Pages

Selasa, 18 Oktober 2011

Allamah Thaba'thabai "RAHASIA-RAHASIA MALAKUT" jilid 2 p 137-217

                        الروح المجرد، ص: 151
الرابعة فأضعه الآن نصب عينيك؟!
و على كلّ حال، فقد تشرّفنا في تلك الأثناء لمدّة عشرة أيّام بالذهاب إلى الكاظميّة و سامرّاء في سيّارة بعض الرفقاء من أهالي الكاظميّة، و ذلك في معيّة سماحة الحاجّ السيّد هاشم و الحاجّ محمّد علي خلف زاده، حيث عدنا إلى الكاظميّة بعد زيارة البقعة المباركة لسامرّاء، فحللنا ضيوفاً في منزل ذلك الرفيق و الصديق صاحب السيّارة: الحاجّ أبو أحمد عبد الجليل محيي. و كان الرفقاء من بغداد و الكاظميّة، و من بينهم سماحة آية الله الحاجّ السيّد هادي التبريزيّ يأتون في الليالي إلى محضر السيّد ثمّ يعودون إلى منازلهم بعد ساعة من الاستفادة من محضره بعد تناول طعام العشاء.
و كانت الموائد في هذه الضيافات تحوي أنواع الأطعمة اللذيذة من الدجاج و السمك و مشهِّياتها، لكنّ السيّد كان يكتفي بلُقيمات من الخبز و ورق الفجل ممّا هو أمامه على المائدة، و لم يجرؤ أحد- بعد أن اطّلعوا على حاله- على مجاملته و دعوته لأكل ما لذَّ وطاب؛ و كان الرفقاء يتفرّقون بعد العشاء مباشرة.
و كان السيّد يستيقظ بعد نومه بساعتين أو ثلاث فينشغل بنفسه إلى طلوع الفجر، ثمّ يتشرّف بعد أداء الفريضة إلى الحرم مشياً على الأقدام مع أ نّ المسافة لم تكن يسيرة، فقد كان منزل الحاجّ عبد الجليل يقع في أوائل شارع مسجد براثا و هو من النواحي الجديدة الملحقة بالكاظميّة.
و لم تحوِ هذه المجالس شيئاً غير ذكر الله و المطالب التوحيديّة، و لم يكن الكلام ليدور في مجالس السيّد عموماً عن الدنيا و أوضاعها و عن العمل و الكسب، فما كان هناك هو التوحيد لا شي‏ء سواه.
ثمّ إنّنا عدنا بعد إتمام فترة السفر بسيّارة المضيِّف تلك إلى كربلاء المقدّسة في معيّة السيّد الحدّاد.
                        الروح المجرد، ص: 152
نعم، لقد كان سفري هذا بعد سفر السيّد إلى بيت الله الحرام، فقد حجّ في شهر ذي الحجّة الحرام 1384 ه-. ق، ثمّ تشرّف الحقير في شهرَي رجب و شعبان بالذهاب إلى أعتابه المباركة، لذا فقد كانت معظم أسئلة الحقير للسيّد حول سفره إلى الحجّ، كما أنّه كان يتطوّع بذكر بعض الامور عن سفره.
و كان من جملة الأسئلة: كيف قُمتم بأعمال الحجّ؟ و كيف طُفتم؟ و كيف بدأتم من الحجر الأسود و عددتم الأشواط السبعة؟ و هكذا الأمر في باقي الأعمال مع الحال و الوضع الذي تمتلكونه بحيث تنسون معه بعض ضروريّات الحياة و يعسر عليكم معه الحساب و العدد، و لا تميّزون معه اليد اليمنى عن اليسرى؟!
أجاب: كان ذلك يتّضح لي تلقائيّاً فيكون عملي تبعاً له. فقد دخلتُ المسجد الحرام مثلًا فعرفت ركن الحجر الأسود بدون أن يدلّني عليه أحد، و علمت أنّه ينبغي أن أبدأ الطواف منه، فبدأتُ من هناك، و بدون أن أعدّ الأشواط، فقد كان كلّ شوط مشخّصاً لي، ثمّ انتهى الطواف تلقائيّاً في الشوط الأخير فخرجتُ من المطاف. و هكذا الأمر في محلّ الصلاة خلف مقام النبيّ إبراهيم على نبيِّنا و آله و عليه السلام، و هكذا الأمر في السعي و التقصير.
و قال: لقد كنتُ و جميع الرفقاء الذين سافرتُ بمعيّتهم نقضي أغلب أوقاتنا ليلًا و نهاراً في المسجد الحرام، و كان منظر الطواف و بيت الله الحرام قد شدّني إليه و أعجبني كثيراً و قد بقيت مشغوفاً به.
و كان مسجد الخَيف في أرض منى هو الآخر مثيراً للإعجاب، و كنّا نقضي أغلب أوقاتنا في أيّام التشريق هناك، و كانت قصّة التوحيد تتجلّى في جميع مظاهر الحجّ و أعماله، و خاصّة في المسجد الحرام و مسجد
                        الروح المجرد، ص: 153
الخيف.
                        ورود آية الله الزنجانيّ الفهريّ في مسجد الخيف ولقاؤه بالسيّد الحدّاد

ثمّ قال: دخلتُ ليلة مع الرفقاء إلى مسجد الخيف فرأيت الحاجّ السيّد أحمد الزنجانيّ [1] مع جميع الرفقاء الطهرانيّين و الإيرانيّين جالسين حول بعضهم، و كان متأثّراً جدّاً من وضع طهارة و نجاسة الحجّاج و المعابر و يبدو أنّه كان قد نضح على ملابسه بعض تلك المياه عند دخوله إلى مسجد الخيف، فكان متأثّراً و منقلب الحال إلى حدّ كبير؛ و كان يقول: يا الله، يا إلهي! نريد أن نصلّي ركعتين في مسجدك على طهارة، فانظر هل يدعنا هؤلاء الناس و هؤلاء القوم نفعل ذلك بهذا الوضع و هذه الكيفيّة؟!
فنهرتُه و قلتُ: لقد ذهب أحد المريدين من عند استاذه إلى أحد الأجلّاء، فقال له ذلك الرجل الجليل: ما علّمكم استاذكم؟!
قال المريد: علمنا استاذنا الالتزام بالطاعات و ترك الذنوب.
فقال ذلك الرجل الجليل: تلك مجوسيّة محضة؛ هلّا أمركم بالتبتّل إلى الله و التوجّه إليه برفض ما سواه؟!
فيا سيّدي! لماذا تُغيِّرون دين الله؟ و لِمَ تُدخلون الشريعة في المتاهات و التعقيدات؟ لماذا تقطعون الناس عن الله حين تسوقونهم إلى‏
__________________________________________________
1- يقصد سماحة آية الله الحاجّ السيّد أحمد الفهريّ الزنجانيّ دامت بركاته، و هو من التلامذة الأخيرين للمرحوم القاضي و من مريدي المرحوم الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ، و هو رجل فاضل و عالم فاهم من الساعين في ترويج الدين. و قد انشغل بعد رجوعه من النجف مدّة في التدريس و إقامة الجماعة و تبليغ الأحكام في المسجد الجامع لباختران، ثمّ في طهران، ثمّ توجّه في زمن الثورة الإسلاميّة في إيران بطلب من القائد الكبير الفقيد إلى دمشق فاشتغل بإقامة الشعائر الدينيّة. و للحقير معه علاقة و معرفة و صداقة قديمة، و قد التقى الحقير معه في منى خلال سفره الأخير إلى بيت الله الحرام، ثمّ التقيت به مرّة في الحرم المطهّر لمشهد المقدّسة، فدعا الحقير في كلتا المرّتين إلى الشام للزيارة و تكفّل بإزالة موانع السفر بنفسه، و للأسف لم يحالفني التوفيق للتشرّف لإجابة دعوة سماحته.
                        الروح المجرد، ص: 154
أعمالهم دون التوجّه إليه سبحانه؟
أوَ لم يكن دين رسول الله دين السهولة و اليسر؟! أو لم يقل: بُعِثْتُ على شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ سَهْلَةٍ؟!
أوَ لم يقل رسول الله و الأئمّة إ نّ كلّ شي‏ء (بأيّ شكل و في أ يّ زمان و مكان) لك طاهر حتّى تعلم يقيناً أنّه نجس؟!
فلِمَ تعكسون الأمر فتقولون: كلّ شي‏ء نجس حتّى تعلم طهارته يقيناً؟!
لِمَ لا تَدَعون الناس و شأنهم؟ لماذا لا تَدَعون الناس مع نبيّهم و دينهم السهل السمح؟ و لِمَ تغلقون عليهم سبيل التوجّه و الانقطاع إلى الله؟ و لِمَ تقفلون هذا الباب المُشرع؟
إ نّ على كلّ الناس حين يحجّون، منذ إحرامهم في الميقات حتّى تقصيرهم و تقديمهم الهَدْي و إحلالهم من الإحرام، أن يكون توجّههم و التفاتهم إلى الله سبحانه، و عليهم أن لا يروا إلّا الله و لا يسمعوا غيره، و أن لا يغفلوا عن ذكر الله لحظة واحدة، و أن لا ينظروا إلى أعمالهم و سلوكهم نظراً استقلاليّاً، و أن يكون الله تعالى- لا العمل نفسه- هو المقصود في جميع الواجبات المنجزة من طواف و صلاة و غيرها. لابدّ أن يكون الفكر و النيّة متّجهَينِ إلى الله سبحانه، لا إلى صحّة العمل أو بطلانه؛ فهذه هي تلك المجوسيّة المحضة التي تخفي الإله الواحد و تبدّله بإلهَينِ للعمل الصالح و العمل السيّئ.
إنّكم تفصلون هؤلاء المساكين عن الله من الميقات إلى حين خروجهم من الإحرام، و تثيرون التشويشات من وقت الإحرام بتحذيراتكم المتتالية: ينبغي الحذر لئلّا يرشح شي‏ء إلى بدني و إلى إحرامي، و لئلّا ينحرف كتفي عن البيت و لئلّا أخرج من المطاف حال الطواف، و لئلّا
                        الروح المجرد، ص: 155
تبطل صلاتي أو يبطل طواف النساء الذي أطوفه فتصبح زوجتي عَلَيّ حراماً! إذ لم يرد شي‏ء من هذه الامور في الشريعة. هذه الصلاة العاديّة التي يصليها الناس صحيحة و طوافهم صحيح، و ها أنتم تبطلونها و تدمغونها بختم البطلان! و ها أنتم تعدّون نضح هذه المياه المشكوكة نجساً!
إ نّ حجّ الناس سيضيع كلّيّاً في هذه الحال، أي أ نّ الحاجّ الذي ينبغي أن يكون على الدوام مع الله سبحانه ابتداءً من الميقات إلى نهاية حجّه و عمله ثمّ يخرج بالتقصير و الحَلْق بالانقطاع إلى الله و الإحرام مع الله؛ هذا الحاجّ سينصرف عن الله من ابتداء الإحرام و سيبقى هذا الانصراف و التشويش و التزلزل لديه إلى نهاية العمل، و حين سينتهي من عمله سيتنفّس الصعداء و سيجد الله من جديد.
إ نّ جميع الاحتياطات التي تُجرى في هذه الموارد و تستدعي التوجّه إلى نفس العمل و الغفلة عن الله سبحانه خاطئة بأجمعها، فأين ورد أمثال هذه الاحتياطات المسبِّبة للعسر و الحَرَج في شريعة رسول الله و في زمنه؟ إ نّ الأصل و الأساس الأوّل هو أصل عدم العسر و عدم الحَرَج و عدم الضرر؛ أصلنا الأوّل في القرآن الكريم: وَ تَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا [1] (أي تنصّل و اقطع علاقتك تماماً مع الجميع و اتّجه إلى الله).
                        الالتزام بالطاعات واجتناب المعاصي دون التوجّه إلى الله مجوسيّةً

إن الاحتياط الذي كان المرحوم القاضي قدّس الله سرّه قد جعله برنامج عمل لجميع تلامذته، و الوارد ضمن حديث عنوان البصريّ: وَ خُذْ بِالإحْتِيَاطِ في جَمِيعِ مَا تَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلًا [2]، قد قُصِدَ به العمل الذي يفتح‏
__________________________________________________
1- الآية 8، من السورة 73: المزّمّل: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا.
2- كان المرحوم آية الله الحاجّ السيّد علي آقا القاضي قدّس الله سرّه قد أمر جميع تلامذته بكتابة رواية عنوان البصريّ و حملها معهم في جيوبهم و بقراءتها مرّة أو مرّتين اسبوعيّاً. و قد نقل المجلسيّ رضوان الله عليه هذه الرواية في «بحار الأنوار» ج 1، ص 224 إلى 226، الطبعة الحروفيّة، كتاب العلم، الباب 7: باب آداب طلب العلم و أحكامه. و هي حقّاً رواية جامعة و كافية و شافية للمريدين و الطالبين السالكين إلى الله.
                        الروح المجرد، ص: 156
الطريق أمام الإنسان إلى الله، لا أن يُسبِّب سدّ الطريق و يسلبه سبيل التوجّه و الابتهال و حضور القلب. المقصود هو العمل الذي يجلب اليقين للمؤمن و يجعله مستحكماً في إيمانه، لا الذي يزلزله و يشوّشه و يملؤه اضطراباً، و يجسِّم لديه بيت الله الحرام كبيتٍ للعقاب، و يصوِّر له حجّ هذا البيت كعمل إجباريّ اضطراريّ يؤدّيه خوفاً من العقاب؛ فهذه امور تصدر من جهة الشيطان الخبيث، و هي نفس المجوسيّة المحضة.
إ نّ جميع أطعمة و أشربة المسافرين و الفنادق حلال و طاهرة، و جميع المياه الناضحة و الراشحة من الميازيب و قنوات المياه طاهرة إلّا حين تُعلم نجاستها و تُحرز. فانهض يا سيّدي بهذه المياه التي نضحت عليك و أ دِّ صلاتك؛ فإنّ تصوّر النجاسة و عدم الطهارة لديك من تسويلات الشيطان بلا شكّ، فهو يريد حرمان الإنسان من فيض الصلاة العظيم و من المبيت و الدعاء في هذا المسجد الشريف.
                        حقيقة رمي جمرة العقبة، وتجلّي عظمة الزهراء عليها السلام لسماحة الحدّاد

و قال سماحة السيّد الحدّاد: لقد كان رمي جمرةِ العَقَبة أمراً شغفني و أدهشني، و ذلك لأنّ الإنسان يقف في رمي الجمرة الأولى و الجمرة الوسطي مستقبلًا القبلة فيرميهما، أي أ نّ الإنسان يرمي الشيطان و يطرده باستقبال الكعبة و التوجّه إليها؛ أمّا في جمرة العقبة فيجب على الإنسان أن يستدبر القبلة و يرمي، فما معنى ذلك؟ معناه عين التوحيد. أي أ نّ تلك الكعبة التي كنتُ حتّى الآن متوجّهاً إليها بهذه النفس، قد جعلتُها الآن خلف ظهري و اريد رمي الشيطان بالتفاتي إلى أصل التوحيد الذي ليس له جهة
                        الروح المجرد، ص: 157
معيّنة، و بنفسٍ خرجت عن تلك النفس فلا تلتفت إلى تلك الجهة.
و من ثمّ فإنّ حقيقة هذا الرمي تتبدّل أيضاً، فهذه رمية أنزه من تينك الرميتينِ و أكثر صفاءً. و لربّما كان سرّ تعدّد الرميات هو تعدّد حقيقتها و واقعيّتها و ليس الأمر التكراريّ.
و كان السيّد يتحدّث عن مجمل حالاته في المدينة الطيّبة فيقول: لقد غمرتني عظمة الزهراء سلام الله عليها في منزلها و في مسجد النبيّ، و خاصّةً في مسجد الرسول؛ حيث كانت عظمتها متجلّية بشكل كأنّ جميع مقام النبوّة بجميع خصوصيّاته و جميع مدارجه و معارجه و جميع درجاته و رُتبه كان متجلّياً فيها سلام الله عليها. و لقد كانت بضعة رسول الله تلك سرَّ رسول الله و حقيقته و جوهره، لم يخلق الله تعالى كمثلها موجوداً حاملًا و ضامناً لهذا السرّ، هو في مقام الوحدة عين رسول الله.
و إجمالًا، فقد أ دّى الحقير بمعيّة السيّد هاشم زيارة النصف من شعبان، ثمّ تحرّكت صوب طهران فوردتها يوم الثامن عشر، حيث توفّيت الوالدة رحمة الله عليها بعد ذلك بعشرة أيّام، أي في الثامن و العشرين من شهر شعبان المعظّم لسنة 1385 ه-. ق أثر مرض القلب و الصدر الذي ابتُلِيَتْ به لمدّة طويلة.
و كان الحقير قد دعا السيّد الحدّاد في مناسبات عديدة للمجي‏ء إلى إيران و زيارة ثامن الحجج عليه السلام، و قد أكّدتُ على ذلك في هذا السفر أيضاً، لذا فقد عقد السيّد العزم على السفر إلى إيران.
                        الروح المجرد، ص: 159
                        الْقِسْمُ الْخَامِسُ: سَفَرُ سماحة الحَاجِّ السَّيِّد هَاشِم قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُ إلى إيرَانَ لِمُدَّةِ شَهْرَيْنِ لِلزِّيَارَةِ، وَ تَوَقُّفِهِ في طَهْرَانَ وَزِيَارته الإمَامِ عَلِيّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ‏

                        الروح المجرد، ص: 161
سفر سماحة الحاجّ السيّد هاشم قدّس الله سرّه‏
إلى ايران لمدّة شهرين للزيارة، و توقّفه في طهران و زيارته‏
للإمام عليّ بن موسى الرضا عليه و على آبائه و أبنائه السلام‏
لم يكن السيّد قد سافر إلى إيران طوال عمره، و لم يكن قد زار مرقد الإمام الثامن عليه السلام، فرأى لزاماً بعد حجّ بيت الله الحرام و توفّقه لزيارة رسول الله و فاطمة الزهراء و أئمّة البقيع الأربعة عليهم جميعاً السلام، أن يسافر إلى إيران ليكون ذلك مسك الختام و ليكون قد زار المعصومين الأربعة عشر. [1]
و من ثمّ فقد كتب الحقير رسالة دعوة و أرسلتها له بعد عودتي إلى إيران بشهرين، ثمّ شفعتُها برسالة أخرى في شهر صفر 1386 ه-. ق، فلمّا تسلّم الرسالة في الكاظميّة و اطّلع على مضامينها قال:
ليس من الجائز التأخير بعد هذه الرسالة، و توجّب أن نستعدّ للسفر.
                        تفصيل مكث الحاجّ السيّد هاشم في إيران لمدّة شهرين‏

هذا و قد بذل الرفقاء من الكاظميّة جهودهم لإصدار شهادة الجنسيّة و إعداد جواز السفر، فأكملوه في مدّة شهر، و هكذا قَدِمَ السيّد إلى طهران عبر الطريق البرِّيّ مع حليلته الجليلة المحترمة: امّ مهدي، و حلّ مكرّماً
__________________________________________________
 [1]- المقصود بزيارة صاحب الأمر عليه السلام الذي ليس له مشهد، و الحيّ حاليّاً، زيارة سرداب سامرّاء و السلام عليه و إقامة الصلاة و قراءة الأدعية المخصوصة.
                        الروح المجرد، ص: 162
على الحقير في منزلي الواقع في أحمديّة دولاب. 1
__________________________________________________
1- و من المناسب كثيراً أن نصف فاقتنا و تنزّلنا مع علوّ مقام و كرم نفس و مجد روح السيّد بغزل الخواجة حافظ أعلى الله مقامه في هذا المقام:
         اى كه با سلسلة زلف دراز آمده‏اى             فرصتت باد كه ديوانه نواز آمده‏اى‏
             آب و آتش به هم آميخته‏اى از لب لعل             چشم بد دور كه بس شعبده باز آمده‏اى‏
             آفرين بر دل نرم تو كه از بهر ثواب             كشتة غمزة خود را به نماز آمده‏اى‏
             زهد من با تو چه سنجد كه به يغماى دلم             مست و آشفته به خلوتگه راز آمده‏اي‏
             پيش بالاى توميرم چه به صلح وچه به‏جنگ             كه به هر حال برازندة ناز آمده‏اى‏
             گفت حافظ دگرت خرقه شراب آلودست             مگر از مذهب اين طائفه باز آمده‏اي‏


 ( «ديوان حافظ شيرازي» ص 199، الغزل 435، طبعة پژمان، انتشارات بروخيم، سنة 1318.
يقول: «يا من أقبلت إلينا و معك سلاسل طرّتك الطويلة، يسّر الله فرصتك، فقد أقبلت لترويض العاشق المجنون.
وقد مزجت الماء و النار على شفتك الياقوتيّة، فليبعد عنك عين السوء فقد أصبحت مشعوذاً كبيراً.
وليبارك الله قلبك الرقيق حينما أقبلت تسعى إلى الثواب، فأخذت تصلّي على قتيل غمزاتك.
وما قيمة زهدي معك، و قد أتيت إلى خلوة أسراري نشوان الرأس مضطرب الحال تسعى إلى الغارة على قلبي.
وأنا على استعداد لأن أموت صلحاً أو حرباً أمام قامتك الطويلة، لأنك أتيت على الحالين موفور الدلال كامل البهاء. و لقد قال لك «حافظ» لقد تلطّخت خرقتك بالشراب مرّة ثانية، فهل أصبحت على مذهب هذه الطائفة اللاهية؟».
                        الروح المجرد، ص: 163
و لقد شرع السيّد بتفقّد المنزل فمرّ على أرجاء المنزل و جميع غرفه واحدةً بعد أخرى و هو محتفٍ غير ناعل، ثم صعد إلى السطح فتمشّى فيه، حتّى أنّه دخل الغرفة الموجودة على السطح و إلى المرافق الصحّيّة في ساحة البيت؛ ثمّ قال: لهذا المنزل روحانيّة خاصّة، و هو مناسب جدّاً للتوقّف و الحلول فيه.
هذا و قد جعلنا محلّ استضافته في غرفة من القسم الخارجيّ من المنزل «البرّاني» لها باب منفصل، في حين كانت المخدّرة العليّة العالية: امّ مهدي في الداخل مع أهل البيت و سائر العائلة، أمّا في الليالي فقد جعلنا محلّ استراحة السيّد مع امّ مهدي فوق السطح الواسع المسيّج من جميع أطرافه و الذي لا يُشرف عليه أحد، حيث كان يأوي إليه بعد انتهاء صلاتَي المغرب و العشاء و تناول طعام العشاء مع جميع الرفقاء الحاضرين في القسم الخارجيّ من البيت.
و كان جميع الرفقاء الخاصّين و أصدقائنا السلوكيّين في طهران يأتون إلى محضره صباح كلّ يوم، كما كان الرفقاء الشيرازيّون من أمثال آية الله الحاجّ الشيخ حسن علي نجابت مع جميع تلامذته، و آية الله الحاجّ الشيخ صدر الدين الحائريّ، و الحاجّ السيّد عبد الله الفاطميّ الشيرازيّ من شيراز، و الرفقاء الإصفهانيّون من إصفهان، و الرفقاء الهمدانيّون من همدان، و الأصدقاء القمّيّون من قم؛ يأتون جميعاً إلى طهران فينهلون من محضره كلّ يوم إلى الليل، و إنصافاً فقد كانت مجالس ساخنة و توحيديّة غريبة تنعكس فيها آثار التوحيد على وجوه الحاضرين.
                        الروح المجرد، ص: 164
و كان السيّد يجلس ساكتاً غالباً، فإذا وجّه إليه أحدهم سؤالًا أجاب عنه، و كانت إجاباته- على الدوام- مختصرة و موجزة و شافية. و كان يصلّي الظهر عند الزوال، و كان يؤمّ الحاضرين في جميع الأوقات، باستثناء بعض الأوقات التي كان يحضر المجلس فيها شخص غريب، فكان آنذاك يوصيني بالقيام بإمامتهم، و ذلك لدقّته الشديدة في حفظ ظواهر الشرع بحيث يستحيل أن يفوته شي‏ء. و كان الطعام يُقدّم بعد الصلاة، ثمّ ينهض بعض الرفقاء فيهبطون إلى السرداب للاستراحة، و يستريح البعض الآخر في تلك الغرفة مع السيّد.
و بالرغم من أ نّ أبواب الغرفة كانت مفتوحة من الطرفين على الدوام، إلّا أ نّ الفصل كان صيفاً، و لم نكن نمتلك مبرّدة أو مروحة في البيت، كما لم يكن لدينا ثلّاجة، و لربّما كان ذلك يشقّ عليه؛ ولكن أنّى للسيّد هاشم الذي قضى عمره جنب فرن الحدادة في جوّ كربلاء الحارّ يطرق الحديد المتّقد، و الذي كان يوقد الفرن بنفسه؛ أن يُعير لهذه الامور أهمّيّة، خاصّة و أ نّ طبيعة ذلك الرجل الجليل كانت في ذروة العفّة و النجابة، بحيث يستحيل أن ينبس ببنت شفة في أشدّ المشاكل النفسيّة و الروحيّة، و لم يكن لأحد اطّلاع على ما في نفسه، ولديّ في خصوصيّاته هذه قضايا و حكايات لو شئت بيانها لخرج الأمر عن عهدة هذه الرسالة، لذا أكتفي بهذا القدر مجملًا.
و كان يأتي البعض إلى محضره أوقات العصر، أمّا ليلًا فقد قال بأنّه لا وقت لديه للالتقاء بأحد؛ فكان المجلس يُختم بعد صلاتَي المغرب و العشاء و تناول شي‏ء من الطعام للعشاء، فيصعد إلى السطح مع امّ مهدي للاستراحة.
و امّ مهدي هذه لا تزال حيّة حتّى الآن بحمد الله، و هي امرأة عفيفة
                        الروح المجرد، ص: 165
مجاهدة مضحّية و عطوفة، تنتمي إلى قبيلة عربيّة تمتاز بالأصالة و النجابة و الشجاعة و حبّ الضيف و التنزّه عن النفاق و الرياء، و لقد كانت هذه المرأة من البساطة و النزاهة و سلامة القلب و الطويّة ممّا يثير العجب.
                        كيفيّة مبيت السيّد هاشم مع أُ مّ مهدي (زوجته) فوق السطح‏

و كانت امّ مهدي قد قالت لأهل بيتنا: لقد جاء بي السيّد هاشم معه من كربلاء، و بيّن لي أن الإيرانيّين لا يعدّون نوم الرجال بصحبة نسائهم ليلًا أمراً قبيحاً حتّى لو كانوا ضيوفاً عند غيرهم (خلافاً لعادة العرب الذين يعدّون ذلك أمراً مستهجناً، فيستحيل أن يبيت الرجل مع زوجته حين يحلّ ضيفاً على أحد، سواء كانا في السفر أم في الحضر، و من ثمّ فإنّ الرجل ينام في القسم الخارجيّ مع الرجال، و تنام المرأة في داخل البيت مع النساء). لذا فإنّنا نصعد إلى السطح سويّاً ليلًا، فيرقد السيّد هاشم أوّل الليل كمن يُريد مخادعتي و إرقادي، ثمّ ينهض فيأوي إلى زاوية السطح فيصلّي أو يجلس تجاه القبلة متأمّلًا متفكّراً إلى الصباح.
و كان يؤذَّن في بيتنا لصلاة الصبح عند حلول وقتها، فينزل السيّد من السطح و نأتمّ به في الصلاة. و كان يقرأ في صلاة المغرب السور القصار، و يقرأ في صلاة العشاء و الصبح سوراً أطول.
سفر الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد من طهران إلى همدان‏
انقضت عدّة أيّام في طهران على هذا المنوال، ثمّ وجّه الرفقاء الهمدانيّون الدعوة للسيّد للتفضّل بالذهاب إلى همدان لعدّة أيّام، فلبّى دعوتهم و ذهب معهم بسيّارة سفر (الحافلة) إلى همدان، حيث صحبتُه في سفرته هذه.
و اقتضت المصلحة عند الورود إلى همدان أن يحلّ أوّلًا على منزل المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ قدس الله تربته، ثمّ‏
                        الروح المجرد، ص: 166
يذهب من هناك إلى مكان آخر، و ذلك أداءً لاحترام ذلك المرحوم و إجلالًا لابنه الأكبر الأرشد: الصديق العزيز الحاجّ أحمد آقا الأنصاريّ. و عليه فقد أمضينا في سفرنا هذا ليلةً في سيارة السفر و وصلنا همدان قبل الظهر بثلاث ساعات، حيث توجّه السيّد الحدّاد مباشرة إلى منزل آية الله الأنصاريّ و بقي ساعة في القسم الخارجيّ لمنزل ذلك المرحوم، الواقع في شارع «شِوِرين» زقاق «حاجّ خدا كَرَم»، و استقبله هناك الحاجّ أحمد آقا حفظه الله تعالى، ثمّ توجّه إلى منزل الحاجّ محمّد حسن البياتيّ.
و حين خرجنا من منزل المرحوم الأنصاريّ قال لي السيّد: لقد كنّا ننتظر من آثار المرحوم في القسم الخارجيّ من منزله شيئاً أكثر!
و كان الرفقاء الهمدانيّون قد سعوا لإعداد مكان يتمتّع بجوّ لطيف، فاستأجروا بستاناً خارج همدان، فكان السيّد يذهب إليه نهاراً و يعود إلى همدان ليلًا. و قد أمرني السيّد بإمامتهم في صلاة الجماعة و كان يقتدي على الدوام.
و كانت المجالس الجيّدة تعقد في الليالي بعد الصلاة، و كان كثير من الرفقاء الطهرانيّين قد قَدِموا إلى هناك، كما كان سماحة آية الله الحاجّ الشيخ هادي التألّهيّ الجولانيّ الهمدانيّ أدام الله بركاته و المرحوم حجّة الإسلام الحاجّ السيّد مصطفى الهاشميّ الخَرَقانيّ و المرحوم السيّد وليّ الله الجورقانيّ رحمة الله عليهما قد جاءوا أيضاً. و كانت جميع المذاكرات تحصل دائماً بعد قراءة قدر لا بأس به من القرآن الكريم، يتلوه تفسير يلقيه الحقير، و كان الحديث يتطرّق أحياناً إلى أمر من المعارف فيطلبون منه بيانه و إيضاحه. 1
__________________________________________________
1- سأل آية الله الحاجّ الشيخ هادي التألهيّ ذات ليلة عن معنى هذه الزيارة لفاطمة الزهراء سلام الله عليها:
يَا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ اللهُ الذي خَلَقَكِ قَبْلَ أ نْ يَخْلُقَكِ فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَةً، وَ زَعَمْنا أنَّا لَكِ أ وْلِيَأءُ [وَ] مُصَدِّقُونَ وَ صَابِرُونَ لِكُلِّ ما أتَانَا بِهِ أبُوكِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ أتَى بِهِ وَصِيُّهُ، فَإنَّا نَسْألُكِ إ نْ كُنَّا صَدَّقْنَاكِ إلَّا ألْحَقْتِنَا بِتَصْدِيقِنَا لَهُمَا لِنُبَشِّرَ أنْفُسَنَا بِأنّا قَدْ طَهُرْنَا بِوِلَايَتِكِ. ( «مفاتيح الجنان» ص 317 الطبعة الإسلاميّة، كتابة طاهر خوشنويس، سنة 1379 ه-. ق)، ما معنى: يَا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ اللهُ الذي خَلَقَكِ قَبْلَ أ نْ يَخْلُقَكِ؟ فبقي السيّد هاشم مدّة لاينبس بكلمة، و لربّما كان يرغب أن اجيبَ عن هذا السؤال بنفسي؛ و كانت الغرفة الخارجيّة و الاستقبال للحاجّ محمّد حسن البياتيّ زيد توفيقه- و التي كان طولها يقرب من ثمَانية أمتار، و عرضها بحدود ثَلاثَة أمتار و نصف المتر- مشحونة بالحاضرين، لكنّ الحقير كان يرى نفسه أصغر من أن يُجيب عن سؤال آية إلهيّة موجَّه إلى عارف و واصل ربّانيّ بدون أمر سماحة السيّد الحدّاد. و أخيراً أجاب السيّد بنفسه جواباً مجملًا لكنّه كان جامعاً و شافياً يحوي أسراراً، ممّا بعث السرور و البهجة في نفس آية الله، و ارتياح الحاضرين و ابتهاجهم.
                        الروح المجرد، ص: 167
و كانت فترة التوقّف في همدان تسعة أيّام، و قد اصطحبه الرفقاء يوماً إلى مزار ابن سينا فلم تبدُ شخصيّته في نظر السيّد مثيرة للإعجاب. ثمّ اصطحبوه يوماً آخر لزيارة أهل القبور في منطقة «بهار» التابعة لهمدان، و كذلك لزيارة قبر المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمّد البهاريّ رضوان الله تعالى عليه، و صحبه إلى هناك جميع الرفقاء الهمدانيّين و الطهرانيّين في سيّارتي سفر صغيرتين (ذات 18 راكباً) حيث وقف مدّة مع الرفقاء على قبر المرحوم البهاريّ و هم مستقبلو القبلة، قرأ فيها الفاتحة و دعا لعلوّ درجاته و مقاماته. ثمّ انصرف من ذلك القبر و شرع بالتجوال بين القبور و الاستغفار للمدفونين هناك لمدّة نصف ساعة تقريباً.
                        الرشحات المعنويّة للحاجّ السيّد هاشم عند مزار الشيخ محمّد البهاريّ‏

و كنت أصحبه وحدي في تجواله بين القبور و يتبعه بفاصلة باقي الرفقاء، فقال لي: لقد سمعنا بأنّ المرحوم الأنصاريّ كان يتردّد كثيراً على‏
                        الروح المجرد، ص: 168
هذه المقبرة و يأتي ليزور قبر المرحوم الحاجّ الشيخ محمّد البهاريّ، و كم كان يأتي ماشياً من همدان التي تبعد عن بهار بمسافة فرسخَين، و ذلك للحصول على الامور الروحيّة و المعنويّة و للاستعانة بروحه. و قد اتّضح الآن أ نّ المرحوم البهاريّ لم يكن ليمتلك تلك الدرجة التي تستأهل أن يستمدّ المرحوم الأنصاريّ العون منه و يستعين بروحه و يبحث عن ضالّته فيه؛ لقد كان المرحوم الأنصاريّ يبحث عني، و كان يأتي إلى هذا المكان و يطوي كلّ هذا الطريق لاستنشاق هذه الرائحة في هذه الساعة.
                        يوم لم يسبق له مثيل عند مزار المرحوم الشيخ محمّد البهاريّ‏

و على كلّ تقدير فقد كان ذلك اليوم يوماً عجيباً! فقد منح السالكون الشيوخ و الكهول بهذا العدد الذي استوعب سيّارتَي السفر الصغيرتين المقبرة منظراً معنويّاً و روحانيّاً عجيباً في سيرهم خلف السيّد.
و من المعروف و المشهور أ نّ الشيخ محمّد البهاريّ يستقبل ضيوفه و زائريه و يقوم بضيافتهم، و لقد امتحن الحقير هذا الأمر بنفسه، فكنتُ كلّما جئت إلى قبر المرحوم الشيخ، سواء في حياة المرحوم الأنصاريّ أم بعد مماته- حيث كنت أتردّد كثيراً على همدان- فقد كان يستقبلني بنحوٍ خاصّ، كما أ نّ الكثير من الأصدقاء يدّعون هذا الواقع أيضاً. لكنّ استقبال الشيخ للسيّد كان ذلك اليوم على نحوٍ استوعب جميع منطقة بهار همدان، فاتّجهوا نحو المقابر رجالًا و نساءً.
فقد جلس الحقير مع السيّد بعد التجوال بين القبور في الضلع الشماليّ للمقبرة مفترشين الأرض جنب جدار المقبرة لنستريح مدّة ثمّ نعود إلى المدينة، فما كان من نساء البيوت الواقعة خلف المقبرة حين رأين السيّد إلّا أن أتيْنَ ببساط فرشْنَه للسيّد، ثمّ جئن بفراش لجميع الرفقاء الذين كانوا قد تجمّعوا في المقبرة حول السيّد، فصار الضلع الشماليّ للمقبرة مفروشاً. ثمّ هُرعت بعض النساء من البيوت خارج المقبرة فأخبرن رجالهن، فجاؤوا
                        الروح المجرد، ص: 169
بمراوح يدويّة من الحصير للسيّد و لبقيّة الرفقاء، لأنّ الجوّ كان حارّاً آنذاك، ثمّ جاؤوا بشراب «البيدمشك» البارد فسقوا الجميع، ثمّ عمد الرجال فوراً إلى جلب مقدار من البطيخ الأحمر المشهور لمنطقة بهار و قطّعوه بالسكاكين و وضعوه أمام الضيوف و هم يتمتمون مع أنفسهم: من هو هذا السيّد القادم من كربلاء؟!
و لم يستطع الرفقاء الهمدانيّون أن يوضِّحوا لهم أكثر من أنّه سيّد من أهل كربلاء جاء لتقبيل أعتاب الإمام الثامن عليه السلام.
و لقد تقاطر أهل المدينة على المقبرة شيئاً فشيئاً حتّى غصّت المقبرة بالناس، في حين لم يبقَ للغروب إلّا نصف ساعة، و كان البعض منهم يقول: نريد أن نذبح ذبحاً تحت قدميه! و بعض يقول: يجب أن يأتي السيّد عندنا الليلة فلا يمكن أن ندعكم ترجعون إلى المدينة.
و أخيراً قام السيّد من مكانه و توجّه نحو باب المقبرة لركوب السيّارة و قال للجميع: لا مانع لديّ من البقاء هنا الليلة و الضيافة عندكم، لكنّ هذا السيّد المحترم كان قد دعانا الليلة إلى منزله و أعدّ الطعام، و هذا الجمع مدعوّون لديه مع بعض آخر، و هم في الانتظار، و إن وفّقت و جئت إن شاء الله تعالى ثانيةً إلى منطقة بهار فسآتي و أكون في خدمتكم و أبيت عندكم.
و كان الشخص الذي دُعينا إلى منزله تلك الليلة هو الحاجّ محمّد بيك زاده ابن اخت المرحوم الأنصاريّ، و كان بائعاً للشاي، و كان معنا في الجمع الحاضر، فجاء و تحدّث مع أهل بهار، فصار مسلّماً لديهم أ نّ السيّد معذور في الذهاب.
أمّا حين أراد السيّد الركوب في السيّارة فقد أحاط به الناس، فمنهم من يُقَبِّل يده، و منهم من يقبِّل رِجلَيه، و آخرون يقبِّلون باب السيّارة، ثمّ جلس السيّد في السيّارة فصاروا يقبّلون زجاج النوافذ من الخارج، ثمّ‏
                        الروح المجرد، ص: 170
تحرّكت السيّارة من وسط هذا الجمع متّجهةً نحو همدان.
و هكذا، و بعد أن قام الرفقاء الهمدانيّون بشرح مشكلاتهم السلوكيّة استفاضوا منه وارتَوَوا و نالوا مُناهم، فقد عاد السيّد إلى طهران.
لقاء و خلوة المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى المطهّريّ‏
بسماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد رحمة الله عليهما
لقد كان للمرحوم المطهّريّ علاقات الصداقة و المعرفة الممتدّة مع الحقير، و قد ورد الذِّكر المبارك للسيّد بيننا بعض الأحيان بشكل مقتضب غير كامل، فتوجّب بعد مجي‏ء السيّد من كربلاء إلى طهران أن يستفيد هذا الصديق القديم أيضاً من محضره. و من ثمّ فقد قام الحقير بإخبار الشيخ المطهّريّ فتفضّل بالمجي‏ء إلى منزلي في منطقة أحمديّة دولاب، فالتقى بالسيّد في مجلس عامّ و قام بطرح بعض الأسئلة عليه، فأجاب السيّد عليها؛ فشغف المرحوم المطهّريّ به، لكأنّه وجد فيه ضالّته المنشودة. ثمّ جاء مرةً أخرى فتحادثا في هذه الغرفة الخارجيّة العموميّة. و عندها قال لي المرحوم الصديق العزيز المطهّريّ: أيمكن لسماحة السيّد أن يمنحني من وقته ساعة الاقيه فيها على انفراد؟!
قلتُ: لا مانع في الأمر، فالسيّد يعطيك هذا الوقت، و لدينا كذلك مكان للخلوة!
ثمّ نقلت ذلك للسيّد، فقال: لا مانع من ذلك، فليأتِ وليسلْ ما يريد. و كان لدينا غرفة صغيرة في سطح المنزل تُبنى عادة للاستفادة منها في حفظ بعض أثاث المنزل و لوازمه، فأعدّها الحقير مكاناً لخلوتهما. ثمّ قام السيّد بتعيين ساعة معيّنة في اليوم التالي لذلك اللقاء الخاصّ. و قد جاء المرحوم الشهيد المطهّريّ في الموعد المقرّر فصحبتُه و سماحة السيّد
                        الروح المجرد، ص: 171
الحدّاد إلى سطح المنزل، ثم أقفلتُ باب السطح عند نزولي لئلّا يصعد أحد إلى السطح، حتّى من الأطفال أو من الرفقاء و الأصدقاء الذين لا علم لهم بالأمر.
و قد استفسر المرحوم المطهّريّ منه و قتذاك ما شاء من الأسئلة القديمة و المخزونة التي لم يعثر لها على جواب، ثمّ انقضت الساعة و هبط السيّد و خلفه المرحوم المطهّريّ، فرأيت أ نّ المطهّريّ كان مبتهجاً و سعيداً تلوح آثار المسرّة على وجناته.
و لم أسأل من سماحة السيّد و لا من الشيخ المطهّريّ عمّا دار بينهما، و لست أعلم منه شيئاً حتّى يومنا هذا، لكنّ المرحوم المطهّريّ قال للحقير بصوتٍ خافت عند خروجه: إ نّ هذا السيّد يبعث الحياة و الروح في الإنسان!
و جدير بالقول إ نّ المرحوم المطهّريّ قال للحقير يوماً: لقد كنتُ مع السيّد محمّد الحسينيّ البهشتيّ في قم في ورطة مهلكة، لكنّ لقاؤنا بالعلّامة الطباطبائيّ و إعانته لنا قد أنجانا من تلك الورطة.
و عليه، فإنّ كلام المرحوم المطهّريّ بشأن سماحة الحاجّ السيّد هاشم و قوله: إ نّ هذا السيّد يبعث الحياة و الروح في الإنسان، كان في زمن حياة سماحة العلّامة و قبل رحيله- الذي صادف في الثامن عشر من محرّم الحرام 1402 هجريّة- بستّ عشرة سنة؛ على أ نّ العلّامة قد خلع لباس البدن و ارتدى ثوب البقاء بعد المرحوم المطهّريّ.
                        آية الله الشيخ مرتضى المطهّريّ يطلب برنامجاً للعمل من سماحة الحدّاد

و كان للمرحوم المطهّريّ لقاء خاصّ آخر و على انفراد مع السيّد استغرق ساعة كسالفه، و كان بعد عودة السيّد من سفره إلى مشهد المقدّسة- الذي سيأتي تفصيله فيما بعد- و لم يكن للحقير هذه المرّة أيضاً اطّلاع عمّا تبادلا من أحاديث، لكنّ ما أعلمه أ نّ المرحوم المطهّريّ كان قد طلب من‏
                        الروح المجرد، ص: 172
سماحة السيّد في هذه الجلسة أن يعطيه برنامج عمل، و أ نّ السيّد قد أعطاه ذلك.
ثمّ طلب منّي المرحوم المطهّريّ أن أعطيه صورة للسيّد الحدّاد ليضعها في غرفته، فقلت له: سأعطيكم صورته لتحتفظوا بها، فلا تعلّقوها في غرفتكم، بل ضعوا بدلًا منها صورة المرحوم القاضي، و ذلك لأنّ الحاجّ السيّد هاشم رجل غير معروف و أنتم من المشهورين الذين يتردّد عليكم جميع الطبقات، و سيسألكم هؤلاء حين يرون صورته لديكم: مَن هذا الرجل؟ و لماذا صورته هنا؟ و هكذا فإن الأمر سيسبّب لكم الأذى، كما أ نّ السيّد لا يرغب أن يصبح اسمه مشهوراً، أمّا بالنسبة للمرحوم القاضي فالأمر مختلف.
و هكذا فقد ذهب الحقير يوماً إلى منزل ذلك المرحوم، فرأيت أنّه قد وضع في غرفته ثلاث صور: صورة المرحوم أبيه: الشيخ محمّد حسين المطهّريّ، و صورة المرحوم الحاجّ الشيخ الميرزا علي آقا الشيرازيّ، و صورة المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا السيّد علي آقا القاضي التبريزيّ الطباطبائيّ قدّس الله أسرارهم و أعلى درجاتهم و مقاماتهم جميعاً.
و كنت كذلك قد أعطيت للمرحوم المطهّريّ عند سفره للتشرّف بزيارة العتبات المقدّسة عنوان منزل الحاجّ السيّد هاشم، فذهب إليه في كربلاء مرّتين، و دام لقاؤه الأوّل ساعة تقريباً، ثمّ ذهب إليه يوماً آخر صباحاً فتناول معه طعام الفطور.
                        عبارة المرحوم الحدّاد للمطهّريّ: فمتى تصلّي إذاً؟!

و كان المرحوم المطهّريّ مسروراً يبدو به الوجد عند عودته من هذه اللقاءات، و كان يقول: ذهبتُ يوماً إليه فسألني: كيف تصلّي؟
قلت: بانتباه كامل إلى معاني كلمات الصلاة و جملاتها!
فقال: فمتى تصلّي إذاً؟! إ نّ انتباهك و التفاتك لابدّ أن يكون في‏
                        الروح المجرد، ص: 173
الصلاة للّه فقط لا لسواه، فلا تلتفت إلى المعاني!
و لقد كانت جملته هذه- إنصافاً- تضمّ الأسرار و الدقائق، و كانت حقيقة الأمر كما تفضّل، و ذلك لأنّ الإنسان إن توجّه في صلاته إلى معاني الكلمات، كأن يركِّز على معنى عبارة إيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إيَّاكَ نَسْتَعِينُ، و هو: أنّني أعبدك إيّاك فقط و أستعين بك فقط، فإنّ انتباه المصلّي و فكره سيتوجّه إلى هذه الحقيقة، فيغفل عن التوجّه الكامل إلى الله سبحانه؛ في حين أ نّ التوجّه ينبغي أن يكون إلى الله تعالى، و أن يكون المخاطب هو الله سبحانه فقط. و في هذه الحال فإنّ المصلّي لن يتوجّه إلى المعنى إلّا باللحاظ الآلي و المرآتيّ. و هكذا في باقي الصلاة التي ينبغي ألّا يكون انتباه الإنسان إلى ألفاظها و عباراتها غير التوجّه الآليّ و المرآتيّ.
و ذلك لأنّه إن بذل اهتمامه و انتباهه إلى ألفاظ الصلاة من جهة صحّة أدائها و تجويدها و أداء مخارج حروفها، فلن تكون الصلاة عند ذاك صلاة، لأنّها تفتقد التوجّه إلى الله و التوجّه إلى المعنى.
أمّا إذا كان التوجّه إلى الله سبحانه، فلم يغفل الإنسان عن الله لحظةً واحدة في خطابه و كلامه معه و لم يفكّر في ألفاظ الصلاة و لا في معانيها، فإنّ جميع الألفاظ ستأتي عند ذاك تلقائيّاً بنحو آليّ و مرآتيّ، أي بالنظر غير الاستقلاليّ، و تتبعها جميع المعاني أيضاً بالطريق الآليّ و المرآتيّ لا بالنظر الاستقلاليّ، و ستكون قد ادّيت بأجمعها بالشكل الصحيح و المطلوب بدون أن يرد خلل في حضور القلب و التوجّه التامّ إلى الله سبحانه و تعالى.
و على سبيل المثال، فلو لاحظنا هذه المكالمات و المحادثات التي تدور بيننا ليلًا و نهاراً، و الكلمات و الخُطَب و المراجعات و فصل الخصومات و سائر الامور التي تضمّ عنوان التخاطب و المحادثة، لوجدنا أ نّ‏
                        الروح المجرد، ص: 174
جميع تركيزنا يتوجّه على الشخص المخاطب لا على الخطاب، و سيكون ما يجري في الخطاب عند ذاك من عقل الإنسان و فكره على لسانه صحيحاً و صائباً بأجمعه بدون أن نلتفت إلى صحّته و صوابه. أمّا إذا انتبهنا إلى العبارات و المطالب المتبادلة، فإنّ أساس الالتفات في الخطاب سيزول، و لن يكون في تلك اللحظة وجود لمخاطب ما.
و لقد قال أعلامنا: إ نّ الجمع بين لحاظين استقلاليّ و آليّ أمر غير ممكن. فلو كان لحاظنا في الصلاة مستقلًّا إلى الله تعالى فإنّ ألفاظها و معانيها ينبغي حتماً أن تكون آليّة و غير استقلاليّة و تبعيّة. أمّا إذا كان لحاظنا مصروفاً إلى ألفاظ الصلاة أو معانيها بشكل مستقلّ، فإنّ التفاتنا إلى الله سيكون- بشكل قهريّ و اضطراريّ- تبعيّاً ضمنيّاً و غير استقلاليّ.
و حين أتكلّم معكم فأقول مثلًا: «أيّها السيّد! لا تسافروا اليوم و ابقوا في حرم الإمام الرضا!» فإنّ التفاتي و انتباهي ينصبّ بأكمله عليكم و على حقيقتكم، و هذا ما يدعونه بالنظر الاستقلاليّ. و بالطبع فإنّ هذه المعاني ستخطر في ذهني بلا خطأ، فيقوم ذهني باستخدام ألفاظ تتناسب مع تلك المعاني و تُجرى هذه المعاني و الألفاظ على لساني بشكل متعاقب بدون أ يّ خطأ ليظهر لكم ذلك المقصود. أمّا لو شئت استحضار معنى «لا تسافروا اليوم» في ذهني، أو تصوّر ألفاظه على الخصوص، فإنّ مسألة كونكم مخاطبين ستزول و ستفقد استقلاليّتها، و لا مفرّ من أن تكون أمراً ضمنيّاً و تبعيّاً و آليّاً و مرآتيّاً.
و لابدّ أن يكون الإنسان في صلاته- و هي أهمّ الامور- منقطعاً إلى الله في حضور قلب، فلا تمرّ في ذهنه أيّة خاطرة أو فكرة، و هذا الأمر يمكن تحقّقه فقط حين تخطر في الذهن جملات الصلاة و عباراتها المتضمّنة لمعانيها بالطبع، ثمّ تجري على اللسان بدون أ يّ التفات إليها.
                        الروح المجرد، ص: 175
و حينذاك ستكتسب الصلاة حقيقتها و واقعيّتها، فيصحّ تسميتها بالصلاة. أي أ نّ المخاطب فيها هو الله و حضور القلب فيها كان مع الله، أمّا بغير ذلك‏فإنّ حضور القلب سيكون إلى الألفاظ و المعاني، و سيكون الله العليّ الأعلى مهجوراً لم تجْر ملاحظته و الالتفات إليه إلّا بالنظر الضمنيّ الذي‏ليس في الحقيقة نظراً.
نعم، لقد كان المرحوم الحاجّ السيّد هاشم يحبّ المرحوم المطهّريّ، و حين التقى الحقير في سفره الأخير إلى الشام بعد شهادة المرحوم المطهّريّ بسماحة السيّد- الذي تشرّف هو الآخر بالذهاب إلى هناك للزيارة فقد أبدى السيّد تأسّفه لتلك الخسارة. رحم الله الغابرين و ألحق الباقين بهم إن شاء الله تعالى.
                        تفسير الحاجّ السيّد هاشم لمعنى التجرّد، وقصّة تعليق القَرْعَة في العنق‏

                        التجرّد: معرفة الإنسان بالمشاهدة أ نّ حقيقته هي غير هذه الظواهر

و لقد سأل أحدهم الحاجّ السيّد هاشم ذات يوم: ما هو التجرّد؟ فأجاب:
التجرّد عبارة عن معرفة الإنسان بالمشاهدة أ نّ حقيقته هي غير هذه الظواهر و المظاهر.
ثمّ أردف بعد سكوت قليل: لقد عمد شخص- من أجل أن لا يُضيع نفسه- إلى قَرْعَةٍ فثقبها و علّقها في عنقه، فكانت معلّقة في عنقه في الحضر و السفر، و في النوم و اليقظة، و كان سعيداً على الدوام، يفكّر: لم يحدث حتّى الآن أن أضعت نفسي مع وجود هذه العلامة الكبيرة، و لن اضيع نفسي معها إلى آخر العمر.
و حدث أن سافر مع رفيق له، فناما ذات ليلة مظلمة، فاستيقظ رفيقه منتصف الليل، فنهض و فكّ القَرعة من عنق صاحبه و علَّقها في عنقه، ثمّ أخلد إلى النوم من جديد. فلمّا أصبحا نهض الرجل صاحب القرعة، فرأى أنّها ليست معلّقة في عنقه، و أنّه لذلك سيضيّع نفسه، ثمّ لاحظ أ نّ القَرعة
                        الروح المجرد، ص: 176
معلّقة في رقبة رفيقه النائم، فقال: من المؤكَّد أنّني أنا ذلك الرفيق النائم، لأنّ علامتي معلّقة في عنقه.
و هكذا فقد بقي مدّة متحيّراً يفكّر: يا إلهي! ما الذي حدث لي فتبدّلتُ! فأنا أجد- من جهة- أنّني أنا، ولكن أين صارت القَرعة التي في عنقي؟!
و أجد- من جهة أخرى- أ نّ القَرعة كانت علامتي التي لا تنفكّ عنّي، فأنا إذاً هذا الرجل النائم الذي عُلِّقَت القَرعة في عنقه. و بقي مترنّماً مع نفسه:
         اگر تو منى پس من كيَمْ             اگر من مَنَم پس كو كدوى گردنم [1]

نعم، تجب ملاحظة كيف أ نّ ذلك التفسير، و من ثمّ هذا المثال اللطيف الذي بيّنه السيّد هاشم قدّس الله تربته المنيفة كانا في نهاية الوضوح و البيان لهذا المعنى، و كم كان بيانه مثيراً للعجب حين أوضح حقيقة التجرّد بهذا الجلاء!
إ نّ الإنسان العاديّ و العامّيّ الخارج عن مسيرة السلوك و العرفان، يفصل نفسه عن عالم الحقيقة بهذه الآثار و اللوازم الطبيعيّة و المادّيّة و النفسيّة، كالنسبة للأب و الامّ و المحيط و الزمان و المكان و العلوم المحدودة و القدرة المحدودة و الحياة المحدودة و سائر الصفات و الأعمال و الآثار التي يعتبرها تابعة له و ينسبها لنفسه، في حين أنّه يعدّ الله القادر القاهر الحيّ القيّوم العليم السميع البصير إلهاً خياليّاً و تصوّريّاً، يتصوّره موجوداً محدوداً و مقيّداً في زاوية الحياة و في الموارد الاستثنائيّة كالزلزلة
__________________________________________________
 [1]- يقول: «إن كنتَ أنت أنا، فمن أنا؟ و إن كنتُ أنا أنا، فأين قَرْعَةُ رقبتي؟!».
                        الروح المجرد، ص: 177
و السيل و الموت و أمثالها، أو في أعالي السماء؛ بينما الواقع غير هذا، فالله سبحانه هو الأصل و الأصيل و ليست باقي الموجودات مع جميع آثارها و لوازمها إلّا فرعاً منه و تابعاً له.
الله سبحانه هو أصل الوجود، و كمال الوجود، و حقيقة الحياة و العلم و القدرة، و جميع ما سواه امور اعتباريّة و ماهيّات إمكانيّة، حياتها و علمها و قدرتها مجاز و تبع و ظلّ. الله قائم بذاته، أمّا جميع الموجودات فقائمة به.
و هذا الأمر، و هذه النظريّة و هذا النظر إلى الذات و النظرة الاستقلاليّة أمر موجود في الطبيعة البشريّة، اللهمّ إلّا مَن وضع قدمه بثبات على جادّة التوحيد، و استطاع بتربية الاستاذ الإلهيّ في المعارف الدينيّة للشريعة الإسلاميّة الحقّة، و بالمجاهدة للنفس الأمّارة أن يعمد إلى هذا الإله التصوّريّ الذي ليس إلّا وجوده هو، مع الصفات و الآثار المتعلّقة بذاته و التي يراها جميعاً و يعتبرها عائدة له فينسبها لنفسه، و يتصوّر نفسه مستقلًّا على الدوام عملًا و فعلًا- و لو لم يفه بذلك لساناً- فيعمد إلى صنم النظرة الاستقلاليّة هذا فيسقطه، و إلى قصر الاستبداد هذا فيهدمه، و إلى الجبل العظيم للأنانيّة و هوى النفس الأمّارة فيدّ كه، فيلمس حقيقة لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. [1] أو حقيقة كلام النبيّ يوسف على نبيّنا و آله و عليه الصلاة والسلام لصاحبَيه اللذين كانا معه في السجن:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَ أرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. [2]
فالسالك في طريق الله يرى نفسه بالوجدان و المشاهدة و باللمس‏
__________________________________________________
 [1]- الآية 16، من السورة 40: غافر.
 [2]- الآية 39، من السورة 12: يوسف.
                        الروح المجرد، ص: 178
و العيان- لا بالدليل و البرهان- خارج هذه الحدود و خارج هذه النِّسَب الاستقلاليّة. فهو يرى أنّه- و يا للعجب- كان وجوداً أفضل و أعلى و أسمى و أرقى، و أن لا وجود لذاك الوجود المجازيّ الذي كان حتّى الآن ينسبه لنفسه و يتصوّره أنّه هو، فنفسه شي‏ء آخر مجرّد و منوّر و بسيط، يمتلك حياةً و علماً و قدرة حقيقيّة، في حين كان ذلك الوجود السابق شيئاً قذراً ظلمانيّاً و محدوداً و مقيّداً و ذا حياة و علم و قدرة محدودة و مجازيّة.
فهو يرى من جهة أنّه كان كذلك فصار هكذا و ظهر بهذه الصورة القيّمة البسيطة و الجميلة، فلا شكّ و لا ريب أ نّ هذا ليس إلّا نفسه. و يرى من جهة أخرى أ نّ هذا ليس ذاك، فلا تناسب و لا تشابه بينهما؛ فذاك ميّت و هذا حيّ، و ذاك جاهل و هذا عالم، و ذاك عاجز و هذا قادر، و هو محدود و هذا مجرّد، و ذاك ظلمة و هذا نور و منير، و ذاك ثقيل و هذا خفيف متسام.
و خلاصة الأمر أ نّ جميع صفاته و أسمائه قد تغيّرت، فصارت له صفات إلهيّة و أنّه خرج من لباس الشيطان فارتدى خلعة المَلَك و الملكوت و اللباس الإلهيّ، فلا شكّ لديه أ نّ هذا ليس ذاك.
تماماً، كتلك القَرْعة التي علّقها ذلك الرجل في عنقه. على أ نّ بعض القَرْع كبير جدّاً و مجوّف يجعله البعض إناءً فيستفيدون منه، و قد شاهد الحقير أنّهم كانوا يصنعون منه سابقاً كوزاً لغليون التدخين. و باعتبار أ نّ القَرْع خفيف الوزن و مجوّف، فهو إذا جُفِّف صار يرنّ لو نُقر بإصبع واحدة، و لأنّه كبير الحجم فقد كان اختياراً ملائماً ليصبح هويّة و علامةً لهذا الرجل.
أي أ نّ الإنسان بشكل عامّ يحاول حفظ ذاتيّته بهذه الزينة و الحليّ، و بهذه التعيّنات الاعتباريّة، و بهذه التصوّرات الجوفاء الخالية الرنّانة. لكنّ جميع هذه التعيّنات تزول دفعة واحدة لدى السالك في طريق الله، فيشاهد
                        الروح المجرد، ص: 179
علامات العلم و القدرة و الحياة و آثارها في وجود آخر يمثّل حقيقته هو. فيتأمّل و يتساءل أن: لو كانت هذه الآثار لي أنا، فلِمَ هي غير موجودة الآن؟ و إن كانت هذه الآثار لحقيقتِي، فلِمَ كانت لهذا الموجود المجازيّ الذي هو أنا؟ فيعترف أخيراً أن لَا مُؤَثِّرَ في الوُجُودِ سِوَى الله. 1
__________________________________________________
1- ورد في «مصباح الشريعة» ص 66، طبعة مركز نشر الكتاب، سنة 1379 ه-. ق، الباب 100 في حقيقة العبوديّة:
قال الصادق عليه السلام: العُبُودِيَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرٌّبُوبِيَّةُ؛ فَمَا فُقِدَ مِنَ العُبُودِيَّةِ وُجِدَ في الرُّبُوبِيَّةِ، وَ مَا خَفِيَ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ اصِيبَ في العُبُودِيَّةِ. قَالَ اللهُ تعالى: «سَنُرِيهِمْ ءَ ايَاتِنَا في الأفَاقِ وَ في أنفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيَّنَ لهم أنَّهُ الْحَقُّ أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ». أ يْ مَوْجُودٌ في غَيْبَتِكَ وَ في حَضْرَتِكَ- الحديث.
ويقول عماد الحكماء و المفسّرين و المحدّثين: المحقِّق الفيض الكاشانيّ في كتاب «كلمات مكنونة» ص 75 و 76، الطبعة الحجريّة:
وَ رَ وَ ي ابْنُ جُمْهُورٍ الأحْسَائِيّ عَنْهُ (أ يْ عَنْ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ) قَالَ: إ نَّ لِلَّهِ شَرَاباً لأوْلِيَائِهِ؛ إذَا شَرِبُوا سَكَرُوا، وَ إذَا سَكَرُوا طَرِبُوا، وَ إذَا طَرِبُوا طَابُوا، وَ إذَا طَابُوا ذَابُوا، وَ إذَا ذَابُوا خَلَصُوا، وَ إذَا خَلَصُوا طَلَبُوا، وَ إذَا طَلَبُوا وَجَدُوا، وَ إذَا وَجَدُوا وَصَلُوا، وَ إذَا وَصَلُوا اتَّصَلُوا، وَ إذَا اتَّصَلُوا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ حَبِيبِهِمْ.
ثمّ يقول المحقّق الفيض: و من جملة ما يناسب هذا المقام ما ورد في الحديث القدسيّ:
مَنْ طَلَبَنِي وَجَدَنِي، وَ مَنْ وَجَدَنِي عَرَفَنِي، وَ مَنْ عَرَفَنِي أحَبَّنِي، وَ مَنْ أحَبَّنِي عَشَقَنِي، وَ مَنْ عَشِقَنِي عَشِقْتُهُ، وَ مَنْ عَشِقْتُهُ قَتَلْتُهُ، وَ مَنْ قَتَلْتُهُ فَعَلَيّ دِيَتُهُ، وَ مَنْ عَلَيّ دِيَتُهُ فَأنَا دِيَتُهُ.
ويقول صدر المتألّهين الشيرازيّ نوّر الله مرقده في تفسير سورة السجدة (انتشارات بيدار قم، ص 97): ذيل الآية 14: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إنَّا نَسِينَاكُمْ وَ ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ حتّى يصل إلى قوله:
وعليه، فإنّ حياة أهل الإيمان هي مطلقاً مرتبة ليست لغيرهم، لأنّهم المخصوصون بكلام رسول الله صلّى الله عليه وآله في قوله: المُؤْمِنُ حَيّ في الدَّارَيْنِ. و حياة الشهداء مرتبة فوق هذه المرتبة، لقول الله تعالى: وَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتًا بَلْ أحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَآ ءَ اتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ (الآية 169، و ذيل الآية 170، من السورة 3: آل عمران).
وحياة أولياء الله حياة فوق الجميع، لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِي،. و هم الذين يقول الله فيهم: مَنْ قَتَلْتُهُ فَأنَا دِيَتُهُ؛ أي حياته.
،- «البخاري» ج 9، ص 97، كتاب الاعتصام بالكتاب و السنّة، باب ما يكره من التعمّق و التنازع في العلم، طبعة بولاق. و ورد هذا الحديث كذلك في بقيّة الصحاح، يراجع «المعجم المفهرس» ج 2، ص 481، في مادّة سَقَى، طبعة دار الدعوة، إستانبول.
                        الروح المجرد، ص: 180
         ما عَدَم هائيم و هستى‏هاى ما             تو وجود مطلقى فانى نما [1]

                        أبيات العارف الجليل الشيخ محمود الشبستريّ في معنى التجرّد

و لقد أورد الحكماء الإلهيّون و العرفاء الربّانيّون هذه الحقيقة بالتفصيل في كتبهم و شرعوا في بيانها و شرحها، و نكتفي هنا بذكر أبيات للعارف الجليل الشيخ محمود الشبستريّ:
در إشاره به تَرْسَائي [2]
         ز ترسائى غرض تجريد ديدم             خلاص از ربقة تقليد ديدم [3]
            __________________________________________________
 [1]- كتاب «مثنوي معنوي مولوي» ج 1، ص 16، السطر 16، طبعة آقا ميرزا محمود؛ و في طبعة ميرخاني: ص 17، السطر 18. و أورد الأوّل في هامشه أن «ما عدم‏هائيم» قد فُسِّرت علي نحوَينِ: فمنهم من جعل «هستيهاي ما» معطوفة علي «ما»، أي: نحن، أي ماهيّاتنا و وجوداتنا التي هي محض وجود رابط، معدومون و فانون، لكنّنا نبدو موجودينَ؛ بينما تبدو أنت- و أنت الوجود المطلق الأصليّ- في نظرنا القاصر فانياً. و البعض يعتبر «هستيهاي ما» مبتدأ، أي: وجوداتُنا أنت و منك؛ فأنت الوجود المطلق الأصيل الذي لا فناء لك. [2]- إشارة إلي الرهبة [3]- «گلشن راز» ص 84 إلي 90، طبعة عماد الدين الأردبيليّ. يقول: «رأيت التجرّد و الخلاص من ربقة التقليد هو الهدف من التجرّد».


                        الروح المجرد، ص: 181
         جناب قُدس وحدت ديْرِ جان است             كه سيمرغ بقا را آشيان است‏
             ز روح الله پيدا گشت اين كار             كه از روح القدس آمد پديدار
             هم از الله در پيش تو جانى است             كه از روح‏القدس دروى نشانى است‏
             اگر يابى خلاص از نفس ناسوت             در آيى در جناب قدس لاهوت‏
             هر آن كس كو مجرّد چون مَلَك شد             چو روح الله بر چارم فلك شد [1]

                        تمثيل العارف الشبستريّ لحقيقة معنى التجرّد

 «تمثيل»
         بود محبوس طفل شير خواره             به نزد مادر اندر گاهواره‏
             چه گشت او بالغ و مرد سفر شد             اگر مرد است همراه پدر شد [2]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «فإنّ قدس الوحدة هو دير الروح، و عشّ عنقاء البقاء الحقيقيّ. فقد ظهر هذا التنزّه و التجرّد عند عيسي روح الله، من روح القدس (إشارةً إلي «و نفخت فيه من روحي»). كذلك فإنّ فيك روحاً من الله و أثراً من روح القدس. فإن تخلّصتَ من النفس الناسوتيّة، فستدخل في حريم قدس اللاهوت. فالذي تجرّد كالمَلَك عَرَج كروح الله إلي الفلك الرابع». [2]- يقول: «إ نّ الطفل الرضيع محبوس في المهد عند ا مّه. لكنّه عندما يصبح بالغاً، فإنّه يتبع أباه و يرافقه إن كان رجلًا».


                        الروح المجرد، ص: 182
         عناصر مرتو را چون امّ سِفلِى است             تو فرزند و پدر آباءِ عِلْوى است‏
             از آن گفته است عيسى گاهِ اسْرا             كه آهنگ پدر دارم به بالا
             تو هم جان پدر سوى پدر شو             به در رفتند همراهان به در شو
             اگر خواهى كه گردى مرغ پرواز             جهان جيفه پيش كركس انداز
             به دو نان ده مر اين دنياى غدّار             كه جز سگ را نشايد داد مردار
             نسب چَبْوَد مناسب را طَلَب كن             به حقّ رو آور و ترك نسب كن‏
             به بحر نيستى هركو فرو شد             فَلَا أنسابَ نقد وقت او شد [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «و العناصر هي لك كالامّ السفليّة، أنت ابن و أبوك علويّ كالأفلاك. و لأنّ للأفلاك حكم الأب، فقد قال عيسي عند إسرائه: إنّني أعرج إلي أبي و أبيكم السماويّ. و أنت يا بُنَيّ اتّجه نحو أبيك، فالذين كانوا يرافقونك قد اتّجهوا نحو العالَم العلويّ فاتّجه أنت بدورك. و إن شئت التحليق كالطائر، فألقِ جيفة الدنيا إلي العُقبان التي تقتات علي الموتي. و دَعْ إلي السَّفَلة هذه الدنيا الغدّارة، فالجيفة لا تُلقي إلّا إلي الكلاب. و ما الذي سيعود عليك من النسب؟ فاطلب المُناسب و اللائق و يمّمْ نحو الحقّ و اترك النسب و العلائق الدنيويّة. فإنّ من غاصت قدماه في بحر العدم سيكون نصيبه فَلَا أنسَابَ بَيْنَهُمْ».


                        الروح المجرد، ص: 183
         هر آن نسبت كه پيدا شد ز شهوت             ندارد حاصلى جز گَرْدِ نخوت‏
             اگر شهوت نبودى در ميانه             نَسَبْها جمله ميگشتى فَسانه‏
             چه شهوت در ميانه كارگر شد             يكى مادر شد آن ديگر پدر شد
             نمي‏گويم كه: مادر يا پدر كيست!             كه با ايشان به حرمت بايدت زيست‏
             نهاده ناقصى را نام خواهر             حسودى را لقب كرده برادر
             عَدُوى خويش را فرزند خوانى             ز خود بيگانه خويشاوند خوانى‏
             مرا بارى بگو: تا خال و عم كيست             وز ايشان حاصلى جزدرد و غم نيست [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «و كلّ نسبةٍ وُجدت من شهوة، لا تجلب لك إلّا غبار الأنانيّة. و لو عُدِمَت الشهوة في اجتماع الرجل و المرأة، لصار النسب خيالًا و لانقطعت الأنساب. لكنّ هذه الشهوة كانت فعّالة أوجبت الزواج، فصار أحدهما امّاً و الآخر أباً. و لست بذامّ للأب و الامّ، فالعيش مهما كان يجب أن يقترن بالاحترام و التوقير. لقد دُعي ناقص العقل و الدين اختاً، و دُعي الحسود (كإخوة يوسف) أخاً. و ها أنت تدعو عدوّك ابناً (إ نَّ مِنْ أ زْوَاجِكُمْ وَ أ وْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ)، و تدعو الغريب عنك قريباً لك. فقل لي: مَن هم الخال و العمّ، و ماذا يعود علي المرء منهم غير الأذي و الغمّ؟».


                        الروح المجرد، ص: 184
         رفيقانى كه با تو در طريقند             پى هزل اى برادر هم رفيقند
             به كوى جِدّ اگر يك دم نشينى             از ايشان من چه گويم تا چه بينى‏
             همه افسانه و افسون و بند است             به جان خواجه كاينها ريشخند است‏
             به مردى وارهان خود را چه مردان             و ليكن حقّ كس ضايع مگردان‏
             ز شرع ار يك دقيقه ماند مُهْمَل             شوى در هر دو كون از دين معطّل‏
             حقوق شرع را زينهار مگذار             وليكن خويشتن را هم نگهدار
             ز سوزن [1] نيست الّا ماية غم             به جا بگذار چون عِيسيّ مريم [2]
            __________________________________________________
 [1]- أورد في «گلشن راز» طبعة طهوري، تحقيق الدكتور صمد موحّد، هذا البيت بلفظ: «زر و زن» (/ الذهب و المرأة). [2]- يقول: «فإنّ أصحابك الذين يرافقونك في الحياة، إنّما يا أخي يرافقونك هزلًا. فإن صِرتَ إلي الجِدّ سمعتَ منهم و رأيت ما يجلّ عن الوصف. لكنّ هذه الأنساب بأجمعها ليست- لعمرك- إلّا خيالًا و قيداً و ضحكاً علي الذقون. فكن رجلًا و خلّص نفسك كما فعل الرجال، و تحرّر من هذه القيود، دون أن تضيّع حقّاً لأحد. و لو أهملت الشرع دقيقة واحدة، لصرت بلا دين في الكونَينِ. فارْعَ حقوق الشرع و إيّاك أن تهملها، ولكن عليك أيضاً أن تحفظ نفسك و تتعاهدها. فليس من شي‏ء تافه- و لو كالإبرة- إلّا و كان منشأً للغمّ، فدعها كما فعل عيسي ابن مريم».


                        الروح المجرد، ص: 185
         حنيفى شو ز قيد هر مذاهب             درآ در دَيْرِ دين مانند راهب‏
             تو را تا در نظر أغيار و غير است             اگر در مسجدى آن عين دَيْر است‏
             چو بر خيزد ز پيشت كسوت غير             شود بهر تو مسجد صورت دير
             نمي‏دانم به هر جائى كه هستى             خلاف نفس كافر كن كه رستى‏
             بت و زُنّار و ترسائيّ و ناقوس             إشارت شد همه با ترك ناموس‏
             اگر خواهى كه گردى بندة خاص             مُهَيّا شو براى صِدق و اخلاص‏
             برو خود را ز راه خويش برگير             به هر يك لحظه ايمان دگر گير [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «و كن حنيفاً إبراهيميّاً و تحرّر من قيد كلّ مذهب، و انقطع في دَيْر الدين (المسجد) كالراهب. إن أنت رأيت الأشياء غير الحقّ فقد كفرت، فلو كنت في المسجد فكأنّك في الدير. و لو خلعت عنك ثياب الغيريّة، فستري أ نّ المسجد و الدير ليسا إلّا شيئاً واحداً. و لستُ بعالم ما تقول، ولكن أنّي كنتَ فخالف نفسك كي تفوز و تحظي. إ نّ الصنم و الزنار و الرهبانيّة و الناقوس إشارات للعارفين لترك الناموس و الجاه و اللجوء إلي الفقر. و إن شئت أن تصبح عبداً من الخواصّ، فاستعدّ للزوم الصدق و الإخلاص. و اذهب و أزل ال- «أنا» من طريقك، و تعاهد إيمانك فجدّده كلّ لحظة».


                        الروح المجرد، ص: 186
         به باطن نفس ما چون هست كافر             مشو راضى بدين اسلام ظاهر
             ز نو هر لحظه ايمان تازه گردان             مسلمان شو مسلمان شو مسلمان‏
             بسى ايمان بود كان كفر زايد             نه كفر است آن كزو ايمان فزايد
             ريا و سُمْعَه و ناموس بگذار             بيفكن خرقه و بر بند زنّار
             چو پير ما شو اندر كفر فردى             اگر مَردى بده دل را به مَردى‏
             مجرّد شو ز هر إقرار و إنكار             به ترسازاده‏اى ده دل به يكبار [1]

حتّى يصل إلى قوله:
         يكى پيمانه پر كرد و به من داد             كه از آب وى آتش در من افتاد
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «إ نّ هناك كافراً كامناً في باطننا، فلا تقنع أو تطمئنّ بظاهر إسلامك. و جدّد كلّ لحظة إيمانك، و كن مسلماً من جديد، كن مسلماً كلّ لحظة. رُبَّ إيمان يلد كفراً، كما ليس بكفر ذاك الذي يزيدك إيماناً. دع الرياء و السمعة و الناموس (الجاه)، و ألقِ بخرقة الزاهد و اطوِ زنّاراً. و كن كشيخ طريقتنا في الكفر وحيداً (الكفر بالعلائق و القيود...)، و إن كنت ذا رجولة فأعطِ قلبك لرجل. و صِرْ مجرّداً من كلّ إقرار و إنكار، و اعشق بكلّ وجودك وليد الترهّب (أي المرشد الكامل)».


                        الروح المجرد، ص: 187
         كنون گفت از مى بى‏رنگ و بى‏بو             نقوش تختة هستى فرو شو
             چه آشاميدم آن پيمانه را پاك             در افتادم زمستى بر سر خاك‏
             كنون نه نيستم در خود نه هستم             نه هشيارم نه مخمورم نه مستم‏
             گهى چون چشم او دارم سَرِى خَوش             گهى چون زلف او باشم مُشَوَّش‏
             گهى از خون خود در گلخنم من             گهى از روى او در گلشنم من [1]

                        المرّة الأولى لحصول التجرّد للسيّد هاشم الحدّاد في كربلاء

المرّة الأولى لحصول التجرّد للسيّد هاشم الحدّاد في كربلاء
بمتابعة أمر الاستاذ المرحوم القاضيّ‏
بالصبر و التحمّل و مخالفة النفس مقابل الشدائد و أذى الناس‏
قال سماحة السيّد الحدّاد: لقد حصل لي التجرّد للمرّة الأولى في‏
__________________________________________________
 [1]- يقول: «ملأ الكأس و أعطاني، فشبّ من مائها النار في كياني.
ثمّ قال: اغسل نقوش لوح وجودك بصهباء بلا لون و لا ريح.
و حين شربتُ الكأس المصفّاة حتّى الثمالة، هويت علي التراب ثملًا.
فلست بموجود في ذاتي و لا معدوم، و لست بصاح و لا ثمل و لا سكران.
فأنا تارة- كعينيه- نشوان جذلان، و تارة- كزلفه- في اضطراب.
و أنا تارة- من دمائي- في أتون، و أنا تارة- من محيّاه- في روضة من رياض الورود».
                        الروح المجرد، ص: 188
كربلاء، و تفصيل ذلك أنّه كان يعيش مضطرّاً لعُسر المعيشة مع أبوي زوجته، فكان اولئك يعيشون في جانب من البيت و هؤلاء في جانب، في غرفة أعطاها إيّاه والد زوجته مجّاناً، و دام ذلك اثنتي عشرة سنة. و كان والد زوجته- حسين، أبو عمشة- يحبّه كثيراً، أمّا والدتها فكانت على العكس من ذلك، و لم تكن لتفتقد مشاعر العطف و المحبة نحوه فقط، بل كانت لا تتورّع عن إبداء أنواع الأذى في القول و الفعل. و كانت امرأة قويّة البُنية بذيئة اللسان و من عشيرة الجنابات العربيّة، امرأة شجاعة و جريئة بشكل لم يكن لأيّ رجلٍ الحقّ في العبور ليلًا قرب منزلها خوفاً منها، فكان لها القدم الراسخ في حفظ عائلتها و بناتها إلى حدّ كبير، و إذا ما صادف أحياناً أن يعبر شخص فقد كانت تذهب إليه بمفردها و تحاسبه على ذلك.
و كان السيّد يقول: لم يكن يفصل بين غرفتهم و غرفتنا في هذا الجانب سوى أكياس الرزّ الذي له رائحة العنبر و ظروف السمن المعدنيّة المكدّسة على بعضها، لكنّهم لم يكونوا ليعطونا منها شيئاً، بل كانت امّ زوجتي- و اسمها نجيبة- تتعمّد أن ترانا في شدّة و عسر، لكأنّها كانت تسعد بذلك و تسرّ. و كنت و زوجتي نفتقد الفراش و الغطاء، و كنا نسحب نصف الحصير من أسفلنا أحياناً فنلقيه علينا من شدّة البرد.
و بالرغم من أنّني كنت أذهب للعمل بصورة منتظمة، لكنّ أكثر المراجعين كانوا من الفقراء الذين يعرفونني، و الذين كانوا يأخذون منّي نسيئة، و كان بعضهم لا يدفع الثمن. كما كان معاوني يأخذ ما يحتاج من مصارف، فلم يَبْقَ لي شي‏ء غالباً إلّا مائة أو خمسون فلساً كانت بالكادّ تغطّي نفقات شراء الخبز و النفط و فتيلة المصباح و أمثالها، و كانت الأشهر تتصرّم فأعجز خلالها عن شراء قليل من اللحم لأحمله لعائلتي.
و كان سبب نفور هذه المرأة منّي مسألة الفقر التي كانت في نظرها
                        الروح المجرد، ص: 189
أمراً قبيحاً، و مع هذا الوضع الذي كانت تلمسه و الذي كان يوجب عليها أن تمدّ يد المساعدة لنا، إذ كانت متمكِّنة و ثريّة، لكنّها كانت على العكس تسعى إلى أن يتلف لدينا شي‏ء ليزداد ضيقنا و محنتنا. [1]
و من جهة أخرى فلم تكن شدّة الحالات الروحيّة و الاستفادة من محضر سماحة المرحوم القاضي لتسمح لي بجمع المال و تكديسه، أو ردّ الفقير و المحتاج، أو رفض إقراض الآخرين، و كانت حالتي بهذه الكيفيّة التي لم يكن يسعني أن أمتلك غيرها.
                        أمر آية الله القاضي بالصبر وتحمّل أذى أُ مّ الزوجة

و كانت زوجتي تتحمّل و تصبر، لكنّ صبرها و تحمّلها كانا محدودَينِ. و هكذا فقد ذكرتُ للمرحوم القاضي بأنّ أذى حماتي لي بالقول و الفعل قد بلغ حدّه الأقصى، و لقد عِيل صبري في الحقيقة فلم أعُدْ أمتلك الصبر و الحلم و التحمّل على أذاها، و طلبتُ منه الإذن في طلاق زوجتي.
فقال المرحوم القاضي: بغضّ النظر عن هذه الامور، فهل تحبّ زوجتك؟ أجبتُ: نعم!
قال: أفتحبّك زوجتك؟ قلت: نعم!
قال: لا إذْن لك في الطلاق أبداً! فاذهب و اصبر، فإنّ تربيتك على يد زوجتك، و بهذا الشكل الذي بيّنته، فإنّ الله سبحانه قد قرّر أن يكون تأديبك على يد زوجتك؛ فعليك بالتحمّل و المداراة و الحلم!
و لم أكن لأتخطّى تعليمات المرحوم القاضي أو أتجاوزها أبداً،
__________________________________________________
 [1]- أورد في «نهج البلاغة» في القسم الثاني من الأقسام الخمسة من الخطبة 190: القاصعة، و في الطبعة المصريّة، مطبعة عيسي البابيّ مع هامش الشيخ محمّد عبده: ج 1، ص 380: وَلَكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ اولي قُوَّةٍ في عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَري الأعْيُنُ مِنْ حَالاتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلُا القُلُوبَ وَ العُيونَ غِنيً، وَ خَصَاصَةٍ تَمْلُا الأبْصَارَ و الأسمَاعَ أ ذيً.
                        الروح المجرد، ص: 190
و كنت أتحمّل ما تضيفه امّ زوجتي هذه فوق مصائبنا. حتّى كانت ليلة من ليالي الصيف، عدت فيها إلى المنزل من الخارج بعد أن مرّ جزء من الليل، تعباً مرهقاً و جائعاً و عطشاناً اريد الذهاب إلى الغرفة، فرأيت امّ زوجتي جالسة قرب الحوض في ساحة المنزل و قد كشفت عن ساقيها من شدّة الحرّ و شرعتْ بصبّ الماء عليهما من الحنفيّة الموضوعة فوق الحوض، و حين علمتْ أنّني قد دخلتُ المنزل، شرعتْ في كيل كلمات التجريح و السباب و الشتائم التي تخاطبني بها، و لم أدخل إلى الغرفة، بل اتّجهت نحو السلّم فصعدت إلى السطح لأستلقي هناك، فرأيت أنّها رفعت عقيرتها و زادت نبرات صراخها بحيث صار الجيران يسمعونه فضلًا عنّي، و هكذا فقد كالت لي سيل الشتائم و السباب، و استمرّت تُعدّد و تعدّد حتّى عِيل صبري، فهبطتُ الدرج بدون أن أنتهرها أو أردّ عليها بكلمة واحدة، و خرجتُ من باب البيت فهمتُ على وجهي بلا هدف، و رُحتُ أسير في الشوارع بلا قصد أو انتباه، بل هكذا أسير في الشوارع دون أن أعرف إلى أين أذهب؛ كنت أسير فقط.
و فجأة رأيت في تلك الحال أنّني صرت اثنين: أحدهما السيّد هاشم الذي اعتدتْ عليه امّ زوجته و سبّته و شتمته، و الآخر هو أنا مجرّد و محيط و متسام لم ينلني سبابها و شتائمها، فلم تكن أساساً تسبّ سيّد هاشم هذا، و لم تكن لتسبّني أو تشتمني، بل كان سيّد هاشم ذاك هو الجدير بكلّ أنواع القبيح من القول. أمّا سيّد هاشم هذا، الذي هو أنا، فلا يستحقّ أن يسبّ، بل إنّها مهما سبّت و شتمت فإنّ ذلك لن يصل إليّ.
فانكشف لي في تلك الحال أ نّ تلك الحالة الرائعة التي حصلت لي و التي تبعث على السرور و البهجة إنّما حصلت إثر تحمّل تلك الشتائم و الألفاظ القبيحة التي كالتها لي امّ زوجتي، و أ نّ إطاعة أمر الاستاذ المرحوم‏
                        الروح المجرد، ص: 191
القاضي قد فتحت لي هذا الباب، فلو لم اطعه و لم أتحمّل أذى حماتي، لبقيت إلى الأبد ذلك السيّد هاشم المحزون المغموم الضعيف المشتّت الفكر و المحدود.
و للّه الحمد فأنا الآن سيّد هاشم هذا، حيث أتربّع في مكان رفيع و مقام كريم و عزيز، لا ينالني غبار جميع الهموم و الأحزان و الغموم الدنيويّة بذرّة منه، و لا يتمكّن من أن ينالني بشي‏ء من ذلك.
و هكذا فقد عدت فوراً من هناك إلى البيت، فانكببت على يَدَيْ امّ زوجتي و رِجليها أقبّلهما و أقول: لا تتخيّلي أنّني انزعجت من كلامك ذلك، فقولي في بعد الآن ما شئتِ فإنّه مفيد لي!
                        العمل برواية عنوان البصريّ كان أمراً أساسيّاً من أوامر المرحوم القاضيّ‏

لقد كان المرحوم الاستاذ الكبير، عارف القرن الذي لا نظير له، بل هو حسب تعبير استاذنا سماحة الحاجّ السيّد هاشم: «لم يأت منذ صدر الإسلام حتّى الآن في مثل شمول و جامعيّة المرحوم القاضيّ»، كان قد أصدر تعليماته لتلامذته و مريديه في السير و السلوك إلى الله، أن يكتبوا رواية عنوان البصريّ و يعملوا بها من أجل تخطّى النفس الأمّارة و الرغبات المادّيّة و الطبعيّة و الشهويّة و الغضبيّة التي تنشأ غالباً من الحقد و الحرص و الشهوة و الغضب و الإفراط في الملذّات.
أي إ نّ العمل وفق مضمون هذه الرواية كان أمراً أساسيّاً و مهمّاً. و كان يقول مضافاً إلى ذلك: ينبغي أن تحتفظوا بها في جيوبكم و تطالعونها مرّة أو مرّتين كلّ اسبوع. فهذه الرواية تحظى بالاهمّيّة الكبيرة و تحوي مطالب شاملة و جامعة في بيان كيفيّة المعاشرة و الخلوة، و كيفيّة و مقدار تناول الغذاء، و كيفيّة تحصيل العلم، و كيفيّة الحلم و مقدار الصبر و الاستقامة و تحمّل الشدائد أمام أقوال الطاعنين؛ و أخيراً مقام العبوديّة و التسليم و الرضا و الوصول إلى أعلى ذروة العرفان وقِمّة التوحيد.
                        الروح المجرد، ص: 192
لذا، فلم يكن المرحوم القاضي ليقبل تلميذاً لا يلتزم بمضمون هذه الرواية. و هذه الرواية منقولة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، و قد ذكرها المجلسيّ في كتاب «بحار الأنوار».
                        النصّ الكامل لرواية عنوان البصريّ‏

و لمّا كانت تمثّل برنامجاً عمليّاً شاملًا نُقِلَ عن ذلك الإمام الهمام، لذا نوردها بألفاظها و عباراتها بلا تصرّف ليستفيد منها مُحبّو و عشّاق السلوك إلى الله تعالى:
17- أقُوُلُ: وَجَدْتُ بِخَطِّ شَيْخِنَا البَهَائِيّ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ مَا هَذَا لَفْظُهُ:
قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيّ: نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ الشَّيْخِ أحْمَدَ الفَرَاهَانِيّ رَحِمَهُ اللهُ، عَنْ عِنْوَانِ [1] البَصْرِيّ- وكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ أتَى عَلَيهِ [2] أرْبَعٌ وَ تِسْعُونَ سَنَةً- قَالَ: كُنْتُ أخْتَلِفُ إلى مَالِكِ بْنِ أنَسٍ سِنِينَ، فَلَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلَامُ المَدينَةَ اخْتَلَفْتُ إلَيْهِ، وَ أحْبَبْتُ أنْ آخُذَ عَنْهُ كَمَا أخَذْتُ عَنْ مَالِكٍ.
فَقَالَ لِي يَوْماً: إنِّي رَجُلٌ مَطْلُوبٌ وَ مَعَ ذَلِكَ لِي أ وْرَادٌ في كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ آنَاءِ اللَيْلِ وَ النَّهَارِ، فَلَا تَشْغَلْنِي عَنْ وِرْدِي؛ وَ خُذْ عَنْ مَالِكٍ وَ اخْتَلِفْ إلَيْهِ كَمَا كُنْتَ تَخْتَلِفُ إلَيْهِ. فَاغْتَمَمْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَ قُلْتُ في نَفْسِي: لَوْ تَفَرَّسَ في خَيْراً لَمَا زَجَرَنِي عَنِ الاخْتِلَافِ إلَيْهِ وَ الأخْذِ عَنْهُ.
__________________________________________________
 [1]- يقول في «أقرب الموارد»: عَنْوَنَ الكِتَابَ عَنْوَنَةً: كَتَبَ عُنْوَانَهُ؛ وَ يُقَالُ: عَنْوَنَهُ وعَنَّهُ وعَنَّنَهُ وعَنَّاهُ. وَ الاسْمُ: العُنْوَانُ؛ عُنْوَانُ الكِتَابِ وَ عِنْوَانُهُ وَ عُنْيَانُهُ وَ عِنْيَانُهُ: سِمَتُهُ وَ دِيبَاجَتُهُ؛ سُمِّيَ بِهِ لأنَّهُ يَعِنُّ لَهُ مِنْ نَاحِيَتِهِ. وَ أصْلُهُ عُنَّانُ كَرُمَّانِ. وُ كُلُّ مَا اسْتَدْلَلْتَ بِشَي‏ءٍ يُظْهِرُكَ عَلَي غَيْرِهِ فَعُنوَانٌ لَهُ؛ يُقَالُ: «الظَّاهِرُ عُنْوَانُ البَاطِنِ».
 [2]- يقول في «أقرب الموارد»: أتَا- ض- أتْياً وَ إتْيَاناً و إتْيَانَةً؛ وَ مأتَاةً وَ اتِيَّاً (وَ يُكْسَرُ) عَلَي الشَّي‏ءِ: أنْفَدَهُ وَ بَلَغَ آخِرَهُ وَ مَرَّ بِهِ؛ وَ- عَلَيهِ الدَّهْرُ: أهْلَكَهُ.
                        الروح المجرد، ص: 193
فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ الرَّسُولِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْتُ عَلَيهِ ثُمَّ رَجَعْتُ مِنَ الغَدِ إلى الرَّوْضَةِ [1] وَ صلّى تُ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَ قُلْتُ: أسْألُكَ يَا اللهُ يَا اللهُ! أ نْ تَعْطِفَ عَلَيّ قَلْبَ جَعْفَرٍ وَ تَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِهِ مَا أهْتَدِي بِهِ إلى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ!
وَ رَجَعْتُ إلى دَارِي مُغْتَمَّاً وَ لَمْ أخْتَلِفْ إلى مَالِكِ بْنِ أنَسٍ لِمَا اشْرِبَ قَلْبِي مِنْ حُبِّ جَعْفَرٍ. فَمَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِي إلَّا إلى الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ حتّى عِيلَ صَبْرِي.
فَلَمَّا ضَاقَ صَدْرِي تَنَعَّلْتُ وَ تَرَدَّيْتُ وَ قَصَدْتُ جَعْفَراً وَ كَانَ بَعْدَ مَا صلّى تُ العَصْرَ. فَلَمَّا حَضَرْتُ بَابَ دَارِهِ اسْتَأذَنْتُ عَلَيهِ فَخَرَجَ خَادِمٌ لَهُ فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟! فَقُلْتُ: السَّلَامُ على الشَّرِيفِ!
فَقَالَ: هُوَ قَائِمٌ في مُصَلَّاهُ. فَجَلَسْتُ بِحِذاءِ بَابِهِ، فَمَا لَبِثْتُ إلَّا يَسِيراً. إ ذْ خَرَجَ خَادِمٌ فَقَالَ: ا دْخُلْ على بَرَكَةِ اللهِ. فَدَخَلْتُ وَ سَلَّمْتُ عَلَيهِ. فَرَدَّ السَّلَامَ وَ قَالَ: اجْلِسْ غَفَرَ اللهُ لَكَ!
فَجَلَسْتُ. فَأطْرَقَ مَلِيَّاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ وَ قَالَ: أبُو مَنْ؟!
قُلْتُ: أبُو عَبْدِ اللهِ!
قَالَ: ثَبَّتَ اللهُ كُنْيَتَكَ وَ وَفَّقَكَ؛ يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! مَا مَسْألَتُكَ؟!
فَقُلْتُ في نَفْسِي: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْ زِيَارَتِهِ وَ التَّسْلِيمِ غَيْرُ هَذَا الدُّعَاءِ
__________________________________________________
1- المقصود بالروضة: الموضع الواقع بين القبر المطهّر للرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و منبره. روى الكلينيّ في «فروع الكافي»، ج 4، ص 553 و 554، كتاب الحجّ، باب المنبر و الروضة و مقام النبيّ، طبعة دار الكتب الإسلاميّة، طهران، سنة 1391: أ نّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَ مِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ. و قد أورد هذه الرواية المحقّق الفيض الكاشانيّ في «المحجّة البيضاء» ج 2، ص 187، طبعة مكتبة الصدوق، من كتاب «أسرار الحجّ» بلفظ: مَا بَيْنَ قَبْرِي وَ مِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ.
                        الروح المجرد، ص: 194
لَكَانَ كَثِيراً. ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ ثُمَّ قَالَ: مَا مَسْألَتُكَ؟!
فَقُلْتُ: سَألْتُ اللهَ أ نْ يَعْطِفَ قَلْبَكَ عَلَيّ وَ يَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِكَ؛ وَ أ رْجُو أ نَّ اللهَ تعالى أجَابَنِي في الشَّرِيفِ مَا سَألْتُهُ.
فَقَالَ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! لَيْسَ العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ في قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللهُ تَبَارَكَ وَ تعالى أ نْ يَهْدِيَهُ؛ فَإنْ أرَدْتَ العِلْمَ فَاطْلُبْ أوَّلًا في نَفْسِكَ حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ، وَ اطْلُبِ العِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَ اسْتَفْهِمِ اللهَ يُفْهِمْكَ!
قُلْتُ: يَا شَرِيفُ! فَقَالَ: قُلْ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ!
قُلْتُ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! مَا حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ؟!
قَالَ: ثَلَاثَةُ أشْيَاءَ: أ نْ لَا يَرَى العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللهُ مِلْكاً، لأنَّ العَبِيدَ لَا يَكُونُ لهم مِلْكٌ؛ يَرَوْنَ المَالَ مَالَ اللهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أمَرَهُمُ اللهُ بِهِ. وَ لَا يُدَبِّرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً. وَ جُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِيمَا أمَرَهُ تعالى بِهِ وَ نَهَاهُ عَنْهُ.
فَإذَا لَمْ يَرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللهُ تعالى مِلْكاً، هَانَ عَلَيهِ الإنْفَاقُ فِيمَا أمَرَهُ اللهُ تعالى أ نْ يُنْفِقَ فِيهِ. وَ إذَا فَوَّضَ العَبْدُ تَدْبِيرَ نَفْسِهِ على مُدَبِّرِهِ، هَانَ عَلَيهِ مَصَائِبُ الدُّنْيَا. وَ إذَا اشْتَغَلَ العَبْدُ بِمَا أمَرَهُ اللهُ تعالى وَ نَهَاهُ، لَا يَتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلى المِرَاءِ وَ المُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ.
فَإذَا أكْرَمَ اللهُ العَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ هَانَ عَلَيهِ الدُّنْيَا، وَ إبْلِيسُ، وَ الخَلْقُ. وَ لَا يَطْلُبُ الدُّنْيَا تَكَاثُراً وَ تَفَاخُراً، وَ لَا يَطْلُبُ مَا عِنْدَ النَّاسِ عِزَّاً وَ عُلُوَّاً، وَ لَا يَدَعُ أيَّامَهُ بَاطِلًا.
فَهَذَا أوَّلُ دَرَجَةِ التُّقَى؛ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَ تعالى:
 «تِلْكَ الدَّارُ الأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرْضِ‏
                        الروح المجرد، ص: 195
وَ لَا فَسَادًا وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ». [1]
قُلْتُ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! أ وْصِنِي!
قَالَ: اوصِيكَ بِتِسْعَةِ أشْيَاءَ، فَإنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إلى اللهِ تعالى؛ وَ اللهَ أسْألُ أ نْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ.
ثَلَاثَةٌ مِنْهَا في رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا في الحِلْمِ، وَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا في العِلْمِ. فَاحْفَظْهَا؛ وَ إيَّاكَ وَ التَّهَاوُنَ بِهَا!
قَالَ عِنْوَانٌ: فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ.
فَقَالَ: أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ:
فَإيَّاكَ أ نْ تَأكُلَ مَا لَا تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَ البَلَهَ. وَ لَا تَأكُلْ إلَّا عِنْدَ الجُوعِ. وَ إذَا أكَلْتَ فَكُلْ حَلَالًا وَ سَمِّ اللهَ، وَ اذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: مَا مَلأ آدَمِيّ وِعَاءً شَرَّاً مِنْ بَطْنِهِ. فَإنْ كَانَ وَ لابُدَّ فَثُلْثٌ لِطَعَامِهِ وَ ثُلْثٌ لِشَرَابِهِ وَ ثُلْثٌ لِنَفَسِهِ. [2]
وَ أمَّا اللَوَاتِي في الحِلْمِ:
فَمَنْ قَالَ لَكَ: إ نْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً، فَقُلْ: إ نْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً. وَ مَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إ نْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأسْألُ اللهَ أ نْ يَغْفِرَ لِي؛ وَ إ نْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللهَ أسْألُ أ نْ يَغْفِرَ لَكَ.
وَ مَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَى فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَ الرَّعَاءِ.
وَ أمَّا اللَوَاتِي في العِلْمِ:
فَاسْألِ العُلَمَاءَ مَا جَهِلْتَ؛ وَ إيَّاكَ أ نْ تَسْألَهُمْ تَعَنُّتاً [3] وَ تَجْرِبَةً. وَ إيَّاكَ‏
__________________________________________________
 [1]- الآية 83، من السورة 28: القصص.
 [2]- كان من ضمن كلام السيّد الحدّاد قوله: أنت تأكل ما يلزمك من الغذاء، أمّا ما زاد عليه فإنّ الغذاء يأكلك.
 [3]- يقول في «أقرب الموارد»: تَعَنَّتَهُ: أ دْخَلَ عَلَيهِ الأذَي وَ طَلَبَ زَلَّتَهُ وَ مشَقَّتَهُ. يُقَالُ: جَاءَهُ مُتَعَنِّتاً، أ يْ طَالِباً زَلَّتَهُ. وَ- في السُّؤَالِ: سَألَهُ عَلَي جِهَةِ التَّلْبِيسِ عَلَيهِ. وَ رُبَّمَا عُدِّيَ بِ- «عَلَي».
                        الروح المجرد، ص: 196
أنْ تَعْمَلَ بِرَأيِكَ شَيْئاً؛ وَ خُذْ بِالاحْتِيَاطِ في جَمِيعِ مَا تَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلًا. وَا هْرَبْ مِنَ الفُتْيَا هَرْبَكَ مِنَ الأسَدِ؛ وَ لَا تَجْعَلْ رَقَبَتَكَ لِلنَّاسِ جِسْراً!
قُمْ عَنِّي يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! فَقَدْ نَصَحْتُ لَكَ، وَ لَا تُفْسِدْ عَلَيّ وِرْدِي؛ فَإنِّي امْرُءٌ ضَنِينٌ بِنَفْسِي. «وَ السَّلَامُ على مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَي». [1]
                        تعاليم المرحوم القاضي وصيّة من الإمام الصادق المقتبسة من القرآن‏

و بالتأمّل و التدقيق في المطالب الواردة في هذا الحديث المبارك في مراده، و العظيم في مفاده، تتَّضح لنا درجة السمو و الرفعة التي ارتقت إليها تعاليم آية الحقّ و العرفان، و سند التحقيق و الإيقان، و عماد البصيرة و البرهان: الحاجّ السيّد علي القاضي قدّس الله تربته الزكيّة. فلقد كان يعطي هذه التعاليم التي تنصبّ بشكل كامل في طريق الإعراض عن مشاعر العداء و الانتقام و كسر صولة النفس الأمّارة، و العثور على نافذة للإطلال على عالم المعنى و التجرّد و الملكوت، و من ثمّ لعرفان ذات الحقّ تعالى و اندكاك الوجود المعار المجازيّ في الوجود المطلق و الوجود المحض و الصرف السرمديّ الأزليّ الأبديّ الذي لا يُتناهى لذاته القدسيّة.
فرواية عنوان البصريّ ينبغي أن تُؤَلَّف الكتب في شرحها و تفصيلها، و بالرغم من أ نّ ذلك قد حصل فعلًا، إلّا أ نّ تلك الكتب لم تأت باسم شرح رواية عنوان البصريّ. أوَ ليس كتاب «إحياء الإحياء» القيّم الجليل للفيض الكاشانيّ الذي دعاه ب- «المحجّة البيضاء» و كتاب «جامع السعادات» للحاجّ الملّا مهدي النراقيّ جدّنا الجليل، و كتاب «عدّة الداعي»
__________________________________________________
 [1]- «بحار الأنوار» ج 1، ص 224 إلي 226، كتاب العلم، الباب 7: باب آداب طلب العلم و أحكامه، الحديث 17، الطبعة الحروفيّة، المطبعة الحيدريّة.
                        الروح المجرد، ص: 197
و غيرها من الكتب بالحمل الشايع الصناعيّ غير شرح و تفصيل هذه المطالب القيّمة؟!
و لقد استشهد الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرواية بهذه الآية المباركة: تِلْكَ الدَّارُ الأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرْضِ وَ لَا فَسَادًا وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. يعني: أيّها السيّد هاشم! إن كنتَ تطلب عالم النور و التجرّد و المنزل الباقي و الخالد للقاء الله و الورود في حرم أمنه و أمانه، و إن كنت تفتِّش عن رضا المحبوب، و إن جعلتَ همّك الأكبر في عرفان الذات القدسيّة، و إن كنت قد عشقته فعلًا، فأنت تسعى لوصال المعشوق و نيل المُنى؛ فليس أمامك من سبيل إلّا التسامي و التعالي و التنزّه عن الفساد في الأرض.
و إن كنت جادّاً في السعي لنيل ذلك المقام المنيع، فعليك الإغماض عن أذى امّ زوجتك و تجاهله، و إلّا فلو رددتَ عليها و جازيتها على فعلها أو طلّقت زوجتك- مع أ نّ ذلك حقّك الشرعيّ- فإنّك لن تصل إلى هذا المقام. فهذا هو الشرع الأعلى، و الجهاد الأكبر، و هذه هي الهجرة الكبرى؛ و ينبغي تطبيق هذه التعاليم بصورة صحيحة للوصول إلى ذلك الهدف.
                        تعاليم الإمام الصادق عليه السلام متّخذة من آيات القرآن المعجزة الخالدة

و لقد كانت تعاليم الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذه الرواية أيضاً مُتّخذة من آيات القرآن الكريم المعجزة في قوله:
خُذِ الْعَفْوَ وَ أمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. [1]
أو قوله: وَ عِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ على الأرْضِ هَوْنًا وَ إذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا. [2]
__________________________________________________
 [1]- الآية 199، من السورة 7: الأعراف.
 [2]- الآية 63، من السورة 25: الفرقان.
                        الروح المجرد، ص: 198
حتّى يصل إلى قوله:
وَ الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا. [1]
و لدينا في القرآن الكريم أن: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حتّى تُنفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ [2]؛ حيث إ نّ الوصول إلى لقاء الأحديّة و مشاهدة الجمال و الجلال الأزليّ هو من أفضل أقسام البرّ و الخير، و لن يكون ميسوراً بالطبع، إلّا إذا صرف سالك طريق الله نظره عمّا يملك و أنفقه في سبيل الوصول لهذا الهدف الأعلى و المقصد الأسنى.
كما أ نّ مخاصمة و شتم المخاصم المعتدي، و الردّ عليه بالمثل هي من الغرائز الطبيعيّة للإنسان، و من الطبيعيّ أن يرغب كلّ شخص في إحقاق حقّه و الاقتصاص من شاتمه، لكنّ هذه الرغبات ناشئة جميعاً من الأهواء و الرغبات النفسيّة؛ فما لم يتخطّ الإنسان رغبات نفسه و آثارها، فلن يصل إلى ما وراء النفس. فالتجرّد عن الهوى و الهوس تجرّد عن الميول و الرغبات النفسيّة، كما أ نّ الإصرار و الإبقاء على المشتهيات النفسيّة و اللذائذ الطبيعيّة و الانغماس في الشهوات الحيوانيّة و الأوهام الشيطانيّة و ثورات الغضب السبعيّة كلّ ذلك يجعل وصول الإنسان إلى مقام التجرّد محالًا، لأنّه يمثل الجمع بين النقيضَين.
التجرّد هو التنزّه من النفس و آثارها النفسانيّة، بينما الإصرار على مشتهيات النفس يعني الإصرار على إبقاء النفس و آثارها النفسانيّة، و هما أمران يقعان على طرفي نقيض. و من ثمّ ينبغي رفع اليد عن الرغبات و الميول النفسيّة و تجاهلها، ليتجلّى جمال زينة عالم ما وراء النفس.
__________________________________________________
 [1]- الآية 72، من السورة 25: الفرقان.
 [2]- الآية 92، من السورة 3: آل عمران.
                        الروح المجرد، ص: 199
لقد كان سماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد يعدّ الكثير من أعمال الخير من حظوظ النفس، لأنّ النفس تلتذّ به، و كان يقول: إ نّ المجالس التي يشكّلها بعض السالكين فيقرؤون فيها الشعر، هي غالباً من حظوظ النفس، و مع أنّهم يحصلون فيها على لذّة معنويّة لكنّها تبقى من حظوظ النفس، كذلك الذين يأتون بالكثير من الأذكار و الأوراد لأغراض النفس و حظوظها.
فالقرآن الذي يتلونه، إن جذبهم فيه جمال جلده و ورقه و خطّه، و لو تلوه و هو على رَحْل مشبّك بحيث أثَّر ذلك الرحل في حال قراءتهم لكان ذلك من حظّ النفس. كما أ نّ السجّادة البيضاء بلا نقوش أمر مطلوب و مقبول، في حين أ نّ السجّاد الجميل الملوّن الذي تنتظمه النقوش هو من حظّ النفس. كذلك فإنّ تربة سيّد الشهداء عليه السلام أمر مطلوب لو كانت على هيئة القالب المعيّن المعهود المستعمل للسجود عليه في الصلاة و لو كان سطحها خشناً غير مستوٍ، أمّا لو اشترط فيها صفاء سطحها و صقله لتحوّلت إلى حظوظ النفس.
و من ثمّ ينبغي الانتباه بدقّة كم أ نّ الشيطان قد وسّع دائرة نفوذه، بحيث إنّه يرغب في إعمال تأثيره في محلّ سجود المؤمن الشيعيّ، و ذلك على التربة الطاهرة لتلك الأرض المقدّسة.
كما أ نّ المِسبحات الجميلة التي تؤثّر في ذِكر الإنسان هي جميعاً من حظّ النفس، و هكذا الأمر بالنسبة للعمامة و العباءة و الرداء و غيرها من الأشياء التي تؤثّر في عبادة و صلاة و دعاء و زيارة و تلاوة و ذِكر المؤمن و ورده.
و كان السيّد الحدّاد يقول: إ نّ الرغبة في الأحلام و الرؤيا المعنويّة و الروحيّة هي من حظوظ النفس، كما أ نّ طلب المكاشفات و الاتّصال بعالم‏
                        الروح المجرد، ص: 200
الغيب و الاطّلاع على الضمائر و العبور على الماء و الهواء و النار و التصرّف في موادّ الكائنات و شفاء المرضى هي بأجمعها من حظوظ النفس.
                        السيّد هاشم الحدّاد: لماذا يطلب الناس مكاشفة؟! العالَم بأرجائه مكاشفة

و كان يقول: أعجبُ لتلك الجماعة من السالكين الذين يريدون المكاشفة! فليفتحوا أعينهم، فهذا العالم كلّه مكاشفات.
إن المكاشفة ليست مشاهدة صورة في زاوية على هيئة خاصّة و حالة استثنائيّة، بل إ نّ كلّ كشف عن إرادة الحقّ و اختياره و علمه و قدرته و حياته هو مكاشفة. فافتح عينيك و تأمّل أ نّ كلّ ذرّة في هذا العالم الخارجيّ مكاشفة، و أنّها تحوي عجائب و غرائب لا سبيل للفكر إلى منتهاها.
و إذا ما أراد السالك في السير والسلوك- أو في غير هذا الطريق عموماً- شيئاً غير الله، فإنّه لم يرد الله سبحانه، و ستكون إرادته و رغبته النفسيّة هذه مانعة من وصوله إلى ذات الحقّ القدسيّة.
فإن طلبتَ الجنّة، أو الحوريّة و الغلمان، فلن تكون قد طلبت الله أو أردته! و إن طلبت المقامات و الدرجات فمن الممكن أن يمنّ بها الله عليك، لكنّك لم ترد الله؛ لذا فقد تسمّرت في ذلك المقام و الدرجة و استحال عليك الارتقاء منها إلى أعلى منها، و ذلك لأنّك لم ترد و لم تطلب.
و لو جاءك جبرئيل مثلًا فقال لك: تَمَنَّ ما شئت من الدرجات و المقامات و السيطرة على الجنّة و الجحيم و خلّة سماحة النبيّ إبراهيم عليه السلام و مقام الشفاعة الكبرى لمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم و الحبّ له، فقل: ما أنا إلّا عبد! و لا طلب للعبد في شي‏ء؛ فما أراده لي ربيّ فهو المطلوب. و إن أنا أردتُ، لتخطّيت بذلك القدر من إرادتي المتعلّقة بي، ساحةَ عبوديّتي و لوضعتُ قدمي في ساحة عزّ الربوبيّة، لأنّ الإرادة و الاختيار مختصّان به وحده سبحانه.
                        الروح المجرد، ص: 201
وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَ تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. [1]
كما لا تقل: اريد الله! فمن تكون أنت- ترى- لتريد الله؟! فأنت لا تقدر و لن تقدر أن تريده و تطلبه! فهو غير محدود و أنت محدود و طلبك بنفسك و الناشئ عن نفسك محدود، فلن تقدر به أبداً أن تريد الله اللامتناهي أو أن تطلبه. و ذلك لأنّ الإله الذي تطلبه محدود في إطار طلبك و محدود و مقيّد بإرادتك، و وارد في حدود مجال نفسك بسبب طلبك، و ذلك الإله ليس هو الله، بل إ نّ ذلك الإله المتصوَّر و المتوهَّم بتصوّرك و توهّمك، ليس في الحقيقة إلّا نفسك التي تصوّرتها إلهاً.
بناءً على هذا، عليك أن تكفّ عن طلبك، فادفن امنيتك هذه معك في القبر: أن ترى الله أو أن تصل إلى لقائه أو أن تطلبه! فعليك أن تخرج بنفسك من الطلب، و أن تترك طلبك و رغبتك التي كانت لك حتّى الآن، و أن تَكِلَ نفسك إلى الله و تدعه يُرِد لك و يطلب لك!
و ستكون في هذه الحالة غير واصل إلى الله، كما لم تصله قبل و لن تصله بعد؛ بَيدَ أنّك لمّا خرجت و تنصّلت من طلبك و إرادتك فأوليتَه زمامك و سلّمته قيادك، فإنّه سيقودك في معارج و مدارج الكمال الذي حقيقته السير إلى الله مع فناء المراحل و المنازل و آثار النفس، و اندكاك و فناء جميع وجودك في النهاية في وجود ذاته المقدّسة. فالله سبحانه هو العارف بنفسه، و لست أنت العارف بالله! إ نّ وصول الممكن إلى الواجب أمر محال. فوجود شيئَين هناك محال.
إ نّ الممكن و الواجب و الوصول هي بأجمعها ضمّ و ضميمة تستلزم‏
__________________________________________________
 [1]- الآية 68، من السورة 28: القصص.
                        الروح المجرد، ص: 202
تركيب ذاته القدسيّة، و تنتهي أخيراً إلى حدوثه الذي ينافي قِدَمه سبحانه.
أمّا الفَناء المطلق للعبد و اندكاكه في ذاته تعالى، و اضمحلاله في جلاله و جماله فلا إشكال فيه! ولكن ينبغي العلم أ نّ العبد لا يمكنه الورود في تلك الذات البحتة المحضة غير المتناهية، لأنّه عنوان العبد، أو عنوان فَناء العبد حيث لا تقبله الذات، و ليس هناك أ يّ شيّ غير الذات، لا العبد و لا فَناؤه، بل هناك الذات؛ و الذات هي الذات. هناك الله، و الله هو الله.
كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَي‏ءٌ وَ الآن كَمَا كَانَ. 1
__________________________________________________
1- يروي المرحوم الصدوق في كتاب «التوحيد» ص 178 و 179، باب نفي المكان و الزمان و الحركة عنه تعالى، طبعة مكتبة الصدوق، سنة 1398؛ و المرحوم المولى محسن الفيض في كتاب «الوافي» ج 1، ص 403، الطبعة الحروفيّة في إصفهان، مكتبة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام، أبواب معرفة الله، باب إحاطته بكل شي‏ء؛ و المرحوم المجلسيّ في كتاب «بحار الأنوار» ج 3، ص 327، الحديث 27، الطبعة الحروفيّة، المطبعة الحيدريّة، كتاب التوحيد، الباب 4، و هذان الأخيران عن الصدوق حيث يروي الصدوق عن عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق، عن محمّد بن أبي عبد الله الكوفيّ، عن محمّد بن إسماعيل البرمكيّ، عن عليّ بن عبّاس، عن حسن بن راشد، عن يعقوب بن الجعفريّ، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام، أنّه قال:
إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى كَانَ لَمْ يَزَلْ بِلَا زَمَانٍ وَ لا مَكَانٍ؛ وَ هُوَ الآنَ كَمَا كَانَ. لَا يَخْلوُ مِنْهُ مَكَانٌ وَ لَا يَشْغَلُ بِهِ مَكَانٌ وَ لَا يَحِلُّ في مَكَانٍ. مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ، وَ لَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ، وَ لَا أ دْنَى مِنْ ذَلِكَ وَ لَا أكْثَرَ إلَّا هَوَ مَعَهُمْ أيْنَما كَانُوا. لَيْسَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ خَلْقِهِ حِجَابٌ غَيْرُ خَلْقِهِ. احْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجابٍ مَحْجُوبٍ، وَ اسْتَتَرَ بِغَيْرِ سَتْرٍ مَسْتُورٍ، لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الكَبِيرُ المُتَعَالِ.
وأورد سماحة استاذنا العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الشريفة في كتاب «التوحيد» ص 6، النسخة الخطّيّة للحقير: كَمَا في حَدِيثِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَليْهِمَا السَّلَامُ: كَانَ اللهُ وَ لَا شَي‏ءَ مَعَهُ؛ وَ هُوَ الآنَ كَمَا كَانَ.
وذكر المرحوم السيّد حيدر الآمليّ في موضعَين من «جامع الأسرار» طبعة المجمع الفرنسيّ لمعرفة إيران و شركة الانتشارات العلميّة و الثقافيّة، هذه العبارة: كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَي‏ءٌ وَ الآنَ كَمَا كَانَ؛ الموضع الأوّل: ص 56، رقم 112 في الأصل الأوّل في القاعدة الأولى: وَ بالنَّظَرِ إلى هَذَا المَقَامِ قَالَ أ رْبَابُ الكَشْفِ وَ الشُّهُودِ: التَّوحِيدُ إسْقَاطُ الإضَافَاتِ؛ وَ قَالَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَي‏ءٌ. وَ قَالَ الَعارِفُ: (وَ هُوَ) الآن كَمَا كَانَ. لأنَّ الإضَافَاتِ غَيْرُ مَوْجُوَدةٍ كَمَا مَرَّ. وَ أيْضاً «كَانَ» في كَلَامِ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ بِمَعْنَى الحَالِ لَا بِمَعْنَى المَاضِي؛ مِثْلَ: «كَانَ الَلهُ غَفُورًا رَحِيمًا».
والموضع الثاني: في الأصل الثالث، ص 696، رقم 181: لأنَّهُ تعالى دَائِماً «هُوَ» على تَنَزُّهِهِ الذَّاتِيّ وَ تَقدُّسِهِ الأزَلِيّ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيهِ السَّلَامُ: كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَي‏ءٌ، وَ لِقَوْلِ (بَعْضِ) عَارِفِي امَّتِهِ: وَ الآنَ كَمَا كَانَ. و المراد من «بعض عارفي امّته» الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام.
وقد ورد في «الكلمات المكنونة» للفيض، ص 33، الطبعة الحروفيّة، مؤسّسة انتشارات فراهاني: و لأنّ التعيّن أمر اعتباريّ، فإنّ ظهوره بواسطة نور سارٍ في الرُّتب. و حين سمع الجُنيد حديث كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَي‏ءٌ، قال: الآن كَمَا كَانَ. فادرجت هذه الإضافة مع الحديث. و «كَانَ اللهُ» فيها من قبيل: وَ كَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
وقد نقل المرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج 4، ص 305، الحديث 34، كتاب التوحيد، الباب 4، من أبواب أسمائه تعالى، الطبعة الحروفيّة الحيدريّة، عن «توحيد الصدوق» ثمانية أبيات لأميرالمؤمنين عليه السلام في جوابه على ذعلب أوردها في نهاية الخطبة، أوّلها:
                  وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالحَمْدِ مَعْرُوفاً
 وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالجُودِ مَوْصُوفاً


فكتب استاذنا العلّامة في هامشها: الأشعار من أحسن الدليل على أن الخلقة غير منقطعة من حيث أوّلها، كما أنّها كذلك من حيث آخرها.
                        الروح المجرد، ص: 203
                        المراد بعرفان الله، الفَناء في ذاته‏

و ينبغي أن يعلم الجميع أ نّ المراد بلفظ الوصول و لقاء الذات الأحديّة و معرفتها ليس ذلك النحو من المعاني الذي يستلزم الثنائيّة و البينونة، بل المراد بالمعرفة و المشاهدة و اللقاء و أمثالها جميعاً هو الاندكاك و مقام الفناء المطلق. و ذلك لأنّ المعرفة بالله مختصّة بالله وحده، فمعرفته من قبل غيره أمر محال. فالأفراد الذين لم يصلوا إلى الفَناء المطلق لم يعرفوه‏
                        الروح المجرد، ص: 204
بعد، لأنّ المحدود لا يعرف غير المحدود. أمّا الأفراد الذين وصلوا إلى الفَناء المطلق فلم يعد لديهم وجود ليعرفوا الله، لأنّ الوجود هو وجود واحد لا غير، و هو وجود الحقّ جلّ و علا، فهو الذي يعرف نفسه، عرفها أوّلًا كما يعرفها الآنَ؛ و الآنَ كَمَا كَانَ.
إ نّ نهاية سير كلّ موجود هو الفَناء في الموجود الأفضل و الأعلى منه، أي فناء كلّ ظهور في مُظهره، وكلّ معلول في علّته؛ و نهاية سير الإنسان الكامل الذي وصلت جميع قواه و إمكاناته إلى مرحلة الفعليّة هو الفناء في الذات الأحديّة و الفناء في ذات الله سبحانه، و الفناء في «هو»، و الفناء في ما لا اسم له و لا رسم له.
فهذه هي غاية سير كلّ موجود و غاية السير المتصوّرة للإنسان الكامل، و غاية سير الأنبياء و المرسلين و الأئمّة الطيّبين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، و المراد و المقصود الصحيح من المعرفة و نتيجة السلوك و السير نحو مقامه المقدّس جلّ شأنه و السير العمليّ العرفانيّ و البحوث العلميّة للعرفاء بالله علت أسماؤهم؛ لا شي‏ء آخر سواه.
فَتَأمَّلْ يَا أخِي في هَذَا المَقَامِ فَإنَّهُ مِنْ مَزَالِّ الأقْدَامِ. وَ هَبَكَ اللهُ هَذَا بِمُحَمَّدٍ وَ آلِهِ أجْمَعِينَ. 1
__________________________________________________
1- و لربّما أشار إلى هذا المعنى بيتا الشعر اللذان أنشدهما صدر المتألّهين الشيرازيّ في العشق وعرفان الله؛ قال:
                                    آنانكه ره دوست گزيدند همه‏
 در كوى شهادت آرميدند همه‏
 در معركة دو كون فتح از عشق است‏
 هر چند سپاه او شهيدند همه‏

 يقول: «إ نّ اولئك الذين اختاروا سبيل الحبيب قد رقدوا جميعاً في طريق الشهادة.
ولقد كان الفتح و الظفر بين الجانبَين من نصيب العشق مع أ نّ جنده قد استشهدوا جميعاً».
قيل إنّه لم ينشد بالفارسيّة غيرهما؛ لكنّه ذكر في تفسير سورة السجدة، طبعة أنتشارات بيدار، ص 10 أبياتاً بالفارسيّة في عظمة القرآن، و في ص 34 أبياتاً بالفارسيّة أيضاً في عظمة رسول الله و ارتباطها مع يوم الجمعة، و قال: أنشدتُ هذه الأبيات في حال الوجد.
                        الروح المجرد، ص: 205
                        تشرّف الحاجّ السيّد الحدّاد بزيارة المرقد الإمام الرضا عليه السلام‏

تشرّف الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد بزيارة المرقد المطهّر
للإمام الثامن الضامن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام‏
و إقامته عشرة أيّام في ذلك البلد المبارك‏
استعدّ سماحة الحاجّ السيّد هاشم للسفر إلى خراسان، و كان يرغب بالسفر في الحافلات العاديّة، لكنّ زوجته- امّ مهدي- التي لم يسبق لها السفر بالطائرة، أصرّت على أن يكون سفرهم من طهران إلى مشهد للتشرّف بالزيارة بواسطة الطائرة، فوافقها السيّد على ذلك. لذا فقد سافرا بالطائرة و تبعهم بالسيّارات بقيّة الرفقاء للتشرّف بالزيارة، و كان عددهم يقرب من خمسة عشر شخصاً من طهران و غيرها.
و لا يخفى أ نّ الحقير كان في نيّته اصطحاب ولديه الكبيرين- السيّد محمّد صادق، و له من العمر ثلاث عشرة سنة، و السيّد محمّد محسن و له من العمر إحدى عشرة سنة و نصف و لم يكن في نيّتي اصطحاب أخيهما الأصغر منهما- و اسمه السيّد أبو الحسن و له ثمان سنين- فقد كان الأوّلان يستطيعان إدارة امورهما بنفسهما تقريباً، أمّا بالنسبة لهذا الطفل الصغير فقد كان الأمر صعباً، لذا فلم أقطع له- كأخويه- تذكرة للسفر حين أعددت تذاكر السفر بالسيّارة مع الرفقاء. و حين عرف سماحة السيّد الحدّاد بذلك قال: أيّها السيّد محمّد الحسين! لِمَ لَم تقطع تذكرة سفر للسيّد أبي الحسن؟!
قلت: إنّه طفل صغير، و سيبقى مع امّه. فردّ قائلًا: كلّا، إ نّ السيّد
                        الروح المجرد، ص: 206
أبا الحسن كبير، فاقطع له تذكرة هو الآخر!
قلت: سأفعل ذلك. و هكذا فقد قطعت له تذكرة معنا. و قد وصلنا مشهد بالسيّارة مع الرفقاء، و صادف وصولنا بعد وصول السيّد الحدّاد. و كان الصديق العزيز الحاجّ عبد الجليل محيي (أبو أحمد) قد جاء كذلك إلى مشهد مع عائلته و أعدّ مكاناً مستقلًّا للسيّد و له. و مع أ نّ ذلك المكان كان واسعاً نسبيّاً إلّا أنّه لم يكن ليتّسع لحلول جميع الرفقاء، لذا فقد ضمّ إليه مكاناً آخر، فكان السيّد يتردّد على هذين المكانَين في الأيّام العشرة من إقامته.
و كان من دأب السيّد حين يتشرّف بزيارة الحرم المطهّر، أن يغتسل أوّلًا، ثمّ يُقبّل باب الصحن كلّما ورده، ثمّ يُقبّل باب محلّ خلع الأحذية و إيداعها، ثمّ باب الرواق و باب الحرم. و كان عند وروده يقبّل العتبة المباركة بعد الاستئذان، ثمّ يطوف بالقبر الشريف سبعة أشواط قبل أن يزور، و يبدأ طوافه من جانب اليسار، ثمّ يزور الإمام و يصلّي عند رأس الإمام عليه السلام أو حيثما أمكن ذلك. و كان الحقير مع جميع الرفقاء الذين تشرّفوا للزيارة معه و في معيّته نزور على هذا النحو، فنقبّل إطار الأبواب، و نطوف سبعة أشواط، ثمّ نزور و نصلّي.
و باعتبار أ نّ فعل أولياء الله حجّة، فقد دأب الحقير حتّى الآن على هذا النحو في الزيارة، من تقبيل الأبواب و الطواف، أي إلى الزمن الذي لم يكونوا قد وضعوا عند الضريح المطهّر حائلًا يفصل بين الرجال و النساء. فكان الحقير يفعل ذلك لمدّة أربع عشرة سنة تقريباً كلّما وُفِّق للزيارة في أشهر الصيف و بعض الأوقات الاخرى، كشهر رجب أو في الثالث و العشرين من ذي القعدة الحرام. و كنت أقوم بالطواف بهذه الأشواط السبعة بناءً على متابعة سماحة السيّد الحدّاد.
                        الروح المجرد، ص: 207
و أجد لزاماً هنا أن أقوم ببيان هذا المطلب لسائر الإخوة في الدين‏و الأخلّاء الروحانيّين سواء بالنسبة إلى الطواف أم في تقبيل العتبةالمباركة، و بإيراد بحث فقهيّ بهذا الشأن للبرهنة على جواز الطواف‏و جواز تقبيل العتبة في كلّ من المراقد الشريفة للأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين.
                        بحث الدليل الفقهي على جواز الطواف‏حول أضرحة الائمّة الاطهار

بحث فقهيّ في جواز الطواف‏
حول أضرحة الأئمّة الأطهار عليهم السلام‏
أقول: عقد الشيخ الحرّ العامليّ عامله الله بلطفه في كتاب مزار «وسائل الشيعة» (ج 2، ص 411، طبعة أمير بهادر) باباً في عدم جواز الطواف بالقبور، ذكر فيه روايتَين لعدم الجواز.
الاولى: محمّد بن عليّ بن الحسين في «العِلَل» عن أبيه، عن سعد بن‏عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن أبي عمير، عن‏حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ. فَإنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأصَابَهُ شَيْ‏ءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ الحديث. و تتمّة الحديث هي: وَ مَنْ فَعَلَ شَيْئاًمِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ يُفَارِقُهُ إلَّا مَا شَاءَ اللهُ.
الثانية: محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن صفوان، عن العلاء، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام أنّه قال: لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ- الحديث.
                        أخبار «لَاتَطُفْ بِقَبْرٍ» قويّة سنداً، لكنّها خارجة عن المقام دلالةً

و أقول: هاتان الروايتان بالرغم من قوّتهما من جهة السند، لأنّ كليهما رواية صحيحة؛ لكنّهما- من جهة الدلالة- غير راجعتَين إلى‏
                        الروح المجرد، ص: 208
الطواف بمعنى الدوران حول شي‏ء، بل إنّهما غريبتان عن المقام تماماً. فالمراد بالطوف بالقبر في هذين الحديثَين هو التغوّط، لا الطواف و الدوران حول القبر. يشهد على هذا الكلام عبارة الطُّرَيْحيّ في «مجمع البحرين» حيث يقول في مادّة طَوَفَ: و الطَّوْفُ: الغائطُ، و منه الخبر: لَا يُصَلِّ أحَدُكُمْ وَ هُوَ يُدَافِعُ الطَّوْفَ. و منه الحديث: لَا تَبُلْ في مُسْتَنْقَعٍ وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ!
و مضافاً إلى ذلك، فإنّ فقرات الحديث التي تتحدّث عن الشرب حال القيام و التبوّل في الماء الراكد النقيع تناسب التغوّط على القبور و لا تناسب الطواف و الدوران حولها، و خاصّة مع ورود التعليل في الرواية الأولى في أ نّ من ارتكب هذه الامور: فَإنْ أصَابَهُ شَي‏ءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ؛ و الذي يناسب التغوّط الذي يفعله الإنسان، فلربّما لدغته عقرب أو حيّة، خاصّة في الأزمنة التي كان التغوّط فيها على القبور في المقابر أمراً شائعاً، فقد كانت الحيّات و العقارب و سائر الحشرات و الهوامّ الأرضيّة تكثر في المقابر. كما أ نّ التغوّط على قبور المؤمنين يسبّب هتك حُرْمَة و يمنع من نزول الملائكة.
و مضافاً إلى قولنا، فإنّ الشاهد و الدليل على جواز الطواف رواية أخرى يذكرها في «الوسائل»:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى [وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أحْمَدَ- خ ل‏] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الطَّيِّبِ، عَنْ عَبْد الوَهَّابِ ابْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبي العَلَاءِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أكْثَمَ في حَدِيثٍ.
قَالَ: بَيْنَا أنَا ذَاتَ يَوْمٍ دَخَلْتُ أطُوفُ بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ، فَرَأيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيّ الرِّضَا يَطُوفُ بِهِ، فَنَاظَرْتُهُ في مَسَائِلٍ عِنْدِي- الحديث.
و يذكر صاحب «الوسائل» هنا محامل لهذه الرواية ليمكنه الجمع بين‏
                        الروح المجرد، ص: 209
مفادها في جواز الطواف و بين تينك الروايتَين، فيقول:
أقُولُ: هَذَا غَيْرُ صَرِيحٍ في أكْثَرَ مِنْ دَوْرَةٍ وَاحِدَةٍ لأجْلِ إتْمَامِ الزِّيَارَةِ وَ الدُّعَاءِ مِنْ جَمِيعِ الجِهَاتِ، كَمَا وَرَدَ في بَعْضِ الزِّيَارَاتِ لَا بِقَصْدِ الطَّوَافِ. على أنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ، وَ لَا يَدُلُّ على غَيْرِهِ مِنَ الأئَمَّةِ وَ لَا غَيْرِهِمْ؛ وَ الِقَيِاسُ بَاطِلٌ. وَ رَاوِيهِ عَامِّيّ ضَعِيفٌ وَ قَدْ تَفَرَّدَ بِروَايَتِهِ. وَ يُحْتَمَلُ كَوْنُ الطَّوَافِ فِيهِ بِمَعْنَى الإلْمَام وَ النُّزُولِ كَمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ اللُّغَة، وَ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ معنى الزِّيَارَةِ. وَ يُحْتَمَلُ الحَمْلُ على التَّقِيَّةِ بِقَرِينَةِ رَاوِيهِ، لأنَّ العَامَّةَ يُجَوِّزُونَهُ، وَ الصُّوفِيَّةُ مِنَ العَامَّةِ يَطُوفُونَ بِقُبُورِ مَشَايِخِهِمْ؛ وَ اللهُ أعْلَمُ- انتهى.
لكن الأمر هو ما ذكرناه هنا، والذي أخذنا فيه معنى الطواف بمعنى التغوّط. لذا فإنّ هاتَين الروايتَين تخرجان عن عهدة الاستدلال بهما، كما أ نّ هذه المحامل و التأويلات التي ذكرها الشيخ الحرّ في هذه الرواية الأخيرة ليست صحيحة على الإطلاق، فالمتعيّن في معنى الطواف في هذه الرواية الأخيرة هو الطواف. و نورد هنا لدعم كلامنا شواهد من كتب لغويّة أخرى:
1- يقول في شرح «قاموس اللغة» (بالفارسيّة) في مادّة طَوَفَ: و الطَّوْف بمعنى الغائط. طَافَ أي جلس للتغوّط، مثل اطّافَ من باب الافتعال.
2- يقول في «صحاح اللغة»: وَ الطَّوْفُ: الغَائِطُ، تَقَولُ مِنْهُ: طَافَ يَطُوفُ طَوْفاً و اطَّافَ اطِّيَافاً: إذَا ذَهَبَ إلى البَرَازِ لِيتَغَوَّطَ.
3- و يقول في «تاج العروس»: وَ الطَّوْفُ: الغَائِطُ وَ هُوَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّضَاعِ، وَ أمَّا مَا كَانَ قَبْلَهُ فَهُوَ عِقْيٌ؛ قَالَهُ الأحْمَرُ. وَ في الحَدِيثِ: لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ على طَوْفِهِمَا! وَ في حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
                        الروح المجرد، ص: 210
لَا يُصَلِّيَنَّ أحَدُكُمْ وَ هُوَ يُدَافِعُ الطَّوْفَ وَ البَوْلَ. وَ في كَلَامِ الرَّاغِبِ مَا يَدُلُّ على أنَّهُ مِنَ الكِنَايَةِ. وَ طَافَ يَطُوفُ طَوْفاً: إذَا ذَهَبَ إلى البَرَازِ لِيَتَغَوَّطَ. وَ زَادَ ابْنُ الأعْرَإبِيّ: كَاطَّافَ اطِّيَافاً إذَا ألْقَى مَا في جَوْفِهِ، وَ أنْشَدَ:
         عَشَّيْتُ جَابان حتّى اسْتَدَّ مَغْرِضُهُ             وَ كَادَ يَنقَدُّ إلَّا أنَّه اطَّافَا

4- و ذكر في «لسان العرب» ما يشبه ما نقلنا عن «تاج العروس».
وَ العِقْيُ كَمَا ذَكَرَهُ اللُّغَوِيُّونَ: شَي‏ءٌ لَزِجٌ أسْوَدُ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ المَوْلُودِ قَبْلَ أ نْ يَأكُلَ وَ يَشْرَبَ.
                        بحث للعلّامة المجلسيّ في جواز الطواف حول أضرحة الائمّة الاطهار

و قد أورد جدّنا العلّامة المجلسيّ رضوان الله تعالى عليه في هذا الشأن بحثاً بليغاً أ دّى فيه حقّ البحث، لذا نذكر نصّ بحثه هنا، فبعد أن نقل الرواية الأولى عن «علل الشرايع» قال في بيانه لها:
يُحْتَمَلُ أ نْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الطَّوَافِ بالعَدَدِ المَخْصُوصِ الذي يُطَافُ بِالبَيْت، وَ سَيَأتِي في بَعْضِ الزَّيَارَاتِ [الجَامِعَةِ: بِأبِي وَ امِّي يَا آلَ المُصْطَفَي إلَّا أنَّا لَا نَمْلِكُ‏] [1] إلَّا أ نْ نَطُوفُ حَوْلَ مَشَاهِدِكُمْ. وَ في الرِّوَايَاتِ: قَبِّلْ جَوَانِبَ القَبْرِ.
ثمّ يروي الرواية الواردة بشأن الطواف في كتاب «الكافي» عن جواد الأئمّة الإمام محمّد التقيّ عليه السلام بنفس الإسناد عن يحيي بن أكثم، فيقول في ذيلها:
وَ الأحْوَطُ أ نْ لَا يَطُوفَ إلَّا للإتْيَانِ بِالأدْعِيَة وَ الأعْمَالِ المَأثُورَةِ، وَ إ نْ أمْكَنَ تَخْصِيصُ النَّهْيِ بِقَبْرِ غَيْرِ المَعْصُومِ، إ نْ كَانَ مُعَارِضٌ صَرِيحٌ. وَ يُحْتَمَلُ أ نْ يَكُونَ المُرَادُ بِالطَّوَافِ المَنْفِيّ هُنَا التَّغَوُّطَ.
__________________________________________________
 [1]- ما بين المعقوفتَين عبارة «سفينة البحار».
                        الروح المجرد، ص: 211
ثمّ يقول بعده: قَالَ في «النِّهَايَة»: الطَّوْفُ: الحَدَثُ مِنَ الطَّعَامِ، وَ مِنْهُ الحَدِيثُ: نُهِيَ عَنْ مُتَحَدِّثَيْنِ على طَوْفِهِمَا، أ يْ عِنْدَ الغَائِطِ. وَ يُؤَيِّدُ هَذَا الوَجْهَ أنَّهُ رَوَى الكُلَيْنِيّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أبي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلَامُ قَالَ:
مَنْ تَخَلَّى عِنْدَ قَبْرٍ، أ وْ بَالَ قَائِماً، أ وْ بَالَ في مَاءٍ قَائِمٍ، أ وْ مَشَى في حِذَاءٍ وَاحِدٍ، أ وْ شَرِبَ قَائِماً، أ وْ خَلا في بَيْتٍ وَحْدَهُ، أ وْ بَاتَ على غَمَرٍ [1]، فَأصَابَهُ شَي‏ءٌ مِنَ الشَّيْطَانِ لَمْ يَدَعْهُ إلَّا أ نْ يَشَاءَ اللهُ. وَ أسْرَعُ مَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ إلى الإنْسَانِ وَ هُوَ على بَعْضِ هَذِهِ الحَالاتِ.
مَعَ أنَّهُ رُوِيَ أيْضاً بِسَنَدٍ آخَرَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ رَاوِي هَذَا الحَدِيثِ، عَنْ أحَدِهِمَا عَلَيهِمَا السَّلَامُ أنَّهُ قَالَ:
لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ، وَ لَا تَخْلُ [2] في بَيْتٍ وَحْدَكَ، وَ لَا تَمْشِ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ! فَإنَّ الشَّيْطَانَ أسْرَعُ مَا يَكُونُ إلى العَبْدِ إذَا كَانَ على بَعْضِ هَذِهِ الحَالاتِ. وَ قَالَ: إنَّهُ مَا أصَابَ أحَداً شَي‏ءٌ على هَذِهِ الحَالِ فَكَادَ أ نْ يُفَارِقَهُ إلَّا أ نْ يَشَاءَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ.
ثمّ قال: فَإنَّ كَوْنَ كُلّ مَا في هَذَا الخَبَرِ مَوْجُوداً في الخَبَرِ السَّابِقِ سِوَى قَوْلِهِ «لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ»، مَعَ أ نَّ فِيهِ مَكَانَهُ «مَنْ تَخَلَّى على قَبْرٍ»، لَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ الرَّاوِي وَ اشْتِرَاكِ المَفْسَدَةِ المُتَرَتِّبَةِ فِيهِمَا، مَا يُورِثُ ظَنَّاً قَوِيَّاً بِكَوْنِ الطَّوْفِ هُنَا بِمَعْنَى التَّخَلِّي. وَ كَذَا اشْتِرَاكُ المَفْسَدَةِ وَ سَائِرِ الخِصَالِ بَيْنَ خَبَرِ الحَلَبِيّ وَ الخَبَرِ الأوَّلِ، يَدُلُّ على أنَّ الطَّوْفَ فِيهِ أيْضاً بِهَذَا المعنى.
__________________________________________________
 [1]- الغَمَر: الدَّسم و الزهومة من اللحم تبقي في اليدين.
 [2]- خَلَا يَخلُو خُلُوّاً و خَلَاءً الرجلُ: انفرد في مكانه.
                        الروح المجرد، ص: 212
وَلَا أظُنُّكَ تَرْتَابُ بَعْدَ التَّأمُّلِ الصَّادِقِ في الأخْبَارِ الثَّلَاثَةِ في أنَّ الأظْهَرَ مَا ذَكَرْنَا.
و حين يتأمّل أهل التحقيق في هذا الاستدلال فإنّهم سيرون أ نّ المجلسيّ رحمة الله عليه قد أ دّى في هذا البحث البليغ الذي أوردناه هنا، حقّ المطلب كما ينبغي. جَزَاهُ اللهُ خَيْراً.
و قد أوردنا كلامه من «البحار» ج 22، من طبعة الكمبانيّ، الباب 3، من مجلّد المزار، ص 9؛ و ج 100، من الطبعة الحيدريّة الباب الثالث من مجلّد المزار، الحديث 3 إلى 6، ص 126 إلى 128؛ كما أشار المحدِّث القمّيّ إلى هذه المطالب في «سفينة البحار» الطبعة الحجريّة، المجلّد الثاني، في مادّة طوَف، ص 99.
                        بحث المحدِّث النوريّ في «مستدرك الوسائل» باب «جواز الطواف بالقبور»

و كذلك فقد قام المرحوم المحدِّث النوريّ الحاجّ الميرزا حسين أعلى الله مقامه بإيفاء المطلب حقّه في «مستدرك الوسائل» كتاب المزار، المجلّد الثاني ص 226 و 227، فقد عقد أوّلًا باباً دعاه: جواز الطواف حول القبور، خلافاً لصاحب «الوسائل» الذي كان قد عقد باباً في عدم جواز الطواف بالقبور. و قد اعتبر رأساً الطوف بمعنى الغائط و الحدث كما ذكرنا. و نورد هنا عين عباراته لئلّا نحرم من فوائدها:
72: بَابُ جَوَازِ الطَّوَافِ بِالقُبُورِ:
1- عَلِيّ بْنُ إبْرَاهِيمَ في تَفْسِيرِهِ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ ابْنِ أبي عُمَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، وَ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ في حَدِيثٍ طَوِيلٍ في قِصَّةِ فَدَكٍ قَالَ في آخِرِهِ: وَ دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيهَا السَّلَامُ المَسْجِدَ وَ طَافَتْ بِقَبْرِ أبِيهَا وَ هي تَبْكِي وَ تَقُولُ: إنَّا فَقَدْ نَاكَ فَقْدَ الأرْضِ وَ ابِلَهَا- الخبر.
وَ رَوَاهُ أحْمَدُ بْنُ عَليّ بْنَ أبي طَالِبٍ الطَّبَرْسِيّ في «الاحْتِجَاجِ» عَنْ‏
                        الروح المجرد، ص: 213
حَمَّادِ بْنَ عُثْمَانَ، عَنْهُ عَلَيهِ السَّلَامُ مِثْلُهُ.
2- الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ المَشْهَديّ في «المَزَارِ» وَ السَّيِّدُ عَلِيّ بْنُ طَاوُوسٍ فِي «المِصْبَاحِ» قَالا: زِيَارَةٌ مَرْوِيَةٌ عَنِ الأئمَّةِ عَلِيهِمُ السَّلَامُ: إذَا أرَدْتَ ذَلِكَ... إلى أ نْ قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: ثُمَّ قَبِّلْهُ وَ قُلْ: بِأبِي وَ امِّي يَا آلَ المُصْطَفَي إنَّا لَا نَمْلِكُ إلَّا أ نْ نَطُوفَ حَوْلَ مَشَاهِدِكُمْ وَ نُعَزِّي فِيهَا أ رْوَاحَكُمْ- الزيارة.
قُلْتُ: جَعَلَ الشَّيْخُ [1] عُنْوَانَ البَابِ عَدَمَ جَوَازِ الطَّوَافِ وَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إلَّا الصَّادِقيّ وَ غَيْرَهُ: لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ- إلى آخر الحديث.
وَ المُرَادُ بِالطَّوْفِ الحَدَثُ في هَذِهِ الأخْبَارِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَ لَا تَبُلْ. وَ يُؤَيِّدُهُ أ نَّ الكُلَيْنِيّ رَوَى في الصَّحِيحِ عَنْ أبي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلَامُ قَالَ: مَنْ تَخَلَّى على قَبْرٍ، أ وْ بَالَ قَائِماً في مَاءٍ قَائِمٍ، أ وْ مَشَى في حِذَاءٍ وَاحِدٍ، أ وْ شَرِبَ قَائِماً، أ وْ خَلَا في بَيْتٍ وَحْدَهُ، أ وْ بَاتَ على غَمَرٍ، فَأصَابَهُ شَي‏ءٌ مِنَ الشَّيْطَانِ لَمْ يَدَعْهُ إلَّا أ نْ يَشَاءَ اللهُ. وَ أسْرَعُ مَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ إلى الإنْسَانِ وَ هُوَ على بَعْضِ هَذِهِ الحَالاتِ.
وَ رَوَى أيْضاً بِسَنَدٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أحَدِهِمَا عَلَيهِمَا السَّلَامُ أنَّهُ قَالَ: لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ، وَ لَا تَخْلُ في بَيْتٍ وَحْدَكَ، وَ ذَكَرَ بَاقِي الخَبَرَ باخْتِلَافٍ في الألفَاظِ.
وَ المُتَأمِّلُ يَعْلَمُ اتِّحَادَ الخَبَرَيْنِ وَ أ نَّ أحَدَهُمَا نَقْلٌ لآخَرَ.
وَ قَالَ الجَزَرِيّ: الطَّوْفُ: الحَدَثُ مِنَ الطَّعَامِ، وَ مِنْهُ الحَدِيثُ: نهِيَ‏
__________________________________________________
 [1]- يعني الشيخ الحرّ العامليّ صاحب «الوسائل» الذي جعل النوريّ كتابه مستدركاً لكتابه.
                        الروح المجرد، ص: 214
عَنِ المُتَحَدِّثَيْنِ على طَوْفِهِمَا: أ يْ عِنْدَ الغَائِطِ.
فَظَهَرَ أنَّهُ لَا مُعَارِض لِمَا دَلَّ على جَوَازِ الطَّوَافِ بِالقُبُورِ بِمَعْنَاهُ الشَّائِع. وَ لِذَا ذَكَرْنَا العُنْوَانِ: جَوَازَ الطَّوَافِ. وَ لَوْ سُلِّمَ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا بِالعُمُومِ وَ الخُصُوصِ.
فَلَا بَأسَ بَالطَّوَافِ حَوْلَ قُبُورِهِمْ عَلَيهمُ السَّلَامُ»- انتهى.
أذكر جيّداً أنّني كنت قد تشرّفت بالذهاب إلى أرض قم المقدّسة لتحصيل العلوم الدينيّة في شهر شوّال لسنة ألف و ثلاثمائة و أربع و ستّين هجريّة قمريّة، فحللتُ أوّلًا في منزل آية الله السيّد حسن سيّدي القمّيّ و هو ابن عمّة أبي؛ فجاء يوماً آية الله العظمى السيّد محمّد حجّت كوه كمري لرؤية أبناء عمّته (آية الله السيّد حسن و إخوته الحاجّ السيّد علي محمّد و السيّد محمّد و آية الله الحاجّ السيّد عبد الحسين) و كان الحقير قد جلس في زاوية الغرفة معهم. فدار الحديث عن مواضيع متعدّدة كان من بينها قول لا تَطُفْ بِقَبْرٍ، فقال المرحوم حجّت رضوان الله عليه: ليس المراد به الطواف بل التغوُّط، و أورد شاهداً من كتاب «مجمع البحرين» اللغويّ. رحمة الله عليه رحمةً واسعة.
                        بحث فقهيّ في جواز تقبيل إطار أبواب الدخول قبور الائمّة عليهم السلام‏

بحث فقهيّ في جواز تقبيل إطار أبواب الدخول‏
لقبور الأئمّة عليهم السلام‏
كان ما ذكرناه، حول جواز الطواف حول قبورهم المطهّرة، و نورد الآن بحثنا لجواز التقبيل، أي تقبيل إطار أبواب أضرحة الأئمّة عليهم السلام، أي أبواب الصحن الشريف و محلّ إيداع الأحذية و أبواب الرواق و الحرم المطهّر.
إ نّ تقبيل أبواب قبور الأئمّة عليهم السلام أمر لا شبهة و لا إشكال‏
                        الروح المجرد، ص: 215
فيه، كما أنّه قد ورد في بعض الروايات الواردة في كتاب المزار. و إذا ما قصرنا اللفظ و جمّدناه على معنى العَتَبَة، فإنّ تقبيل الأرض التي أمام الباب و تقبيل الجزء الأسفل من الباب سيكون كذلك جائزاً. فقد ورد في هذه الروايات أن: قَبِّل العَتَبَة ثمّ ادخُل!.
و قال في «شرح قاموس اللغة» (بالفارسيّة): العَتَبَة بالتحريك هي اسكُفَّة الباب أو العارضة العليا التي تعلو قِسْمَي الباب.
و قال في «صحاح اللغة» وَ العَتَبُ: الدَّرَجُ وَ كُلُّ مِرْقَاةٍ مِنْهَا عَتَبَةٌ. وَ الجَمْعُ عَتَبٌ و عَتَبَاتٌ. وَ العَتَبَةُ: اسْكُفَّةُ البَابَ، وَ الجَمْعُ: عَتَبٌ.
و قال في «تاج العروس»: (العَتَبَةُ، مُحَرَّكَةً) كَذَا في نُسْخَتِنَا وَ سَقَطَ مِنْ نُسْخَةِ شَيْخِنَا (اسْكُفَّة البَابَ) التي تُوطَا (أوِ) العَتَبَةُ (العُلْيَا مِنْهُمَا) وَ الخَشَبَةُ التي فَوْقَ الأعْلَى: الحَاجِبُ، وَ الاسْكُفَّةُ السُّفْلَى وَ الَعَارِضَتَانِ: العُضَادَتَانِ. وَ قَدْ تَقَدَّمَتِ الإشَارَةُ إلَيْهِ في «ح ج ب»، وَ الجَمْعُ: عَتَبٌ وَ عَتَبَاتٌ.
و في اللغة أ نّ الاسْكُفَّةَ والاسْكُوفَةَ هي خَشَبَةُ البَابِ التي تُوطَا عَلَيهَا.
لكنّ سماحة استاذنا المكرّم المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى الحائريّ أعلى الله درجته نقل عن المرحوم آية الله الحاجّ حسين الطباطبائيّ البروجرديّ قدّس الله نفسه أنّه قال: إ نّ الانحناء و تقبيل مقدّم الباب له حكم السجدة؛ فالمراد بالسجدة ليس فقط وضع الجبهة على الأرض، بل الانكباب على الأرض و التواضع إلى حدّ جعل الجبهة قُرب الأرض، و عليه فالأفضل تقبيل إطار الباب من غير قسمه الأسفل.
و قد نقل للحقير هذا المطلب عن آية الله البروجرديّ، آية الله الحائريّ، و ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر شوّال المكرّم لسنة ألف و أربعمائة هجريّة قمريّة في مشهد المقدّسة.
                        الروح المجرد، ص: 216
،،،،،
                         تفسير سورة التوحيد في عشرة أيّام في مشهد المقدّسة

نعم، لقد كان دأب سماحة السيّد الحدّاد في مشهد المقدّسة أن يتناول ليلًا- بعد صلاتَي المغرب و العشاء- طعاماً يسيراً ثمّ يأوي للنوم مبكّراً، و يدأب على زيارة المرقد المطهّر بعد أذان الصبح بين الطلوعَين، و في وقت صلاة الظهر التي كان يؤدّيها في الحضرة. أمّا في باقي الأوقات فكان غالباً ما يبقى في المنزل، فإذا شاء أحد لقاءه فإنّ ذلك كان يحصل نهاراً و في البيت. و كان الرفقاء يجتمعون في المنزل حين يكون السيّد هناك. و قد وجّه أمره للحقير- من أجل بعث الحيويّة و النشاط و ذكر الله في المجالس- لأقوم بتفسير سورة التوحيد للرفقاء بحضوره.
فشرع الحقير بتفسير هذه السورة المباركة، فانقضى اليوم الأوّل في تفسير معنى بِسْمِ، أي معنى الاسم و معنى باء الاسم، و استغرق ذلك ساعة كاملة. و مرّ اليوم الثاني في تفسير معنى اللهِ و استغرق ساعة كاملة أيضاً. ثمّ قمتُ في اليوم الثالث بتفسير معنى الرَّحْمَانِ، و في اليوم الرابع بتفسير معنى الرَّحِيمِ، و في اليوم الخامس في معنى قُلْ، و في اليوم السادس في معنى هُوَ، و في اليوم السابع في معنى أحَدٌ، و في اليوم الثامن في معنى الصَّمَدُ، و في اليوم التاسع في معنى لَمْ يَلِدْ، و في اليوم العاشر في معنى لَمْ يُولَدْ. و بقيت الفقرة الحادية عشرة من السورة إلى حين ذهابنا في معيّته إلى إصفهان بعد العودة من أرض مشهد المقدّسة، فكنّا مجتمعين يوماً بحضور الرفقاء، فجاء ذلك اليوم سماحة حجّة الإسلام الحاجّ السيّد شهاب الدين الصفويّ وفّقه الله لرؤية السيّد، فقال (السيّد الحدّاد): أتمم باقي السورة! فشرع الحقير في الكلام ساعة كاملة في معنى وَ لَمْ يَكُن لَّهُو كُفُوًا أحَدٌ و تفسيرها. و بحمد الله و منّه فقد ختمت هذه المجالس لهذه الدورة التفسيريّة بعدد (11) المساوي للكلمة المباركة «هُوَ».
                        الروح المجرد، ص: 217
و كان من عجائب و غرائب هذا التفسير:
أوّلًا: إ نّ الحقير لم يُطالع أساساً ولو سطراً واحداً، و لم اصطحب معي أصلًا كتاباً أو تفسيراً ما، فما ورد من التفسير إنّما كان عبارة عن إنشاءات يجري بيانها، و مطالب لم تُسمَع و لم تُقرَأ و لم تُقل، و كنت بدوري أعجب من رقّة معانيها و علوّ مفاهيمها و دقّة مغزاها. و كان من الجليّ البيِّن أنّها كانت إلقاءات من سماحة السيّد، بينما كان الحقير في حكم مكبِّر الصوت الذي يحكي هذه المعاني، ذلك لأنّني لم أقم حتّى الآن ببيان تفسير بهذا الوضع و الكيفيّة، فأنا الآن أتأسّف لأنّ تلك المطالب لو كانت قد سُجِّلت لمثّلت بنفسها تفسيراً كاملًا لهذه السورة المباركة يصبح في متناول أيدي أهل العرفان و التوحيد لمطالعته و النظر فيه، بالرغم من أ نّ هذه المطالب- حسب قول المرحوم القاضي- هي المطالب التي تأتي من هناك ثمّ تعود من حيث جاءت.
و ثانياً: فلم يكن الحقير في ابتداء هذا التفسير قد قام بتقسيمه هذا التقسيم، بل كنت احتمل في اليوم الأوّل أ نّ تفسير هذه السورة بأجمعها و التي لا تعدو أكثر من سطر واحد، سينتهي في نفس اليوم، و أ نّ البحث حولها و في جوانبها سينتهي خلال ساعة واحدة. لكنّ الأمر جاء على هذه الصورة و الكيفيّة بحيث انتهى في إحدى عشرة جلسة بدون تكرار للمطالب.

Tidak ada komentar:

Posting Komentar