ولا أرضاً مدحيّة ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئة ولا فَلَكاً يدور، ولا فُلْكاً يسري، ولا بحراً يجري إلا لمحبّة هؤلاء الخمسة [3]. الذين جعل الله حبَّهم مفتاح النجاة الأبديّة، ومتابعتهم ماء الحياة والسعادة السرمديّة؛ حيث قال: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [4]، والذين هم منار الهدى وأعلام التقى ودعائم الإسلام وولائج الاعتصام، خصوصاً قطب دائرة الوجود، وحبل الله الممدود بين العباد والمعبود؛ إمام العصر والزمان بقيّة الله الحجّة ابن الحسن العسكري، أرواحنا لتراب مقدمه الفداء وجعلنا الله من أعوانه وأنصاره والذّابين عنه.
اللهمّ اجعله الداعي إلى كتابك، والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكِّن له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً يعبدك لا يشرك بك شيئاً ... اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة تعزُّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة ... برحمتك يا أرحم الراحمين [5].
__________________________________________________
 [1] مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص 8؛ و السنن الكبرى، ج 10، ص 192.
 [2] سورة الأحزاب، من الآية 40.
 [3] شرح إحقاق الحقّ، ج 2، ص 556.
 [4] سورة النساء، من الآية 59.
 [5] إقبال الأعمال، ج 1، ص 141 و 142.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 33
                        نص حديث عنوان البصري‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏
هذا نصّ رواية عنوان البصري كما هو موجود في كتاب «الروح المجرد» للعلّامة الوالد آية الله الحاج السيد محمّد الحسين الحسيني الطهراني، أفاض الله علينا من بركات نوره القدسيّة:
أقول: وجدت بخطّ شيخنا البهائي قدّس الله روحه ما هذا لفظه:
قال الشيخ شمس الدين محمّد بن مكّي: نقلت من خطّ الشيخ أحمد الفراهاني رحمه الله عن عنوان البصري وكان شيخاً كبيراً قد أتى عليه أربع وتسعون سنةً قال: كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلمّا قدم جعفر الصادق عليه السلام المدينة، اختلفت إليه وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك.
فقال لي يوماً: إنّي رجلٌ مطلوبٌ، ومع ذلك لي أورادٌ في كلّ ساعة من آناء الليل والنهار، فلا تشغلني عن وردي، وخذ عن مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه.
فاغتممت من ذلك وخرجت من عنده، وقلت في نفسي: لو تفرَّس فيَّ خيراً لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه.
فدخلت مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّمت عليه، ثمّ رجعت من الغد إلى الروضة وصلّيت فيها ركعتين، وقلت: أسألك يا الله يا الله! أن تعطف عليّ قلب جعفر، وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم.
ورجعت إلى داري مغتمّاً، ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما أشرب قلبي من حبِّ جعفر.
فما خرجت من داري إلا إلى الصلاة المكتوبة حتّى عيل صبري.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 34
فلمّا ضاق صدري تنعّلت وتردّيت وقصدت جعفراً، وكان بعد ما صلّيت العصر.
فلمّا حضرتُ باب داره استأذنت عليه، فخرج خادمٌ له فقال: ما حاجتك؟
فقلت: السلام على الشريف!
فقال: هو قائم في مصلّاه، فجلست بحذاء بابه، فما لبثتُ إلا يسيراً، إذ خرج خادمٌ فقال: ادخل على بركة الله، فدخلتُ وسلّمتُ عليه. فردّ السلام، وقال: اجلس غفر الله لك.
فجلست، فأطرق مليّاً، ثمّ رفع رأسه وقال: أبو من؟
قلت: أبو عبد الله!
قال: ثبّت الله كنيتك ووفّقك، يا أبا عبد الله ما مسألتك؟!
فقلت في نفسي: لو لم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان كثيراً.
ثمّ رفع رأسه ثمّ قال: ما مسألتك؟
فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك عليّ ويرزقني من علمك، وأرجو أنّ الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته.
فقال: يا أبا عبد الله، ليس العلم بالتعلم، إنّما هو نورٌ يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم، فاطلب أوّلًا في نفسك حقيقة العبوديّة، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك!
قلت: يا شريف، فقال: قل يا أبا عبد الله!
قلت: يا أبا عبد الله! ما حقيقة العبوديّة؟
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 35
قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله مُلكاً؛ لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه.
فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبِّره، هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه، لا يتفرَّغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس.
فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا، وإبليس، والخلق. ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزّاً وعلوّاً، ولا يدع أيّامه باطلًا.
فهذا أوّل درجة التقى، قال الله تبارك وتعالى:
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* [1].
قلت: يا أبا عبد الله أوصني!
فقال: أوصيك بتسعة أشياء، فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسألُ أن يوفّقك لاستعماله.
ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإيّاك والتهاون بها!
قال عنوان: ففرّغت قلبي له.
__________________________________________________
 [1] سورة القصص، الآية 83.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 36
فقال: أما اللواتي في الرياضة: فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه، فإنّه يورث الحماقة والبَلَه، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالًا وسمِّ الله، واذكر حديث الرسول صلّى الله عليه وآله: ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنه، فإن كان ولا بُدَّ، فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنَفَسه.
وأما اللواتي في الحلم: فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة. ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقول، فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسألُ أن يغفر لك. ومن وعدك بالخنى فعده بالنصيحة والرِّعاء.
وأمّا اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربة، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً. وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلًا، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للنّاس جسراً!
قم عنّي يا أبا عبد الله فقد نصحت لك، ولا تفسد عليّ وردي، فإنّي امرؤٌ ضنين بنفسي. والسلام على من اتبع الهدى [1].
هذا نصّ الحديث الشريف أخذناه من كتاب الروح المجرّد على مؤلّفه رضوان الله وبركاته. وسوف نشرع بتوضيح فقراته ضمن مدركاتنا الناقصة وفي حدود سعة ظرفيتنا:
         آب دريا اگر نتوان كشيد             هم بقدر تشنگي بايد چشيد 2

__________________________________________________
 (2) أي: إذا لم تقدر على الإحاطة بماء البحر كلّه، فاشرب منه بمقدار حاجتك.
 [1] الروح المجرد، ص 191 187، نقلًا عن بحار الأنوار، ج 1، ص 224 إلى 226.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 37
                        المجلس الأول: كتمان بعض الصحابة مناقب أمير المؤمنين عليه السلام‏

                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 39
بسم الله الرحمن الرحيم‏
الحمد لله ربِّ العالمين‏
والصّلاةُ على خيرة الله المنتجبين محمَّدٍ وآلِهِ الطاهِرِين‏
واللّعنةُ على أعدائِهِم أجمعين‏
يقول عنوان البصري:
كُنتُ أختلفُ إلى مالك بن أنس سنين (وآخذ عنه العلوم والروايات التي كان يرويها عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلمّا قدِمَ جعفرُ الصادقُ عليه السلام المدينةَ اختلفتُ إليهِ (وتركت مجلس مالك ورأيت أنّ الاستفادة من المجلس الشريف للإمام أولى) وأحببْتُ أن آخذَ عنه كمَا أخذتُ عنْ مالك.
ومالك بن أنس هو ابن أنس بن مالك الأنصاري. وأنسٌ كان من قبيلة الخزرج، وقد كنّاه رسول الله بأبي حمزة. وبقي مدّة عشر سنوات يخدم الرسول بالمدينة، كما روى عنه الكثير من الروايات، حتّى قيل إنّ رواياته وصلت إلى ألفين ومائتين وست وثمانين رواية، وقد عمّر أنس كثيراً حيث بقي إلى سنة اثنين وتسعين من الهجرة، وتوفيّ خارج البصرة ودفن هناك.
                        حديث الطائر المشوي وغضب أمير المؤمنين عليه السلام من أنس بن مالك‏

وقصّة أنس بن مالك معبّرة جدّاً ومفيدة؛ فالعامّة تعدّه من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ومن المقرّبين إليه. وقد روى عنه‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 40
روايات متعدّدة في مواضيع مختلفة؛ فرواية الطائر المشويّ في فضيلة أمير المؤمنين عليه السلام الموجودة في كتب الشيعة والسنَّة، مروية عنه. وفي ذلك ينقل العلَّامة محمَّد باقر المجلسي رضوان الله عليه في بحار الأنوار، عن كتاب «تفضيل أمير المؤمنين» للكراجكي، حيث يقول:
لمَّا حمل المأمون أبا هَدْيَة (مولى أنس) إلى خراسان، بلغني ذلك فخرجتُ في لقائه، فصادفني في بعض المنازل، فرأيت رجلًا طويلًا خفيف العارضين منحنياً من الكِبَر وقد اجتمع عليه الناس. فقلت له: حدِّثني رحمك الله فإنّي أتيتك من بلد بعيد أسمع منك. فلم يحدِّثني من الزحمة التي كانت عليه، ثمّ رحل فتبعتُهُ إلى المرحلة الأخرى، فلمَّا نزل أتيتُهُ فقلت له: حدِّثني رحمك الله تعالى قال: أنت صاحبي بالأمس؟! قلت: نعم، قال: إذنْ والله لا أحدّثُك إلّا قائماً لما بدا منّي إليك، لأنيّ سمعت رسولالله صلّى الله عليه وآله يقول: من كان عنده علمٌ فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار.
ثمَّ قام قائماً وقال: كنت رأيت مولاي أنسَ بن مالك وهو معصَّبٌ بعصابةٍ بيضاء، فقلت: وما هذه العصابة؟! قال: هذه دعوةُ عليِّ بن أبي طالب [عليه السلام‏]، فقلت: وكيف؟ فقال: أُهدِيَ إلى رسول الله صلّيالله عليه وآله طائرٌ، ورسول الله صلّى الله عليه وآله في بيت أمِّ سلمة رضي الله عنها، وأنا حينئذ أحجب رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأصلَحَتْهُ أمُّ سلمة رضي الله عنها، وأتت به رسول الله صلّى الله عليه وآله وقالت أمُّ سلمة: إلزم الباب لينال رسولُ الله صلّى الله عليه وآله منه، فلزمتُ الباب وقدَّمَتْهُ إلى النبي صلّى الله عليه وآله، فلمّا وضعَتْهُ بين يديه رفع رسولُ الله صلّى الله عليه وآله يديه وقال: اللهمَّ ائتني بأحبِّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فسمعتُ دعوةَ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، وأحببت أن يكون رجلًا من قومي.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 41
فأتى عليُّ بن أبي طالب، فقلت: إنّ رسول الله عنك مشغول، فانصَرَفَ! ثمّ دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله ثانية وقال: اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فأتى عليّ بن أبي طالب، فقلت: إنّ رسول الله عنك مشغول، فانْصَرَفَ! ثمّ رفع رسول الله صلّى الله عليه وآله رأسه ودعا ثالثة وقال: يا رب ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فأتى عليّ فقلت: رسول الله عنك مشغول، فقال: وما يشغل رسول الله صلّيالله عليه وآله عنّي؟ ودفعني فدخل، فلمّا رآه رسولالله صلّى الله عليه وآله قبَّل ما بين عينيه وقال: يا أخي! من الذي حبسك عنّي وقد دعوتُ الله ثلاثاً أن يأتيني بأحبِّ خلقه إليه يأكل معي من هذا الطائر؟ فقال يا رسول الله قد جئتُ ثلاثاً، كلُّ ذلك يردُّني أنس، فقال: لمَ رددت علياً؟ فقلت: يا رسولالله إنّي سمعت دعوتك، فأحببت أن يكون رجلًا من الأنصار فأفتخر به إلى الأبد، فقال علي عليه السلام: اللهمَّ ارمِ أنساً بوَضَح لا يستره من الناس، فظهر عليَّ هذا الذي ترى، وهي دعوة [1].
                        حديث آخر عن أنس حول ولاية أمير المؤمنين عليه السلام‏

وكذلك روى أنس عن الرسول الحديث المعروف حول ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقله عنه أبو نعيم الأصفهاني وشيخ الإسلام الحمويني، وقد ذكره السيّد الوالد رضوان الله عليه في الجزء الأوّل من كتابه القيِّم «معرفة الإمام»، ونحن ننقله كما ورد هناك:
يقول أنس:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا أنس اسكب لي وضوءاً، ثمّ قام فصلَّى ركعتين، ثمّ قال: يا أنس أوَّل من يدخل عليك من هذا الباب أميرُ المؤمنين وسيّدُ المسلمين وقائدُ الغرِّ المحجَّلين وخاتم الوصيّين، قال أنس: قلتُ: اللهمَّ اجعله رجلًا من الأنصار، وكتمته. إذ جاء عليٌّ فقال:
__________________________________________________
 [1] عليّ بحار الأنوار، ج 57، ص 300.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 42
من هذا يا أنس؟ فقلت: عليٌّ، فقام مستبشراً فاعتنقه، ثمّ جعل يمسح عرق وجهه بوجهه، ويمسح عرق عليٍّ بوجهه.
قال عليّ: يا رسول الله لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل؟ قال: وما يمنعني وأنت تؤدِّي عنِّي، وتُسمعهم صوتي، وتُبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي [1].
                        كون أنس من أكثر الأشخاص اطّلاعاً على العلاقة الخاصّة بين رسول الله ووصيّه‏

وقد ذكرنا هاتين الروايتين كنموذج، وذلك لمعرفة مدى قرب أنس بن مالك من رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومدى اطِّلاعه على ما كان يحدث في منزله، حيث كان محيطاً بدقائق ما كان يجري بينه وبين أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء سلام الله عليهم أجمعين، ويمكن القول بأنّه كان يعرف الكثير من أسرار بيت النبوّة التي لم يكن يطّلع عليها من هو خارج حريم هذا البيت وحدوده، ويعرف جيّداً العلاقة الخاصَّة للرسول الأكرم بوصيِّه، والتي تكشف عن اتِّحاد نفس النبيّ وروحه مع أمير المؤمنين. كما أنّه كان على دراية بأنَّ عليَّ بن أبي طالب عليه السلام هو الوصيُّ المشخَّص والخليفة المعيَّن بلا فصل بعد رسول الله، الذي لم يكن يُحتمل بأيِّ شكل وجود مصداق للوصيِّ غيره، وقد وصل أنس إلى مرتبة من العلم والمعرفة بأحقيّة الإمام علي بالخلافة بحيث لم يعد بحاجة معها إلى واقعة الغدير لإثبات هذا الأمر العظيم، حتى أنّه لو كان أيّ شخص مكانه وفي موقعيَّته بأنْ كان لديه أدنى اطّلاع على قولٍ من أقوال الرسول وفعل من أفعاله المتعلِّقة بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام لم يكن ليدع مجالًا للشَّك في أنَّ الرسول الأكرم قد نصّب عليَّ بن أبي طالب وصيّاً وخليفةً. لماذا؟ لأنَّ الأمر واضح جدّاً بالنسبة لنا، وذلك بعد مرور ألف وأربعمائة سنة، والحال أنّنا أخذنا معلوماتنا عبر التحقيق في التاريخ والحوادث الواقعة في عصر الرسول وما بعده، حيث انكشفت لنا من‏
__________________________________________________
 [1] معرفة الإمام، ج 1، ص 150، نقلًا عن كتاب حلية الأولياء، ج 1، ص 63؛ وفرائد السمطين، ومطالب السؤول، ص 21، عن الحافظ أبي نعيم في حليته.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 43
خلال مراجعة دقيقة لأوراق هذا التاريخ وصفحاته، حقائقُ تاريخيّةٌ لا تقبل الإنكار مع وجود جميع محاولات الدسّ والخداع وإخفاء الحقائق والمناقب المسلّمة، وإيجاد جوًّ من الاستبداد، وكثرة الإعدامات المحيّرة للعقول التي كانت تحصل للحيلولة دون نشر حقيقة الولاية، ولإطفاء أنوار العترة الطاهرة والذوات المقدّسة لأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، وخاصّة نور محبّة وولاية مولى المؤمنين وإمام المتّقين أمير المؤمنين عليه السلام واتّضح من خلال ذلك وضوحاً جليّاً كالشمس في رابعة النّهار، أنّه لم يكن أيّ شخص في عصر الرسول قادراً على تحمّل المسؤوليّة العظمى للخلافة الإلهيّة وحفظها، وحمل ثقل الوصاية بعد النبيِّ الأكرم مباشرة غير أمير المؤمنين بل كان مجرّد تصوّر أيِّ شخص لذلك، حتّى بنحو الاحتمال موجباً للسخريّة كما اتّضح أنّ الشخص الوحيد القادر على تحمّل أعباء هذه الرسالة الإلهيّة وقبول الخلافة والوصاية ووزارة خاتم الأنبياء، هو خصوص عليّ بن أبي طالب دون غيره.
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لنا بعد مضي هذه الفترة الزمنيّة الطويلة، فكيف الحال بالنسبة لشخص مثل أنس بن مالك، الذي كان يرى بأمّ عينيه ويسمع بصمغ أذنيه ما كان يذكره النبيّ الأكرم حول هذا الموضوع المهمّ والذي يُعتبر المفصل الأساس في رسالة النبي الأكرم؟!
                        كتمان أنس أمر خلافة أمير المؤمنين مع كونه محطّ عناية الرسول‏

لقد كان أنس بن مالك من القلّة الذين كانوا مورد عناية النبي الأكرم، وقد دعا له الرسول؛ فقد ورد في كتاب «الخرائج»:
رُوي أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا لأنس لمّا قالت أمّه أمّ سُليم: ادعُ له، فهو خادمك، قال: «اللهمّ أكثِر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته» [1].
__________________________________________________
 [1] الخرائج والجرائح، ج 1، ص 50؛ وأيضاً في بحار الأنوار، ج 18، ص 10؛ ورواه باختلاف يسير في دلائل النبوّة، ج 6، ص 194.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 44
ويقال إنّ أشجار بساتينه كانت تثمر مرّتين في السنة، وقد عُمّر بحيث شاهد مائة وعشرين من أولاده. لكن من المؤسف أنّه مع تمام هذا اللطف والاهتمام الذي ظهر من رسول الله اتّجاهه، ومع وجود كلّ هذه البراهين والأدلّة والحجج حول خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، إلا أنّه بقي في مقام الإنكار، وقام بكتم هذه الحقائق بعد رسول الله، وانفصل عن الوصيّ وباب علم النبيّ بحسب نقله هو عن النبيّ بعد وفاته، وباع دينه بدنيا غيره مع سائر الفرق الضالّة والعميان الذين لا إرادة لهم، وبايع الخليفة الغاصب والمبتدع، فحرم نفسه من النعمة الأبديّة والماء المعين لولاية أهل البيت. بل إنّه ذهب إلى أكثر من ذلك؛ فقد اقترف خيانة بحقّ الإمام عليّ عليه السلام، حين طلب منه الإمام أداء الشهادة فيما يتعلّق بواقعة غدير خمّ، فامتنع عن أدائها مستوجباً بذلك السخط والغضب الإلهي.
                        طلب أمير المؤمنين شهادة أنس على واقعة الغدير ورفضه‏

فقد ورد في كتاب «أنساب الأشراف» لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، الجزء الأول في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام:
قال عليّ على المنبر: نشدت الله رجلًا سمع رسول الله صلّى الله عليه [وآله‏] وسلّم يقول يوم غدير خمّ: اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه، إلّا قام فشهد وتحت المنبر أنس بن مالك والبراء بن عازب وجرير بن عبد الله (البجلي الذين كانوا في ذاك اليوم التاريخي المشهود وسمعوا كلام رسولالله كلّه) فأعادها فلم يجبه أحد [منهم‏]، فقال: اللهمّ من كتم هذه الشهادة وهو يعرفها فلا تخرجه من الدنيا حتّى تجعل به آية يُعرف بها. قال [أبو وائل‏]: فبرص أنس، وعمي البراء، ورجع جرير أعرابياً بعد هجرته (والتحق بالخوارج)، فأتى السراة فمات في بيت أمّه بالسراة [1].
__________________________________________________
 [1] أنساب الأشراف، ج 2، ص 156.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 45
وقد وقع نظير هذه القضيّة مع زيد بن أرقم.
فقد نقل ابن المغازلي عن عليّ بن عمرو بن شوْذَب عن أبيه عن محمَّد ابن حسن الزعفراني، عن أحمد بن يحيى بن عبد الحميد، عن إسرائيل، عن الحكم بن أبي سليمان، عن زيد بن أرقم قال:
نشد عليٌّ الناس في المسجد فقال: أنشد الله رجلًا سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، (وكان في السامعين من حضر ذلك اليوم وسمع من الرسول هذا الكلام ولم يقوموا ويشهدوا) وكنت أنا فيمن كتم، فذهب بصري [1].
                        حديث البساط وقصّة أنس بن مالك المعبّرة

وينقل العلّامة المجلسي عن كتاب «الفضائل» لشاذان بن جبريل، رواية أخرى حول فقد أنس بن مالك بصره:
بالإسناد يرفعه إلى ابن أبي جعدة قال: حضرتُ مجلس أنس بن مالك بالبصرة وهو يحدّث، فقام إليه رجل من القوم وقال: يا صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! ما هذه الشيمة التي أراها بك؟ فأنا حدّثني أبي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: البرص والجذام لا يُبلي الله به مؤمناً.
قال: فعند ذلك أطرق أنس بن مالك إلى الأرض، وعيناه تذرفان بالدموع، ثمّ رفع رأسه وقال: دعوة العبد الصالح عليّ بن أبي طالب عليه السلام نفذت فيَّ. قال: فعند ذلك قام الناس حوله وقصدوه، وقالوا: يا أنس! حدِّثنا ما كان السبب؟ فقال لهم: انتهوا عن هذا، فقالوا: لا بدَّ من أن تخبرنا بذلك. فقال: اقعدوا على مواضعكم واسمعوا منّي حديثاً كان هو السبب لدعوة عليّ.
__________________________________________________
 [1] مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام، ص 23؛ وكذلك بحار الأنوار، ج 37، ص 196.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 46
اعلموا أنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان قد أُهديَ له بساط شَعْرٍ من قرية كذا وكذا من قرى المشرق يقال لها «عندف»، فأرسلني رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمان بن عوف الزهري، فأتيته بهم وعنده ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال لي: يا أنس! ابسط البساط وأجلسهم عليه، ثمّ قال: يا أنس! اجلس حتّى تخبرني بما يكون منهم، ثمّ قال: قل يا عليّ: يا ريح احملينا! فإذا نحن في الهواء، فقال: سيروا على بركة الله.
قال: فسرنا ما شاء الله، ثمّ قال: يا ريح ضعينا! فوضعتنا فقال: أتدرون أين أنتم؟ قلنا: الله ورسوله وعليّ أعلم، فقال: هؤلاء أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آيات الله عجباً، قوموا يا أصحاب رسول الله حتّى تسلّموا عليهم، فعند ذلك قام أبو بكر وعمر فقالا: السلام عليكم يا أصحاب الكهف والرقيم، قال: فلم يجبهما أحد، قال: فقمنا أنا وعبد الرحمن بن عوف وقلنا: السلام عليكم يا أصحاب الكهف! أنا خادم رسولالله صلّى الله عليه وآله، فلم يجبنا أحد.
فعند ذلك قام الإمام عليه السلام وقال: السلام عليكم يا أصحاب الكهف والرقيم الذين كانوا من آيات الله عجباً! فقالوا: وعليك السلام يا وصيَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ورحمة الله وبركاته، فقال: يا أصحاب الكهف! ألا رددّتم على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله؟ قالوا: يا خليفة رسول الله! إنّا فتية آمنوا بربّهم وزادهم الله هدى، وليس معنا إذن بردّ السلام إلا بإذن نبيٍّ أو وصيّ نبيّ، وأنت وصيّ خاتم النبيّين والمرسلين وأنت خاتم الأوصياء.
ثم قال: أسمعتم يا أصحاب رسول الله؟! قالوا: نعم يا أمير المؤمنين! قال: فاقعدوا في مواضعكم، فقعدنا في مجالسنا، ثمّ قال: يا ريح احملينا!
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 47
فسرنا ما شاء الله إلى أن غربت الشمس، ثمّ قال: يا ريح ضعينا! فإذا نحن على أرضٍ كأنّها الزعفران ليس فيها حسيس ولا أنيس، نباتها الشيح (وهي من النباتات التي يستفاد منها في صناعة الدواء) وليس فيها ماء، فقلنا: يا أمير المؤمنين! دنت الصلاة وليس معنا ماء نتوضّأ به، فقام وجاء إلى موضع من تلك الأرض فرفسه برجله فنبعت عين ماء، فقال: دونكم وما طلبتم، ولولا طلِبَتُكم لجاءنا جبرئيل بماء من الجنّة.
قال: فتوضَّأنا وصلَّينا إلى أن انتصف الليل، ثمّ قال: خذوا مواضعكم ستدركون الصلاة (صلاة الصبح) مع رسول الله صلّى الله عليه وآله أو بعضها، ثمّ قال: يا ريح احملينا! فإذا نحن برسول الله صلّى الله عليه وآله وقد صلّى من الغداة ركعة واحدة، فقضيناها وكان قد سبقنا بها رسول الله صلّى الله عليه وآله، فالتفت إلينا وقال: يا أنس! تحدِّثني أو أحدِّثك؟ فقلت: بل من فيك أحلى يا رسول الله! قال: فابتدأ بالحديث من أوَّله إلى آخره كأنّه كان معنا، ثمّ قال: يا أنس! تشهد لابن عمّي بها إذا استشهدك؟ فقلت: نعم يا رسول الله!
فلمَّا وليَ أبو بكر الخلافة أتى عليّ عليه السلام، وكنت حاضراً عند أبي بكر والناس حوله، وقال لي: يا أنس! ألست تشهد لي بفضيلة البساط ويوم عين الماء ويوم الجبّ؟ فقلت له: يا عليّ! نسيت من كبري، فعندها قال لي: يا أنس إن كنت كتمته مداهنةً بعد وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فرماك الله ببياض في وجهك ولظىً في جوفك وعمىً في عينيك! فما قمت من مقامي حتّى برصت وعميت، والآن لا أقدر على الصيام في شهر رمضان ولا غيره من الأيَّام، لأنّ البرد لا يبقى في جوفي. ولم يزل أنس على تلك الحال حتّى مات بالبصرة [1].
__________________________________________________
 [1] بحار الأنوار، ج 41، ص 217.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 48
ويقال بأنّ أنس رأى رسول الله في الرؤيا، فقال له: ما حملك على أن لا تؤدّي عنّي ما كنت قد أخذته عليك، حتّى ابتلاك الله بهذه العقوبة؟ [1]
هذه هي نتيجة كتمان الحقائق، وهذا هو مآل إخفاء الوقائع، وسوف يعود على فاعله بالخسارة الدنيويّة، والنّكال الأخروي.
__________________________________________________
 [1] مائة منقبة من مناقب أمير المؤمنين، ص 164.؟
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 49
                        المجلس الثاني حرمة كتمان الحقيقة

                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 51
بسم الله الرحمن الرحيم‏
الحمد لله ربِّ العالمين‏
والصلاة على خيرة الله المنتجبين محمَّد وآله الطاهرين‏
واللّعنة على أعدائهم أجمعين‏
                        الآيات التي تحذّر من كتمان الحقيقة وتحرّمها

إنّ التأمّل في النصوص الدينيّة والتدبّر في المنقول من الكتاب والسنّة وملاحظة الأصول النيّرة للشرع والعرفان الإلهي، يوضح لنا جليّاً بأنّ مسألةً كمسألة كتمان الحقيقة قد ورد فيها النهي الأكيد والردع الشديد، بل عبّر عنها بعبارات قاسية فيها التهديد والتحذير من العواقب الخطرة؛ يقول الله تعالى في سورة البقرة:
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [1] (بل يعلم تمام الأسرار الكامنة في النفوس ويعلم مكنونات القلوب بعلمه الحضوري).
وفي آية أخرى من نفس السورة يقول:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي‏
__________________________________________________
 [1] سورة البقرة، الآية 140.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 52
الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاَّعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [1].
وكذلك يقول:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا (من أمور الدنيا واعتباريّات عالم الخيال والهوى النفساني) ... أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [2].
وكذلك يخاطب الله تعالى هؤلاء الأشخاص بأنّهم الذين نوّرهم بنور الهداية ونزّل عليهم آياته، وقد أخذ الله عليهم أن يهدوا الناس ويرشدوهم إلى الطريق القويم، لكنّهم تناسوا هذا العهد، واستبدلوا الرحمة والمغفرة الإلهيّة بالمتاع الاعتباري للدنيا الدنيّة، وباعوا رضى الله تعالى بثمن بخس في معاملة خاسرة، وفي ذلك يقول تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [3].
أي أن الله تعالى عندما أنزل الكتاب الإلهي (التوراة والإنجيل) أخذ على العلماء عهداً بأن يبيّنوا للناس الحقائق المدوّنة فيه ولا يكتموا منه شيئاً، لكن هؤلاء جعلوا العهد وراء ظهورهم ولم يعيروه أهمية واشتروا بكتمانهم هذا متاعاً زهيداً لا قيمة له؛ وهو عبارة عن حطام الدنيا الزائل، فبئس ما فعلوه في معاملتهم هذه.
يقول مسوِّد هذه الورقات: من المناسب جدّاً هنا أن نعرض رواية مهمّة وعالية
__________________________________________________
 [1] سورة البقرة، الآيتان 160 159.
 [2] سورة البقرة، الآيتان 175 174.
 [3] سورة آل عمران، الآية 187.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 53
المضامين، ومليئة بالحِكم والمسائل الحياتيّة المفيدة للإنسان، وتميّز طريقة سلوك سبيل الحقّ من سبل الشرك والضلال والغواية والبوار، حتّى تضي‏ء لنا مصباحاً لأعمالنا وتصرفاتنا في هذه الدار، ولتكون دليلًا لنا للوصول إلى مدارج الكمال في تلك الدار. وهذه الرواية واردة في كتاب «الاحتجاج» للطبرسي عن الإمام أبي محمَّد الحسن بن عليّ العسكري عليهما السلام:
                        وظيفة علماء الدين في رواية الإمام الحسن العسكري عليه السلام‏

وبالإسناد الذي مضى ذكره عن أبي محمَّد العسكري عليه السلام في قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [1]: إنَّ الأميَّ منسوب إلى أمِّه، أي: هو كما خرج من بطن أمِّه (فهو كالطفل الذي لا إدراك له ولا شعور عنده؛ لا بالنسبة إلى ذاته ولا إلى محيطه، كما أنه لا يمتلك القدرة على تشخيص المطلب الصحيح من السقيم والحق من الباطل)، لا يقرأ ولا يكتب، لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ المنْزل من السماء ولا المتكذَّب به، (وبعبارة أخرى لا يعرفون الفرق بين الصدق والكذب ولا بين الهداية والضلال) ولا يُميِّزون بينهما إِلَّا أَمَانِيَّ أي: إلّا أن يُقرأ عليهم ويقال لهم: إنَّ هذا كتاب الله وكلامه، لا يعرفون إن قُرِئ من الكتاب خلاف ما فيه وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [2] أي: ما يقرأ عليهم رؤساؤهم من تكذيب محمَّد صلّى الله عليه وآله في نبوَّته وإمامة عليّ عليه السلام سيِّد عترته (ويقدمون الظن والوهم على اليقين والتثبّت وإثبات القدم في الفكر والتأمل في طريقهم)، وهُم يقلِّدونهم (تقليداً أعمى) مع أنّه محرَّم عليهم تقليدهم فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [3]. هذا القوم اليهود، كتبوا صفةً زعموا أنَّها صفة محمَّد صلّى الله عليه وآله، وهي خلاف صفته، وقالوا للمستضعفين منهم: هذه صفة النبيِّ المبعوث في‏
__________________________________________________
 [1] سورة البقرة، صدر الآية 78.
 [2] سورة البقرة، ذيل الآية 78.
 [3] سورة البقرة، صدر الآية 79.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 54
آخر الزمان، إنّه طويل عظيم البدن والبطن، أهدف (في العقد الخامس من عمره)، أصهب الشعر (ذو شعر مخضّب)، ومحمَّد صلّى الله عليه وآله بخلافه، وهو يجئ بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة. وإنّما أرادوا بذلك أن تبقى لهم على ضعفائهم رياستهم، وتدوم لهم إصاباتُهم (وتمتّعهم باللذائذ الدنيوية)، ويكْفوا أنفسهم مؤنة خدمة رسول الله صلّى الله عليه وآله وخدمة عليّ عليه السلام وأهل بيته وخاصَّته.
فقال الله عزَّ وجلَّ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيدِيهِمْ وَوَيلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [1] من هذه الصفات المحرَّفات والمخالفات لصفة محمَّد صلّى الله عليه وآله وعليّ عليه السلام. الشدَّة لهم من العذاب في أسوء بقاع جهنَّم (بسبب هذه التحريفات ومخالفة رسول الله وأمير المؤمنين)، وويل لهم الشدَّة في العذاب ثانية مضافة إلى الأولى بما يكسبونه من الأموال التي يأخذونها إذ أثبتوا عوامَّهم على الكفر بمحمَّد رسول الله صلّى الله عليه وآله، والحجَّة لوصيِّه وأخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام وليّ الله.
                        نقاط الالتقاء والاختلاف بين علمائنا وعلماء اليهود في كلام الإمام الحسن العسكري عليه السلام‏

ثمّ قال عليه السلام: قال رجل للصادق عليه السلام: فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب (وليس لهم طريق إلى النور والهداية) إلّا بما يسمعونه من علمائهم، لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمَّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوامُّ اليهود إلا كعوامِّنا يقلِّدون علماءهم؟
فقال عليه السلام: بين عوامِّنا وعلمائنا وعوامِّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة؛ أمَّا من حيث استووا: فإنَّ الله قد ذمَّ عوامَّنا بتقليدهم علماءهم (تقليداً أعمى) كما ذمَّ عوامّهم، وأمَّا من حيث افترقوا فلا. قال: بيِّن لي يا ابن رسول الله!
قال عليه السلام: إنَّ عوامَّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب‏
__________________________________________________
 [1] سورة البقرة، ذيل الآية 79.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 55
الصراح، وبأكل الحرام والرُّشا (في المرافعات وحل الخصومات الاجتماعية والمسائل الحقوقية)، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات، وعرفوهم بالتعصِّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنَّهم إذا تعصَّبوا أزالوا حقوق من تعصَّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقُّه من تعصَّبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، (ووضعوا جميع المعايير الدينيّة تحت أقدامهم عند المرافعات ورجّحوا المصالح الدنيويّة على المصالح الأخرويّة) وعرفوهم يقارفون المحرَّمات، واضطرُّوا بمعارف قلوبهم إلى أنَّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق (وبما أنّهم عرفوا موقعيّة علمائهم واطّلعوا على حالاتهم بشكل يقيني وعلموا أنّهم لا يتورّعون عن ارتكاب المحرّمات والانغماس في الأهواء الباطلة ونزوات النفس الأمّارة وترجيح رضا الخلق المنحرفين على رضا الله تعالى، لم يكن أمام هؤلاء العوامّ إلّا أن يحكموا بفسق علمائهم وانحرافهم عن طريق الحقّ، وهذا الحكم بديهي وواضح كوضوح الشمس وهو مطبوع في فكرهم وعقولهم وأنفسهم، فإنّهم يعلمون أنّ من يتّصف بهذه الصفات الرذيلة والأخلاق الذميمة) لا يجوز أن يصدّق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله (فبيان هؤلاء العلماء للأحكام الإلهيّة وإلقاؤهم إياها للناس دائر مدار المصالح والمفاسد الدنيويّة التي يرونها، فما كان من الأحكام موافقاً لمصالحهم الدنيويّة بيّنوه للناس وما كان مخالفاً لها حرّفوه وأعلنوا خلافه، فكيف يعتمد هؤلاء العوامّ على مثل هؤلاء العلماء بعد هذا، وكيف يسمحون لأنفسهم تقليدهم؟). فلذلك ذمَّهم (فإنّهم وإن لم يكن لديهم إدراك صحيح بالمعارف والكتاب الإلهي وليس لديهم القدرة على التمييز بين الحقّ والباطل من الأحكام والمعارف. لكن، ألم يكونوا يرون الأعمال المخالفة لشريعتهم ودينهم والتصرفات القبيحة الصادرة من علمائهم؟! ألم يعرضوا ذلك على العقل الفطري ورأسمالهم الإلهي! أولم يعرفوا قبح هذه الأفعال‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 56
ويعلموا أنّ كلام علمائهم عار عن الصحّة ولا حقيقة له ولا واقعيّة ... بذلك ذمّهم الله تعالى) لِمَا قلَّدوا من قد عرفوه، ومن قد علموا أنَّه لا يجوز قَبُول خبره ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤدِّيه إليهم عمَّن لم يشاهدوه، ووجب عليهم (بحكم الفطرة والوجدان والعقل والأصول العرفية والعقلية المسلّمة) النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله (ولا يعيروا اهتماماً بكلام علمائهم)، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم (لكنّهم مع ذلك تساهلوا بأمر الوصول إلى الحقّ وإدراك الواقع وتعاملوا مع هذه المسألة المحوريّة والنكتة الأساسيّة بفتور، واكتفوا بالاعتماد على كلمات علمائهم التي لا طائل منها).
                        كيفية معرفة الفقهاء الواقعيين وعلاماتهم في كلام الإمام الحسن العسكري عليه السلام‏

وكذلك عوامُّ أمَّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبيَّة الشديدة (في الأمور الدنيويّة) والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصَّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّاً، وبالترفرف بالبرِّ والإحسان على من تعصَّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّاً، فمن قلَّد من عوامِّنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمَّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم.
فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه (ولم ينقَد آناً من الآنات لهواه النفساني، وكان في كل أحواله) مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامِّ أن يقلِّدوه، و (لا يتصور أن هذه الصفات والشروط حاصلة لجميع الفقهاء، بل) ذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فإنَّه من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة العامَّة (من التكالب والتسابق على أمور الدنيا الدنيّة والاهتمام بأوصاف الرئاسات وأنواع الزعامات الاعتباريّة كحال بقيّة الأشخاص الماديين الذين ليس لهم هدف ولا غاية إلّا الوصول إلى المطامع الدنيويّة والتوغّل في عالم الكثرات والشهوات، فحرام عليكم أن تقلّدوه) فلا تقبلوا منَّا عنه شيئاً، ولا كرامة (لأنّه لا اعتبار أبداً بما يعمله أو يتفوّه به أمثال هؤلاء).
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 57
وإنَّما كثر التخليط فيما يُتحمَّل عنَّا أهل البيت لذلك، لأنَّ الفسقة يتحمَّلون عنَّا فيحرِّفونه بأسره بجهلهم (بمقامنا وإمامتنا المطلقة الدينيّة والتكوينيّة) ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلَّة معرفتهم. وآخرون يتعمَّدون الكذب علينا (مع معرفتهم بمقامنا)، ليجرُّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنَّم (غافلين عن أن ما حصّلوه من هذا الحطام والبضاعة الدنيوية الدنية، ستقودهم إلى عذاب أليم وعقاب شديد في ذلك العالم).
ومنهم قومٌ [نصّابٌ‏] لا يقدرون على القدح فينا، يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة (بنفاقهم ومكرهم) فيتوجَّهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نُصَّابِنا، ثمّ يضيفون إليه أضعاف وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها (ويطرحون هذه المجموعة من الأكاذيب بين شيعتنا، بدعوى أنّ فيه الرشاد والهداية والإنقاذ من الضلال والغواية وتبيين لأحكام الشرع والطريق المستقيم. ومن البديهي أنّ بعض الجاهلين والمستضعفين يلتفّون حولهم، فيلقون عليهم ما في صدورهم من الخبث والسفالة والتلوّث بالدنيا والشهوات والرئاسات والأنانيّات التي يسعون وراءها)، فيتقبَّله المستسلمون من شيعتنا على أنه من علومنا، فضلُّوا وأضلُّوا. وهم أضرُّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن عليّ عليه السلام وأصحابه، فإنّهم يسلبونهم الأرواح والأموال (دون أن يقدروا على النيل من السعادة والفلاح الأبدي وصحّة طريق سيّد الشهداء وأصحابه، فقد ورد عن سيد الشهداء عليه السلام عندما اعترضه الحرّ بن يزيد الرياحي أنّه قال: أفبالموت تخوِّفني، هيهات طاش سهمك وخاب ظنُّك لست أخاف الموت، إنَّ نفسي لأكبر وهِمَّتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي؟! مرحباً بالقتل في سبيل الله! ولكنَّكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحوِ عزَّتي وشرفي، فإذاً لا أبالي من القتل) [1]. وهؤلاء علماء السوء الناصبون، المتشبِّهون بأنَّهم لنا موالون ولأعدائنا معادون، (والحال أنّهم موالون ومحبون لهم لينالوا بعض حطام الدنيا) ويُدخلون الشكَّ والشبهة على ضعفاء شيعتنا، فيضلُّونهم ويمنعونهم عن قصد الحقِّ المصيب (ويحرفونهم عن جادّة الحق والصدق لأهل البيت عليهم السلام، ويمنعونهم من الوصول إلى عين الماء الزلال للأنوار الإلهية وكوثر العلوم الحقيقية لأهل البيت). لا جرم أنَّ من علم الله من قلبه من هؤلاء القوم أنَّه لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيم وليِّه (إمام زمانه)، لم يتركه في يد هذا المتلبِّس الكافر. ولكنَّه يقيِّض له مؤمناً يقف به على الصواب، ثمّ يوفِّقه الله للقبول منه، فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة، ويجمع على من أضلَّه لعناً في الدنيا وعذاب الآخرة.
ثم قال: قال رسول الله: أشرار علماء أمّتنا المضلّون عنَّا، القاطعون للطرق إلينا، المسمُّون أضّدادنا بأسمائنا، الملقِّبون أندادنا بألقابنا، يصلُّون عليهم وهم للَّعن مستحقّون، ويلعنونا ونحن بكرامات الله مغمورون، وبصلوات الله وصلوات ملائكته المقرَّبين علينا عن صلواتهم علينا مستغنون.
ثمَّ قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: من خير خلق الله بعد أئمّة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا صلحوا.
قيل: فمن شرار خلق الله بعد إبليس وفرعون ونمرود، وبعد المتسمِّين بأسمائكم والمتلقِّبين بألقابكم، والآخذين لأمكنتكم، والمتأمِّرين في ممالككم؟ قال: العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، وفيهم قال الله عزّ وجل: ... أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاَّعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ... [2] الآية [3].
__________________________________________________
 [1] لمعات الحسين عليه السلام، ص 29.
 [2] سورة البقرة، من الآيتين 160 159.
 [3] الاحتجاج، الطبرسي، ج 2، ص 456.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 58
                        المجلس الثالث: عدم التوجه إلى المعارف الإلهية في حوزة النجف‏

                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 60
بسم الله الرحمن الرحيم‏
الحمد لله ربِّ العالمين‏
والصلاةُ على خيرة الله المنتجبين محمَّدٍ وآلِهِ الطاهِرِين‏
واللّعنةُ على أعدائِهِم أجمعين‏
                        يجب على علماء الدين أن يأخذوا بنظر الاعتبار رضا الله ومصلحة الشرع فقط

إنَّ التدبُّر والتأمُّل في حديث الإمام الحسن العسكري عليه السلام الآنف الذكر، يوضح لنا العديد من النكات المهمَّة، من أهمَّها أنَّها تلقي على عاتق علماء الدين مسؤوليّة خطيرة وحسّاسة جدّاً فيما يتعلّق ببيان الأحكام والمعتقدات الإلهيّة كما هي وبشكل جليّ وواضح، بعيداً عن التسامح ومراعاة المصالح الاعتباريّة والماديّة، وبعيداً أيضاً عن ملاحظة المنفعة أو المفسدة العائدة على المتكلّم، مقتصراً في هدفه على حفظ حريم القدس الإلهي فقط لا غير، وتحصيل رضا الله تعالى في كل آنٍ وحال.
يقول السيّد الوالد رضوان الله عليه:
عندما كنت مشغولًا بتحصيل علوم أهل البيت عليهم السلام في النجف الأشرف، تباحثنا يوماً مع أحد العلماء المعروفين والمشهورين في النجف وكانت مباحثة ساخنة حول هذه المسألة المهمّة؛ وكنت معتقداً بأنّ الوظيفة الشرعيّة للإنسان وبالخصوص علماء الدين هي بيان ما أنزل الله تعالى وتوضيحه بشكل دقيق، دون أيّ مجاملة أو مسامحة في ذلك، ودون التفكير
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 61
في أيّ مصلحةٍ بخلاف رضا الله وإمام الزمان عجّل الله فرجه الشريف، وأنّ على عالم الدين أن يأخذ بعين الاعتبار رضا الشارع ومصلحته فقط، وأن يرجِّح كفَّة القيم المعنويّة الإلهيّة والشرعيّة في كلِّ حال على المعايير والرؤى الدنيويّة، كما ورد في الآيات من قبيل: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [1].
أو كما ورد في سورة التوبة بعبارة شديدة: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [2].
وقد عُرض عليه غيرها من الآيات والأدلة الأخرى التي تحمل نظير هذا المعنى، لكنّ ذاك الشخص بقي مصرّاً على ضرورة ترجيح المصلحة الدنيويّة على رضا الله في بعض الموارد! نستجير بالله تعالى من هذا الضلال والجهل والعناد والانصياع المطلق للخيال، والانغماس في الكثرات والغرق في الأمور الدنيويّة الواهية!
نعم فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ونحن بحمد الله وتوفيقه، لم نخرج من هذه الدنيا الفانية حتّى رأينا مصداق هذه الآية الشريفة، وشاهدنا أيضاً انصباب جام الغضب الإلهي على مخالفي مسيرة الحقِّ والمنحرفين، ورأينا جلال وكبرياء الحقّ تعالى على المنحرفين عن الجادّة القويمة والشريعة الغرَّاء.
في أحد الأيّام تشرَّف أحد فضلاء قمّ بالذَّهاب إلى مشهد المقدَّسة، لزيارة ثامن الأئمَّة عليّ بن موسى الرضا عليه وعلى آبائه وأبنائه آلاف التحيّة
__________________________________________________
 [1] سورة التوبة، الآية 62.
 [2] سورة التوبة، الآية 24.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 62
والسلام من الله الملك العلَّام، وتفضَّل بالمجي‏ء إلى منزل المرحوم الوالد رضوان الله عليه. وجرى بينهما حديث، استنكر في سياقه ما قامت به حكومة البعث العراقيّة خذلها الله ومحاها من تغيير مقبرة وادي السلام في النّجف الأشرف، وتوسيعها وشقِّ بعض الطرق فيها وجرف بعض القبور، مما أدى إلى اندثار العديد من قبور العلماء والأعاظم وصارت تحت هذه الطرق، وأبرز الكثير من الأسى والتذمّر من ذلك. وبما أنّ هذا الشخص كان من أهل أصفهان، فقد أجابه المرحوم الوالد:
ألم تحصل مثل هذه التغييرات في مقبرة «تخت فولاذ» في أصفهان؟! ألم تُشقّ الطرق وقنوات المياه وتُبنى المباني وتغرس الأشجّار فيها، ممّا أدّى إلى تخريب واندثار العديد من القبور؟! وما الفرق بين مقبرة أصفهان ومقبرة النجف من هذه الجهة؟ ألم يدفن في هذه المقبرة العديد من العلماء والأعاظم والصالحين والأخيار من المؤمنين والمؤمنات؟! وما الفرق في تخريب القبور وشقّ الطرق وسائر التغييرات الأخرى بين أن تكون على يد دولة البعث الكافرة، أو أن تكون في مكان آخر على يد أشخاص آخرين؟ فالمخالفة الشرعيّة مخالفةٌ في أيِّ مكان حصلت، والعمل الصحيح والسليم صحيح من أيِّ شخصٍ أو مجموعة صدر! سواء كان هذا العمل الصحيح أو الفاسد في الدولة الإسلاميّة وبإشراف حكومة إسلاميّة، أو كان تحت نظر وإشراف دولة لا تعترف بالدين وتنصب العداء لله ولخلقه؛ كدولة البعث.
ثمّ قال: هل تتصوّر أنّ ما حصل لحوزة النجف من تسلُّط حكَّام منحطِّين لا يعرفون الله ولا يراعون أيَّ كرامة للدين والشريعة كان صدفة دون أن يكون له منشأ وسبب؟!
                        إن الجهود التي بذلت في مواجهة الإلحاد كانت شخصية لا دخل لحوزة النجف بها

ثمّ قال بعد ذلك: نقل لي أحد فضلاء طهران البارزين والمعروفين بالتقوى، أنّه الْتَقى في أحد أسفاره إلى العتبات المقدّسة في النجف‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 63
الأشرف للزيارة بآية الله الحاج السيد أبي القاسم الخوئي رحمة الله عليه، وقال ضمن كلامه معه: ما هي وظيفة حوزة النجف الأشرف في التصدّي لظاهرة الإلحاد وزحف الفكر المادّي وهدم المباني التوحيديّة والمعتقدات الدينيّة التي استشْرَت في هذه الأزمنة، وزادت الهجمة فيها من قبل المادييِّن والمجتمعات المستغربة في الدول الإسلاميّة؟ فأجابه: ألم تطَّلع على ما كتبه العلماء الأفاضل من قبيل الشيخ محمّد حسين الأصفهاني و الشيخ محمّد رضا المظفّر و الشيخ محمّد جواد البلاغي، فقد ألَّفوا الكتب القيِّمة للردِّ على التهديدات المذكورة؟
فأجابه ذلك العالم: هل توصّل هؤلاء الأشخاص إلى المعارف الإلهيّة وعلوم الفلسفة والتفسير من خلال الدراسة في الحوزة، أم أنَّهم حصلوا عليها بجهد خاص واكتسبوها بعمل فرديّ، حتّى استطاعوا أن يتسلَّحوا بالمنطق ويتجهَّزوا بالبرهان في دفاعهم عن العلوم والمعارف الإسلاميّة والقيم الدينيّة أمام الإلحاد؟! فأجاب: لا، إنّ الحوزة لم تقدّم شيئاً لهؤلاء، بل حصلوا على هذه العلوم المهمّة بجهدهم الخاصّ.
                        عدم عطف حوزة النجف على الحكماء والعرفاء الإلهيين‏

بعد ذلك قال للمرحوم آية الله الخوئي: لماذا لم تستمر أنت في درس التفسير الذي كنت تلقيه في النجف سابقاً؟ فأجاب السيّد الخوئي: لقد اقتضت الظروف ذلك، فلم أستطع الاستمرار!
عندها قال له: كيف استمر العلّامة الطباطبائي في إلقاء دروس التفسير والفلسفة والحكمة، مع وجود نفس الظروف التي مرّت عليكم وخضوعه لمضايقات مماثلة، حتّى استطاع بفعله هذا أن يحفظ لحوزة المعارف الإلهيّة بريقها، ويُبرز شموليّتها يوماً بعد يوم؟!
فأجاب المرحوم آية الله الخوئي: إنّه أي العلّامة الطباطبائي رضوان‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 64
الله عليه قد ضحَّى بنفسه، بمعنى أنّه فدى مصلحة الإسلام ورضا الله تعالى بمصالحه الماديّة والدنيويّة.
عند ذلك التفت المرحوم الوالد إلى ذاك العالم وقال له:
هل هذا الجواب صحيح؟ وهل تنتفي المسؤوليّة الملقاة على عاتق الإنسان بمجرّد الإجابة بهذا الشكل؟ وهل يمكن لحوزة النجف أن تبرّر كتمانها لحقائق الشّرع المنير، وعدم اهتمامها بالدروس الحيويَّة والركيزة الأساسيّة لعلوم أهل البيت عليهم السلام كالتفسير والفلسفة والعرفان؟
إنّ المسائل والقضايا هنا تختلف عمّا كانت عليه، فقد أصبح للحوزة موقعيّة جديدة يتمّ التحرّك من خلالها؛ فيجب أن يُعمل على نشر المعارف الإلهيّة العالية وعلوم الولاية الراقية، لا مجرّد الاقتصار على بيان الوظائف العمليّة في الأحكام الفقهيّة، بل إنّ الوضع في الحوزة قد ازداد سوءاً عنه فيما سبق، حتى وصل إلى حدِّ نشر الأكاذيب والتضييق على علماء مدرسة التشيّع وأولياء الله، والضغط عليهم وهدم شخصيّات الذين وقفوا أنفسهم على إعلاء كلمة التوحيد والمعارف النبويّة والعرفان الأصيل لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، حتّى انتهى الأمر بأن يوصف الحاج الشيخ محمد حسين الأصفهاني الذي هو أحد مفاخر العالم الإسلامي بإقرار نفس السيد الخوئي رحمة الله عليه بالتصوّف بسبب سجداته الطويلة في مقام أمير المؤمنين عليه السلام، ويتمّ سحب رسالته العمليّة من مطبعة بغداد وحرقها. وأن تُنعت شخصيّة فريدة مثل العالم والعارف الربّاني والإنسان الملكوتي والفقيه الصمداني المرحوم آية الله الحاج الشيخ محمّد جواد الأنصاري الهمداني حين تشرّفه بزيارة النجف الأشرف، بأنّه صوفيّ ملحد، وذلك في بعض محافلها العلميّة، وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [1].
__________________________________________________
 [1] سورة التوبة، الآية 105.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 65
ثمّ سكت المرحوم الوالد رضوان الله عليه قليلًا، ثمّ رفع رأسه وآثار السرور بادية على وجنات وجهه الملكوتي وقال:
لكن إن شاء الله نأمل أن تُرى قريباً في حوزة النجف الأشرف دروس العلوم والمعارف الإسلاميّة الحقَّة، ويُدرَّس فيها فقه الصادقين عليهما السلام بالمعنى الأعم، وتُبيَّن فيها الحقائق التوحيديّة وأصول الولاية المطلقة لأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، على أساس متين ومبنى قويم، وستصير بإذن الله حوزة تتمتّع برضا أمير المؤمنين عليه السلام مائة بالمائة.
وهنا يتّضح جيّداً مراد الآية الشريفة: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ. [1].
فلماذا ينجرّ الوضع في ساحة صاحب الولاية الكبرى الذي هو باب مدينة علم الرسول، ومحل فيوضات الأنوار الملكوتيّة إلى عالم الوجود ويصل الأمر بالعلّامة الجليل والسالك الواصل آية الله العظمى المرحوم الحاج السيد جمال الدين الموسوي الگلبايگاني رضوان الله عليه حينما يكون في منزله مشغولًا بمذاكرة بعض المعاني التوحيديّة مع المرحوم الوالد إلى أن يغيّر بحثه وينتقل إلى الكلام في إحدى الفروع الفقهيّة، بمجرّد أن يُطرق عليه باب منزله؟! فما الذي كان يخيفه، وما هو الشي‏ء الذي كان يشغل ذهنه؟!
                        جرم السيد حسن المسقطي عند إبعاده عن النجف لم يكن سوى الدعوة إلى التوحيد

وما هو جرم شخصيّة عظيمة، وعارف كامل، وحكيم مشهور، وفقيه عالم، ومتكلّم قدير، كالمرحوم آية الله العظمى السيد حسن المسقطي تغمّده الله في بحبوحة جنانه، حتّى يُبعّد إلى الهند ومسقط بالرغم من عدم‏
__________________________________________________
 [1] سورة الرعد، من الآية 11
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 66
رضاه بأمر من مرجع ذاك الوقت، وتصاب حوزة النجف بنكسة كبيرة وتقيم مأتماً جرّاء حرمانها من تلألؤِ أنوار علومه الغزيرة؟! هل كان لديه جرم غير أنّه كان يرشد طلاب علوم أهل البيت والعطاشى لمعين ماء المعارف العلويّة، بمنطق قويّ، وبيان رصين، وكلام مفعم، ووجه يعكس حالة التوغّل في التوحيد، والانمحاء في حريم قدس ولاية عليّ عليه السلام، وذلك عبر دعوتهم إلى الإعراض عن الدنيا والابتعاد عن الكثرات واجتناب الأمور الاعتباريّة والتوجّه إلى المبدأ الأعلى، والتحرّك نحو عالم القدس والارتواء من بركات وفيوضات الملائكة الحافّين بمقام مولى الموحّدين عليه السلام؟! فهل شاهد أحد مخالفةً منه؟ أو هل كان سلوكه مخالفاً لسلوك أولياء الحقّ وسيرة أئمّة الهدى؟ وهل ساق الناس للإعراض عن الدين والتعلّق بالكثرات والصفات الرذيلة والأمور المخالفة للأخلاق؟ وأخيراً هل كان يخفي في سرّه شيئاً؟
نعم! ذنبه الفريد أنّه كان يدعو للتوحيد، كان يدعو للوحدة ونبذ الاعتبارات وامتيازات عالم الكثرة، وتفويض جميع شوائب الوجود وشؤون الحياة وآثارها إلى مبدئها الأصلي. ذنبه كان في إيقاظ أذهان المستضعفين وتنبيهها من الغفلة، هؤلاء الأشخاص الذين لا يعلمون شيئاً عن الحقائق المخفيّة في عالم الكثرات والتخيّلات، وإيقاظ الناس هذا من شأنه أن يسدّ الباب على سائر البضائع، ويكسّد سوق المتاجرين بالزهد. ومن الطبيعي أن يكون وجوده في ظلّ هذه الأوضاع خطراً جدِّياً يجب إبعاده!!
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* [1].
يقال: إنّ السيد حسن المسقطي ذهب إلى أستاذه آية الحقّ وسند التوحيد آية الله العظمى الحاج السيد عليّ القاضي الطباطبائي قدّس الله‏
__________________________________________________
 [1] سورة البروج، الآية 8.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 67
نفسه الزكيّة، وقال له: ماذا أفعل بأمر تبعيدي وإخراجي من العراق؟ فإنّي لا أستطيع العيش دون مجاورة أمير المؤمنين عليه السلام وبعيداً عن صحبتكم، فهذا الأمر صعب عليّ جدّاً ولا يمكنني تحمّله.
فأجابه السيد القاضي: افعل ما يقال لك، فالله معك حيثما ذهبت، وهو جليسك ومحدّثك، فاذهب في أمان الله!
                        ما جرى على السيد حسن المسقطي نقلًا عن كتاب الروح المجرد

وهنا يحسن أن ننقل بعض الكلمات عن المرحوم الوالد رضوان الله عليه، حول قصّة السيد حسن هذه، وقد ذكرها في كتاب «الروح المجرّد»:
وكان يجلس في الصحن المطهّر لأمير المؤمنين عليه السلام، فيدرّس الطلاب درس الحكمة والعرفان، فكان يثير فيهم الشوق والحماس، بحيث كان ينفخ في طلّابه روح التوحيد والخلوص والطهارة بدروسه المتينة المحكمة، ويسوقهم إلى الإعراض عن الدنيا والاتجاه صوب العقبى وعالم التوحيد الحقّ.
ولقد نقل أتباع المرحوم آية الله السيّد أبي الحسن الأصفهاني (قدّس سرّه) له: أنّ السيد حسن لو استمر في دروسه، لقلب الحوزة العلميّة إلى حوزة توحيديّة، ولأوصل جميع الطلّاب إلى عالم الربوبيّة الحقّ وإلى حقيقة عبوديّتهم.
لذا فقد منع تدريس علم الحكمة الإلهيّة والعرفان في النجف؛ كما أمر السيّد حسن بالذهاب إلى مسقط للتبليغ وترويج الدين.
ولم يكن للسيّد حسن أدنى رغبة في الخروج من النجف الأشرف، وكان فراق المرحوم القاضي بالنسبة إليه من أصعب‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 68
الأمور والمشكلات، لذا فقد ذهب إلى أستاذه السيّد القاضي وقال له: أتسمحون لي أن أستمرّ في الدرس وأتجاهل منع السيّد وأستمرّ في الجهاد في طريق التوحيد؟!
فردّ المرحوم آية الله السيّد القاضي عليه: اذهب من النجف إلى مسقط حسب أمر السيّد! إنّ الله معك، وسيهديك ويأخذ بيدك حيثما كنت، فيوصلك إلى المطلوب الغائي ونهاية درب السلوك، وأعلى ذروة في قمّة التوحيد والمعرفة.
وهكذا، فقد سافر السيّد حسن إلى مسقط، وكان أصفهانيّ الأصل ومعروفاً بالأصفهاني، ثمّ عرف بعد ذلك بالمسقطي. وكان لا ينزل في طريقه إلى مسقط فندقاً أو دار ضيافة، بل كان يأوي إلى المساجد. وحين وصل مسقط كان له حظ في التبليغ والترويج وجعل أهل مسقط بأجمعهم من المؤمنين الموحّدين، ودعاهم إلى الصدق والإخلاص، وإهمال الزخارف الماديّة والتعيّنات الصوريّة والاعتباريّة، فعرفه الجميع على أنّه مرشد الكلّ وهادي السبل، وأذعن أمام عظمته العالم والجاهل والعوامّ والخواصّ.
وكان آخر عمره يعيش دوماً مرتدياً ثوبي الإحرام. إلى أن تمّت دعوته للذّهاب إلى الهند، فأجاب دعوتهم وشدّ الرحال إلى تلك الديار في سبيله إلى المقصود. وكذلك لم يكن لينزل في طريقه بالفنادق، بل كان يذهب إلى المساجد فيبيت فيها، ثمّ وجدوه في الطريق، بينما كان يسافر من مدينة لأخرى، في مسجد من المساجد مرتدياً نفس ثوبي‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 69
الإحرام وقد فارق الحياة حال سجوده [1].
نعم! لقد أبعدت حوزة النجف السيّد حسن المسقطي، ولم تعلم هذه الحوزة الضائعة والمتحيّرة أيّ جوهر ثمين فقدت! وأيّ رجل توحيد، وأيّ شخصيّة إلهيّة، وأيّ ركن علم وسند فضيلة أضاعت! ولو علمت لكان جهلًا بسيطاً، ولكنّه ويا للأسف الشديد الجهل المركّب! فالسيّد حسن أينما ذهب؛ إلى مسقط أو الهند أو البحر أو الصحراء، فهو مع الله والله معه، وهو الساجد الراكع والملبّس بلباس الإحرام ظاهراً وباطناً، وهو الداخل في عالم الولاية ومع الوليّ المطلق [2].
وقد أجاد الشاعر «مولانا» في ذمّه للقادحين بالأولياء وعاقبتهم:
         آن دهن كژ كرد واز تسخر بخواند             نام احمد را دهانش كژ بماند
             چون خدا خواهد كه پرده ء كس درد             ميلش اندر طعنه ء پاكان برد
             ور خدا خواهد كه پوشد عيب كس             كم زند در عيب معيوبان نفس‏
             چون خدا خواهد كه مان يارى كند             ميل ما را جانب زارى كند
             اى خنك چشمى كه آن گريان اوست             اى همايون دل كه او بريان اوست‏
            __________________________________________________
 [1] الروح المجرد، ص 112 111. [2] المصدر السابق، ص 113.


                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 70
         از پى هر گريه آخر خنده ايست             مرد آخر بين مبارك بنده ايست (1)

                        المشاهدات التوحيدية للمرحوم السيد حسن المسقطي‏

لقد كان السيّد حسن المسقطي آيةً في التوسل بالموالي المعصومين، وكان ذائباً في ولاية أئمّة الهدى، ومنصهراً في عشق أهل بيت الوحي، ويُحكى عنه في ذلك حكايات مذكورة في محلّها.
ويقال إنّه في أيام عاشوراء حيث كان يأتي إلى كربلاء للزيارة كان يشاهد جميع وقائع معركة كربلاء وما جرى على سيد الشهداء عليه السلام وأهل بيته بعينه المثاليّة، وكان يطّلع على أسرار تلك الواقعة ورموزها بواسطة سرّ حقيقته الملكوتيّة.
ويُنقل، أنّه في بعض هذه السنوات التي كان يأتي فيها إلى كربلاء لزيارة سيّد الشهداء عليه السلام، كانت عاشوراء في الصيف وكان حرّ العراق شديداً، وفي ليلة عاشوراء حضّر بعض الثلج لنقله إلى منزله، وبينما هو كذلك، إذ شاهد أبا الفضل العباس سلام الله عليه، فأنّبه وقال له: إنّك مع سماعك صوت أولاد سيّد الشهداء يشكون العطش، تأتي بالثلج إلى منزلك؟ عندها رمى الثلج على الفور، وعاد إلى المنزل خالي اليدين.
وهكذا، لقد كان على يقين من صحّة الطريق، وعلى يقين بوضوح الجلوات التوحيديّة وانكشافها، وشهود أسرار الملكوت وكشف الحجب‏
__________________________________________________
 (1) مثنوي، بخط ميرخاني، ص 23.
والمعنى: ذاك الفم الذي يلتوي استهزاءً باسم أحمد، صار لأجل ذلك فماً أعوج واقعاً وإذا أراد الله تعالى أن يهتك ستر شخص، يجعل رغبته في طعن الطاهرين وإذا أراد أن يستر عيب أحد، يجعل رغبته في السكوت عن عيوب الآخرين وبما أنّ الله تعالى أراد أن يعيننا، فقد جعل رغبتنا في البكاء والابتهال إليه حبذا لو يهبني الله عيناً باكية من خشيته، فكم هو سعيد ذاك القلب الذي يحترق لله فكلّ بكاء يوصل في نهايته إلى التبسّم، والناظر إلى نهايات الأمور هو عبد مبارك.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 71
النورانيّة، والوصول إلى معدن عظمة الله. وكان يقينه هذا راسخاً ومتيناً بحيث لم يكن ليشاهَد منه أيّ شكّ أو تزلزل في أيّ مرحلة من مراحل وجوده، ولم يكن ما يتعرّض إليه من طعون الطاعنين وإهانات الجاهلين وكلمات الفارغين، لينال من الاستمرار في طريقه القويم، أو يؤثّر في عزمه على المضيّ قُدُماً، أو أن يتنازل ويعدل عن مسيرته المحكمة قيد أنملة، وكان من المصاديق البارزة لهذه الفقرة من المناجاة الشعبانيّة:
حتّى تخرق أبصار القلوب حُجُب النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك [1].
وفي أحد الأيّام، بينما كان في مجلس ملي‏ء بالعلماء والفضلاء، سأله أحد الأشخاص كنايةً: هل أنّ المطالب التي تذكرها كشهود الحقّ تعالى، وجلوات التوحيد، والاندكاك في ذات الخالق، والفناء في الله تعالى، والوصول إلى حريم القدس الإلهي، وأخيراً العرفان بالله هي مطالب حقيقيّة وواقعيّة، أو أنّها مجاملة ومسامحة في التعبير؟!
فنظر السيد إلى هذا السائل وأجابه بلهجة حادّة:
هل تعتبر أنّ القاذورات الموجودة في بيت الخلاء وجود حقيقيّ، بينما وجود الله تعالى ليس حقيقيّاً؟! يعني كم بلغ بك المقام أنت وأمثالك الذين هم في نهاية الجهل والمسكنة في مجال المعرفة، إلى الحدّ الذي تنسبون فيه وجوداً ظاهراً بنفسه وبوجوده ومستغن عن جميع الوجودات، بل جميع الموجودات إنّما هي متدليّة من أنوار وجوده، وتنعتوه بأنّه مجاز، وترون أدنى مراتب الظهور والوجود بأنّه حقيقي وواقعي!!
__________________________________________________
 [1] إقبال الأعمال، ج 3، ص 299.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 72
وكان نظير هذا السؤال قد طرحه شخص على المرحوم آية الله العظمى الحاج السيّد عليّ القاضي رضوان الله عليه، فأجاب:
ماذا تقول! بالله عليك، نحن منذ مدة أربعين سنة نجالس الحقّ! وبعد ذلك تسأل هل أنّ الفناء والوصول والشهود والعرفان وأمثال ذلك حقّ، أو أنّها مسامحة في التعبير؟!
                        تعظيم بعض العلماء مثل آغا بزرگ الطهراني والشيخ حسين الحلي للأولياء الإلهيين‏

نعم، في أجواء هذا الوضع السيّئ، لا يمكن أن نغضّ الطرف عن بعض العلماء الكبار من أعاظم الشيعة ومفاخر العالم الإسلامي، الذين كانوا لامتلاكهم نفوساً طاهرة وأرواحاً صافية وضمائر صادقة يؤمنون بصحّة المدرسة العرفانيّة وأحقّيتها وعلوّ شأنها، وارتقاء مرتبة الأولياء الإلهييّن فيها. مثل المرحوم آية الله الحاج الشيخ آغا بزرگ الطهراني تغمّده الله برحمته، الذي عرّف في كتابه أعاظم العرفاء الإلهيّين ومدحهم بعلوّ مقامهم وارتقاء رتبهم وقداسة نفوسهم وطهارة سرّهم. من قبيل ما ذكره في آية الحقّ الكبرى سند الإتقان والتوحيد آية الله العظمى الشيخ حسينقلي الهمداني رضوان الله عليه، وكذلك ما ذكره بحقّ الآية الإلهيّة الكبرى المرحوم آية الله العظمى الحاج السيّد أحمد الكربلائي، وتلميذه المبرّز علّامة الدهر والعارف بلا نظير المرحوم الحاج السيّد علي القاضي الطباطبائي، وكذلك سائر تلامذة المرحوم الحاج الشيخ حسينقلي الهمداني [1].
أو كالشخصيّة الجليلة، والفقيه المعروف، والنحرير العالم، ومنار العلم والتقى والزهد والطهارة، آية الله العظمى الحاج الشيخ حسين الحلّي أعلى الله مقامه، حيث كثيراً ما كان يذكر هؤلاء الأولياء الإلهيّين، والعرفاء بالله بعبارات راقية ومضامين عالية، وكان يضع نفسه دون علوّ مقامهم ورفعة شأنهم.
__________________________________________________
 [1] توحيد علمي وعيني فارسي، ص 13 و 14، نقلًا عن نقباء البشر، للشيخ آغا بزرگ الطهراني، ج 2، ص 674 إلى 678.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 73
وقد نقل المرحوم الوالد رحمة الله عليه مراراً:
عندما كنّا في النجف الأشرف، وكنّا مشغولين ببحث الاجتهاد والتقليد في محضر الفقيه النبيل والأصولي المعروف المرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ حسين الحلّي أعلى الله مقامه، طُرحت يوماً بعض فقرات الرواية المذكورة سابقاً عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام، لمناسبتها للبحث. فقال المرحوم الشيخ حسين الحلّي في مقام بيان اختلاف الاستنباط من مضامين هذا الحديث الشريف:
                        اشتراط المرحوم السيد محمّد كاظم اليزدي حصول ملكة قدسيّة في المرجع لا مجرّد العدالة العرفيّة

بعض العلماء كالسيّد أبو الحسن الأصفهاني رحمه الله، وآية الله الحاج حسين البروجردي، يعتقدون أنّ مراد الإمام عليه السلام ومقصوده من بيان هذه الفقرات، هو حصول صفة العدالة في المجتهد المرجع، ويكفي مجرّد العدالة العرفيّة في الفقيه كي يجوز تقليده ويصير مرجعاً. لكنّ بعضاً آخر كالمرحوم السيّد محمّد كاظم اليزدي، يعتبر في المرجع تحقّق مراتب من العدالة أعلى من العدالة المتعارفة والمصطلحة، وهذه المراتب تكشف عن حصول ملكة قدسيّة ملازمة لطهارة النفس وصفاء السرّ، وعلاقة خاصّة تربطه بالله تعالى.
ثمّ قال: والحقّ مع المرحوم السيّد اليزدي، وهذه الرواية تبيّن مراتب أعلى بكثير من ملكة العدالة المصطلحة. وبعدها تطرّق في بحثه إلى كيفيّة تحقّق هذه الصفات والملكات القدسيّة، وقال: هذه المضامين تحكي عن مراتب عالية وراقية جدّاً، وبعيدة عن تصوّرنا وما يمكن أن نتخيّله، وعبّر بعبارات تكشف عن صفاء باطنه، وإخلاص نيّته وتواضعه، حيث قال وليُعذر الكاتب في نقله لهذه العبارات: أين أنا ... حتّى أستطيع تصوّر هذه المقامات وهذه المراتب العالية من الإيمان والاتصال بحريم القدس‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 74
الإلهي؟! فهذه المرتبة مختصة بأولياء الله الخاصّين، وأين نحن حتّى نقدر على الحديث عن هذه الصفات! (1)
لاحظ هذا الفقيه الكبير والنحرير على الإطلاق، كيف يذكر هذه المطالب، في حين أنّ الكثير من المتّصفين بأوصاف «المفتي» و «المرجع» يعتبرونها من الأوهام والأباطيل، ويرون أنّ السلوك في هذا الطريق فسق وقادح في العدالة. انظر كم هو الفرق بين هذين الموقفين!
                        مناقشة العلامة الطهراني لآية الله السيد الخوئي في مسألة لزوم السلوك العرفاني‏

أذكر أنّي كنت مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه، مَدعوّان للإفطار في إحدى الليالي في منزل المرحوم آية الله الحاج الشيخ مرتضى المطهّري رحمة الله عليه، وبعد الإفطار قال المرحوم الوالد:
عندما كنت في النجف الأشرف، ولأجل ابتعادي عن الأهواء الباطلة، وعدم الاختلاط بالمسائل غير الضروريّة والمتلفة للعمر والوقت، والاشتغال فقط بالدرس والبحث، كنت أُعرف بالتصوّف والاعتزال. ومن جهة أخرى، بما أنّي كنت من الطلاب المميّزين في الدرس والمشار إليهم بالبنان، كان آية الله السيّد الخوئي يسرّ إلي في بعض الأحيان بعض النصائح. وفي ليلةٍ، وبعد انتهاء الدرس، قال لي أثناء العودة إلى المنزل: يا سيّد محمّد حسين! على الإنسان أن يصرف أوقاته في الدرس والبحث، ولا يضيع أيّامه بهذه الأمور (الاشتغال بالأوراد والأذكار والأربعينيّات)، فهذه المسائل تحصل شيئاً فشيئاً للإنسان، ولا تحتاج إلى جدٍّ وجهد وصرف العمر وإتلاف الوقت! ومع ذلك أنا لا أرى أنّ هذه المسائل (العرفان والسلوك) من الأمور القادحة بالعدالة، لذا أرى من الأفضل لك أن ترجع عن هذه الأمور.
__________________________________________________
 (1) وقد أوضح المرحوم العلامة آية الله السيد محمّد حسين الحسيني الطهراني هذه المسألة بشكل مفصّل في كتابه ولاية الفقيه، الجزء الثاني، المجلس الرابع عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر..
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 75
ثمّ قال آية الله السيّد الخوئي: إنّ فلاناً كان يهتّم بهذه الأمور، وكان على علاقة بالسيّد علي القاضي رضوان الله عليه ويتردّد عليه، لكنّ أباه أرسل إليه رسالة وحذّره من هذه العلاقة والتردّد على هذا الأستاذ. فقبل نصيحته، وقطع علاقته بالسيد القاضي وعاد إلى إيران.
قال المرحوم الوالد: فأجبت آية الله السيّد الخوئي:
أولًا: إنّك قلت إنّ الطلاب لابدّ أن يهتمّوا بدروسهم وبحوثهم، ولا يضيعوا حياتهم بمثل هذه الأمور، وأنت تعلم أنّي أفضل طلاب درسك وأقواهم. متى! وأين قصّرت في الدرس والبحث أو في أداء تكليف التحصيل، حتّى أكون مستحقّاً لهذه النصائح المشفقة منك؟!
ثانياً: أنا حاضر في أن أتباحث معك في أيّ مسألة فرعيّة ترغب بالتباحث فيها، حتّى يتّضح لك أيّنا أكثر إحاطة بالمباني وتضلّعاً بالأصول والفروع، وأقدر على استنباط الأحكام، وتطبيق الكبريات على الصغريات.
ثالثاً: قلتَ إنّ فلاناً كان يتردّد على المرحوم السيّد القاضي، لكنّ أباه نهاه عن ذلك، فتركه. فاعلم أنّ أبي قد ارتحل عن هذه الدنيا، وبحمد الله لا يوجد أيّ شخص يمكنه أن يمنعني ويردعني عن السير في الطريق الذي اخترته، وافعل أنت ما يحلو لك.
عند ذلك قال: واأسفاه على هذه الحوزة، التي تعتبر عظماءها الإلهيّين والمرآة المظهرة لحقيقة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كالبقّالين والقصّابين في كونهم غير فاسقين فقط، وترى أنّ العدالة المعتبرة فيهم كعدالة التجّار العاديّين! واأسفاه على هذا المجتمع الذي يعتبر أنّ اكتساب الفضائل الأخلاقيّة والاهتمام بالتّأسّي بالرسول وأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين أنّه مجرّد عمل غير قادح في العدالة! هل هذه المسائل تحصل بنفسها شيئاً فشيئاً؟! ما هذا الكلام الواهي، وما هذا الكلام الذي لا
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 76
يعتمد على دليل! هيهات! هيهات ألف مرّة، كم أُدميت قلوب هؤلاء العظماء، وكم من المصائب حلّت بهم، وكم من المكاره جرت عليهم حتى وصلوا إلى هذه المقامات. فسواء سمحوا لأحد بالسير أم لم يسمحوا، فلن يؤثّر ذلك شيئاً؛ جلّ فناء الحقّ عن أن يكون شريعة لكلّ وارد [1]. وبعد ذلك يقول السيد: هذه المطالب تحصل بنفسها شيئاً فشيئاً!
         شرح اين هجران واين خون جگر             اين زمان بگذار تا وقت ديگر 2

يرى الحقير من المناسب هنا، أن نذكر موعظة للمرحوم الوالد رضوان الله عليه، كان قد ألقاها في مشهد المقدس سنة 1414 للهجرة على مسامع بعض تلامذته، حول أهمّية العلم والعمل، والإعراض عن الأهواء الدنيويّة، والمنافع الشيطانيّة، وحول الاستقامة في مسيرة أهل البيت عليهم السلام، ليكون ذلك تنبيهاً للكاتب، وتذكيراً للقرّاء الكرام، حيث قيل: إنّ قول الحقّ أولى أن يُسمع من لسان الحقّ. والجدير بالذكر، أنّ المرحوم الوالد كان قد ألقى هذه المحاضرة قبل وفاته بسنتين تقريباً، ولذلك يمكن اعتبارها إتماماً للحجّة منه على طلّابه وسائر الأفراد، وبالخصوص على الفضلاء وطلبة العلوم الدينيّة.
                        موعظة العلامة الطهراني للطلاب في وجوب التواؤم بين العلم والعمل وبيان سبب تعطيل حوزة النجف‏

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‏
بسم الله الرحمن الرحيم‏
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين‏
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين‏
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ‏
__________________________________________________
 () معناه: دع بيان الهجر وحرقة الفؤاد إلى وقت آخر.
 [1] شرح الإشارات والتنبيهات، ج 3، ص 394.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 77
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [1]، أي أنّه لا يمكن لأي فردٍ في حدّ ذاته وقوّته الخاصّة إذا أعطاه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول للناس كونوا عباداً لي مقابل الله. ولكن بما أنّكم العلماء وحماة الكتاب، عليكم أن تكونوا ربّانييّن، أي لتكن نسبتكم إلى الربّ دائماً، كونوا علماء ربّانيين لا علماء مادّيين وشهوانيّين. أو أنّ كلمة «ربّانيّين» مشتقّة من مادّة «تربية»، بمعنى كونوا من أهل التربية، وربّوا الناس وقودوهم إلى المحلّ الأعلى، باعتبار أنّكم تدرّسون الكتاب، وتدرّسون القرآن، وباعتبار أنّ عملكم وبحثكم ودراساتكم حول القرآن، وحول المسائل العقليّة والمسائل الإلهيّة.
بناءً على ذلك، فطريقة ودأب من وصل إلى مقام العلم، هي أنّه لا يستطيع بأيّ شكل من الأشكال أن يدعو النّاس إلى نفسه، وأن يرى أمره ونهيه صادراً منه شخصيّاً، وأن يعتبر هؤلاء الناس عباداً له.
فالأوامر يجب أن تكون أوامر إلهيّة ولأجل الله، وعلى الإنسان أن لا يشتبه ويصدر أوامر من تلقاء نفسه فإنّ مرجع هذه الأمور إلى حبّ الرئاسة والشهوة والشعور بالتفوق والوجاهة ثم يعرضها على الناس باسم الله، ويحمّلهم إيّاها على أنّها هي الدين والشريعة .. فإذا فعل الإنسان ذلك الآن، فلن يخرج عن عهدة المسؤوليّة غداً، لأنّه طبقاً للآية السابقة يقول القرآن: إنّكم في طريق العلم والكمال، ولديكم علم جيد بالكتاب واطّلاعكم عليه كبير، وأنتم حماته، وعلومكم‏
__________________________________________________
 [1] سورة آل عمران، الآية 79.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 78
ودراساتكم تدور في هذا الفلك، لذا كان عليكم الوصول إلى حقيقة العلم. وليست حقيقة العلم أن يدعو الإنسان الناس إلى نفسه، ويدعوهم إلى عبادته والسجود له؛ بمعنى أن يتصوّر نفسه هو المحور الأساس ويعمل على أن تكون إطاعة الناس له، وبعدها يدعوهم للعبادة والأخذ عنه، هذا غلط. بل حقيقة العلم هي انكشاف الواقع والحقيقة، وكلّ من وصل إلى العلم عليه أن يدعو الناس إلى الله، وعليه أن يوجّه نفسه وسائر الناس نحو الله، هذا هو العالم، الذي يحمل مصباح الهداية في يده ويتقدّم مسيرة الناس حتّى يكشف لهم الطريق ويسيروا جميعاً نحو الله، لا أن يصير هذا المصباح الذي يحمله موجباً لضلال الناس وضياعهم، فعندئذٍ سوف يقع الناس في ظلام حالك، باعتبار أنّهم أطاعوا شخصاً من حيث هو.
                        أفضلية مقام العلماء على الشهداء في كلام الإمام الصادق عليه السلام‏

وقد ورد في كتاب قرب الإسناد، الذي يعتبر من الكتب المهمّة والمعتبرة، رواية عن هارون عن ابن صدقة عن الصادق عن آبائه عليهم السلام:
إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: ثلاثة يشفعون إلى الله يوم القيامة فيشفّعهم: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء [1].
فالرسول يقول في هذه الرواية بأنّ درجة العلماء أدنى من درجة الأنبياء وأعلى من درجة الشهداء، لأنّ الأنبياء يشفعون أولًا، ثمّ العلماء ثمّ الشهداء.
وفي أمالي الشيخ الطوسي رحمة الله عليه، بإسناده عن‏
__________________________________________________
 [1] قرب الإسناد، ص 64.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 79
المجاشعي عن الإمام الصادق عن آبائه عن عليّ عليه السلام قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إذا كان يوم القيامة وُزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء [1].
والمراد بمداد العلماء، الكناية عمّا يتركه العالم من أثر ليفيد الناس به، فمداد العلماء إذا وزن مع دماء الشهداء يكون أثقل في ميزان يوم القيامة.
ويوجد رواية صحيحة أخرى وهي: مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء [2]، ومن جملة طرقها يوجد طريق ينتهي إلى (العبد)، حيث لديه إجازة من الشيخ آغا بزرگ الطهراني رحمة الله عليه، الذي يعتبر من مشايخ الإجازة في علوم الدراية. وكذلك لدينا سند متصل إلى رسول الله عبر العلّامة الطباطبائي الذي يعتبر أيضاً من مشايخ الإجازة أيضاً. وجميع هذه السلسلة من العدول. ومن المعلوم في اصطلاح أهل العلم، أنّ إطلاق لفظ الرواية الصحيحة يراد به الرواية التي لها سند بمعنى أن لا تكون مقطوعة أو مرفوعة أو مرسلة وأن يكون جميع من في سندها من الإماميّين الموثّقين والعدول، دون أن يكون بينهم أي راوٍ من الرواة الموصوفين بالحسن أو الضعف.
وروى ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب غوالي اللئالي:
__________________________________________________
 [1] الأمالي، للشيخ الطوسي، ص 521.
 [2] ذكر العجلوني في كشف الخفاء، ج 2، ص 200، الحديث بلفظ: «مداد العلماء أفضل من دم الشهداء».
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 80
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل [1].
ويروي أحمد بن محمد البرقي في كتاب المحاسن عن أبيه عن سعدان عن عبد الرحيم بن مسلم عن إسحاق بن عمّار وهو سند ممتاز قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: من قام من مجلسه تعظيماً لرجل؟ قال: مكروه، إلا لرجل في الدِّين [2].
فالعلماء السابقون إنّما كانوا يتركون مدنهم وقراهم، ويسافرون إلى الحوزات العلميّة للدراسة فيها بناء على ما تمليه هذه الروايات التي أوردنا بعضها كشاهد على ذلك، وإلّا فالمرحوم المجلسي خصّص الجزء الأوّل من كتابه «بحار الأنوار» لبيان فضيلة العلم والعلماء والإخلاص في العمل وشروط العلم، وعلماء السوء والعلماء الروحانيّين والإلهيّين، وأورد هناك مئات الروايات. ويوجد أفراد هنا وهناك قد سمعوا بهذه الروايات عبر وصيّة آبائهم، أو نصيحة أمّهاتهم، وانتقلوا بعدها إلى الحوزات للدّراسة لأجل الله تعالى، وقد وصلوا إلى المقام العالي الذي ينبغي الوصول إليه. طبعاً، لا بدّ من العمل على طبق الشروط التي تقدّم ذكرها؛ بأن لا تعود لهم شخصيّتهم التي كانت لديهم، ولا ترجع إليهم نفوسهم وأنانيّتهم، وأن لا يتوجّهوا إلى حطام الدنيا، ولا يُسيئوا الاستفادة من العلوم التي تعلّموها أو من الموقعيّة التي اكتسبوها، ولا ينصبوا شباكهم لاصطياد الناس، ولا يعملوا
__________________________________________________
 [1] عوالي اللئالي، ج 4، ص 77.
 [2] المحاسن للبرقي، ج 1، ص 233.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 81
لغير الله، وفي النهاية يصيروا هم أنفسهم طعمة للشيطان، فهذه شروط لا بد منها.
لقد كان في السابق علماء جيّدون جدّاً، ولم يكن هؤلاء وأمثالهم قليلين بل كانوا كثيرين، فقد كان في كلّ زمان منهم واحد، من قبيل الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والبرقي الذي مرّ ذكره (أحمد بن محمّد بن خالد البرقي) الذي كان مقدّماً حتّى على الكليني وكان من جملة الرواة الذين اعتمدهم الكليني في أسانيده، ومن قبيل الخواجة نصير الدين الطوسي والشهيد الثاني والشهيد الأوّل والقاضي نور الله الشوشتري والعلّامة الحلّي والمقدّس الأردبيلي وغيرهم ... فعندما ينظر الإنسان إلى تاريخ هؤلاء، يرى أنّهم منار العلم والكمال والدراية، وفي الوقت نفسه يرى القداسة والتقوى كامنة في أرواحهم، وليس للدنيا أيّ قيمة عندهم .. واقعاً لم يكن للدنيا قيمة عندهم.
لقد كان هؤلاء مصابيح ومنارات واقعاً، فكانوا يقودون الناس نحو ذلك المقام الذي كان رسول الله والأئمّة قد سبقونا إليه، كما أنّهم كانوا يهدون أنفسهم وكلّ من جعل نفسه ضمن دائرة شعاعهم والتسليم لهم، للوصول إلى مقام الكمال.
                        تمجيد المرحوم المجلسي للمقدّس الأردبيلي‏

وهناك عبارة للمرحوم الشيخ المجلسي ينقلها في مقدّمة «بحار الأنوار» التي ذكر فيها مصادر الكتب التي اعتمد عليها، وتناول أيضاً ذكر مؤلّف كلّ كتاب على حدة، فقد تكلّم هناك عن المقدس الأردبيلي الذي عاش قبل أربعمائة سنة تقريباً وتوفي في النجف وقبره بجوار قبر أمير المؤمنين عليه السلام بمقدار سطرين أو ثلاثة، حيث قال: «والمحقّق الأردبيلي‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 82
في الورع والتقوى والزهد والفضل بلغ الغاية القصوى ولم أسمع بمثله في المتقدّمين والمتأخّرين، جمع الله بينه وبين الأئمة الطاهرين، وكُتُبه في غاية التدقيق والتحقيق» [1].
حسناً، انتبهوا جيداً، يقول المجلسي: إنّ كتب المقدّس الأردبيلي من جملة المصادر التي أعتمد عليها والحال أنّه كان متقدّماً عليه بمائة سنة تقريباً، أو ما يزيد عن المائة بقليل، وفي الحقيقة يمكن القول أنّهما كانا في عصرين متعاقبين ومتقاربين ونعته بالزهد والورع والتقوى والعلم والفضل، حيث قال في حقّه: «بلغ الغاية القصوى» أي آخر نقطة من الهدف، ولم يسمع بوجود مثله في العلماء المتقدّمين والمتأخّرين، وأن كتبه في منتهى التحقيق والتدقيق.
والمجلسي خرّيت هذا الفن، فهو علّامة عصره في معرفة الرجال ومعرفة العلماء وتشخيص الكتب، ولا يمكن أن ينخدع في هذا الفنّ أبداً، ولا يمكن أن يتصوّر هذا الأمر في حقّه، وهو يقول بحقّ هذا العالم: «أنّه لم يسمع بمثله في المتقدّمين والمتأخّرين»، فهذه مسألة مهمّة جدّاً .. ماذا كان المحقّق الأردبيلي وماذا كانت علومه وكيف كانت حياته في النجف، وما هي المشكلات التي كان يعاني منها، وكم كان جلوداً في تحمّل المصائب، وكم كان يُؤْثِر على نفسه وكم كان بعيداً عن هواه، وكم كان قد حصل على العلم وحقيقة العلم، حتى قيل في حقّه هذا الكلام وقبلنا به؟!
                        العلم دون العمل لا يؤدّي إلّا إلى البعد عن الحقّ‏

إذاً العلم يعطي الكمال للإنسان ويعطيه القدرة، والذين‏
__________________________________________________
 [1] بحار الأنوار، ج 1، ص 42.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 83
يسعون وراء العلم ويقرنون العلم بالعمل والعلم في واقعه هو العمل ويدور معه، والعالم بدون عمل يجب أن لا يقال له عالم يصلون إلى تلك المقامات التي وردت في الرواية وفي الآية القرآنية: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ.
فالله تعالى جعلكم مصباح الهداية، وجعلكم الهادين لجميع البشر وخلفاء الله على الأرض. وأنتم حاملو اللواء يوم القيامة؛ حيث يحمل رسول الله لواء الحمد بيده ثمّ يحمله أمير المؤمنين وبعد ذلك يصل هذا اللواء إلى أيديكم. لذا عليكم أن تكونوا حذرين ومحافظين على هذا المقام؛ لا يرديكم غروركم، ولا يذهب بكم علمكم، فالعلم يُردي الإنسان أكثر من أيّ شي‏ء آخر. والعلم كمال مثل الجمال في المرأة .. فالمرأة الحسناء لديها غرور والجمال يؤدي بها إلى الغرور. والعلم في الرجال حكمه حكم الجمال في النساء، فإذا زاد علم الرجل فسوف يعجب بنفسه طبعاً ويغترّ. لكن يجب أن نحاسب هذا الغرور ونُفهمه بأنّ هذا العلم ليس لنا، هو علم الله، فالله هو الذي يعطيه وهو الذي يأخذه، والإنسان ليس سوى آلة في ذلك، وإذا اعتمد الإنسان على نفسه فسيؤدي ذلك إلى الفرعنة والشخصانيّة، وسيتحرك هو وأهله وجميع الأشخاص المرتبطين به نحو نفسه، وسيصير محوراً ومقصداً، فبدلًا من أن يعتبر نفسه ووجوده مرآة لله تعالى، يصير بنفسه محوراً يدعو الجميع إليه، لأنّه يعتبر نفسه أعلى من الجميع ويرى نفسه مقابل الله، فإنّه وإن لم ينف وجود الله ووجود النبي ووجود الإمام ووجود الكتاب، لكنّه عمليّاً يرى أنّ كلّ ما
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 84
يترشّح من فكره هو الحقّ وما سواه باطل مهما كان، حتى لو واجه آية قرآنيّة أو رواية صحيحة فسوف يؤوّلها ويسقطها عن الاعتبار ويضعها جانباً، ويقول الحقّ ما ذكرناه فقط!
وهذا الأمر من أعظم المخاطر، حيث سيتبدّل الآن ذاك العلم الصافي الموجود في نظام وجوده إلى جمر مشتعل، ويتبدّل مركز الخير هذا إلى جهنّم، لذا ورد لدينا في الروايات التنبّه والحذر من هؤلاء العلماء وعدم اتّباعهم، خشية أن يكون عملك قد صدر من مثل هذه الأماكن! إنّ تحصيلك للعلم يجرّك إلى التجبّر والتكبّر! لذا عليك أن تعتبر نفسك لا شي‏ء وغير موجود، وأن ترى هذه النفس مركزاً للتجلّيات العلميّة لله تعالى.
روي في كتاب «عدّة الداعي» بناء على نقل البحار، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من ازداد علماً ولم يزدد هدى (ولم يزدد نور قلبه ولم يزدد قربه من الحقّ) لم يزدد من الله إلّا بعداً [1].
فبدلًا من أن يكون العلم مقرّباً إلى الله يصير موجباً للبعد. فعلى سبيل المثال إذا كان رجل يدرس وكان في الدرجة الخامسة، فإذا درس غداً يريد الارتقاء إلى الدرجة السادسة يهبط إلى الدرجة الرابعة، وبعد غدٍ يدرس فيصل إلى الدرجة الثالثة، وبعده يصل إلى الثانية وبعده إلى الأولى وبعده إلى درجة الصفر، ويا ليت التنازل يقف عند الصفر فقط، بل تحت الصفر بواحد، ثمّ تحت الصفر باثنين، تحته بعشرة آلاف، بمائة ألف .. إلى ما لا نهاية. إذا كان هذا الإنسان قد وصل إلى ما لا
__________________________________________________
 [1] بحار الأنوار، ج 2، ص 37؛ و عدّة الداعي، ص 65.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 85
نهاية في التنازل، فالله تعالى أيضاً لديه من مقام الفضل والكرم والرحمة ما لا نهاية له، كما أنّ تجلّي الجلال والغضب الإلهي في الجهة المقابلة لا نهاية له. فلهيب جهنّم ناشئ من فوران النفس، هؤلاء قد أعطوا نفساً (من خلال ما اكتسبوه من علم) أشدّ لهيباً من النار وأخطر .. النفس التي ظهرت بصورة الدين، بلسان الدين وبعنوان تأييد شريعة سيّد المرسلين، لكن كلّ ذلك كان دعوة إلى النفس ووقوفاً بوجه الله ووقوفاً بوجه الإمام، ومع ذلك كان بصورة الدين، بصورة القرآن، بصورة الكتاب، وبصورة السنّة. هذا الأمر من الأمور العجيبة جدّاً!! كيف يمكن للإنسان أن يصدّق أنّ هذا الشخص قد سعى لطلب العلم، سعى للكمال لكنّه وقع في النهاية في الهلاك من خلال هذا الطريق! أوَيُعقل هذا الأمر؟! نعم!
فالقرآن الكريم يقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [1].
وفي آية أخرى يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [2].
فعندما يغيّروا ما بالنفس ويغيّروا الصفات النفسانيّة، يغيّر الله نعمته عليهم؛ فيسلّط عليهم العذاب الخالد، ويرسل عليهم القحط والزلازل والبراكين، وتفتح الجبال أفواهها وتقذف حمم لهيبها، وينتشر المرض والوباء ويحصل القحط والجفاف وتشتعل الحروب فتُهلك الحرث والنسل. لماذا؟ لأنّهم بدلًا من‏
__________________________________________________
 [1] سورة الأنفال، من الآية 53.
 [2] سورة الرعد، من الآية 11.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 86
أن يعتبروا هذه النعمة التي منحها الله لهم من الله ويشكروه عليها، كفروا بها ونسبوها إلى أنفسهم وإلى الأمور الطبيعيّة، واعتمدوا على الأمور السطحيّة، وقطعوا علاقتهم بالله، فقال الله لهم: حسناً! إذا كنتم تقولون أنّكم قد انفصلتم عن عهدتي واستقللتم بأنفسكم، فهذا عنان أنفسكم جعلته على عاتقكم، فلنرى ماذا يمكنكم أن تفعلوا؟!
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ* [1].
أي لو كان أهل الضيع والمدن يؤمنون ويتّقون لأنزلنا بركات السماء والأرض عليهم، وهي البركات الروحيّة والماديّة؛ البركات السماويّة كالعلم والمعرفة والدراية والفعليّة، والبركات الأرضيّة كرفع المصائب والأمراض والشدائد، وليس رفع المصائب والأمراض فقط، بل نجعل الدنيا لهم دوحة غنّاء، وحيثما يضعوا يدهم يروا الخيرات، كلّ ذلك بسبب إيمانهم وتقواهم، لكنهم كذبوا بآياتنا فأخذناهم بما كانوا يكسبون، وبسبب تكذيبهم بآياتنا سلَبنا منهم كلّ هذه البركات، وما أسهل هذا الأمر علينا.
                        مدرسة العلامة الحلي السيّارة مع السلطان خدابنده‏

فيما سبق كانت تُدرّس في الحوزات العلميّة دروس القرآن والتفسير، وكان لدى الكثير من العلماء الكبار من قبيل الشهيد الأوّل والشهيد الثاني دروس في المعرفة ودروس في الكلام، وكان لدى العلّامة الحلّي مدرسة سيّارة في ركاب السلطان خدابنده، وكان العلّامة إلى آخر عمره يذهب مع السلطان حيث‏
__________________________________________________
 [1] سورة الأعراف، الآية 96.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 87
ذهب حفاظاً على الشريعة؛ فحينما كان السلطان ينزل في مكان، كانت تُنصب الخيام ويأخذ كلّ طالب مكانه فيها وتُنزل الإبل حمولتها من الكتب، وتُشاد في ذلك المكان مدرسة، هكذا كانت مدرسته وهكذا كان تعليمه. وأخيراً ارتحل عن الدنيا في كرمانشاه وانتهت هذه المدرسة بوفاته. ومن هنا نرى أنّ بعض كتب العلّامة قد فرغ من كتابتها في كرمانشاه في المدرسة السلطانيّة السيّارة. لماذا كان يفعل كلّ هذا؟ لأنّ قلبه كان يحترق لشدة شعوره بالمسؤوليّة، فقد أسلم السلطان محمد خدابنده حديثاً، ولو تركه فسوف يرتدّ عن الإسلام ويعود للكفر. فكان يقوم وبداعي الحفاظ على الشريعة، ومع آلاف الغصص التي كان يتجرّعها عالم مسنّ مثل العلّامة الحلّي بدعوة الطلّاب عبر الإبل وخيم الكتّان من هنا وهناك في الحرب والسلم والسفر والحضر حتّى يحفظ إسلام هذا الرجل، وقد وُفّق في ذلك (1). وكذا في زمان الشيخ الأنصاري رحمة الله عليه ذاك الرجل المقدّس والمتديّن، فإنّه وإن لم يكن من أهل العرفان ومن أهل التوحيد، إلّا أنّه كان فقيهاً و رجلًا عادلًا وصادقاً حينما كان البعض يرجعون إلى هذا العالم ويطلبون منه درساً في أمور الحكمة والمسائل الإلهيّة، كان يقول لهم: إنّي لست أهلًا لهذه الدروس، اذهبوا إلى سبزوار عند الملّا هادي السبزواري وادرسوا عنده. انظروا! إلى هذا المرجع وهذا الشخص الذي يُعتبر القمّة في الحوزة، يجيز لنفسه أن يقول: أنا لا أعرف هذا المطلب! اذهبوا إلى ذاك المكان من العالم!
__________________________________________________
 (1) ذكر العلامة الطهراني رضوان الله عليه هذا المطلب بشكل مفصّل في كتاب معرفة الإمام، الجزء التاسع، صفحة 123.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 88
وأنتم تعرفون المسافة الطويلة التي تفصل بين النجف وسبزوار فهي تستغرق الكثير من الوقت. كما أن الطلّاب الذين ربّاهم المرحوم الشيخ طلابٌ جيّدون، وكان ثلاثة عشر منهم من أساتذة الفقه والدراية والتقوى حقّاً، ولم يكن لديهم أثرٌ لهوى النفس، حتى أنّه بعد وفاة الشيخ الأنصاري أرادوا أن يعيّنوا زعيماً للحوزة فوقع بينهم نزاع، وكان يقول بعضهم للبعض الآخر يجب أن تكون أنت الزعيم! فلم يكن يقبل، بل كان يقول: ليس لديّ القابليّة في تولي هذا المقام، وكانت تلك المجالس تنتهي في بعض الأحيان إلى البكاء والنحيب (1).
__________________________________________________
 (1) قصة مرجعية الميرزا محمد حسن الشيرازي (هامش)                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 100
الأئمّة كذلك؟! أو أنّ هذه الصلاة تقام بعنوان حفظ الشريعة! فهل هذا حفظ للشريعة؟! هذا حفظ للبطن، حفظ للمقام. وأيّ مقام؟ ذاك المقام الأرذل والأكثر انحطاطاً من أيّ مقام آخر .. وسوف ينجرّ الإنسان بالنهاية إلى هذه الوجاهات التي ترونها .. الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه [1].، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [2].
                        مسألة النفاق والمنافقين ليست منحصرة في زمن رسول الله‏

عندما نقول المنافقين .. تظنّون أن المراد بالمنافقين أولئك المنافقون الذين كانوا في زمان رسول الله! كلّا، فالمنافقون ليسوا منحصرين بأولئك، بل كلّ من لم يفهم أنّ العزّة مختصّة بالله وبرسول الله وبالمؤمنين فهذا منافق. كلّ من يدعو إلى نفسه كما تعبّر عنه الآية القرآنية المباركة: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [3]. فهذا منافق. المنافق يعني من يكون له وجهين، ظاهره يبرز شيئاً لكنّ باطنه شي‏ء آخر. وإذا واجهته يقول لك شيئاً وفي غيابك يقول كلاماً غيره. وإذا لم يقل في غيابك خلاف ما قاله لك، فإنّ في قلبه ما هو أعجب من ذاك النفاق، حيث يخفي في قلبه خلاف ما يظهره لك وغير الذي يقابلك به؛ يقابلك بالبشاشة والتبسّم والمجاملة، لكنّه يخطّط في باطنه للقضاء عليك وقلعك من الجذور. يقول في الظاهر: أيّها الناس اتّبعوا الإسلام! اتبعوا القرآن! وأمثال ذلك، ولكنّه يعمل على خلاف الإسلام، ويسير في حياته على أساس أن يمحق‏
__________________________________________________
 [1] وسائل الشيعة، ج 26، ص 14
 [2] سورة المنافقين، من الآية 8.
 [3] سورة آل عمران، من الآية 79.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 101
الأحكام الشرعيّة، فهذا منافق. ليس لله مع أحد من الناس صداقة خاصّة، فهو يهدي الناس ويحركهم إلى الصراط المستقيم، وميزانه ميزان مستقيم؛ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [1]. هل يمكن لله أن يقول: لقد خلقنا السماء والأرض على أساس العدل وميزان الحقّ، وبعدئذٍ يعطينا عنان أمورنا في هذه الأمور بأيدينا ويقول: كلّ تخيّل وكلّ اشتباه وكلّ عمل سيّئ تعملونه فأنتم أحرار في ذلك، لأنّكم أنتم علماء الشريعة، وقد جعلت الاختيار بيدكم وجعلت لديكم الولاية أيضاً، ويمكنكم الإتيان بأيّ فعل تريدونه! هل هذا صحيح؟! كلّا! فيجب على طلّاب العلوم الدينيّة جميعاً أن يخطوا خطوتهم الأولى بالعلم والعمل، كما فعل أولئك وكما فعل السابقون. انظروا إلى أيّ المقامات وصل السيّد ابن طاووس وأخوته علي وأحمد! انظروا إلى السيد بحر العلوم الذي لم يمضِ على موته أكثر من مائتي عام! انظروا أيّ مقامات كانت لديه! انظروا إلى أمثال الشيخ جعفر كاشف الغطاء الذي كان من طلّاب بحر العلوم وكان ملازماً له في دوراته، أيّ رجال طاهرين كانوا وكم كان لديهم من الصفاء! وكم شكل من أشكال الدنيا عُرض عليهم لكنّهم لم ينهزموا أمامه. بل كانوا يحيون الليل في محراب العبادة ويبكون ويستغيثون بالله. وكان سواء عندهم؛ قلّدهم جميع الناس أم لم يقلّدهم أحد، بل لم يكونوا يشترون هذه الأمور بفلس واحد. لذا يجب على الإنسان أن يمشي على هذا الصراط، وإلّا فهناك‏
__________________________________________________
 [1] سورة الرحمن، الآيتان 7 و 8.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 102
خطر جدّيّ ينتظره، وما قاله الله تعالى للسابقين فهو متوجّه إلينا أيضاً. فالآيات القرآنيّة لديها شمول وعموم، وليست منحصرة برسول الله وبزمان رسول الله، بل هي شاملة لجميع الأزمنة إلى يوم القيامة بدون استثناء.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد
كان هذا كلام المرحوم الوالد وقد نُقل كما هو عن الشريط المسجل. وعباراته وإن كانت عبارات خطابيّة ولم يراع فيها ضوابط الكتابة والتأليف، لكنّ الكاتب لم يرض على نفسه أن يغيّر في كلمات وعبارات ذاك العالم؛ الذي هو رجل الميدان في العلم والعمل وحرّيّة الفكر والسلوك، ولم يكن يرغب في حرمان المغرمين بإدراك الحقائق من تلقّي واقع الأمور وحقيقتها بشكل مباشر.
نعم! في كلّ مكان يمكن لهذه الفتنة العمياء أن تظهر، ويتاح لهذا التعصّب والتحجّر أن يحكم، يسقط بساط العدل والقسط ويتداعى، وتحلّ حالة الانغماس في الجهالة والعصبيّة محلّ التحليق في عالم القدس والانغمار في بحار البركة الإلهيّة غير المتناهية. فنفس هذا الحقير كان قد طُرد من إحدى المدارس المرتبطة بمرجع ذاك الوقت بجرم تدريس الفلسفة، بينما أجازوا لشخص آخر أن يعطي درساً في المدرسة ذاتها، لكونه يردّ مباني الحكمة ويشكل عليها! وكما أشار المرحوم الوالد رضوان الله عليه في الشريط، كانوا يحرّمون على مدرّسي الحكمة الاستفادة من غرف المدارس وحجراتها، تحت عنوان الدفاع عن التشيّع وحريم الفقه والفقاهة وحراسة ثغور المرجعيّة وحدودها، ويرون أنّ صرف أموال الإمام وسهم الإمام عليه السلام منحصر في بحث وتبليغ الفقه والأصول.
لكن الأمر ليس كذلك، فلن يبقى الوجه المضي‏ء للحقيقة والواقع‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 103
مختفياً إلى الأبد وراء نقاب الجهل وعبادة النفس وغبار الهوى، ووراء النفوس التي لا خبر لديها عن جمال المقصود. وبشارة افتتاح حوزة علميّة يرتضيها أمير المؤمنين وإمام الزمان مشتعلة دائماً في قلوبنا ومشعّة في ضمائرنا، ونسأل الله المنّان أن يُلبس هذه البشارة لباس الواقع في أقرب وقت، وأن تستقرّ مدرسة التوحيد وعرفان التشيّع الأصيل على العتبة الملكوتيّة لمولى الموحّدين عليه السلام، حتى لا يُجبر الطلّاب والفضلاء على وضع العباءة على رؤوسهم، وعلى وضع مراقبين لهم في الشوارع عند ذهابهم إلى منزل المرحوم القاضي. تلك الحوزة التي يصدح فيها نداء التوحيد والعرفان من كلّ حيّ ومحلّ، والتي تمنح المجتمعات العالمية والباحثة عن الحقيقة الإنسانية حملةَ اللواء كأمثال المرحوم القاضي والسيد أحمد والسيد حسن المسقطي، آمين. أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [1].
__________________________________________________
 [1] سورة هود، من الآية 81.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 104
                        المجلس الرابع: حرمة الانزواء عن الحق وعدم الاعتناء به‏

                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 106
بسم الله الرحمن الرحيم‏
الحمد لله ربِّ العالمين‏
والصلاةُ على خيرة الله المنتجبين محمَّدٍ وآلِهِ الطاهِرِين‏
واللّعنةُ على أعدائِهِم أجمعين‏
                        كلام العلامة الطهراني في بيان علّة عدم بيعة سعد بن أبي وقّاص لأمير المؤمنين‏

تعتبر مسألة السكوت على الظلم وإخفاء الحقيقة وعدم الدفاع عن الحقّ ورعاية الاحتياط والحياد، فاجعة كبيرة ألمّت بالمجتمع البشري على امتداد التاريخ، ولا تزال آثارها السيّئة تزكم الأنوف. ومن المناسب هنا أن نذكر كلاماً للمرحوم الوالد رضوان الله عليه في بعض خطبه، حيث تحدّث فيها عن قعود بعض أصحاب رسول الله عن نصرة أمير المؤمنين عليه السلام والامتناع عن بيعته، ومن جملتهم سعد بن أبي وقّاص، الذي كان من أصحاب الرسول وأعيان الأنصار، وكان قائد فرقة الرماة في جيش المسلمين أثناء غزوات الرسول، وقائد جيش المسلمين في حرب القادسيّة أثناء فتح بلاد فارس وإيران. وكان سعد قد امتنع عن بيعة أبي بكر، وفي الوقت ذاته لم يقبل ببيعة أمير المؤمنين عليه السلام.
وهذا نصّ كلامه، كما نقل عن الشريط المسجّل:
كان سعد بن أبي وقّاص من شجعان زمانه، وكان أوّل رامٍ في جيش رسول الله، بل كان قائد الرماة في عهده. ومشاركته‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 107
في الحروب واضحة جداً، ويعتبره أهل السنّة من العشرة المبشَّرين بالجنّة (1)، لكنّه بعد ارتحال رسول الله، لم يبادر إلى بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وبعد مقتل عثمان حيث بايعه جميع المهاجرين والأنصار، تخلّف سعد أيضاً ولم يبايع أمير المؤمنين عليه السلام، هل تعلمون لماذا؟ لأنّه كان سعد! سعد الذي لا يستطيع بيعة علي، فشخصيّة سعد بنظره توازي شخصيّة علي، وكان يقول أنا لا أستطيع أن أدخل تحت إمرته. تماماً مثل طلحة والزبير ومثل عبد الرحمان بن عوف ومثل عمر، فهؤلاء لم يتعرّفوا على تلك المكارم الأخلاقية ومراتبها ولا على الولاية، فكانوا يقولون: نحن من الشَيَبَة ومن كبار القوم، وكنّا من حملة الرايات في زمن رسول الله، وعليّ رجل ونحن رجال؛ فلماذا ننقاد له؟ وهنا بيت القصيد! فسعد كان يقول أنا قائد في جيش المسلمين، ويجب أن أبقى قائداً، لا مقوداً .. هذا ما كان يدور في خاطره، فإنّ سعداً وإن كان رجلًا مقدّساً ومصلّياً، لكن الانقياد لعلي أمر غير مقبول عنده .. لماذا لا تبايع يا سعد؟ لا أعلم، ولا يوجد سبب معقول لذلك.
كان سعد يعتقد بأنّه إذا لم يبايع ولم يكن لا مع عليّ ولا مع معاوية، فإنّه سيبقى جانباً إلى آخر عمره، إلا أنّ ذلك لن يحصل! فإنّه سوف يبتلي في هذه الدنيا بأسوأ أنواع المحاكمات؛ حسناً! أنت يا سعد الذي تعلم أنّ عليّاً هو الحقّ، لماذا وقفت جانباً؟ وأنت الذي تعرف أنّ عليّاً هو
__________________________________________________
 (1) وهي في اعتقاد أهل السنة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بشر عشرة من أصحابه بالجنة، لكن انتساب هذا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير مقبول عند الشيعة.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 108
الحقّ، وسمعت من النبي الروايات التي قالها في حقّ عليّ .. لماذا نأيت بنفسك جانباً؟
                        معاتبة معاوية لسعد في امتناعه عن سبّ أمير المؤمنين وجواب سعد

لقد قدم سعد على معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام وكان معاوية رجلًا شيطانيّاً ومكّاراً، من المفكّرين بقوّته الواهمة، وكان واقعاً من صنائع الشيطان في الدنيا فقال له:
يا سعد لِمَ لا تسبّ عليّاً؟ فقد أمرت بسبّ عليّ على جميع منابر المسلمين، فلماذا لا تسبّه أنت؟
نعم .. ذاك الشخص الذي امتنع عن مبايعة أمير المؤمنين عليه السلام، مجبور الآن على المجي‏ء والحضور عند معاوية جبّار زمانه، فهو الحاكم الآن، وفي كل مكان الأمر والمال بيد معاوية، وعلى الإنسان أن يقبّل الأرض بين يديه أدباً ليحافظ على حياته، وحتّى سعد يجب أن يأتي، ويخضع لمحاكمة هذا الجبّار .. لماذا لا تسبّ عليّاً يا سعد؟
فقال سعد: لوجود ثلاث خصال فيه، و والله لو نلت واحدة منها، لكانت خيراً لي مما طلعت عليه الشمس.
قال: ما هي هذه الخصال الثلاثة؟
قال الأولى: زواجه من فاطمة بنت النبي، وكانت فاطمة نور عين الرسول وأفضل النساء، فأعطى سرّه لعلي بن أبي طالب وزوّجه إيّاها، وكان منه بنون كالحسن والحسين أولاد النبي .. فهذه فضيلة لعليّ، وبزواجه هذا صار عليّ من أهل البيت؛ أهل بيت رسول الله، وما ورد في القرآن من آيات بحقّ‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 109
أهل البيت، فهي شاملة لعليّ.
الثانية: في حرب خيبر، فقد أعطى النبي الراية لأبي بكر ليقود جيش المسلمين لفتح الحصن، فذهب وعاد منهزماً، وفي اليوم الثاني أعطى الراية لعمر، فذهب وعاد منهزماً، فقيل لرسول الله في المساء عاد عمر مهزوماً، فقال الرسول: لأعطينّ الراية غداً رجلًا يحبّ الله ورسولَه ويحبّه الله ورسولُه كرّار غير فرّار يفتح الله في يديه، وكنّا جميعاً نترقّب لمن ستُعطى الراية، ولم يكن أحدنا يتوقّع أن تُعطى لعليّ لأنّه كان مصاباً بالرّمد في عينيه، ولم يكن يقدر على فتحهما أبداً. وتساءل الجميع من هو هذا الشخص الذي سيعطيه رسول الله الراية غداً؟ وفي صباح اليوم التالي، طلب رسول الله أن يؤتى بعليّ، فقيل له: إنّه أرمد ولا يقدر على فتح عينيه، فقال: آتوني به! فأحضروه له، فوضع النبيّ على عيني عليّ شيئاً من لعابه وفركهما، وقال اذهب واحمل! فذهب علي وفتح خيبر. فهذه فضيلة لعليّ ليست لأحد سواه.
وقد نقل العلّامة في «منهاج اليقين» عشر فضائل لعليّ، لم يشاركه فيها أحد من الصحابة، وذكر هذه منها.
الثالثة: حين قال رسول الله في حقّه: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، بمعنى أنّك وصيّي ووليّي كما كان هارون وصيّاً ووليّاً لموسى، إلّا أنّك لست بنبيّ.
فقد صاحب عليّ النبيّ في جميع غزواته، وفي إحدى هذه الغزوات وهي غزوة تبوك عندما قرّر النبي عدم أخذ عليّ معه‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 110
قال له: ابق في المدينة! وتولَّ أمر المسلمين فيها مدّة غيابي إلى أن نعود من الغزوة. فخرج الرسول من المدينة وتوقّف على بعد فرسخ، فبدأ المنافقون يشيعون هنا وهناك، أنّ الرسول قد غضب على عليٍّ، ولم يرض بأن يذهب معه فتركه في المدينة لذلك، وقالوا أيضاً بأنّ الرسول قد صحب معه الشجعان، وعهد إلى عليّ أن يتولى أمر النساء والأطفال ويتولى الحفاظ على المدينة.
عند ذلك ذهب أمير المؤمنين إلى حيث توقف رسول الله، وقال له: يا رسول الله! هل رأيت منّي سوءاً فلم تصحبني معك في هذه الغزوة بسببه؟ فقال له الرسول: لا والله! أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي، فمنزلتك عندي كمنزلة هارون من موسى، أي أنّ لك مقام الوصاية، إلا أنّ الفرق بينك وبين هارون؛ هو أنّ هارون كان لديه مقام النبوّة بعد النبي موسى، أما أنت فلست بنبيّ، ولكنّك مثلي من جميع الجهات الأخرى، والآن يجب أن يبقى أحدنا في المدينة؛ إمّا أنت أو أنا. وقد نقل هذه الرواية كبار أهل السنّة.
فوضع المدينة ووضع المنافقين فيها كان حسّاساً بحيث أنّه كان ينبغي أن يبقى فيها أحد هذين الشخصين؛ إما النبيّ أو عليّ. و إلّا فمن الممكن أن يفسدها المنافقون عبر تحريك بعض القوى الأجنبيّة كسلطان الروم مثلًا أو غيره، خصوصاً أنّ هذه الحرب كانت ضدّ الروم. لذا فقد خلّف الرسول أمير المؤمنين في ذلك المكان، كي يكون بمثابة وجود نفس الرسول، وبما أنّ النبيّ كان يعلم بأنّه لن يراق دمٌ في هذه‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 111
الغزوة، فلم يكن بحاجة إلى شجاعة عليّ، لذا أبقاه في المدينة ولم يأخذه معه.
فقول رسول الله لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، منعني من سبّ عليّ، فلماذا أسبّ عليّاً إذاً؟
فقال له معاوية: أأنت سمعت هذا الكلام من النبيّ؟ قال: نعم! وتعكّر صفوه وخرج من مجلس معاوية.
فسعد أيضاً كان صاحب شخصيّة مرموقة، كيف يقول له معاوية لماذا لا تسبّ علياً لأجلي؟
وهذه الرواية مرويّة في كتاب «الكامل» لابن الأثير، وهو من كبار علماء السنة.
وعندما أراد سعد الخروج من الباب، ضرط له معاوية، فقال: اقعد حتّى تسمع جوابك! فجلس سعد.
                        قول معاوية لسعد لماذا لم تبايع علياً مع سماعك هذه الفضائل من النبي بحقه‏

فقال معاوية: والله ما كنتَ عندي قطّ ألعن مثل الآن! أنت الذي سمعت من النبيّ هذا الكلام .. لماذا لم تنصر عليّاً؟!
أنظر! يقول معاوية: لماذا لم تنصر عليّاً! والله لو سمعته من رسول الله لكنت خادماً لعليّ. معاوية كاذب في قوله، لكن حتّى الآن احتجاجه مع سعد كان صحيحاً، يقول له: أنا لا أقبل هذا الكلام، ولم أسمعه من النبيّ، أما أنت الذي تدّعي أنّك لا تسبّ عليّاً بسبب هذه الأمور، لماذا لم تنصره؟! هلّا نصرته!
فقال سعد: إنّي رأيت ريحاً مظلمة فقلت إخ إخ! (وهي‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 112
تقال للإبل كي تبرك) فأنخت راحلتي حتّى مرّت الريح فسرت. وهذا كناية عن حرب الجمل وصفّين والنهروان التي هزّت الدنيا وقتئذٍ ولم أرد الاشتراك في هذه الحروب فأنخت راحلتي، وعندما انتهت هذه العاصفة أكملت طريقي.
فقال له معاوية: ليس إخ في القرآن، بل الموجود في القرآن: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا (ولم ترض بالصلح واستمرت في ظلمها واعتدائها) عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [1]، أين كنت أنت يا سعد؛ أكنت مع العادلة على الباغية أم كنت مع الباغية على العادلة؟ فلم يحر سعد جواباً، ثمّ قال لمعاوية: أقسم بالله أنّي لأجدر منك بالمكان الذي تجلس فيه، فأجابه معاوية: إنّ قومك لم يرضوا أن يجعلوك والياً عليهم، والآن تدّعي هذا المقام؟! ذكر العلّامة الطهراني في كتابه معرفة الإمام، ج 10، ص 136 إلى 157، قصّة سعد بن أبي وقاص في تخلّفه عن بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ولقائه بمعاوية بشكل مفصّل، ومع ذكر المصادر.
حسناً، تفضّل يا سعد! أنت الذي جلست جانباً وتركت أمير المؤمنين يخوض هذه الحروب وحده، ويواجه الأمور التي جرت عليه، ألم يكن وجودك في معسكر أمير المؤمنين تقوية لجيشه؟ لقد قُتل في حرب صفّين الكبار من المهاجرين والأنصار مثل أُوَيس وعمار بن ياسر. عجيب .. لو كنت أتيت وشاركت في هذه الحرب، ألم تكن مشاركتك موجبةً لتقوية جيش علي؟! فأنت فاتح إيران، وكنت قائد فرقة الرماة في‏
__________________________________________________
 [1] سورة الحجرات، من الآية 9.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 113
جيش الرسول، فلو أتيت وتوليت قيادة الرماة في الجيش، ألم تكن قد فعلت شيئاً؟ ولو شاركت فعلًا فهل كانت الأمور قد جرت كما جرت؟ لو شاركت لكان من الممكن أن لا تصل الأمور إلى هذا الحدّ الذي وصلت إليه! لعّله لم يكن يحصل أيّ انكسار في جيش عليّ، ولعلّ مسألة الحَكَمين لم تكن لتحصل، ولم تكن خدع معاوية لتنجح هذا النجاح. إذنْ لا ينبغي للإنسان أن يقول: أجلس جانباً ولا دخل لي. ففي بعض الأوقات يعتبر الجلوس جانباً موجباً للضرر والانكسار، أي إنّ الاحتياط في بعض الأحيان يكون خلاف الاحتياط. فدماء المسلمين والشيعة كانت مباحة لهؤلاء، فشيعة الكوفة الذين كان يخاطبهم أمير المؤمنين ويقول لهم: قوموا إلى الجهاد! قوموا إلى الجهاد والدفاع عن الحقّ! أصبحوا بعده أذلّاء بحيث قُتل جميع رموزهم .. وشُرّدوا، ووصل الأمر ببعضهم أن يُجعل في أساس البناء وهو حيّ .. ويبنى عليه، وصار يكفي أن يُتّهم الإنسان بأنّه يتشيّع لأمير المؤمنين كيّ يُهدر دمه، أي إنّ المسألة قد وصلت إلى مرحلة لا يمكن لأيّ إنسان في الدنيا أن يتجرّأ على القول بأنّه شيعي، فقوله هذا كان كافياً لهدر دمه.
لماذا حصل هذا الأمر؟ إنّما صار ذلك لأجل الاحتياط. إنّ الاحتياط في محلّه جيّد، لكن نفس هذا الاحتياط إذا كان في غير محلّه فهو غلط واشتباه. فإذا أردنا الوصول إلى ماء طاهر للوضوء، فهل نضيع الوقت في البحث عن الماء حتّى تغرب الشمس وتصير صلاتنا قضاء، لا يا أخي .. لا تحتاج المسألة إلى هذا القدر من البحث، يكفي الوضوء بهذا الماء الذي أخبروك بأنّه طاهر ظاهراً حتّى لا تفوتك الصلاة.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 114
إلى هنا تمّ كلام المرحوم الوالد رضوان الله عليه.
يقول الحقير: هذا الكلام يحتوي على مطالب عميقة جدّاً ومتطابقة مع الأصول النقليّة والموازين العقليّة.
                        بطلان السكوت في مقابل الظلم بناء على الموازين العقليّة

أما من المنظار العقلي:
فالأصل الأوّلي في الموازين العقليّة ومستقلّاتها بشكل عام هو اتّباع الحقّ، وحول محوره تدور جميع أمور الإنسان وحياته وحركاته وسكناته، وهو الحاكم في كيفيّة إجراء العلاقات الاجتماعيّة والفرديّة والاشتغال بأمور الدنيا والآخرة وإيصال النفوس المستعدّة إلى مرتبة الفعليّة والكمال. فالحقّ محور جميع الاستنباطات العقليّة والقوانين الفطريّة. وجميع المرتكزات الفطريّة للإنسان، ورأس المال المهمّ الذي وهبه الله له وجعله قائماً في ضميره، وفطرته إنّما تدور حول هذا المحور. فمثلًا نرى لزوم الصدق وقبح الكذب، وحرمته عقلًا مبنيّة على أساس مطابقة القول للواقع أو عدمها، وبعبارة أخرى انطباق الكلام على تحقّق أمر خارجيّ أو عدم تحقّقه وعدم انطباق الكلام على هذين الأصلين سيكون هو المعيار للصدق والكذب. والحقّ هنا بمعنى نفس وجود تلك القضيّة الخارجيّة أو عدم وجودها، مع غضّ النظر عمّا تمثله القضيّة الخارجيّة من قيمة في نفسها.
فالصادق هو الشخص الذي يتطابق كلامه مع المحكي الخارجي، والكاذب هو الشخص الذي لا يتطابق كلامه مع محكيّه.
أو مثلًا الحكم بحرمة التعدّي على المال أو العرض أو الروح إنّما هو على أساس عدم انطباق هذه الأفعال على هذا الأصل، لأنّ تسلّط الإنسان على ماله وعرضه وروحه من الأصول الأوليّة والبديهيّة لحفظ واستمرار حياة البشر، والله تعالى قد أعطى الإنسان هذا الاختيار ووهبه له، واعتبر أنّ التعدّي على هذا المقدار من الحدود يتنافى مع حريّة الاختيار والتسلّط
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 115
المعطاة له، ومن الطبيعي أنّ غير الملتزمين بالدين الإسلامي المبين من سائر الفرق والملل يؤمنون بهذا المبدأ أيضاً ويعتبرونه الأساس في المحافظة على استمرار الحياة البشريّة. وتخطّي هذا القانون بأيّ شكل من الأشكال يعتبر مرفوضاً وممنوعاً عندهم.
وكذلك جميع قضايا المستقلّات العقليّة قائمة على أساس مطابقتها وموافقتها للحقّ. وعليه، فبمقتضى البرهان العقلي والانقياد للفطرة، تكون مسألة الحقّانيّة واضحة وجليّة للإنسان بحيث يجب على النفس الإنسانيّة أن تجعل هذه المسألة نصب عينيها، وتكون مسؤولة عنها دائماً، لأنّ نفس إدراك الحقّ ووضوحه بدون مواجهة العقبات التي تمنع من تحقّقه، يتعارض مع أصالة وجوب بقاء الحياة البشريّة واستمرار الشروط المساعدة لترقّي الروح وتكامل النفس، ولن تحصل أيّ ثمرة لإدراك الحقّ هذا، تماماً كالمريض الذي يشعر بمرض في جسمه ولا يذهب إلى الطبيب لأخذ وصفة العلاج منه، ويجلس في منزله ليستفحل مرضه ويتفاقم، فإنّ من الطبيعي أن لا يكون نتيجة ذلك سوى موت هذا الإنسان وانعدامه.
                        بطلان السكوت في مقابل الظلم بناء على الموازين النقليّة

وأما قبح السكوت في وجه الظلم بناء على الموازين النقليّة؛ فهو ممّا لا يُحصى كثرة، فقد ذمّ الله تعالى في مواضع عديدة من القرآن الأشخاص الذين لم ينصروا الحقّ، فإّنهم وإن لم يكونوا من المواجهين للحقّ والمعاندين للأنبياء والمحاربين لهم، إلّا أنّهم سكتوا عن حالة الإجحاف والظلم والنفاق الذي كان يعمل به قومهم، ولم يردعوهم عن المنكر، ولم ينذروهم أو يبيّنوا لهم مواضع الانحراف عن شرائع رسلهم. فقد ورد في سورة المائدة الآية 62:
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ (أي من أهل الكتاب) يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ‏
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 116
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (ولا يزالون يعملون كذلك) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [1].
لماذا لم يتحرّك الربّانيّون والعلماء الإلهيّون وينهوا الناس عن قول الحرام وأكل المال الحرام؟ فهذا العمل قبيح جدّاً، وسيرتهم في السكوت وعدم إظهار الحقائق يعتبر أيضاً من الأعمال المنكرة وغير اللائقة.
إنّ كلمة «ربّاني» مشتقّة من الربّ وهو المربّي والهادي، فلذا يقال لله تعالى «ربّ» بملاحظة هذه الخصوصيّة، لأنّه خلق الخلق على أساس حكمته البالغة، وربّاهم بالعروج إليه والوصول إلى استعداداتهم الذاتيّة وكمالاتهم النفسيّة، و إلّا فمع الاقتصار على ملاحظة جانب الخالقيّة في الله تعالى دون ملاحظة استمرار نزول الفيض الموجب للكمال، فإطلاق لفظ الرب على الله غير صحيح.
يخاطب النبي موسى على نبيّنا وآله وعليه السلام فرعون بقوله:
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [2].
أي إنّ الله تعالى هو ذات مقدسة خلق الأشياء وأفاض على الماهيات وجوهها الكماليّة الأوليّة، ثمّ هداها نحو الكمالات المتوالية والمتعاقبة.
وكذلك قول النبي هود على نبيّنا وآله وعليه السلام:
مَا مِنْ دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [3].
أي إنّه لا يوجد أيّ مخلوق حيّ، إلّا وزمام أمور حياته وبقاؤها بيد
__________________________________________________
 [1] سورة المائدة، الآيتان 62 و 63.
 [2] سورة طه، من الآية 50.
 [3] سورة هود، من الآية 56.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 117
قدرته، ويسيّره ويهديه إلى نقطة كماله المقدّرة، وإنّ ربي دائماً يتحرّك على أساس صراط مستقيم وطريق متقن.
يقول المرحوم الحاج السبزواري رحمة الله عليه في منظومة الحكمة:
         أزمّةُ الأُمورِ طُرّاً بِيَدِهِ             وَالكُلُّ مُسْتَمِدَّةٌ مِنْ مَدَدِهِ [1]

فزمام كلّ الكائنات وما يطلق عليه لفظ موجود، بيد الإرادة الإلهيّة ومشيئته القاهرة والمطلقة، وجميع عالم الوجود مستمرّ ومستفيض من مدده.
وبناء عليه، فكلمة «ربّاني» تعني الشخص المتربّي والمنتسب إلى الله تعالى في تعلّمه للعلوم الإلهيّة وسلوكه في طريق التربية والقرب منه، وإدراكه لحقائق عالم التكوين ونظامه التشريعي. فيصير كلامه منبعثاً من حقيقة أمره تعالى، وتصرّفه ناشئاً من عالم القدس والإخلاص والصدق. فمثل هذا الشخص يكون أسوة ومثلًا أعلى لطالبي الحقّ ومريدي الكمال، في جميع سكناته وحركاته.
أمّا في هذه الآية فالمراد من كلمة «ربّانييّن» هم الأشخاص الذين لديهم فهم وإدراك وقدرة على التشخيص أكثر من عامّة الناس، ولديهم اطّلاع أكبر على المعارف الإلهيّة والقوانين الدينيّة. وقد ذمّهم الله تعالى فيها باعتبار أنّهم مع كونهم يمتلكون فهماً وإدراكاً وقدرة على تشخيص المطالب، والتمييز بين الحقّ والباطل ووضوح صلاح المجتمع وفساده عندهم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، جهل عامّة الناس وعدم اطّلاعهم على الحقائق، وورودهم في عالم الكثرات، وتوغّلهم في الشهوات وابتعادهم عن مسيرة الأولياء الإلهيين وإعمالهم اجتهاداتهم الخاصّة وإظهار الآراء الشيطانيّة والأهواء الباطلة، ومع ذلك لم يفعلوا شيئاً بأنّهم لماذا لم يتولّوا إصلاح‏
__________________________________________________
 [1] شرح المنظومة للملّا هادي السبزواري، ص 3.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 118
المجتمع ويبيّنوا الحقائق بالنصح والموعظة وينهوا عن المنكر ويأمروا بالمعروف ويدفعوا المفاسد الاجتماعيّة، ولأنّهم تركوا الناس وشأنهم، واكتفوا بالاهتمام بشؤونهم الشخصيّة، ونأوا بأنفسهم عمّا يجري في المجتمع من وقائع ومجريات، وكأنّهم لا يتحمّلون شيئاً من المسؤوليّات في مواجهة المسائل الاجتماعيّة الفاسدة والمفسدة، بل جلسوا ينظرون إلى الاختلاف الحاصل بين الناس وارتضوا من أنفسهم أن يبتعدوا عن المجتمع وأن لا يهتمّوا بغير أنفسهم، فعملهم هذا مناقض تماماً لفلسفة بعثة الأنبياء وإنزال الكتب والدعوة إلى طريق الحقّ والصراط المستقيم.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 120
                        المجلس الخامس: وجوب تحصيل شروط الأمر المعروف والنهي عن المنكر

                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 122
بسم الله الرحمن الرحيم‏
الحمد لله ربِّ العالمين‏
والصلاةُ على خيرة الله المنتجبين محمَّدٍ وآلِهِ الطاهِرِين‏
واللّعنةُ على أعدائِهِم أجمعين‏
                        دعوة الأنبياء قائمة على أساس الحثّ على الأمور المطلوبة والنهي عن الظلم والفساد

لقد أُرسل الأنبياء ورسل الله جميعاً لمواجهة السنن والبدع المخالفة للتعاليم الإلهيّة، ومحاربة الظلم والفساد، وجاؤوا ببرنامج لتعليم الناس وتربيتهم، وكانوا جميعاً يصرّحون لأممهم بهدفهم هذا.
فقد ورد في خطاب الله تعالى لرسوله الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [1].
أي إنّنا لم نرسلك يا رسول الله إلا لكي تبشّر بالنعيم الإلهي والفوز بالدرجات الأخرويّة، والتحذير من غضب الحق تعالى وسخطه، الذي يُستحقّ عند المعصية والتمرّد على تعاليمه في عالم الدنيا، وقل لهم يا رسولنا: إنّي لا أريد منكم أيّ أجر، فإنّ أجري وثوابي هو أن تتحرّكوا في هذا الطريق المستقيم نحو الله تعالى.
__________________________________________________
 [1] سورة الفرقان، الآيتان 56 و 57.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 123
بمعنى أنّ نفس اهتداء المجتمع وخروجه من حبائل الأنانيّة والتكبّر والذاتيّة والظلم هو ما جئت لأجله، ولا هدف لي سواه، وهو نتيجة تعبي وجهدي في تبليغ هذه الرسالة، ولا أطلب غير هذا أبداً. وقال في سورة يس، الآيتان 20 و 21:
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ.
وهكذا، نرى أنّ الكثير من الأنبياء؛ كهود ويونس وغيرهم ... ذُكروا في القرآن بهذه الخصوصيّة، وأنّهم لم يأتوا إلّا لهداية الأمّة إلى الصراط المستقيم وإرشادهم إلى الطريق نحو مرضاة الله تعالى والابتعاد عن الباطل، والخروج من وادي النفس الأمّارة بالسوء. وبشكل عام، فنفس إرسال الأنبياء لم يكن إلّا لأجل تربية البشر وهدايتهم نحو الكمال، ولن تحصل هذه المهمّة إلا بتحقّق أمرين:
الأوّل: هداية الناس وحثّهم على الإتيان ببعض الأعمال التي لها أثر بالغ في تربية النفوس كالأمر بالواجبات والنهيّ عن المحرّمات.
والثاني: تحذير الناس ونهيهم عن الأفعال التي تعطي نتائج عكس النتائج التي في الأمر الأوّل، أي التي تهدم النفوس وتعطّل القوى وتسدّ الطريق أمام حركة الإنسان. وبناء عليه، فإذا لم يحصل تحرّك على مستوى الأمر الثاني في هذه الحركة التربويّة وفي استقامة نظام التشريع، فمن الطبيعي أن تبقى الرسالة غير تامّة، وستذهب أعمال الأنبياء هدراً. ولذا نرى في الآيات القرآنية تركيزاً كثيراً على هذه النقطة، بل حتى غير الأنبياء من الناس مكلّفون أيضاً بأداء هذه الوظيفة، كما ورد في الآية السابقة؛ حيث ذمّ الله تعالى علماء الأمّة الذين يسكتون على المخالفات وعلى الأفعال الباطلة، وكما ورد في الآية الشريفة 104 من سورة آل عمران:
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 124
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*.
وكذلك آية النفر:
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ* [1].
وفي القرآن الكريم ما شاء الله من الآيات المتعلّقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث يمكن اعتبار هذين الأصلين من الفروع الدينيّة المسلّمة.
وأمّا على صعيد الروايات، فيجب القول: بأنّ المأثور عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، حول إنكار العمل الفاسد والنهي عن المنكر والتبرّي من المخالفين للشرع والمتهتّكين، وإظهار عدم الرضى من مرتكبي الأعمال القبيحة، بلغ حدّاً ربما أخرجه عن الإحصاء.
                        رواية سيد الشهداء عليه السلام حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ففي الكتاب الشريف «تحف العقول» يروي الحسن بن علي بن حسين ابن شعبة عن الإمام الحسين عليه السلام:
قال ويُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام:
اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار (وعلماء أهل الكتاب)، إذ يقول: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ [2]، وقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إلى قوله لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [3] وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا
__________________________________________________
 [1] سورة التوبة، من الآية 122.
 [2] سورة المائدة، من الآية 63.
 [3] سورة المائدة، الآيتان 78 و 79.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 125
يرون من الظَلَمة (والحكام المستكبرين) الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك، (لسببين: الأوّل) رغبة فيما كانوا ينالون منهم (من المنافع الدنيويّة والوصول إلى الميول الشهوانيّة والأهواء النفسانيّة التي كان الحكّام يكرمونهم بها) و (الثاني) رهبة ممّا يحذرون (من التهديد والتوبيخ وتجنّباً للتضييق عليهم)، والله يقول: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [1] وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [2].
فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت، استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها؛ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام (وتحكيم للمباني الإسلاميّة وترجمة لتعاليمه)، مع ردّ المظالم (وجميع التعدّيات والأعمال الجائرة والهيمنة على الناس بالباطل، فإنّ هذه الأمور يمكن أن تترك أثراً سيّئاً في عمليّة سوق المجتمع نحو الصلاح والرشد والسعادة) ومخالفة الظالم وقسمة الفي‏ء والغنائم (بين جميع أفراد الأمّة قسمة عادلة، والعمل على صرفها في المصالح العامّة للمجتمع دون المصالح الفرديّة الخاصّة، ودون صرفها على طائفة خاصّة في المجتمع)، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها (وفي المواضع التي أمر الله بها) [3].
                        مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلام أمير المؤمنين عليه السلام‏

وكذلك ينقل ابن جرير الطبري في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه: سمعت علياً عليه السلام يقول يوم لقينا جيش معاوية في صفّين:
أيّها المؤمنون! إّنه من رأى عدواناً يُعمل به ومنكراً يُدعى إليه فأنكره‏
__________________________________________________
 [1] سورة المائدة، من الآية 44.
 [2] سورة التوبة، من الآية 71.
 [3] تحف العقول، ص 237.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 126
بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أُجر وهو أفضل من صاحبه، ومن (لم يكتف بإنكار هذه الأفعال بقلبه ولسانه فقط بل أقدم عمليّاً على منعه و) أنكره بالسيف (وحارب شياطين الكفر والفساد وأعداء الله تعالى) لتكون كلمة الله العليا (ويكون الطريق إليه والصعود إلى مراتب العزّة والشرف وتكامل النفوس مفتوحاً) وكلمة الظالمين السفلى (وكذا سدّ مسير الانحراف والانحطاط إلى عالم البهيميّة والشهوات وإلى عالم الكثرات)، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى (وحصل على السعادة الأبديّة) وقام على الطريق ونوّر في قلبه اليقين [1].
                        العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبنيّ على المعرفة الدقيقة لهذين الأصلين‏

وطبعاً من الواضح أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبنيّة على معرفة صحيحة ودقيقة لظاهرتي المعروف والمنكر، وإن كان يُلاحظ على الكثير ممّن تعرض لهذه الفريضة وخاض فيها، أنّ لديه نقصاً في أصل المعرفة أو ضعفاً في التطبيق. لأنّ نفس مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها مراتب متفاوتة سواء في مرحلة معرفة المعروف والمنكر أم في مرحلة تطبيقهما. وبعبارة أخرى تُعتبر هذه المسألة من المقولات المشكّكة، فهناك تشكيك في مفهومي المعروف والمنكر، وتشكيك في مراحل تطبيقهما أيضاً.
ومن الطبيعي أنّ فهم الأشخاص وسعة اطّلاعهم واختلاف مراتب نفوسهم، تتفاوت في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإدراك المفاهيم البديهيّة والساذجة لهاتين المقولتين، وإن كان متيسّراً للأشخاص العادييّن، إلّا أنّ الوصول إلى المراتب العالية للمعروف والاطّلاع على دقائق المنكر وظرائفه ليس كذلك.
لذا يجب على جميع أفراد المجتمع أن يتعاملوا مع هاتين المسألتين‏
__________________________________________________
 [1] تاريخ الطبري، ج 7، ص 298.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 127
المهمّتين والأساسيّتين في بناء المجتمع والمحافظة عليه، على أساس الأصول الشرعيّة المحرزة والمباني المتقنة لمدرسة التوحيد، كما أنّ التصدّي لمعالجة المسائل الغامضة لهذين الأصلين منحصر بالأشخاص المنزّهين عن الأهواء النفسانيّة، وأصحاب القلوب المبرّأة من تشويش عالم الكثرة، والبعيدين عن التوغل في تجاذبات النفس الأمّارة بالسوء؛ والمراد بهؤلاء الأشخاص علماء الشرع المبين والربّانيّون والإلهيّون، العارفون بمباني الإسلام الواقعي وتعاليمه. من هنا، لا بدّ لكلّ فرد من معرفة قيمة ذاته ونفسه، وأن لا يتعدّى حدود فهمه وإدراكه، ومقدار سعة علومه وأخلاقه.
                        اشتراط الإمام الصادق توفّر المعرفة والقدرة في إجراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ومن المناسب هنا أن نذكر رواية للإمام الصادق عليه السلام في بيانه للمطالب السابقة؛ حيث يروي المرحوم الكليني في كتاب الكافي عن علي ابن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:
وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الأمّة جميعاً؟ فقال: لا، فقيل له: ولِمَ؟ قال: إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلًا إلى أيٍّ من أيٍّ، يقول من الحقّ إلى الباطل (فهو لا يملك الإدراك الصحيح ولا يقدر على الفهم الواقعي لمحتوى هذين الأصلين، وكثيراً ما يريد أن يُظهر الحقّ ويُبيّنه، لكنّه يمزجه بالباطل من حيث لا يشعر). والدليل على ذلك كتاب الله عزّ وجلّ، قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [1] فهذا خاصٌّ غير عامّ، كما قال الله عزّ وجلّ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ* [2] ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كلّ‏
__________________________________________________
 [1] سورة آل عمران، من الآية 104.
 [2] سورة الأعراف، من الآية 159.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 128
قومه، وهم يومئذٍ أممٌ مختلفة، والأمّة واحدة فصاعداً، كما قال الله عزّ وجلّ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ [1] يقول: مطيعاً لله عزّ وجلّ. وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج (وعليه ففي زمان السكوت والقعود لا يكون الشخص العالم واجداً للشرائط المطلوبة) إذا كان لا قوّة له ولا عذر ولا طاعة.
قال مسعدة: وسمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: وسُئل عن الحديث الذي جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، ما معناه؟ قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته (الكاملة بأطراف القضيّة وجوانبها وعلمه بحقيقة الدعوة واطّلاعه على واقعها)، وهو مع ذلك يقبل منه (هذا الكلام ويسمع موعظته)، وإلا فلا [2].
يستفاد من هذا الحديث بأنّه لا بدّ من رعاية هذين الأمرين في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
                        الشرط الأول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو معرفة المأمور به والمنهي عنه‏

الأمر الأول: لا يمكن لأيّ شخص، مهما كانت موقعيّته وعلومه وسعة اطّلاعه على الأحكام الشرعيّة، أن يتصدّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعتبر نفسه مطلق العنان فيهما دون التوجّه إلى حدوده الخاصّة ووظيفته في هذه المسألة. بل يجب عليه أن يحيط بشروط الأمر والنهي، والتي من جملتها بل من أهمّها معرفة الآمر بالمأمور به والمنهي عنه. وإلّا فكثيراً ما يكون أمره موجباً للمفسدة أو لتبعات لا تُحمد عقباها، وسوف تؤدّي إلى أن يفقد الطرف المقابل الاستعداد الموجود عنده لتلقّي الحقّ، كما حصل لذاك المسلم الذي ألزم جاره النصراني باعتناق الإسلام،
__________________________________________________
 [1] سورة النحل، من الآية 120.
 [2] فروع الكافي، ج 5، ص 59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث 16.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 129
ثمّ أخذ بيده إلى المسجد قبل موعد أذان الصبح بساعة، وبقيا معاً بعد صلاة الصبح يقرآن القرآن والأذكار ويصلّيان النوافل حتّى حان وقت صلاة الظهر، وبعد أداء الصلاة حثّه على البقاء في المسجد للاستفادة من أنواره وروحانيّته حتّى موعد صلاة العصر، وهكذا استمرا بقراءة القرآن والأذكار والأدعية حتّى موعد صلاة المغرب، وكذلك حتّى حان موعد صلاة العشاء، وبعد ذلك عاد إلى منزله بجسم متعب وأعصاب منهارة ونفسيّة متألّمة وخُلق ضيّق. وفي صباح اليوم التالي أتاه جاره قبل أذان الصبح بساعة ليصحبه في الذهاب إلى المسجد، لكنّ هذا الجار الذي أسلم لتوّه، ولم تكن نفسه قد استراحت من أعمال اليوم السابق وعذاب تكاليفه، أجاب جاره من وراء الباب: عد من حيث أتيت، فإنّ دينكم هذا يلائم من لا عمل له، وهو موجب لفساد حياة الإنسان، وتمزيق نظام العلاقة العائليّة وضرورات الحياة [1].
إن الكلام في هذا الباب وإن كان كثيراً ومتشعّباً وسوف نتكلّم بشكل وافٍ حول هذا الموضوع عندما يحين الوقت المناسب، بحول الله وقوته لكن نشير هنا إلى بعض المصاديق والموارد المُبتلى بها في مجتمعنا، وللأسف.
                        من المصاديق البارزة للإخلال بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مسألة الحج‏

فمن المصاديق البارزة جدّاً والواضحة لهذه المسألة هي فريضة الحجّ المؤكّد عليها كثيراً.
                        وصف أمير المؤمنين عليه السلام للحج وبيت الله‏

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حول فريضة الحجّ وعلّتها وفلسفتها الشرعيّة والفقهيّة:
فرض عليكم حجّ بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام، جعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزّته (وإقراراً بعزّته وبوحدانيّته في الوجود وآثار الوجود
__________________________________________________
 [1] أنظر: وسائل الشيعة، جزء 16، صفحة 160، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 14، حديث 3، وحديث 9.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 130
وجلواته). واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يُحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعد مغفرته. جعله سبحانه وتعالى للإسلام عَلَماً، والعائذين حَرَماً. فرض حجّه وأوجب حقّه وكتب عليكم وِفادته؛ فقال سبحانه وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [1] [2].
                        تارك الحج يبعث إمّا يهودياً أو نصرانياً

وقد وصلت أهمية الحجّ إلى حدّ أنّ العديد من الروايات تصرّح بأنّ تارك الحجّ القادر عليه، خارج عن شريعة خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّه يُبعث على دين اليهود أو النصارى.
فقد نقل الشيخ الصدوق رحمة الله عليه في كتاب الفقيه بإسناده إلى الإمام الصادق عليه السلام عن أجداده: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في وصيته لأمير المؤمنين عليه السلام:
يا علي! كفر بالله العظيم من هذه الأمّة عشرة: .. (عدّدهم له إلى أن وصل إلى تارك الحجّ فقال:) ومن وجد سعةً فمات ولم يحجّ.
 (إلى أن قال) يا علي! تارك الحجّ وهو مستطيع كافر، يقول الله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، يا علي! من سوّف الحجّ حتّى يموت بعثه الله يوم القيامة يهوديّاً أو نصرانيّاً» [3].
                        من المستحب المؤكّد على الأشخاص المتمكّنين أن يحجّوا في كل عام‏

وورد في بعض الروايات أنّه يستحبّ استحباباً مؤكّداً للمستطيع أن يحجّ في كلّ سنة. والحجّ الواجب على جميع الناس وإن كان مرة واحدة في‏
__________________________________________________
 [1] سورة آل عمران، من الآية 97.
 [2] نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 1، ص 27، الخطبة الأولى.
 [3] من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 356 و 368.
                        أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 131
العمر، إلّا أنّ الآية الشريفة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، تعتبر شاملة لجميع المتمكّنين من الذهاب إلى الحجّ في كلّ سنة.
ينقل المرحوم الكليني في كتاب الكافي عن ابن جرير القمّي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
الحجّ فرض على أهل الجِدَة (المتمكّنين) في كلّ عام [1].
وفي رواية أخرى يرويها علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام أنّه قال:
إنّ الله عزّ وجلّ فرض الحجّ على أهل الجِدَة (المستطيعين) في كلّ عام، وذلك قوله عزّ وجلّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ قال: قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: لا، ولكن من (أنكر كلام الله تعالى و) قال: ليس هذا هكذا فقد كفر [2].
نعم! يجب الالتفات إلى أنّ الفرض والوجوب المذكور في هذه الروايات بالنسبة لمن وُفِّق للذهاب إلى الحجِّ مرة واحدة، ليس المراد منه الإلزام الحتمي والواجب الذي يستحقّ تاركه العقاب، بل المراد به بيان شدّة الاهتمام والاستحباب الزائد في ذلك، بحيث يمكن القول بأنّه قريب جداً من اللزوم والوجوب، لا أنّه واجب واقعاً بالوجوب المقابل للمستحب والحرام.
                        من وظائف الحاكم الإسلامي تسهيل ذهاب المسلمين إلى الحج‏

تحسن الإشارة والتنبيه إلى أنّ اهتمام الشارع المقدّس بإقامة فريضة الحجّ وشدّة عنايته الخاصّة بهذا التكليف الإلهي والمأدبة الروحانيّة، أنّه‏
__________________________________________________
 [1] الكافي، ج 4، ص 266، حديث 8.
 [2] الكافي، ج 4، ص 265، حديث 5.
                        أ_____!

Tidak ada komentar:

Posting Komentar