Pages

Selasa, 18 Oktober 2011

Allamah Thaba'thabai "Ruh yang non materi 3-78

                        الروح المجرد، ص: 3
                        دِيبَاجَة

                        هو العليم الحكيم‏

                        أيّها النور المطلق! وأيّها الروح المجرَّد! أيّها الحدّاد!

لقد كنتَ دوماً بحراً طافحاً فيّاضاً متدفّقاً على طلّاب الحقيقة و نُشّاد سبل السلام بحراً خضمّاً زاخراً لا تُدرك ضفافه. أمواجه التوحيد و المعرفة، و نتاج مياهه الوفيرة الحجّة و البرهان و السطوع و الإيقان و الكشف و الشهود، و البصيرة و الإتقان. فلقد كُنت كالبحر هادراً بأمواج العلم، ساطعاً بنور البصيرة، متجليّاً بشعاع العرفان، و هكذا كنت كاشف الحقيقة لطلّاب الصراط الحقّ و سالكي سبيل الفَناء و الاندكاك في الذات الأحديّة المقدّسة.
و لقد كان الحلم و الصبر، و الاستقامة و التحمّل، و الجَلَد و التمكّن في الشدائد و المصائب، بمثابة ضفاف هذا الشطّ الواسع و البحر العريض و سواحله التي تحفظ مياه هذا البحر الموّاج المتلاطم الطافح بالعلم، و تحرسه من فيضان كثرة العلم و طغيانه و انفلات زمامه، لئلّا يُحمَّل أهل العالم كلاماً أو قولًا فوق طاقتهم فتثقل كواهلهم.
أمّا كنوز هذا البحر العميق و نفائسه، و لؤلؤه و مرجانه، و جواهره الثمينة الغائرة في أعماقه؛ فهي التقوى و الطهارة و النور و العرفان، التي تقدّم كأرقى و أغلى هديّة ملكوتيّة إلى عالم الإنسانيّة.
فالسلامُ عليكَ يوم وُلدتَ و يوم مُتَّ و يوم تُبعثُ حيّاً.
                        الروح المجرد، ص: 4
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ، اللهُ نُورُ السَّمَاوَ اتِ وَ الأرْضَ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ، في بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أ ن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ الأصَالِ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَ إقَامِ الصَّلَوةِ وَ إيتَآءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الأبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَ اللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
 (الآيات 35 إلى 38، من السورة 24: النور)
هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَ بَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ، وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَعْوَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَ أ نِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أ رْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأعْلَى؛ اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ في أ رْضِهِ، وَ الدُّعَاةُ إلى دِينِهِ. آهِ آهِ! شَوقاً إلى رُؤْيَتِهِمْ.
 (أميرالمؤمنين عليه السلام، الحكمة 147 من «نهج البلاغة»)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
 (الآية 23، من السورة 33: الأحزاب)
ذكرى ارتحال إنسان العين و عين الإنسان، الذي لم يأت الزمان بمثله، العارف الكامل المتحقّق بحقيقة العبوديّة، نقطة الوحدة بين قوسَي‏
                        الروح المجرد، ص: 5
الأحديّة و الواحديّة: الحاجّ السيّد هاشم الموسويّ الحدّاد، في الثاني عشر من شهر رمضان المبارك لسنة 1404 هجريّة قمريّة.
تأريخ الكتابة: الأوّل من محرّم الحرام‏
لسنة 1405 هجريّة قمريّة [1]
__________________________________________________
 [1]- كُتبت المطالب أعلاه علي صفحة كبيرة بطول 80 و عرض 60 سانتيمتراً بخطّ «النستعليق» الجميل للخطّاط المعاصر المعروف السيّد عبّاس أخويْن، حيث قام الصديق العزيز المهندس الحاجّ عبّاس هادي زاده الأصفهانيّ زِيد توفيقه، الصهر الكبير للمرحوم آية الله الشيخ مرتضي المطهّريّ قدّس الله روحه باختيار عباراتها، ثمّ زيّنها بإطار زجاجيّ شفّاف بحيث تبدو عباراتها من كلا الجانبَينِ، و أرسلها للحقير في مشهد المقدّسة من محلّ إقامته بطهران في ذكري رحيل الاستاذ الجليل.
                        الروح المجرد، ص: 6
بسم الله الرحمن الرحيم‏
         و لم يزلْ سيّدي بالحمدِ مَعروفا             و لم يزلْ سيّدي بالجودِ مَوصوفا
             وكانَ إ ذْ ليس نورٌ يُستضاءُ به             و لا ظلامٌ على الآفاقِ مَعكوفا
             فربُّنا بخلافِ الخلقِ كلّهم             وكلّ ما كانَ في الأوهامِ مَوصوفا
             و مَن يرِدْهُ على التشبيهِ ممتثلًا             يَرجع أخا حَصَرٍ بالعجزِ مَكتوفا
             و في المعارجِ يلقي مَوْجُ قدرته             موجاً يعارضُ طرفَ الروحِ مَكفوفا
             فاتركْ أخا جَدَلٍ في الدين مُنْعَمِقاً             قد باشرَ الشكَّ فيه الرأيُ مَأووفا
             واصحبْ أخا ثقةٍ حُبَّاً لسيِّدهِ             و بالكرامات من مولاه مَحفوفا
             أمسى دليلُ الهدى في الأرض مُبتسماً             و في السماءِ جميلُ الحال مَعروفا 1

__________________________________________________
1- هذه الأبيات لأميرالمؤمنين عليه السلام أوردها في نهاية خطبته الغرّاء في/
                        الروح المجرد، ص: 7
/__________________________________________________
 توحيد الذات المقدّسة للحقّ تعالى و صفاته و أسمائه، جواباً لذِعْلِب حين سأل: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟! فَقَالَ: وَيْلَك يَا ذِعْلِبْ؛ مَا كُنْتُ أعْبُدُ رَبَّاً لَمْ أرَهُ.
الخطبة مفصّلة، أوردها المجلسيّ في «بحار الأنوار» الطبعة الحروفيّة الحيدريّة، ج 4، ص 304 إلى 306، الحديث 34، الباب الرابع: جوامع التوحيد من أبواب أسمائه تعالى و حقائقها و صفاتها و معانيها، عن «التوحيد» للصدوق بسنده المتّصل. و ورد في خاتمتها: فخرّ ذعلب مغشياً عليه من صولة كلامه، ثمّ أفاق فقال: تالله ما سمعتُ بمثل هذا الجواب، و الله لاعدت إلى مثلها. و قد كتب سماحة الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في هامشه على «بحار الأنوار»: و هذه الأشعار هي أفضل دليل على أ نّ خلقة العالم لم تكن منقطعة في أوّلها، بل كانت موجودة دوماً؛ كما أنّها دليل على أ نّ الخلقة ليست منقطعة في آخرها، بل هي مستمرّة دوماً.
                        الروح المجرد، ص: 9
                        المُقَدِّمَةُ

                        الروح المجرد، ص: 11
بسم الله الرحمن الرحيم‏
و صلّى الله على محمّد و آله الطاهرين‏
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين‏
و لا حول و لا قوّة إلا بالله العليّ العظيم‏
حسبنا الله و نعم الوكيل، نعم المولى و نعم النصير
أحد تلامذة المدرسة الأخلاقيّة و العرفانيّة لفريد العصر و حسنة الدهر، العارف الذي لا بديل له و الموحِّد الذي لا نظير له، سيّد العلماء العاملين، و أفضل الفقهاء و المجتهدين: المرحوم آية الله العظمى الحاجّ السيّد الميرزا علي القاضي قدّس الله تربته المنيفة، هو المرحوم السيّد الجليل و العارف النبيل، و الموحِّد بحقيقة معنى الكلمة: الحاجّ السيّد هاشم الموسويّ الحدّاد أنار الله شآبيب قبره الشريف من أنواره الباهرة القدسيّة حيث يُعدّ من أقدم تلامذة تلك الآية الإلهيّة، و أكثرهم قدرة و تمكّناً في سلوك درب التجرّد، و في طَيّ عالم الملك و الملكوت و تخطّي نشآت التعيّن، و الورود في عالم الجبروت و اللاهوت، و الاندكاك المحض و الفَناء الصِّرف في الذات الأحديّة للحقّ جلَّ وعلا.
                        الحدّاد و ما أدراك ما الحدّاد؟!

و كان الحقير قبل التشرّف بالذهاب إلى النجف الأشرف و لثم العتبة المقدّسة لمولى الموحّدين أميرالمؤمنين عليه صلوات الله و ملائكته‏
                        الروح المجرد، ص: 12
أجمعين، و في الأوقات التي كنت أستفيد فيها من المحضر الفيّاض للُاستاذ العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله نفسه في بلدة قم الطيّبة، كنت أسمعه أحياناً يذكر اسم السيّد هاشم بأنّه من تلامذة المرحوم القاضي القدماء؛ و الذين يملؤُهم العشق و الهيجان، و يلفّهم التحرّر و التمرّد على القيود، و كان ساكناً في كربلاء؛ و كان المرحوم القاضي قد اعتاد الحلول عليه في بيته كلّما تشرّف بالذهاب إلى كربلاء.
و دام ذلك حتّى مَنّ الباري بتوفيق الحقير للتشرّف بالذهاب إلى تلك العتبة، حيث كان خلال تواجده في النجف الأشرف يرجع في الامور العرفانيّة و الإلهيّة- حسب توصية الاستاذ العلّامة- لآية الله الشيخ عبّاس القوجانيّ أفاض الله على تربته من أنواره، و كان لي معه خاصّةً علاقات حميمة. و كان الشيخ يذكر أحياناً اسم السيّد الحدّاد، كما كان بعض الرفقاء الذين كانوا من تلامذة المرحوم القاضي، و خاصّة بعض المسافرين و الزائرين يذكرونه أحياناً في محضر آية الله القوجانيّ و يستفسرون عن أحواله، فكان يجيبهم: هو في كربلاء، و حاله بحمد الله جيّدة.
و باعتبار وجودي في النجف و انشغالي بالدرس و المباحثة، فلم يكن لي مجال لزيارة سيّد الشهداء عليه السلام إلّا في بعض ليالي الجمعة أو في أوقات الزيارة؛ حيث كنت أذهب إلى كربلاء ثمّ أعود في نفس الليلة أو في اليوم التالي، فلم تسنح لي الفرصة للبحث عن السيّد الحدّاد و الالتقاء به.
و دام ذلك ما يقرب من سبع سنين، حتّى التقى يوماً وسط الصحن المطهّر أحدُ تلامذة المرحوم القاضي و اسمه العلّامة اللاهيجي الأنصاريّ بآية الله الشيخ عبّاس، فقبّلا نواظر بعضهما، فتطرّق الأخير خلال حديثهما و استفسارهما عن أحوال بعضهما إلى ذكر اسم السيّد هاشم و استَفسر عن أحواله، ثمّ قال في كلامه:
                        الروح المجرد، ص: 13
 «لقد كان للمرحوم القاضي اهتمام خاصّ به، و كان لا يعرّفه لأصحابه في السلوك و يضنّ به لئلّا يضايقه أحد منهم، و كان هو التلميذ الوحيد الذي كان يحصل له الموت الاختياريّ زمن حياة المرحوم القاضي، و كانت ساعات موته تطول أحياناً إلى خمس ساعات أو ستّ. و كان المرحوم القاضي يقول: إ نّ السيّد هاشم في التوحيد أشبه بالسنّة المتعصِّبين لمذهبهم؛ فقد كان متعصِّباً في توحيد ذات الحقّ تعالى، و لقد ذاق طعم التوحيد و لمسه بشكل استحال معه لأيّ شي‏ء أن يوجد خللًا فيه».
و لم ينقضِ على هذه المحادثة وقت طويل حتّى حان وقت زيارة أبي عبد الله عليه السلام، و كانت زيارة النصف من شعبان لسنة 1376 هجريّة قمريّة، فوُفِّق الحقير للتشرّف بالذهاب إلى كربلاء للزيارة. و حصل في ذلك السفر أن وُفِّقْتُ لزيارة السيّد هاشم و تقبيل يديه، و انعقدت بيننا الأواصر الحميمة على أكمل صورها، و دامت ثمان و عشرين سنة كاملة لحين رحيله عن دار الفَناء، أي في سنة ألف و أربعمائة و أربعة هجريّة قمريّة، و بقي ذكره منذ ذلك الحين- حيث ينقضي على رحيله ثمان سنين- لا يبرح عنّي، مجسّماً في افق خاطري يزيد بمرّات على ذكري لوالدي، رحمة الله عليه رحمة واسعة.
                        عجز المصنّف عن شرح أحوال الحدّاد و بيان مدارجه و معارجه‏

و لقد كان هذا الرجل ذا مغزىً عظيمٍ، جمّ الفضل و العلم يقصر عنه لفظ العظمة، و كان واسع الافق رحبه إلى درجة لا سبيل للتعبير عن سعة إدراكه. و كان متوغّلًا في التوحيد، مندكّاً فانياً في ذات الحقّ تعالى إلى الحدّ الذي يبقى ما نقوله و نكتبه عنه اسماً و رسماً؛ فهو خارج عن التعيّن، متخطٍّ للاسم و الرسم.
نعم، كان السيّد هاشم الحدّاد روحي فداه حقّاً و واقعاً رجلًا تقصر أيدينا عن نيل أذيال أثوابه المتطاولة. و غالباً ما كنتُ ألتقي به أثناء هذه‏
                        الروح المجرد، ص: 14
المدة المديدة في أسفاري التي كانت تحصل مرّة أو مرّتين في السنة و تدوم شهرين أو ثلاثة، فأرد منزله في كربلاء و اعَدُّ من عياله و أولاده؛ لكنّه مع ذلك رحل، و بعد رحيله فقد بَقِيتُ حتّى يومي هذا تلفّني الحيرة و يكتنفني الحياء، خاضعاً مطأطئاً أمام ذلك الشموخ و الرفعة و ذلك المقام و تلك الجلالة.
لقد عَجَزَتِ الألفاظ عن وصفه؛ فماذا أقول في رجلٍ وقفتْ أمامه الكلمات حيرى و أكلَّ الواصفين عن وصفه ناهيك عن إدراكه؟!
لذا، لم يُذكَر اسمه في كُتُب الحقير و لم يجرِ فيها التطرّق إلى شرح حاله، حتّى في كتاب «الشمس الساطعة» الذي الِّفَ في ذكرى الاستاذ الكبير سماحة آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه، و قد تطرّق الحديث فيه مفصّلًا عن حالات سماحة القاضي و أحوال بعض تلامذته، بل ذُكِرَ فيه أسماء تلامذته بالترتيب دون اسم السيّد هاشم!
فلِمَ يا ترى؟! و لأيّ سبب؟!
ذلك لأنّه كان يستعصي على القلم فلا يحيط به؛ فقد كان صقراً محلِّقاً بعيد المدى لا ترقى إليه الأفكار و العقول في أوج تحليقها. و مهما جَهَدَتْ في اللحاق به رأته أسمى و أعلى و أفضل و أرقى؛ فيرجع الفكر خاسئاً و البصر ذليلًا و البصيرة كليلة، و تبقى حيرى لا تعرف يمنة عن يسرة و لا فوقاً من تحت و لا أماماً من خلف.
فكيف- يا ترى- يمكن للمحدود بالجهات و التعيّنات وصفَ روحٍ مجرّد يحاول إخضاعه لقالب معيّن، فيدور حوله ليصفه و يبيِّن حاله؟!
و نلحظ هنا روعة و وضوح كلام الملّا الروميّ الذي يتربّع على منصّة الحقيقة و يجد مصداقه في الخارج:
                        الروح المجرد، ص: 15
         من به هر جمعيّتى نالان شدم             جُفت بدحالان و خوش حالان شدم‏
             هر كسى از ظنّ خود شد يار من             وز درون من نجست أسرار من‏
             سِرِّ من از نالة من دور نيست             ليك چشم و گوش را آن نور نيست‏
             تن زجان و جان ز تن مستور نيست             ليك كس را ديد جان دستور نيست [1]

أو حين يقول:
         گرچه تفسير زبان روشنگر است             ليك عشقِ بى زبان روشن‏تر است‏
             چون قلم اندر نوشتن مى‏شتافت             چون به عشق آمد قلم بر خود شكافت [2]
            __________________________________________________
 [1]- «مثنوي» ص 1، السطر 3 و 4، طبعة آقا ميرزا محمود. يقول: «علا صوت أنيني في كلّ نادٍ و جمعٍ، و رافقت ذوي الأحوال السيّئة و الحسنة. فخيّل لكلّ منهم أنّه صار رفيقي و صاحبي، بَيدَ أ نّ أحداً لم يطّلع علي سرّي و مكنون ضميري. إ نّ سرّي مودع في أنيني و شجوني لا ينفكّ عنهما، لكنّ أعين الآخرين و آذانهم ينقصها ذلك النور فقصرت عن أن تري أو تسمع. لقد اقترن البدن بالروح فلم يغب أحدهما عن الآخر أو يستتر عنه يوماً، إلّا أنّه لم يُعهد من أحد أن يري الروح عياناً». [2]- «مثنوي» ص 4، السطر 14 إلي 19. يقول: «مع أ نّ اللسان هو المظهر للأحاسيس ببيانه و بلاغته، لكن العشق أبلغ في خرسه من أ يّ بيان. و قد كان القلم مسرعاً في الكتابة، لكنّه تصدّع لمّا بلغ كلمة العشق».


                        الروح المجرد، ص: 16
         چون سخن در وصف اين حالت رسيد             هم قلم بشكست و هم كاغذ دريد
             عقل در شرحش چو خَر در گل بخفت             شرح عشق و عاشقى هم عشق گفت‏
             آفتاب آمد دليل آفتاب             گر دليلت بايد از وى رو متاب‏
             از وى ار سايه نشانى مى دهد             شمس هر دم نور جانى مى دهد
             سايه خواب آرد ترا همچون سَمَر             چون برآيد شمس، انْشَقَّ القَمَر
             خود غريبى در جهان چون شمس نيست             شمس جانِ باقئى كش أمْسْ نيست‏
             شمس در خارج اگر چه هست فرد             مثل او هم مى توان تصوير كرد [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «وما أن بلغ الكلام إلي وصف هذه الحال، حتّى تكسَّر القلم و تمزَّق الورق. لقد استحال العقل في بيان العشق كالحمار المتخبّط في الوحل، فشرح العشق و بيان حال العاشق لا يمكن أن يقوله إلّا من ذاق العشق بدوره. و لقد جاءت الشمس دليلًا علي الشمس، فإن أردتَ دليلًا فلا تشح بوجهك عنها. و صحيح أ نّ الظلّ أيضاً يدلّ علي الشمس، لكن الشمس نفسها هي التي ترسل دائماً أنوارها علي الأرواح. فالظلّ كالسَّمَر في الليل يجعلك تشعر بالنعاس، فإذا طلعت الشمس انشقّ لها القمر و أظْلَم. و مع ذلك ليس في العالم غريب كالشمس، و ليس لشمس الروح المحيطة بالزمان من أمس أو غد. فهذه الشمس الموجودة في الخارج و إن كانت فريدة، ولكنّك تستطيع تصوير مثيل لها».


                        الروح المجرد، ص: 17
         ليك شمسى كه از او شد هست أثير             نبودش در ذهن و در خارج نظير
             در تصوّر ذات او را كُنج كو             تا در آيد در تصوّر مثل او [1]

و كم هو رائع و بليغ قول مولى الموالي أميرالمؤمنين عليه السلام في تبيانه لمحلّه و مقامه، حيث يقول:
صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أ رْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأعْلَى؛ اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ في أ رْضِهِ، وَ الدُّعَاةُ إلى دِينِهِ. آهِ آهِ! شَوْقاً إلى رُؤْيَتِهِمْ.
                        سبب تأليف الكتاب‏

لكنّ الابن الأرشد و الأفضل و الأعلم لآية الله المعظّم و حجّة الله‏المكرّم الحاجّ السيّد الميرزا علي القاضي أعلى الله مقامه المنيف، سماحةالسيّد المحترم فخر الفضلاء العظام و عماد العشيرة الفخام و سيّد البررة الكرام، الابن الجسميّ و الروحيّ لذلك الفقيد: السيّد محمّد حسن القاضيّ الطباطبائيّ التبريزيّ أدام الله أيّام ظلاله و بركاته قد شرع بتأليف كتاب على قدر من التفصيل و الشرح لأحوال والده المعظّم المرحوم القاضي، ربّمايجد طريقه سريعاً إلى الطبع و النشر بحمد الله و منّه؛ جاء في جزئه الثاني‏شرح أحوال تلامذة هذا الرجل الإلهيّ الكبير و ترجمة أحوالهم، و قد أوصاني هذا السيّد العزيز المكرّم عبر رسائل شفويّة و خطّيّة بالكتابة عن سماحة السيّد هاشم الحدّاد رضوان الله تعالى عليه بما علمتُ عنه كي اقدِّمها
__________________________________________________
 [1]- يقول: «أمّا تلك الشمس التي وجد الأثير و الكائنات منها، فنظيرها يعزّ في الذهن و في الخارج.
و أنّي يكون هناك متّسع لتصوّر ذاتها، من أجل أن يتحقّق مثيلها في التصوّر!».
                        الروح المجرد، ص: 18
لمحضره.
لذا، فقد عقدتُ العزم امتثالًا لأمره الذي هو في الحقيقة امتثال أمر والده المرحوم، على كتابة رسالة- و لو مختصرة- في مدى فهم الحقير و إدراكه؛ و ها أنا اقدِّمها لسماحته و لأرباب السلوك و المعرفة مع الاعتراف بالعجز و الإقرار بالقصور. وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت و إليه انيب و هو خير هادٍ إلى سواء السبيل.
و كان الشروع في هذه الرسالة ضحى يوم الثلاثاء الخامس عشر من شهر رجب المرجَّب لسنة ألف و أربعمائة و اثني عشر هجريّة قمريّة، في البلدة الطيِّبة للمشهد الرضويّ المقدَّس على شاهده آلاف التحيّة و الإكرام و السلام و الإنعام؛ و سمّيتها «الروح المجرَّد: في ذكرى الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد قُدّس سرّه».
و أنا العبد الحقير الفقير المسكين المستكين‏
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ‏
عفى الله عن جرائمه‏
                        الروح المجرد، ص: 19
                        القِسْمُ الأوّلُ: مُقَدِّمَةُ التَّشَرُّفِ وَ التَّوْفِيقِ لِمَحْضَرِ سَمَاحَةِ الحدَّادِ وَ مَلازَمَتِهِ‏

                        الروح المجرد، ص: 21
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏
وَ صَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا و نَبِيِّنَا محمّد وَ آلِهِ الطَّيِّبِينَ‏
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعِينَ، وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ‏
وَ هُوَ حَسْبُنَا وَ نِعْمَ الوَكِيلُ، نِعْمَ المَولَى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ
تَحَصَّنْتُ بِالمَلِكِ الحَيّ الذي لَا يَمُوتُ، وَ اعْتَصَمْتُ بِذِي العِزَّةِ وَ العَدْلِ وَ الجَبَرُوتِ، وَ اسْتَعَنْتُ بِذِي العَظَمَةِ وَ القُدْرَةِ وَ المَلَكُوتِ؛ عَنْ كُلِّ مَا أخَافُهُ وَ أحْذَرُهُ. [1]
اللهمّ صلِّ وسلّم وزد و بارك على صاحب الدعوة النبويّة، و الصولة الحيدريّة، و العصمة الفاطميّة، و الحلم الحسنيّة، و الشجاعة الحسينيّة، و العبادة السجّاديّة، و المآثر الباقريّة، و الآثار الجعفريّة، و العلوم الكاظميّة، و الحجج الرضويّة، و الجود التقَويّة، و النقاوة النقويّة، و الهيبة العسكريّة، و الغيبة الإلهيّة. اللهمَّ عجِّل فرجه، و سهِّل مخرجه، و اجعلنا من شيعته و أعوانه و أنصاره. [2]
صلِّ اللهمَّ على التجلِّي الأعظم، وكمال بهائك الأقدم، شجرة
__________________________________________________
 [1]- من أدعية «الصحيفة العلويّة الثانية» ص 75، الطبعة الحجريّة: و كان من دعائه عليه السلام عند كلّ نازلة أو شدّة.
 [2]- الصلوات المعروفة للخواجة نصير الدين الطوسيّ رحمة الله عليه.
                        الروح المجرد، ص: 22
الطور، و الكتاب المسطور، و النور على النور في طخياء [1] الدَّيْجور، علم الهدى، و مجلي العمى، و نور أقطار الورى، و بابك الذي منه تُؤتَى، الذي يملأ الأرض قسطاً و عدلًا كما ملئت ظلماً و جوراً.
                        مقدِّمة التشرّف لمحضر سماحة الحدّاد

كان متعارفاً بين طلبة النجف الأشرف و فضلائها و علمائها في أيّام الزيارات المخصوصة لمولى الكونَينِ أبي عبد الله الحسين سيّد الشهداء عليه و على أبيه و امّه و جدّه و أخيه و التسعة الطاهرة من أبنائه صلوات الله و سلام ملائكته المقرّبين و الأنبياء و المرسلين، كزيارة عرفة و زيارة الأربعين و زيارة النصف من شعبان، أن يذهبوا من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدّسة سيراً على الأقدام، إمّا عن الطريق الصحراويّ المُعَبَّد المستقيم، و طوله ثلاثة عشر فرسخاً، أو عن الطريق المحاذي لشطّ الفرات، و طوله ثمانية عشر فرسخاً. و كان الطريق الصحراويّ قاحلًا يخلو من الماء و الخضرة، لكنّه قصير يمكن للمسافرين أن يطوونه بسرعة خلال يوم أو يومين، على العكس من الطريق المحاذي لشطّ الفرات الذي كان يتعذّر السفر فيه بالسيّارة، فكان ينبغي السير خلاله على الأقدام أو بامتطاء الحيوانات. و كان هذا الطريق منحرفاً غير مستقيم، لكنّه- في المقابل- يتميّز بالخُضرة و تتخلّله بساتين الأشجار و النخيل اليانعة و بين كلّ عدّة فراسخ ثمّة أماكن لاستضافة المسافرين (و هي مضائف مصنوعة من الحصير تعود لشيوخ العرب يستقبلون فيها القادمين فيضيّفونهم مجّاناً مهما شاؤوا الإقامة عندهم). و كان الطلبة يسيرون نهاراً ثمّ يأوون إلى هذه‏
__________________________________________________
 [1]- الطَّخْواءُ و الطَّخْياءُ من الليالي: المظلمة.
                        الروح المجرد، ص: 23
المضائف ليلًا فيبيتون فيها، و كان سفرهم في هذا الطريق المحاذي للنهر يستغرق في الغالب يومين أو ثلاثة.
                        الذهاب إلى كربلاء مشياً على الاقدام في النصف من شعبان 1376 هجريّة

و لم يوفَّق الحقير خلال مدّة إقامتي في النجف الأشرف، التي دامت سبع سنين، للسفر إلى كربلاء مشياً على الأقدام إلّا مرّتين فقط؛ ذلك لأنّ الوالدة المرحومة كانت على قيد الحياة و بالرغم من عدم ممانعتها للسفر، إلّا أ نّ الحقير كان يري آثار الاضطراب عليها، لذا لم أتقدّم للانضمام إلى مواكب المشاة لغاية السنة أو السنتين الأخيرتين من إقامتنا في النجف، حيث رأيت تناقص ذلك الاضطراب عندها من خلال إقامة العلاقات مع العوائل النجفيّة، لذا فقد أرسلتها إلى كربلاء مع بعض المسافرين و الزوّار الإيرانيّين الذين كانوا قد و فدوا علينا، و صحبتُ الرفقاء في المسير إلى كربلاء.
و كان الحقير في هذين السفرين في معيّة سماحة آية الله الشيخ عبّاس القوجانيّ أفاض الله علينا من رحماته و بركاته، و كان هناك أيضاً سماحة آية الله المرحوم الشيخ حسن علي نجابت الشيرازيّ، و سماحة حجّة الإسلام و المسلمين السيّد محمّد مهدي دستغيب الشيرازيّ الأخ الأصغر للمرحوم الشهيد دستغيب، و قد صحبنا في السفر الثاني أحد الطلبة ممّن له معرفة بآية الله القوجانيّ و اسمه السيّد عبّاس ينگجي، و شخص آخر من مريديه و كان من رجالات طهران المعروفين.
و كان هذا الأخير يمتلك بحقّ صفاءً و نزاهة و عشقاً لأهل بيت الولاية، و لا يزال بحمد الله على قيد الحياة. و كان قد قَدِم إلى النجف الأشرف للتشرّف بالزيارة، فقال للفقيد السعيد آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس: أرغب أن أرتدي يوماً ملابس العمل و أندسُّ بين العمّال الذين يعملون في إصلاح و تبييض جدران أروقة الصحن و تزيينها بالمرايا فأعمل‏
                        الروح المجرد، ص: 24
معهم من الصبح إلى غروب الشمس.
فردعه آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس- و كان الوصيّ الرسميّ للمرحوم القاضي في أمر الطريقة و الأخلاق و السلوك إلى الله- عن هذا العمل و قال له: أنت رجل معروف و مشهور، و مهما أخفيت هذا العمل الجميل الحسن فسينكشف أمره في النهاية و يصبح حديث الألسن، و لربّما كان الغرور و العجب الذي سيتداخلك من هذا العمل أكثر ضرراً عليك ممّا يعود عليك منه. و أرى أنّه من الأنسب، بدلًا من نيّتك الخيرة الحسنة هذه، أن تأتي معنا إلى كربلاء ماشياً في أيّام الزيارة المخصوصة للنصف من شعبان! فلن يعرف أحد بهذا الأمر، و إذا ما عرف به فلن يكون مدعاة لإثارة الضجّة كذاك، و لن تصحبه العواقب الروحيّة الوخيمة لكم.
فاقتنع ذلك الرجل المحترم بهذا الكلام و استعدّ للسفر ماشياً، حيث بدأ هذا السفر صباح اليوم الثاني عشر من شهر شعبان المعظّم لسنة ألف و ثلاثمائة و ستّ و سبعين هجريّة قمريّة، و استغرق أيّاماً ثلاثةً و ليلتين؛ و ردنا بعدها كربلاء المقدّسة عصر يوم الرابع عشر.
و مع أ نّ هذا السفر مشياً على الأقدام كان أمراً كثير الصعوبة لشخص متنعِّم مُرَفَّه لا عهد له بحياة الطلبة الشاقّة، لكنّ هذا الرجل كان من المحبّين و الموالين لأهل البيت حقيقةً؛ فلم يواكب سائر الرفقاء في هذا الطريق الشاقّ فقط، بل تميّز أيضاً بعشق و ولهٍ خاصّ، و كان خلال السفر يبكي بدموع غزيرة و يتمتم مع نفسه بهذا الشعر الغزليّ لحافظ عليه الرحمة:
         صَبا به لطف بگو آن غزال رعنا را             كه عشق كوه و بيابان تو داده‏اى ما را
             شكر فروش كه عمرش دراز باد چرا             تفقّدى نكند طوطى شكر خارا


                        الروح المجرد، ص: 25
         غرور حسن اجازت مگر نداد اى گل             كه پرسشى نكنى عندليب شيدا را
             به خُلق و لطف توان كرد صيد أهل نظر             ببند و دام نگيرند مرغ دانا را
             ندانم از چه سبب رنگ آشنائى نيست             سهى قدان سيه چشم ماه سيما را
             چو با حبيب نشينى و باده پيمائى             بياد دار محبّان باد پيما را
             جز اين قدر نتوان گفت در جمال تو عيب             كه وضع مهر و وفا نيست روى زيبا را
             در آسمان چه عجب گر بگفتة حافظ             سماع زُهره به رقص آورد مسيحا را [1]

__________________________________________________
 [1]- «ديوان الخواجة حافظ» ص 5، الغزل رقم 9، طبعة پژمان، انتشارات بروخيم، سنة 1318 ه-. ق..
يقول: «قولي بلطف- يا ريح الصَّبا- لذاك الغزال الفاتن المختال، هيّمتنا بين صحاري و قفارٍ و جبال.
و لِمَ لا يتفقّد بائعُ السكّر- طال عمره- الببغاءَ المشغوف بحَبَّات السكّر المنثال!
ربّما لم يُجْزِكِ غرورك- أيّتها الوردة- أن تسألي العندليب المتيَّم أيّ سؤال.
و بالخلق و اللطف يمكن صيد أهل النظر، أمّا الطائر الحذر فلا يُصاد قطّ بشباكٍ و حبال.
و لستُ أدري لِمَ لا يكون للصداقة لون، عند طوال القدّ، سوداوات العيون، ذوات الوجوه كالأقمار.
فإذا جالستَ الحبيب و بدأت معه الشراب، فتذكّر العشّاق الذين سلكوا طريق الوصال.
و لست أستطيع أن أعيب في جمالك شي‏ء، إلّا أ نّ الحبّ و الوفاء لا يكون في أصحاب الوجوه الجميلة.
و لا عجبَ لو غنّت بحديث حافظ «الزُّهرة» في السماء، فتمايل المسيح طرباً لذاك المقال!».
                        الروح المجرد، ص: 26
و كان يبتعد أحياناً عن الرفقاء لينشغل بنفسه أكثر و ليعرض- على انفراد- مناجاته و لوعته و لهفته. و صادف أن هطل المطر من منتصف الطريق فما بعد، فاستحال الطريق الترابيّ و حلًا، لكنّ هذا الرجل لم يكن ليأبه حين تنغرز قدماه في الوحل، و هكذا فقد سار حتّى لاحت طلائع مدينة كربلاء من على بُعد فرسخ تقريباً، فخلع نعليه من قدميه و شدّهما ببعضهما ثمّ علّقهما حول عنقه.
و لقد توجّهنا و سائر الرفقاء و مَن كان معنا، و آثار التراب و الطين تلوح علينا، بلا غسل الزيارة، إلى الحرم الأنور فتشرّفنا بزيارته، و قد استغرقت هذه الزيارة أقلّ من ساعة، و توجّهنا بعدها نحو قبر أبي الفضل العبّاس عليه السلام فزرناه على تلك الحال و الهيئة.
و كان أحد الرفقاء من أهل الكاظميّة، و اسمه الحاجّ عبد الزهراء الگرعاويّ، قد دعانا للعشاء تلك الليلة في الفندق و المسجد اللذين حلّ فيهما، لذا فقد توجّه جميع الرفقاء حين حلّ الليل إلى حمّام المخيّم للقيام بغسل زيارة النصف من شعبان، ثمّ توجّهنا جميعاً لزيارة الحرمين المطهّرين الشريفين، و اجتمعنا بعدها عند الحاجّ عبد الزهراء، و انشغلنا بإحياء تلك الليلة بقراءة القرآن و الدعاء حتّى طلوع الفجر، ثمّ صلّينا صلاة الفجر في الحرم المطهّر وعدنا بعد طلوع الشمس للاستراحة و استرخاء الأعصاب، و تهيّأنا بعدها جميعاً للقيام بغسل زيارة يوم النصف من شعبان و التشرّف بزيارة الحرمين الشريفين.
                        الروح المجرد، ص: 27
                        عودة آية الله الشيخ عبّاس إلى النجف وتشرّف الحقير بلقاء الحدّاد

و كان من المقرّر بعد أداء الزيارة الكاملة أن يعود آية الله القوجانيّ إلى النجف و أنا في معيّته فقط؛ أمّا الحاجّ الشيخ حسن علي نجابت و الحاجّ السيّد محمّد مهدي دستغيب- اللذان كانا قد قَدِما من إيران للزيارة- فكان من المقرّر أن يعودا برفقة ذلك الشخص المحترم إلى شيراز و طهران قبل حلول شهر رمضان؛ كما عزم السيّد عبّاس على العودة إلى النجف عصر ذلك اليوم أو غده. و هكذا فقد ذهبتُ مع سماحة الحاجّ الشيخ عبّاس إلى موقف سيّارات النجف للعودة إليها.
ثمّ إ نّ الحقير سأله في الطريق: أترغبون أن نذهب لرؤية السيّدهاشم النعلجيّ؟! (و ذلك لأنّه لم يكن قد تشرّف بعدُ بحجّ بيت الله الحرام؛ و كان عمله صناعة حدوات الخيول و تثبيتها في أرجلها، فاشتهر بين الرفقاءبالسيّد هاشم النعلجيّ. ثمّ سمعنا أ نّ أحد مريديه من سكنة كربلاء- و هوالحاجّ محمّد علي خلف زاده، و كان حذّاءً يصنع الأحذية، و له علاقةحميمة بالسيّد- قد غيّر هذا اللقب بنفسه إلى الحدّاد احتراماً؛ فصار الرفقاءبعد ذلك يدعونه بالحدّاد.
أجاب سماحته: لقد كان دكّانه لصنع الحدوات يقع سابقاً في العَلْوَة (ميدان الخضار) جنب البلديّة، و في وسط المدينة و هو مكان قريب جدّاً، و كنت أعرف عنوانه و أذهب إليه، ثمّ إنّه غيّره فصار بعيداً جداً، و صرت أجهل عنوانه؛ مضافاً إلى ضرورة عودتي سريعاً إلى النجف، لذا فلا مجال لديّ الآن لذلك؛ فلنَدَعْ ذلك إلى فرصة اخرى!
قلت: لست في عجلة للعودة الآن، أفتسمحون لي بالبقاء لزيارته؟! أجاب: نعم، لا بأس بذلك. فقام الحقير بتوديع سماحته،
                        المرّة الاولى لتشرّف المصنِّف في محضر سماحة الحدّاد

ثمّ عدتُ فاستفسرت ممّن في العَلْوَة و ميدان الخضار المعروف في كربلاء عن عنوان السيّد الجديد. فقيل لي: إنّه‏يقع‏خارج المدينة خلف مركز الشرطة، و هو
                        الروح المجرد، ص: 28
يعمل في دكّان له في إصطبل مديريّة الشرطة.
و هكذا فقد قطع الحقير شارع العبّاسيّ المنتهي بمديريّة الشرطة و سألت في آخره عن الإصطبل فدلّوني عليه، فدخلت ساحة كبيرة مُسَيَّجة تقرب مساحتها من ألف متر مربّع انتظمت محيطها حظائر الخيول المنهمكة في تناول العلف. فسألت هناك: أين يقع محلّ السيّد هاشم؟ قيل: في تلك الزاوية!
توجّهتُ إلى تلك الزاوية، فشاهدت: دكّة صغيرة تقرب أبعادها من 3، 3 متراً، يقف فيها سيّد شريف خلف سندان حديديّ و قد غطس نصف جسده في الأرض، بشكل يجعل في متناول يديه الفرن الواقع إلى اليمين و السندان الذي يقابله، و كان منهمكاً بطرق الحديد لصناعة الحدوات، و إلى جانبه مساعده.
كان وجهه متوهّجاً كوردة حمراء تلتمع فيه عيناه أشبه بياقوتتَينِ حمراوين، و قد اكتنف الغبار و ذرّات الفحم و دخان الفرن رأسه و وجهه، كان حقّاً و حقيقةً عالَماً عجيباً، يمدّ يده بالمقبض إلى الفرن فيُخرج الحديد المبيضّ و يضعه على السندان فينهال عليه طرقاً بالمطرقة بِيَدِه الاخرى. عجباً! أ يّ أمر هذا؟! و أ يّ حساب و كتاب؟! و ما الذي ينطوي عليه؟!
دخلت فسلّمتُ، ثمّ قلت: جئت لتسمِّروا في قدمي نعلًا!
فرفع سبّابته تجاه أنفه فوراً و قال: صه! ثمّ صبّ قدحاً من الشاي المعطّر ذي المذاق اللطيف من إناء الشاي الموضوع على جانب الفرن و وضعه أمامي و قال: باسم الله، تفضّل!
و لم تدم لحظات حتّى بعث بالمساعد بحجّة إنجاز عمل و شراء شي‏ء ما، فلمّا غادر المساعد المحلّ، التفت السيّد إلى فقال: أيّها السيّد العزيز! هذا الكلام محترم جدّاً؛ فَلِم تلفظون كلاماً كهذا أمام معاوني الذي يجهل‏
                        الروح المجرد، ص: 29
مثل هذه الامور؟!
ثمّ صبّ لي قدحاً آخر من الشاي و صبّ لنفسه آخر، و بينما كان يستمرّ في عمله فلا يغفل عن الفرن و المطرقة و المقبض لحظة واحدة، أنشد لي هذه الأشعار بلحن بديع و صوت رخيم يتفجّر عشقاً و هيجاناً و ينثال جاذبيّة و روحانيّة.
         روستائى گاو در آخُر ببست             شير گاوش خورد و بر جايش نشست‏
             روستائى شد در آخُر سوى گاو             گاو را مى جست شب آن كنجكاو
             دست ماليد بر أعضاى شير             پشت و پهلو گاه بالا گاه زير
             گفت شير ار روشنى افزون بدى             زهره‏اش بدريدى و دلخون شدى‏
             اين چنين گستاخ زان مى خاردم             كو در اين شب گاو مى پنداردم‏
             حق همى گويد كه اى مغرور كور             نى زنامم پاره پاره گشت طور [1]
            __________________________________________________
 [1]- «مثنوي»؛ ج 2، ص 116، السطر 8 إلي 12، طبعة آقا ميرزا محمود الحجريّة. يقول: «شدّ قرويّ ثوره في الحظيرة، فجاء أسد و افترسه و جلس مكانه. و في الليل جاء القرويّ إلي الحظيرة ليتفحّص الثور و يتفقّده. فكان يمسح علي أعضاء الأسد بيده، يمسح علي ظهره و جنبه، أعلاه و أسفله. فقال الأسدُ: لو ازداد الضوء لمات الرجل فزعاً و تفطّر كبده هلعاً. فهو يحكّ جلدي و يلمس جسدي بهذه الوقاحة و يحسبني في ظلام الليل ثوراً. يقول الحقّ دوماً: أيّها الأعمي المغرور! ألم يخرّ جبل الطور من اسمي مندكّاً؟!».


                        الروح المجرد، ص: 30
         كه لو أنزلنا [1] كتاباً للجبل             لا نصدع ثم انقطع ثم ارتحل‏
             از من ار كوه احد واقف بدى             پاره گشتيّ و دلش پر خون شدى‏
             از پدر و از مادر اين بشنيده‏اى             لاجرم غافل در اين پيچيده‏اى‏
             گر تو بي‏تقليد زان واقف شوى             بي‏نشان بي‏جاى چون هاتف شوي [2]

ثمّ عاد المساعد، فقال السيّد: موعدنا معكم في المنزل لأداء الصلاة. ثمّ أعطاني عنوان المنزل.
                        إقامة صلاة الظهر ليوم النصف من شعبان في منزل الحدّاد و بإمامته‏

و هكذا فقد ذهبتُ قُبيل أذان الظهر إلى منزله في شارع العبّاسيّة، شارع البريد، جنب منزل الحاجّ صمد الدلّال. و كان منزلًا بسيطاً، يضمّ عدّة غرف بسيطة مبنيّة على الطراز العربيّ، و في زاويته نخلة. و كان بيته ذا طابق واحد، لذا فقد قادونا إلى السطح حيث كان السيّد هناك و قد فرش‏
__________________________________________________
 [1]- يقول في هامش «المثنويّ»: لو أنزلنا إشارة إلي الآية في سورة المجادلة: لَوْ أنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَ انَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأيْتَهُو خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ.
أقول: بل إ نّ هذه الآية هي الآية 21، من سورة 59: الحشر.
 [2]- يقول: «فلو أنزلنا كتاباً علي الجبل، لتصدّع ثمّ لتقطّع ثمّ تناثر هباءً منثوراً.
و لو وقف علي أمري جبل احُد، لا نتسف و تخضّب قلبه دماً.
لكنّك لُقِّنتَ هذا و سمعته سماعاً من أبيك و امّك، فكنتَ- لا جَرَم- غافلًا عنه.
و لو وقفت علي هذا الأمر يقيناً بلا تقليد، لصرتَ كالهاتف لا يُلمَس لك أثر و لا يحتويك مكان».
                        الروح المجرد، ص: 31
سجّادته و استعدّ للصلاة؛ و كان هناك شخص واحد من مريديه و هو الحاجّ محمّد علي خلف زاده يريد الاقتداء به في الصلاة؛ و اتّضح بعد ذلك أن الحاجّ محمّد علي كان غالباً ما يصلّي الظهر في معيّته. فاقتديت به كذلك، و اقيمتْ صلاة الجماعة بمأمومَينِ فقط. و قد أبدى السيّد منتهى اللطف و المحبّة، ثمّ قال: فلتذهبوا إلى النجف، و لقاؤنا في السفر القادم إن شاء الله تعالى. 1
__________________________________________________
1- و ما أشبه حالي أنا الهائم التعب بعد أن هدّتني السنين المتمادية، في وصولي إلى نبع الحياة و مركز عشق الذات السرمديّة هذا بغزل الخواجة رضوان الله عليه حيث يقول:
         هر چند پير و خسته دل و ناتوان شدم             هرگه كه ياد روى تو كردم جوان شدم‏
             شكر خدا كه هر چه طلب كردم از خدا             بر منتهاى مطلب خود كامران شدم‏
             در شاهراهِ دولت سرمَد به تخت بخت             با جام مى به كام دل دوستان شدم‏
             اى گلبن جوان برِ دولت بخور كه من             در ساية تو بلبل باغ جهان شدم‏
             از آن زمان كه فتنة چشمت به من رسيد             ايمن ز شرّ فتنة آخر زمان شدم‏
             أوّل ز حرف لوح وجودم خبر نبود             در مكتب غم تو چنين نكته دان شدم‏
             آن روز بر دلم در معنى گشوده شد             كز ساكنان درگه پير مغان شدم‏
             قسمت حوالتم به خرابات مى كند             هر چند كاينچنين شدم و آنچنان شدم‏
             من پير سال و ماه نيم يار بى وفاست             بر من چو عمر مى گذرد پير از آن شدم‏
             دوشم نويد داد عنايت كه حافظا             بازآ كه من به‏عفو گناهت ضمان شدم،


،- «ديوان حافظ الشيرازيّ» ص 150 و 151، الغزل 335، طبعة پژمان، انتشارات بروخيم، سنة 1318 ه-. ق.
يقول: «إنّي و إن أصبحت عجوزاً عاجزاً جريح القلب ولكنّني كلّما تذكّرت وجهك عدت شابّاً.
فشكراً للّه على ما سألته من دعوات، فوفقاً لمنتهى همّتي أصبحت نافذ الرغبات.
وغدوت إلى عرش الحظّ السعيد في طريق السعادة السرمديّة و أنا هانئ القلب أحمل كأس الشراب مزوّداً بدعوات الأحبّة و الأصحاب.
ويا شجيرة الورد الرطيبة اهنئي و اسعدي بثمار دولتك السعيدة فقد أضحيتُ في ظلالك البلبل الفريد في روضة العالم.
ومنذ فتنني سحر طرفك الفتّان، فقد أصبحت آمناً من شرّ فتنة آخر الزمان.
ولم يكن لي علم في البداية بالعالم الأسفل و الأعلى و ما بهما من حقائق، ولكنّني تعلّمت في مدرسة الحزن عليك كثيراً من النكات و أصبحت خبيراً بالدقائق.
وتفتّحت أبواب المعاني أمام قلبي، حين أصبحت من المقيمين على أعتاب شيخ العرفاء.
وها هي «القسمة» الأزليّة تحيلني إلى الخرابات، و إن كنتُ مصداقاً للأنوار الجلاليّة أو مظهراً للأنوار الجماليّة.
ولستُ عجوزاً طاعناً في السنّ ولكنّ الحبيب ليس له وفاء، فأخذ يمرّ بي كما يمرّ العمر في غير تريّث، و لذلك أضحيت متقدّم السنّ قريب الفَناء.
وليلة أمس زَفَّتْ إليّ العناية البشرى بقولها: يا حافظ إرجع إليّ فإنّي ضامنة لك عفو ذنوبك كلّها».
                        الروح المجرد، ص: 32
فقبَّلتُ يديه و ودّعته ذلك اليوم: النصف من شعبان، وعدتُ قافلًا إلى النجف.
                        التشرّف بزيارة كربلاء المقدّسة في شهر رمضان المبارك‏

و لمّا كانت حوزة النجف تعطِّل دروسها في شهر رمضان المبارك، فقد استثمر الطلبة ليالي هذا الشهر في دراسة الدروس الاستثنائيّة المختصرة و التي لا تعدّ من الدروس الرسميّة، كاصول العقائد و الرسائل الصغيرة؛ مثل «قاعدة لاضرر» و «مسألة إرث الزوجة» و «قاعدة الفراغ» و «قاعدة لا تعاد الصلاة» أو بحث «فروع العلم الإجماليّ»، و كان الحقير، مضافاً إلى عدم مشاركتي في أشهر رمضان السابقة في هذه الدروس، و قضائي الليالي- تبعاً لأمر آية الله الشيخ عبّاس- ببعض الأدعية و الأوراد و قراءة سورة القدر أو سورة الدخان؛ قد وجدتُ لديّ رغبةً هذه السنة للتشرّف بزيارة كربلاء المقدّسة لزيارة الحرمين المباركين و للقيام بتلك الأعمال في كربلاء، و للاستفادة من محضر الحاجّ السيّد هاشم.
                        الروح المجرد، ص: 33
و هكذا اصطحبت الوالدة و الأهل مع طفلَيّ الصغيرين: السيّد محمّد صادق و كان له آنذاك أربع سنين، و السيّد محمّد محسن و كان له سنتان و خمسة أشهر، و تشرّفنا بالذهاب إلى كربلاء لقضاء الشهر المبارك. فاستأجرنا غرفة في الحسينيّة البحرانيّة في الزقاق المجاور للمخيّم الحسينيّ (خيمه گاه) بمبلغ بسيط، فبسطنا فيها أمتعتنا المتواضعة.
و صادف ذلك الوقت في صيف قائظ، حيث الليالي قصيرة جدّاً، لذا فقد جرت العادة طوال الشهر على أن أسهر في الليل و أنام في النهار إلى ما قبل الظهر بساعتين، أستعدّ بعدها للتشرّف بزيارة الحرم المطهّر و الصلاة فيه، ثمّ التشرّف بالذهاب إلى الحرم المطهّر لأبي الفضل العبّاس عليه السلام ثمّ أقوم بعد أداء الزيارة بتهيئة ما يحتاج إليه المنزل و أبقى في البيت إلى الغروب. ثم أتشرّف بعد أداء صلاتَي المغرب و العشاء و تناول الإفطار و بعد انقضاء ساعتين من الليل بالذهاب إلى منزل السيّد فأعود إلى البيت قرب أذان الصبح لتناول السحور. و كان السيّد قد عيّن بنفسه أوقات اللقاء في الليل، إذ كان يذهب للعمل نهاراً.
                        المبيت خلال شهر رمضان في محضر الحاجّ السيّد هاشم في دكّة

و كان محلّ الاجتماع دكّة جنب المسجد الذي كان السيّد يتعاهد أمر تنظيفه، و هي دكّة بطول و عرض 2، 2 متراً تقريباً و ينخفض سقفها إلى الحدّ الذي يتعذّر الصلاة فيه من قيام، إذ كان الرأس يرتطم به آنذاك. و في الحقيقة فإنّها لم تكن غرفة، بل محلًّا زائداً كان البنّاء قد أوجده هناك كمخزن أسفل الدرج المؤدّي إلى سطح المسجد [1]، لكنّ السيّد الحدّاد كان قد اختار ذلك المكان في المسجد لخلوته بنفسه و ذلك لظلمته و عزلته، و كان‏
__________________________________________________
 [1]- و بعد توسيع شارع العبّاسيّة الذي شمل قسماً من ذلك المسجد، من بينه الدرج و تلك الغرفة، فقد ازيلت الدكّة و لم يبق منها أ يّ أثر حاليّاً.
                        الروح المجرد، ص: 34
مناسباً جدّاً للدعاء و قراءة القرآن و الأوراد و الأذكار التي يعطيها المرحوم القاضي، و خاصة للسجدات الطوال؛ أمّا الصلاة فكان السيّد يقيمها داخل المسجد، و كان يقتدي في الصلوات الواجبة بإمام جماعة ذلك المسجد و اسمه الشيخ يوسف.
و كان في تلك الدكّة «سماور» [1] و أدوات إعداد الشاي، و في جانب الدكّة قدر من أثاث المسجد ملقى. فيا للّه من هذه الدكّة بهذا الوضع و الكيفيّة التي لم يكن يعلم بها غير المرحوم القاضي نفسه، حيث كان يأتيها أثناء تشرّفه للقدوم إلى كربلاء المقدّسة! و لم يكن أحد ليعلم بعظمتها و روحانيّتها إلّا أمثال بعض أصدقاء الحدّاد، مثل الحاجّ حبيب السماويّ، و الحاجّ عبد الزهراء الگرعاويّ، و الحاجّ أبي موسى محيي، و الحاجّ أبي أحمد عبد الجليل محيي، و البعض الآخر ممّن شاهدها أو بات فيها.
و هكذا، فقد أضاف الحاجّ السيّد هاشم، في تلك الدكّة الحقير، جميع ليالي الشهر المبارك، و يا لها من ضيافة!
و لم يكن الحاجّ أبو موسى محيي و الحاجّ حبيب السماويّ و رشيد الصفّار قد تعرّفوا عليه في ذلك الوقت، فقد تعرّفوا عليه بعد ذلك. فكان رفقاؤه و ملازموه هم الحاجّ محمّد علي خلف زاده من كربلاء و الحاجّ عبد الزهراء من الكاظميّة، ثمّ انضمّ أخيراً في الليالي الأخيرة الحاجّ أبو أحمد عبد الجليل محيي، و كان أعزباً آنذاك، و عُرف بعد ذلك بأبي نبيل ثمّ بأبي أحمد.
                        بيان عشق المرحوم السيّد الحدّاد وشوقه‏

كان الليل ينقضي إلى قرب الأذان في الحديث و قراءة القرآن‏
__________________________________________________
 [1]- وعاء معدنيّ في وسطه مكان لإشعال النار، يستعمل لغلي الماء وصنع الشاي. (م)
                        الروح المجرد، ص: 35
و البكاء و قراءة أشعار ابن الفارض و تفسير النكات العرفانيّة العميقة و دقائق أسرار عالم التوحيد و العشق و الهيام الذي لا يوصف لأبي عبد الله الحسين عليه السلام. و كان باب المكاشفات مفتوحاً للرفقاء الحاضرين في تلك الجلسات، و خاصّة للحاجّ عبد الزهراء، و كان الحاجّ عبد الزهراء يبيِّن مطالب شيِّقة، ممّا جعل شهر رمضان ذاك مشحوناً بالهيجان و الطلاقة و البساطة بشكل يبعث على العَجب. و كان الحاجّ عبد الزهراء يبكي فى تلك المجالس حتّى تتورّم عيناه، و يدوم ذلك منه ساعات، ثمّ يقوم إلى داخل المسجد فيديم البكاء و يهوي للسجود على حصير مفروش هناك.
كان طافحاً بالوَلَه و اللوعة و الشوق اللاهب، ذلك اللهب المحرق الذي كان يمتدّ إلى الآخرين فيؤثِّر فيهم.
قال لي سماحة السيّد الحدّاد ذات ليلة بعد ذهاب الحاجّ عبد الزهراء إلى المسجد بعد البكاء الطويل المقرح للعيون: يا سيّد محمد الحسين! أترى هذا البكاء وهذه اللوعة؟ إ نّ لديّ ما يزيد عليها مائة «قاط» (مائة ضعف) لكنّ ظهورها و بروزها بشكل آخر.
هذا و قد اعتاد الحقير على العودة إلى المنزل قبل الأذان بثلاثة أرباع الساعة، و كان الطريق يستغرق عشر دقائق تقريباً؛ فقال لي السيّد ذات ليلة: لماذا تنهض كلّ ليلة و تذهب إلى البيت لتناول السحور؟ إنّني أجلب معي بعض الطعام فأتسحّر به، فابق معي نتسحّر سويّاً!
و هكذا بقيت معه في الليلة التالية للسحور، فذهب قرب الأذان إلى منزله- و لم يكن يبعد عن المسجد كثيراً- و عاد بخوان، و كان عبارة عن قميص عربيّ (دشداشة) لأحد أبنائه، و قد وُضع فيه قَدَرٌ من الفجل و التمر و رغيفان من الخبز؛ فوضعه على الأرض و قال: باسم الله!
و لقد أمضينا تلك الليلة بقدر من الخبز و الفجل و بضع تميرات، ثمّ‏
                        الروح المجرد، ص: 36
حلّ اليوم التالي فأحسست عصراً أ نّ قدرتي قد تلاشت من شدّة الضعف و الجوع، و كان النهار طويلًا جدّاً و الهواء لافحاً من شدّة الحرارة، فقلت في نفسي: إ نّ هذا الغذاء لا يلائمني، و إن دام الأمر على هذا الوضع فسأسقط مريضاً و أعجز عن الصيام. و من ثمّ فقد كنت بعد ذلك أتناول السحور معه ثمّ أعود إلى البيت فوراً فأتناول قدراً من ماء اللحم المطبوخ أو الطبيخ الذي يعدّونه في البيت، أو آخذ السحور معي من المنزل فنتسحّر سويّاً به.
أما نومه: فلم أره ينام خلال هذا الشهر الكامل، فقد كان يسهر الليل إلى طلوع الفجر بالتهجّد و الدعاء و الذِّكر و السجود و التأمّل و التفكّر، و كان يذهب صباحاً إلى عمله في محلّ مديريّة الشرطة بعد شراء الخبز و احتياجات المنزل، و كان يصلّي الظهر في البيت ثمّ يتشرّف بزيارة حضرة الإمام؛ و يقال إنّه لم يكن ينام العصر مطلقاً. و كان أحياناً يحسّ بالتعب في بدنه صباحاً فيذهب إلى الحمام الواقع في نهاية الشارع فيعيد النشاط إلى جسمه بالاستحمام بالماء الحارّ، أو إنّه كان أحياناً يستلقي صباحاً للاسترخاء ثمّ ينهض فيذهب للعمل، ذلك العمل الشاقّ المرهق. و لم يكن ليصنع الحدوات فقط، بل كان عليه أيضاً أن يقوم بتسميرها في أقدام الخيول، لكنّ ذلك الوُجْد و تلك الحال و تلك الشعلة المتأجِّجة في أعماقه لم تكن لتدعه يستريح لحظة واحدة.
و انقضى شهر رمضان على هذه الحال. و لم يُشاهَد الهلال في الليلة التي احتُمل أنّها ليلة العيد، فاقترح بعض رفقاء الطريق- كشُكر لإتمام صيام شهر رمضان- السفرَ إلى النجف للتشرّف بالسلام و الزيارة؛ و لكي يفطروا هناك في اليوم التالي إن ظهر أنّه من شهر رمضان.
و هكذا فقد تشرّفنا بالذهاب إلى النجف عصر يوم التاسع و العشرين‏
                        الروح المجرد، ص: 37
بسيّارة الحاجّ عبد الزهراء التي يدعونها ب- «الحسينيّة السيّارة» [1] بصحبة السيّد و الحاجّ محمّد علي و الحاجّ عبد الجليل، و ذهبنا فوراً إلى الصحن المطهّر، ثمّ ذهبنا بعد أداء السلام و الزيارة إلى مسجد السَّهْلة للإفطار هناك، فحللنا ضيوفاً على المرحوم الشيخ جواد السَّهْلاويّ، و بتنا هناك إلى الصبح بالدعاء و الذِّكر و التأمّل و التوجّه، ثمّ تحرّكنا صباحاً للتشرّف بزيارة الحمزة و القاسم [2] (جاسم)، فبقينا من الظهر إلى العصر في مرقد الحمزة،
__________________________________________________
1- كانوا يدعونها بالحسينيّة السيّارة، لأنّه كان يجلس خلف المقود فيشرع بقراءة الأشعار المرتبطة بشهادة سيّد الشهداء و التي تقرأ في مراسم العزاء، و ذلك باللهجة العامّيّة الدارجة (الحسچة)؛ فيبكي بحرقة و لوعة و يُبكي جميع الجالسين في السيّارة.
2- الحمزة عليه السلام، يصل نسبه بخمس وسائط إلى أبي الفضل العبّاس عليه السلام، فهو أبو يعلي حمزة بن القاسم بن عليّ بن حمزة الأكبر بن الحسن بن عبيد الله ابن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب أميرالمؤمنين عليه السلام. ذكر المعظّم القمّيّ أحواله في «منتهى الآمال» ج 1، ص 357 إلى 359، الطبعة الحروفيّة، مؤسّسة انتشارات هجرت، في ترجمة أولاد أبي الفضل العبّاس عليه السلام؛ و يقول في جملتها (ما ترجمته):
كان ثقةً جليل القدر، ذكره الشيخ النجاشيّ و الآخرون، و قبره قرب الحِلّة، و قال الشيخ النجاشيّ في رجاله: حمزة بن القاسم بن عليّ بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أبو يعلي؛ ثقة جليل القدر من أصحابنا، يروي كثيراً من الأحاديث، و له كتاب في ذِكر مَن روي عن جعفر بن محمّد عليه السلام من الرجال. و يتّضح من كلمات العلماء و الأساتذة أنّه من علماء الغَيبة الصغرى المعاصرين لوالد الصدوق عليّ ابن بابويه رضوان الله عليهم أجمعين. و جدّه حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس المكنّى بأبي القاسم، و كان شبيهاً بأميرالمؤمنين عليه السلام، وهو الذي كتب المأمون بخطّ يده أن يعطي لحمزة بن الحسن الشبيه بأميرالمؤمنين عليه السلام مائة ألف درهم.
ولكن يبدو من مكاشفة نقلها آية الله السيّد مهدي القزوينيّ طاب ثراه عن والده، و رواها الحاجّ النوريّ في «النجم الثاقب» أ نّ السيّد المزبور يعتقد بأنّ الحمزة الواقع في الحِلّة هو حمزة بن موسى بن جعفر عليهما السلام، و أ نّ الحمزة المدفون جنب مقدم قبر عبد العظيم الحسنيّ عليه السلام هو حمزة بن القاسم بن عليّ بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس؛ والله العالم.
                        الروح المجرد، ص: 38
و تحرّكنا لقضاء الليل عند القاسم [1] فبتنا تلك الليلة في ذلك المكان المقدّس.
و قد بيّن السيّد تلك الليلة مطالب عن عظمة القاسم، و كيفيّة حركته و اختفائه عن خصومه أعداء الدين؛ و قال: لقد تجلّت كثيراً جلالة و عظمة ولاية الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في ولده العزيز هذا، لذا فإنّ صحنه و قبره و حرمه و قبّته المنوّرة، و حتّى أراضي الأطراف المجاورة له تمتاز بمعنوية و جاذبيّة خاصّة.
ثمّ تحرّكنا بعد ساعة أو ساعتين من طلوع الشمس في نفس الحسينيّة
__________________________________________________
1- و القاسم و يدعى بالعربيّة الدارجة: جاسم، هو الابن بلا فصل للإمام موسى بن جعفر عليهما السلام. أورد المحدِّث القمّيّ في ترجمة أحواله في «منتهى الآمال» ج 2، ص 414 و 415، من طبعة نشر هجرت في ترجمة أولاد الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: و أمّا القاسم بن موسى بن جعفر عليه السلام فقد كان سيّداً جليل القدر، يكفي في جلالة شأنه ما نقله ثقة الإسلام الكلينيّ في «الكافي» في باب الإشارة و النصّ على الإمام الرضا عليه السلام عن يزيد بن سليط، عن الإمام الكاظم عليه السلام في طريق مكّة؛ و جاء في ذلك الخبر أ نّ الإمام قال له: اخْبِرُكَ يَا أبَا عُمَارَةَ! إنِّي خَرَجْتُ مِن مَنْزِلِي فَأوْصَيْتُ إلى ابْنِي فُلانٍ- يعني: الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ- وَ أشْرَكْتُ مَعَهُ بَنِيّ في الظَّاهِرِ وَ أوْصَيْتُهُ في البَاطِنِ، فَأفْرَدْتُهُ وَحْدَهُ؛ وَ لَوْ كَانَ الأمْرُ لِي لَجَعَلْتُهُ في القَاسِمِ ابْنِي، لِحُبِّي إيَّاهُ وَ رَأفَتِي عَلَيْهِ؛ وَ لَكِنْ ذَلِكَ إلى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، يَجْعَلُهُ حَيْثُ يَشَاءُ- إلى آخره.
وروي الكلينيّ أيضاً أ نّ أحد أبناء الإمام موسى عليه السلام كان يحتضر، فقال الإمام للقاسم: قُمْ فَاقْرَأ عِنْدَ رَأسِ أخِيكَ «وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا» حتّى تَسْتَتِمَّهَا. فَقَرَأهُ، فَلَمَّا بَلَغَ «أهُمْ أشَدُّ خَلْقًا أم مَّنْ خَلَقْنَا» قَضَى الفَتَى. و من ملاحظة هذين الخبرين يتّضح كثرة اهتمام الإمام موسى عليه السلام بالقاسم.
وقبر القاسم على بُعد ثمانية فراسخ من الحِلّة، و تزور مقامه الشريف عامّة الناس؛ و للعلماء و الأخيار اهتمام خاصّ بزيارته. و قد رغّب السيّد ابن طاووس بزيارته. و قال عنه صاحب «عمدة الطالب»: لم يعقب القاسم.
                        الروح المجرد، ص: 39
السيّارة نحو كربلاء راجعين فوصلناها قرب الظهر.
                        التشرّف الاوّل للحقير في محضر آية الله الانصاريّ قدّس سرّه في النجف‏

و لقد حدث عصر يوم التاسع و العشرين حين كنّا مشغولين بالزيارة في الحضرة المقدّسة لأميرالمؤمنين عليه السلام أن قال السيّد: يبدو أ نّ الإمام جعل ثواب زيارتك هذه في العودة إلى إيران و الاستفادة من محضر آية الله الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ الهمدانيّ؛ لذا فحين تذهب إلى إيران اذهب أوّلًا عنده و كن تحت تعليمه و تربيته!
قلت: لو أمرني بالبقاء في إيران، فإنّ فراقكم و البُعد عنكم سيكون أمراً عسيراً! قال: أينما حللت في العالم فنحن معك؛ إ نّ رفقتنا و ميثاقنا قد احكما فلا انفصام لهما. فلا تخف! و لا تخش! فلو كنت في غرب الدنيا أو شرقها فستكون قربنا. ثمّ قال:
         گر در يَمَنى چو با منى پيش مَنى             ور پيش مَنى چو بى مَنى در يَمَنى [1]

و هكذا فحين حلّ صيف ذلك العام، عزمتُ على السفر إلى إيران لزيارة الإمام الرضا عليه السلام و تجديد العهد بالأرحام و الأحبّة و الأعزّة من الأصدقاء، و لم أكن قد قَدِمتُ إلى إيران منذ سبع سنوات، أي منذ ذهابي إلى النجف الأشرف حتّى ذلك الوقت، و كان ذلك يتضمّن في الجملة تغييراً للجوّ بالنسبة للوالدة المرحومة المبتلاة بضغط الدم و ضعف القلب و الربو الرئويّ و كانت العواصف الرمليّة و هبوب الرياح الشديدة في النجف‏
__________________________________________________
 [1]- يقول: «لو كنتَ في اليمن فأنت قربي مادمت معي، ولو كنتَ قربي لكنّك لست معي فأنت في اليمن».
و هو نفس مراد و مفهوم بيت العارف الشهير المصريّ ابن الفارض:
مَا لِلنَّوَي ذَنْبٌ وَ مَنْ أهْوَي مَعِي إ نْ غَابَ عَنْ إنْسَانِ عَيْنِي فَهْوَ فِي «ديوان ابن الفارض» ص 155، طبعة بيروت، سنة 1384 ه-.
                        الروح المجرد، ص: 40
تؤلم صدرها كثيراً؛ مضافاً إلى أمر مراجعة الطبيب حول انحراف صحّة الأهل، على نيّة قضاء أيّام الصيف هناك و الرجوع بعد ذلك إلى النجف الأشرف.
لذا، فقد تحرّكتُ يوم الثامن من شوّال من النجف للقيام بدورة كاملة لزيارة الأئمّة عليهم السلام، فقصدت كربلاء و الكاظميّة و سامرّاء، ثمّ سافرتُ بسيّارات النقل الكبيرة، فقضيت ليلة في قم أيضاً في زيارة أعتاب السيّدة المعصومة سلام الله عليها، و وصلنا يوم الثامن عشر إلى طهران.
                        التشرّف بالذهاب إلى همدان و إدراك محضر آية الله الانصاريّ و ملازمته‏

و قد تأخّر السفر إلى همدان إلى ما بعد العاشر من المحرّم بسبب الزيارات المتبادلة، و لحلول العشر الاوَل من محرّم الحرام لسنة 1377 ه- و الانشغال بمراسم العزاء في المسجد، و هكذا فقد تشرّفت بعد العاشر من المحرّم بالحضور في محضر آية الله الأنصاريّ.
و لا يخفى أ نّ علاقتي بسماحته كانت قد بدأت قبل أربع سنين، و صحبتها لقاءات طويلة الأمد؛ فقد تشرّف قبل أربع سنوات بالقدوم لزيارة العتبات المقدّسة و بقي هناك مدّة شهرين، قضى منهما شهراً كاملًا في النجف على الخصوص؛ حلّ خلاله في منزل الحاجّ محمّد رضا الشيرازيّ و منزل السيّد محمّد مهدي دستغيب. و كان الحقير يذهب بعد أداء صلاة فريضة المغرب و حضور درس الاصول عند آية الله الحاجّ السيّد أبي القاسم الخوئيّ أدام الله ظلّه [1] و ذلك في معيّة الاستاذ آية الله الشيخ عبّاس القوجانيّ، فأتشرّف بالحضور عنده. و كان يحضر أيضاً حجّة الإسلام السيّد محمّد رضا الخلخاليّ و شخص آخر من المسافرين الإيرانيّين‏
__________________________________________________
 [1]- الكتاب مؤلّف زمن حياة آية الله العظمي السيّد أبي القاسم الخوئيّ قدّس سرّه، و قد حافظنا علي تعبير المصنّف. (م)
                        الروح المجرد، ص: 41
اسمه الحاجّ حسن شركت الإصفهانيّ. و صادف ذلك أيّام شهر رجب، و كان الهواء آنذاك بارداً و الليل طويلًا، لذا فقد كان المجلس يدوم إلى ساعتين تقريباً. و حقّاً لقد كانت مدّة الشهرين تلك حافلة بالاستفادات المهمّة، حتّى أ نّ الحاجّ الشيخ عبّاس استاذ الحقير كان يقول لي: بَيِّنْ له حالاتك و اطلب منه طريقة للعمل!
وقد استجزت سماحة الشيخ القوجانيّ رضوان الله عليه بعد ذلك بسنتين في السفر إلى همدان مباشرة فأذِنَ لي بذلك، فوردت عليه و حللت ضيفاً في منزله في شارع «سنگ شير» أربع عشرة ليلة؛ و كان من بين الضيوف الذين حلّوا عليه من داخل إيران آية الله الحاجّ السيّد عبد الحسين دستغيب و آية الله الشيخ حسن علي نجابت و حجّة الإسلام الشيخ حسن نمكي البهلوانيّ الطهرانيّ.
و قد استغرق ذلك السفر بأجمعه ستّة و عشرين يوماً. فقد كنت مقيّداً بعدم مغادرة العراق بدون زيارة العتبات المقدّسة، لذا فقد قضيت ليلة في كربلاء و ليلتين في الكاظميّة و أربعاً في سامرّاء في منزل ابن خالي العزيز: المرحوم آية الله الميرزا نجم الدين الشريف العسكريّ رضوان الله عليه، ثمّ بقيت عند العودة ليلة في باختران (كرمانشاهان) في انتظار الحصول على تأشيرة السفر من العراق، و من ثمّ فقد استغرق السفر ما استغرق و لم أذهب إلى طهران؛ فقد كان ذلك سيؤثِّر سلباً على الدروس. و لقد انتخبتُ أوقات السفر هذه بحيث تبدأ من منتصف شهر صفر إلى أوائل شهر ربيع لتنسجم مع فترة تعطيل الدروس.
                        عزم الحقير على التوقّف في طهران والارتباط العميق مع آية الله الانصاريّ‏

لقد كان آية الله‏الأنصاريّ رجلًا كاملًا و لائقاً و منوّراً بنور التوحيد بما يفوق المعتاد، و كان مع الحقير في منتهى اللطف و المحبّة و الإكرام. و لقد أبلغه الحقير رسالة السيّد الحدّاد، و سألته: أيّهما أصلح لي بلحاظ المعنويّة
                        الروح المجرد، ص: 42
و السلوك العرفانيّ، إيران أم النجف الأشرف؟! قال: ساجيب فيما بعد.
ثمّ سأله الحقير بعد يوم بحضور جمع من الأحبّة و الأعزّة: ماذا كان الجواب؟!
قال: النجف جيّدة، و طهران جيّدة أيضاً؛ لكنّكم لو بقيتم في النجف فسيكون كلّ ما تكسبونه لكم وحدكم، أمّا لو بقيتم في طهران فسنشارككم فيما تحصلون عليه!
و باعتبار دلالة الجواب على أرجحيّة طهران، فقد صمّم الحقير على العودة إليها فوراً مع أنّني لم أكن راغباً في ذلك قيد شعرة؛ فقد كنت اتّخذت النجف وطناً أصليّاً و دائميّاً، فاشتريت في الأيّام الأخيرة بيتاً، و رتّبت اموري للإقامة هناك مادمت على قيد الحياة، و لقد عانيت الكثير حتّى استقرت الامور بعض الشي‏ء، وصمّمت على البقاء بقلب مطمئنٍّ؛ لذا فقد كان رجحان طهران صعباً و ثقيلًا عَلَيّ، بل كان أشدّ من انهيار الجبال على رأسي! و من جانب آخر فقد كانت طهران وطني و مسقط رأسي، و المكان الذي هربتُ منه و بعت جميع ما أملكه فيه، فلم يعد لي فيه من أثاث البيت حتّى حبل الغسيل، فقد جمعتُ ذلك كلّه و اتّجهت نحو أعتاب مولى الموالي؛ و كنت إذا شاهدت طهران في المنام أضطرب، ثمّ أقول و أنا أفتح عيني فزعاً: الحمد للّه فقد كان حلماً!
و لقد اتّخذ الحقير قراره على الفور بالعودة إلى طهران، وعدت بعد شهر صفر إلى تلك الأعتاب المحروسة بالملائكة: النجف الأشرف، و مرّت ثلاثة شهور تقريباً حتّى بيع البيت، ثمّ عدت إلى طهران و انتظمت المكاتبة و الملاقاة و التزاور بشكل متناوب مع آية الله الأنصاريّ مرّة كلّ شهرين أو ثلاثة تقريباً، مع الطاعة التامّة و الامتثال الكامل لأوامره و تعليماته. و لقد كان حقّاً آية جليلة من الآيات الإلهيّة، لم يتأبّ عن تقديم‏
                        الروح المجرد، ص: 43
كلّ مساعدة و معونة، بل كان يستقبل الواردين بكمال الخلوص فيضيفهم عنده.
ثمّ قمتُ في نهاية تلك السنة مع بعض الأصدقاء في السلوك بالتشرّف بأداء فريضة الحجّ عن طريق العراق ذهاباً و إياباً، و استغرق كلّ ذلك شهرين؛ زرت خلالها السيّد الحدّاد في كربلاء المقدّسة تكراراً و مراراً و استفدت من حالاته و معنويّاته. ثمّ تشرّف السيّد بالمجي‏ء إلى الكاظميّة للتوديع و ذهبنا سويّاً إلى سامرّاء لزيارة الإمامين العسكريّينِ عليهما السلام، ثمّ عدت في معيّته إلى الكاظميّة و تحرّكت راجعاً إلى إيران بعد مراسم التوديع؛ حيث توقّفت عدّة أيّام في همدان في منزل سماحة الشيخ الأنصاريّ، وعدت بعد ذلك إلى طهران.
كانت روابط الطاعة و الولاء لهذا الرجل الإلهيّ الجليل و ثيقة و قويّة و مؤثِّرة، حتّى التحق بدار الخلود يوم الجمعة الثاني من شهر ذي القعدة الحرام لسنة 1379 ه-، بعد الظهر بساعتين على أثر جُلطة في الدماغ و ذلك في سنّ التاسعة و الخمسين، و كنت حاضراً عنده حين احتضاره، إذ كنت قد ذهبتُ إلى همدان قبل ذلك بيومين. ثمّ حُمِلَتْ جنازته إلى قم فطيف بها حول قبر السيّدة المعصومة سلام الله عليها، ثمّ دفن منتصف الليل في مقبرة عليّ بن جعفر. و قد نزل الحقير معه إلى قبره و فتحتُ الكفن عن وجهه فوضعته على التراب، ثمّ قبّلت وجهه المنوّر القُبلة الأخيرة و خرجت من القبر.
                        الادلّة الخمسة لبعض مَنِ ادّعى عدم ضرورة الاستاذ في السير إلى الله‏

هذا و قد نشب بين الرفقاء في طهران من مريدي سماحة الشيخ الأنصاريّ اختلاف شديد بعد رحلته؛ فكان الحقير يصرّ على أن لا مفرّ من وجود استاذ لطيّ هذا الطريق و سيره و سلوكه، و أ نّ الوديان و المهاوي العميقة المهلكة و العقبات و المرتفعات الشاقّة الصعبة لا يمكن تخطّيها
                        الروح المجرد، ص: 44
و عبورها إلّا بواسطة الاستاذ، و أ نّ طيّ الطريق بتهوّر لن يكون من عاقبته إلّا الشقاء و الهلاك و السقوط أسيراً في وادي إبليس و منعطفات النفس الأمّارة تسحقه و تتوطّأه فيها أقدام الشيطان الرجيم.
و كان هناك شخص من مريدي المرحوم الأنصاريّ قدّس الله سرّه و المتردّدين على محضره، و كان قبل ذلك يتردّد على المرحوم القاضي قدّس سرّه، لكنّه كان- أساساً- تلميذاً و ملازماً للمرحوم السيّد عبد الغفّار المازندرانيّ في النجف، و اسمه...، و لا يزال بحمد الله على قيد الحياة حتّى الآن. و قد قام هذا الشخص بمخالفة اقتراح الحقير و بدأ معارضته فكان يتحدّث في مجالس و محافل انس الأصدقاء ببيان جذّاب ملفت للأنظار، يمكنه بسهولة أن يستلفت إليه أفكار السالكين و خاصّة غير المتعلّمين و الدارسين منهم، طارحاً بإلحاح مسألة عدم الحاجة إلى استاذ؛ و كان كلامه و حديثه يتضمّن عدّة مطالب:
الأوّل: إ نّ الاستاذ الحقيقيّ هو إمام العصر و الزمان عجّل الله فرجه الشريف، و هو حاضر و ناظر و حيّ و محيط بعالمنا، فهو مطَّلِع على امور كلّ سالك و حالاته، فهو يوصله على أكمل نحو و أتمّه إلى نتائج السلوك. و نحن الشيعة مكلّفون أن نذكره في الأدعية و الزيارات، فنسلّم عليه و نعرض حاجاتنا عليه لهذا السبب. أوَ ليس من الخطأ- مع الاعتقاد بالإمام الحيّ و الدعاء بتعجيل فرجه- أن تُطلب الحاجات من غيره و يُستمدّ العون من استاذ سواه؟! أوَ ليس من المخجل- مع وجود الإمام الحقيقيّ الممتلك للولاية الكلّيّة الإلهيّة- أن يمدّ الإنسان يد الاستعانة إلى الاستاذ الذي هو مثله يخطئ و يسهو؟!
الثاني: إ نّ ما يعلّمه الاستاذ للإنسان ليس إلّا ظهورات نفسه هو؛ و حقّاً! أيمكن لأحد أن يتخطّى حدود نفسه و يتجاوزها؟!
                        الروح المجرد، ص: 45
لذا، فإنّ التبعيّة للُاستاذ تمثّل متابعة أفكاره و آرائه، و الجري على نهجه و طريقه النفسانيّ، و هو أمر خاطئ بلا ريب. لأنّ الله سبحانه خلق الإنسان فوهبه قوّة الاستقلال و التعقّل بنفسه؛ أفليس من الحيف و الظلم أن يحطّم الإنسان هذه القدرة، و يقضي على العزّة و الاستقلال الموهوبَينِ من الله، فيصبح تابعاً لشخص هو مثله لا غير؟!
الثالث: لقد وهب الله تعالى للإنسان القوّة التي يمكنه بها الاتّصال بعالَم الغيب و اكتساب حاجاته منه، و على الإنسان أن يصل إلى الحقائق عن طريق المكاشفات؛ لذا فإنّ التبعيّة للعلماء أمر خاطئ أيضاً، لأنّهم يحصلون على الأحكام من عمليّات الإضافة و الطرح و الضرب و القسمة، و يجعلون الأحكام عن طريق صياغة القواعد، فالتبعيّة لهم لن توصل الإنسان للحقيقة. و كيف- يا ترى- يرجع الناس إلى ذلك العالِم الذي يفتقد نفسه العلم فلا يعرف طريق صرف الوجوه الشرعيّة في مظانّها فيستأمنونه على أموالهم و حقوقهم؟! لذا فإنّ على الجميع أن يسيروا بالتزكية و الأخلاق الإنسانيّة و الإسلاميّة فيوصلوا أنفسهم إلى الملكوت و يأخذوا أحكامهم الضروريّة منه.
الرابع: إ نّ روح المرحوم الأنصاريّ حيّة، و إنّها تدرك معاناة الرفقاء و عشّاق الدرب و طريق الله فتعينهم. على أ نّ قدرة روح سماحة الأنصاريّ أقوى بعد موته، لأنّها قد خلعت لباس عالم الكثرة و لَوَث الطبيعة و وصلت إلى التجرّد المحض الأبديّ؛ و سيكون- لذلك- في صدد تكميل رفقائه السلوكيّين على نحو أفضل و أشمل و أسمى.
أوَ لم يكن زمن حياته بسعته و امتداده مراقباً و مواظباً لحال رفقائه في اليقظة و النوم، و في السرّ و العلن، و في الغياب و العيان، و في السفر و الحضر؛ مع أنّه كان أسير عالم الطبع و البدن و الطبيعة؟ أفيمكن أن‏
                        الروح المجرد، ص: 46
لا يدير امور رفقائه بشكل أفضل؟ مع أنّه من المسلّم أ نّ تجرّده بعد موته أقوى، و إحاطته أكثر، و علمه أوفر؟! و من ثمّ فإنّ الرجوع إلى غير الأنصاريّ هتك لحرمة الأنصاريّ و كسر لحريمه، و هو ذنب لا يغتفر.
الخامس: إ نّ المرحوم الأنصاريّ نفسه لم يكن له استاذ، فقد سمع الجميع قوله: «لم أتتلمذ على يد استاذ؛ و لقد طويتُ هذا الطريق بلا دليل و لا معلم». و حين يقرّر هذا الأمر ذلك المرحوم الذي تعترفون باستاذيّته و بقدرته على فهم أسرار البشر، فكيف تريدون استاذاً؟! أصرتم تفوقونه في الإخلاص و المعرفة مع أنّكم تلاميذه و مريدوه؟!
و لقد كان هذا الشخص المحترم يسكن كربلاء، و قد جاء أخيراً إلى طهران للزيارة، و كان له مع الرفقاء من أهل طهران روابط عميقة، ثمّ عاد بعد ذلك إلى كربلاء. و قد ذكرتُ أنّه كان من ملازمي المرحوم السيّد عبد الغفّار المازندرانيّ، أحد العُبّاد المعروفين في النجف من أهل الزهد و التقوى، و كانت تحصل له أحياناً مكاشفات مثاليّة و صوريّة؛ لكنّه كان مخالفاً بشدّة لأهل التوحيد، و كان يُدين في مجالسه و محافله العرفاء الأجلّاء الإلهيّين الأعزّاء و أهل التوحيد ببيانه و سيرته.
و كان سماحة السيّد الحدّاد يقول: قال لي سماحة السيّد يوماً (و يعني السيّد القاضي): لقد كان لي مع السيّد عبد الغفّار علاقات صداقة نوعاً ما، لكنّه شرع الآن بالمعارضة بكلّ قواه. و كنتُ دوماً اسَلِّمُ عليه حيثما التَقَيْتُه في الطريق، فصرتُ أخيراً اسلِّم عليه فلا يردّ عَلَيّ؛ و لذا فقد عقدت العزم أن لا اسلِّم عليه بعد الآن. و قد نقل نفس هذا الأمر سماحة الشيخ القوجانيّ و أضاف: لم يكن السيّد عبد الغفّار من أهل التوحيد، بل كان يكتفي بالأدعية و الأذكار و التوسّلات و الزهد.
                        ادّعاء البعض أ نّ المراقبة والذِّكر والتأمّل والمحاسبة أمر خاطي‏

نعم، لقد أثار ذلك الشخص المحترم تلك الضجّة في طهران، و التي‏
                        الروح المجرد، ص: 47
أيّده فيها بعض الرفقاء في طهران ممّن كان يمتلك مقاماً في السلوك (و قد ارتبط معه مؤخّراً بعلاقات النسب)، فصار هو الآخر يتحدَّث في الجلسات و الاجتماعات عن عدم الحاجة إلى استاذ.
و كان لهما- مضافاً إلى ذلك- مخالفة شديدة في أمرين آخرين:
الأوّل: عدم الحاجة، بل عدم صواب الالتزام بالذِّكر و الورد و الفكر و المحاسبة و التأمّل و المراقبة، بل خطأ ذلك.
والثاني: خطأ الرياضات المشروعة، و أ يّ التزام في نوعيّة و كمّيّة الغذاء و الصيام و صلاة الليل و أمثال ذلك؛ و كانا يسعيان لإثبات رأيهما ببيانات شيّقة و جذّابة و مفصّلة تدوم أحياناً ساعات متتالية.
و كان الحقير زمن ارتحال آية الله الأنصاريّ في سنّ الخامسة و الثلاثين، و كان ذانك الشخصان بمثابة الأب لي من ناحية العمر؛ فقد كانا أكبر منّي سنّاً و أميل إلى سنّ الشيخوخة، فكنت غالباً ما ألتزم جانب السكوت و الإصغاء في المجالس، و لم يكن لي أساساً مجالٌ و استعداد لإثارة الجلبة و الضجّة، و لربّما كنت أحسّ بقدر من الاحترام لهما باعتبار سابقتهما، ممّا سبّب في أن تصبح تلك المجالس خاضعة بأجمعها لنفوذهما و تأثيرهما، حتّى أ نّ بعض المعمّمين من الذين تربطهم بالحقير نسبة سببيّة و بعضاً من الرفقاء التجّار شغفوا بأجمعهم بذلك الاسلوب و تلك الطريقة.
و بالطبع فقد كنتُ أذكّر تكراراً و مراراً، بالنسبة لذينك الشخصين المحترمين و بالنسبة إلى البعض الآخر منهم، أ نّ هذا الاسلوب ليس صحيحاً و أ نّ الحاجة إلى استاذ و الالتزام بالذِّكر و المراقبة و التأمّل هي من أركان السلوك، فلا يمكن بدونها أن تُخطى خطوة واحدة للأمام. و أ نّ التجمّع و السهر حتّى الصباح بقراءة أشعار حافظ و ذكر الصالحين و سيرة الطالبين‏
                        الروح المجرد، ص: 48
و إثارة المجالس بهذا النحو، ثمّ تناول طعام العشاء و الانشغال بهذه الامور إلى وقت متأخّر من الليل، ثمّ النوم بلا تهجّد، و القناعة و الاكتفاء بفريضة صلاة الصبح وحدها؛ كلّ هذا لن يصحّ دواءً لداء، و لن يُزيح عقبة من أمام أقدام السالك. و بالطبع فإنّ هذه المجالس ستكون جيّدة لو اقترنت بالتعاليم السلوكيّة العميقة من المشارطة و المراقبة و المحاسبة، بالشكل الذي يجعل السالك في السوق و إلى جانب الميزان و في المعاملات التجاريّة و سائر الامور الاخرى في نشاطٍ و مراقبة كما هي حاله في هذه المجالس! لا أن يذهب صباحاً إلى عمله بلا التزام و رقابة باطنيّة، فيقوم ببعض المعاملات الربويّة و المصرفيّة و المعاملة بالصكوك و الكمبيالات، أو أن يرتكب لا سمح الله عملًا غير صحيح و صائب أثناء عمله و في زحام السوق و المعاملة، فيتحلّل من كلّ قيد و يفعل ما يحلو له، ثمّ يُبهج نفسه بحضور الجلسة الليليّة! فهذا الاسلوب خاطئ لا ميزة له و لا فضيلة، بل يؤدّي إلى إتلاف العمر و الانشغال ببعض الامور التي تستهوي القلوب، شأنه في ذلك شأن سائر الطبقات الاخرى.
و لقد أوضح الحقير هذا الأمر و بيّنه لمشرفي تلك الجلسات و مديريها واحداً واحداً (لا لجميع الأفراد فرداً فرداً) بالرغم من قيامي في بعض المجالس بتفسير القرآن حسب طلب الرفيق و الصديق الشفيق و العاشق الحقيقيّ للإمام الحسين عليه السلام المرحوم الحاجّ المشهديّ هادي خان صنمي الأبهريّ، ذلك الشيخ الواله المتحمّس المحزون صاحب القلب المضني الأسير، الذي كان يحبّ قراءة القرآن و تفسيره في الجلسات، فكان يطلب منّي القيام بذلك؛ فكنت اشير ضمن بيان التفسير باستمرار إلى جميع نقاط ضعف اسلوب و أفكار اولئك السادة بشكل إجماليّ و عامّ، و كانت هذه التفاسير تصل بالطبع إلى آذان الجميع فتتمّ الحجّة بذلك عليهم.
                        الروح المجرد، ص: 49
                        الردّ على الادلّة في عدم الحاجة للُاستاذ مع وجود إمام العصر عجّل الله فرجه‏

هذا و قمت مرّات عديدة برفض تلك الأدلّة الخمسة، و صار ثابتاً للجميع أ نّ ما يقوله الحقير صحيح و صائب.
أمّا الجواب الأوّل فهو: من الصحيح أ نّ إمام العصر و الزمان عجلّ الله تعالى فرجه الشريف حيّ و حاضر و ناظر لجميع الأعمال، و أ نّ له الولاية الكلّيّة الإلهيّة حسب عقيدة و إيمان الشيعة، فهو تكويناً و تشريعاً في مصدر الولاية و منهل الأحكام و جريان الامور؛ ولكن هل يُغلِق هذا الاعتقاد و العقيدة طريقنا إلى الاستاذ؟! أوَ يوصلنا- بلا تعليم منه و بلا إطاعة لإرشاداته- في طريقنا في السير و السلوك إلى مقصدنا؟! أ وَ يجعلنا نطلب العون من إمام العصر و الزمان فقط دون سواه و هو الغائب عن أنظارنا فلا مجال لنا في الظاهر للاتّصال به؟!
لماذا- يا ترى- لا نفعل هذا الأمر في سائر المسائل الاخرى؟! لماذا نذهب فنبحث عن استاذ في دراسة الحديث و التفسير و الفقه و الاصول و جميع العلوم الشرعيّة في الحكمة و الأخلاق، فنختار أفضل الأساتذة و أعلمهم في فنّهم، و نقضي السنين المتمادية بل العمر كلّه تحت تعليمه و تدريسه؟! إن كان وجود إمام العصر و الزمان يغنينا عن الاستاذ، فَلِمَ لا يغنينا في هذه العلوم؟ في حين تعتقدون و تدّعون أ نّ إمام العصر له الإحاطة العلميّة، بل الإحاطة الوجوديّة بجميع العالم و مخلوقاته و جميع علومه و أسراره و بغيب الملك و الملكوت، فلماذا إذاً تعدّونه فاقداً للإحاطة في مثل هذه العلوم؟! ثمّ تتحمّلون آلاف المحن و المصاعب و الأسفار الطويلة إلى النجف الأشرف، و العيش في حياة بسيطة قاسية، و قضاء سنين متمادية في جوّ النجف و حرارته اللاهبة و تنفّس العواصف الرمليّة السامّة التي تقتلع الرمل و الحصى من الأرض فيغبرّ لها الجوّ و يظلمّ و يستحيل النهار ليلًا بهيماً، ثمّ تعيشون في السراديب العميقة ذات السلالم التي يصل‏
                        الروح المجرد، ص: 50
عدد درجاتها إلى اثنتي عشرة درجة أو خمساً و عشرين أو خمسين؛ كلّ ذلك لتحصيل العلم، و من أجل أن تصبحوا أخصّائيّين مجتهدين، و فلاسفة و مفسّرين، و محدِّثين و ادباء بارعين.
فلو جلستم في بيوتكم و اكتسبتم هذه العلوم عن طريق التوسّل بإمام العصر و الزمان لكان أيسر لكم و أسهل كثيراً!
فهل تكون العلوم الباطنيّة و العقائد و المعارف و الأخلاق، و المرتفعات العسيرة الصعبة العبور إلى عالم التوحيد، و بيان منجيات الدرب و مهلكاته، و إراءة طرق التسويلات الشيطانيّة و كيفيّة التخلّص منها، و معرفة حقيقة الولاية و درجات التوحيد في الذات و الاسم و الصفة و الفعل و أمثالها أهمّ؛ أم دراسة الصَّرف و النحو و الأدب و الفقه و التفسير و الحكمة؟ ستقولون جميعاً: إ نّ الأمر الأوّل أهمّ، لأنّ كمال سعادة الإنسان و شقائه مرتبط به.
و نسأل: كيف يعسر على إمام العصر العمل في مثل هذه الامور غير المهمّة و في هذه العلوم الظاهريّة السطحيّة، فتشيدون لأجلها المدارس و المساجد و المكتبات و تتحمّلون مشقّة الأسفار الخطيرة؛ بينما يتمكّن من ذلك في تلك الامور الأهمّ و الأدقّ و الأعظم، فتفوزون بها بلا سبب و لا وسيلة؟! لا مفرّ من أن تجيبوا أن ذلك متعذّر على إمام العصر في الأمرين و الحالين، أو أنّه لا يتعذّر عليه في كليهما معاً!
أمّا حلّ المسألة: فهو إ نّ جميع الامور و الشؤون في يده المباركة، لكن هذا الأمر لا يستلزم تعطيل سنّة الأسباب؛ كما أن جميع الامور بِيَدِ الله و لم يستلزم ذلك تعطيل سلسلة الأسباب و المسبّبات، و ذلك لأنّ الأسباب و المسبّبات هي تحت الإحاطة الشاملة لعالم التوحيد و الولاية. فالسعي للتعلّم سواء في الامور الظاهريّة الفقهيّة أو في الامور الباطنيّة الوجدانيّة
                        الروح المجرد، ص: 51
خاضع للإحاطة التكوينيّة و التشريعيّة في كلا الحالين.
و من ثمّ فإنّ البحث عن استاذ و الانضواء تحت سيطرته و تربيته، ليس فقط غير منافٍ لولايته عليه السلام، بل هو مؤيّد و مُمْضٍ و ممدّ لذلك النهج و تلك الطريقة في نزول النور من عالم التوحيد إلى هذا العالم.
و لو صحّ أمر عدم الحاجة للُاستاذ في العلوم العرفانيّة- حسب منطقكم- للزم منه استغناء الناس عن الاستاذ في جميع الصنائع و الحرف من النجارة و البناء و الطبّ و الصيدلة و التعدين و سائر العلوم الطبيعيّة، و حلّهم مشاكلهم بتوجّههم للإحاطة العظيمة الولائيّة لإمام العصر عليه السلام. أوَ يُقنع هذا الكلام أ يّ إنسان- حتّى المتوحّش في الغابات- فيلتزم به؟! أوَ يمكنه أن يجعله برنامج حياته و معيشته؟!
أمّا جواب الإشكال الثاني: فصحيح إ نّ من يتابع الاستاذ، فإنّه سيتبع طريقته و اسلوبه النفسيّ، لكنّه في المقابل لو عمل وفق رأيه هو، لكان قد عمل بطريقته و وفق هوى نفسه. فالكلام ينحصر في الأمر التالي: أيّهما أفضل في إيصال الإنسان إلى المقصود، ولاية الاستاذ و نفسه الروحانيّة و الملكوتيّة، أو نفس السالك في بداية الطريق: تلك النفس الملوّثة و الفاسدة؟!
فلو تبع ولايةَ الاستاذ لصارت نفس الاستاذ هادية لوجود السالك؛ و لو عمل بإرادته و اختياره هو- مع تلوّثه- لصار قائداً و هادياً لنفسه. هذا مع الافتراض أنّه سالك و ليس رجلًا كاملًا، و أنّه يسير في الطريق و لم يطوه بعد؛ لذا فإنّ رغباته ستنبع من النفس الأمّارة و التسويلات الشيطانيّة، و سيكون غروره و استقلاله أشبه بغرور النفس البهيميّة و استقلالها، يضرب و يكتسح و يكسر و يدمّر، كالحيوان الهائج و كالفرس بلا عنان، لكنّ الاستاذ يأتي فيلجمه و يضع عليه العنان و الركاب فيصبح مروّضاً
                        الروح المجرد، ص: 52
جاهزاً للقيادة.
لقد عمل أمثال نيرون و شابور ذي الأكتاف و هتلر و بلعم باعوراء و جميع المستكبرين في كلّ عصر و زمان بقوّة استقلالهم النفسيّ، و كانوا لا يخضعون لُاستاذ و مربٍّ أخلاقيّ؛ فجرّوا العالَم بنفسهم الأمّارة إلى الدمار و سفك الدماء و الويلات، و ارتكبوا فيه المجازر و أحالوه جحيماً لا يُطاق.
لكنّ اولئك أنفسهم لو خضعوا لولاية الاستاذ و تبعوا سيره النفسيّ لتحطّم غرورهم و انهار كبرياؤهم و استبدادهم، و لصاروا أمثال سلمان الفارسيّ و رُشَيد الهَجَريّ و إبراهيم الأدهم ونظراءهم.
لم يكن لمعاوية فرق مع حِجْر بن عُدَي سوى أ نّ الأوّل كان يعمل بإرادته المستقلّة، و كان الثاني يخضع لتربية الاستاذ؛ فصار ذلك جهنّماً و آل هذا رضواناً.
أفتمثّل مسألة الشيطان و الغرور و جهنّم في الآيات القرآنيّة غير مسألة النزوع إلى الاستقلال و رفض الخضوع إلى التعليم و التربية؟!
                        الر دّ على الإشكالات الثلاثة الأولى في عدم ضرورة الاستاذ في السير إلى الله‏

أمّا الإجابة على الإشكال الثالث: فصحيح أ نّ هناك قوّة أودعها الباري في غريزة الإنسان و فطرته يمكنه بها الاتّصال بعالَم الغيب، ولكن هل هذه القوّة موجودة بالفعل في جميع سكّان العالم؛ أم أ نّ هذه القابليّة تكتسب فعليّتها إثر تربية الاستاذ و تعليمه، فتتجلّى إذ ذاك هذه القابليّة و تتفتّح هذه البراعم الكامنة في أكمامها؟!
أيمتلك- يا ترى- جميع البشر، العالِم فيهم و العامّيّ، و الشريف فيهم و الوضيع، هذه القدرة التي يمكنهم بها اكتساب الحقائق من عالم الغيب؛ أم أ نّ هؤلاء قلّة لا يمكن العثور على أحدهم و لو بين عدّة ملايين؟! و من ثمّ فهل ستثمر الإحالة إلى عالَم الغيب إلّا الإحالة إلى الشيطان و الخواطر الإبليسيّة في طيّ الطريق، و إلى أوهام و أفكار الجنّ‏
                        الروح المجرد، ص: 53
المتمرّدين، و إلى التسويلات الضالّة و المضلّة للنفس الأمّارة؟!
إ نّ طريق كسب الأحكام في زمن الغَيبة هو الطريق المعهود للفقهاء، و على عامّة الناس أن يأخذوا الأحكام عن طريق التعلّم و التعليم و الدرس و التدريس و بيان روايات الأئمّة المعصومين، و أن يسيروا على نهج الفقهاء و يقتفوا آثارهم. و هو أمر تقرّه الأدلّة القطعيّة و الشواهد اليقينيّة، و طريق أوحد لا يوجد سواه تبعاً لضرورة الإجماع المسلّم للمسلمين و لجميع الشيعة. فلا مناص لعامّة الناس إلّا في الرجوع إلى العلماء و الفقهاء، و إلّا لهَوَوا في فم الشيطان الفاغر، فصاروا لقمةً سائغة يزدردها دفعة واحدة.
                        الر دّ على الإشكال الرابع في عدم ضرورة الاستاذ في السير إلى الله‏

أمّا الإجابة على الإشكال الرابع: فإنّ هذا الاستدلال هو عينه استدلال عمر حين قال أن لا حاجة لنا بعد رسول الله بالإمام الحيّ؛ فسنّة رسول الله في أيدينا و كتاب الله يكفينا: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، كَفَانَا كِتَابُ اللهِ.
فإن كانت روح آية الله الأنصاريّ كافية بعد موته للقيام بتدبير امور العالَم الظاهريّ، فلا حاجة لُاستاذ حيّ حرّ مهذّب منزّه عن هوى النفس، فلِمَ أورد رسول الله صلى الله عليه وآله كلّ هذه التعليمات و التأكيدات و البيانات و الخطب في الرجوع إلى أميرالمؤمنين عليه السلام؟ و لِمَ أخّر تلك الجموع الحاشدة عند الرجوع من حجّة الوداع في رمضاء الصيف في الجُحفة في بقعة غدير خم، ليخطب فيهم تلك الخطبة الغرّاء البليغة؟ أكانت روح آية الله الأنصاريّ أقوى أم روح رسول الله؟!
و لِمَ أوصى أميرالمؤمنين عليه السلام للإمام الحسن المجتبى؟ و لِمَ أوصى كلّ إمام من الأئمّة عليهم السلام للإمام الحيّ الذي يليه؟ و ها نحن في زمننا هذا نقول بوجود الإمام الحيّ؟ و نعتقد أن قضاء الحاجات و قبول التوسّلات و تدبير امور العالَم بِيَدِ وليّ الله المطلق الأعظم الحجّة بن‏
                        الروح المجرد، ص: 54
الحسن العسكريّ أرواحنا فداه؛ بالشكل الذي يرجع فيه التوسّل بكلّ إمام و وليّ متوفّى إليه عليه السلام، فيجتمع رتق الامور و فتقها بِيَدِه المباركة.
و لِمَ عمد كلّ نبيّ إلى تعيين وصيّ له و خليفة من بعده؟ فلقد كان يكفي- حسب قولكم- أن يقول لجميع الامّة: إ نّ روحي ستصبح أقوى بعد موتي و إنّها ستصبح أكثر تجرّداً، و سأعينكم و أهديكم إلى معارج الكمال و مدارجه أفضل ممّا كنت أفعل أيّام حياتي؛ فلا حقّ لكم أن ترجعوا إلى أحد من عظماء امّتي المعنويّين و الروحيّين، بل ادعوا أن يُعجَّل لي بموتي ليزداد تجرّدي و يمكنني إذ ذاك أن اربّيكم تربيةً أفضل و أكثر خلوصاً و نزاهة!
أستحلفكم بالله! أليس هذا هو مفاد ذلك القول و لا شي‏ء آخر سواه؟! أوَ يمثّل مجمل كلام عمر و عصارته شيئاً غير هذا؟!
فيا أيّها العزيز! إ نّ من الثابت الذي لا شكّ فيه حسب الأدلّة الفلسفيّة و البراهين الحكميّة و المشاهدات العينيّة و الروايات و الأحاديث الواردة، أ نّ جميع الموتى بلا استثناء يصبح تجرّدهم بعد موتهم أكثر، أي إنّهم يتوغّلون أكثر في فناء التوحيد في الذات؛ و هذا ما يستلزم انصرافهم عن عالم الطبيعة، بل و انصرافهم عن عالم المثال و الصورة، و لهذا فإنّ البرهان القطعيّ قائم على ضرورة و وجوب وجود الإمام و المربّي الحيّ إلى يوم القيامة؛ فلو لم تتّصلوا بالمربّي الحيّ و لم تعملوا بتعاليمه و تقتفوا آثاره، و جلستم إلى يوم القيامة في انتظار أن تربّيكم روح الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، لرحلتم عن هذه الدنيا بأيدٍ خالية تجترّون حسرة الندامة! و لبقيتم كالثمرة الفجّة التي لم تنضج بعد! و لربّما انحدرتم من حيث لا تشعرون في مهاوي النفس الأمّارة و الشيطان، تحسبون أنّكم قد نلتم الرقيّ و الرفعة؛ بينما تُبتلون بعقاب الله الدنيويّ: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ‏
                        الروح المجرد، ص: 55
لَا يَعْلَمُونَ! [1]
فلِمَ تنتظرون إفادات و إفاضات المرحوم الأنصاريّ قدّس الله نفسه بعد وفاته؟! أوَ لم تكن منذ هبوط آدم على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام إلى الآن روح أفضل و أقوى منه و أكثر تجرّداً؟ و لِمَ لا تنحازون إلى روح نوح عليه السلام فتقولون: إ نّ تجرّده بعد الموت أفضل، لذا فإنّ بإمكانه أن يدير امورنا أفضل، فلا حاجة لنا معه إلى مربٍّ حيّ؟! و لِمَ لا تتوسّلون بموسى و عيسى عليهما السلام؟ أوَ لم يكونا من الأنبياء اولي العزم؟
إ نّ دليلِي الواضح القاطع هو: هل قمتم بتربية شخصٍ موحِّد واحد كنموذج لما تدّعونه منذ زمن ارتحال آية الله الأنصاريّ في الثاني من ذي القعدة 1379 ه-. ق و حتّى يومنا هذا: الرابع و العشرين من شهر رجب المرجب لسنة 1412 ه-. ق، حيث تنقضي مدّة ثلاث و ثلاثين سنة؟! و هل ربّيتم شخصاً اجتاز عالم المثال و العقل و وصل إلى التجلّيات الذاتيّة؟! أرونا إيّاه لطفاً، فها هم عشّاق وادي الحقيقة يبحثون عن شخص كهذا شارعاً فشارعاً و بيتاً فبيتاً! فاعلموا إذاً أ نّ هذا الدرب خاطئ، و أنّه ليس إلّا درباً للظُّلمة! و أ نّ تحمّل مسؤوليّة تربية جماعة ثمّ تركهم أحراراً و إيكالهم إلى إرادتهم و اختيارهم بلا مربٍّ و لا معلِّم ليس إلّا تضييعاً للنفوس القابلة، و إبطالًا للموادّ المستعدّة.
                        الر دّ على الإشكال الخامس في عدم ضرورة الاستاذ في السير إلى الله‏

أمّا الإجابة على الإشكال الخامس: فإنّ ما يستفاد من بيانات سماحة الشيخ الأنصاريّ أنّه قد حضر عند الأعاظم، و من جملتهم رجلٌ مجذوب‏
__________________________________________________
 [1]- وردت هذه الفقرة من الآية المباركة في موضعَين من القرآن الكريم: الأوّل في الآية 44، من السورة 68: القلم: فَذَرْنِي وَ مَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. و الثاني في الآية 182، من السورة 7: الأعراف: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.
                        الروح المجرد، ص: 56
كان يأتي إلى همدان فيجني من جبال «ألبُرْز» عشباً خاصّاً فيجمعه؛ كما كان يتردّد كذلك على بعض تلامذة المرحوم آية الله الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ قدّس الله تربته، كالسيّد الحاجّ حسين الفاطميّ و السيّد الحاجّ محمود، و كان له معهم مذاكرات و مباحثات.
و مضافاً إلى ذلك فإنّ طريق ذلك المرحوم لم يكن صحيحاً في بداية أمره؛ فقد قال للحقير مرّة: «حين ذهبتُ إلى قم للدراسة كنتُ في محاربة أهل العرفان، و كان لي خصومة شديدة مع أحد المعروفين منهم في همدان، الذي كان يدّعي هذه المطالب. و كنتُ بعد ذهابي إلى قم امارس بعض الرياضات لتسخير الأرواح و الجانّ، لكنّ الله رحمني فأنقذني من وسط هذا الطريق الضالّ، و هداني نحو الحقّ و الحقيقة و العرفان الإلهيّ؛ و كانت مشيئة الباري أن يمنَّ على هذا العبد الضعيف بهدايته». ثمّ أضاف: «من كان له اتّصال بالجانّ- و لو بمسلميهم- فسيرحل عن الدنيا كافراً في النهاية».
                        مشكلات المرحوم الانصاريّ هي التي جعلت رحيله في سنّ التاسعة والخمسين‏

و كان رحمه الله يقول: «و بعد أن بصَّرني الله تعالى بخطأ ذلك الاسلوب و أ نّ طريق الحقّ في عشق الله و العبوديّة له، بقيت وحيداً لا أعلم ما العمل، و كيف الخلاص! فكنت أهيم على وجهي في الجبال و البراري وحيداً إلى غروب الشمس، و دام تحيّري و ضياعي على هذا المنوال أربعين أو خمسين يوماً، حتّى بلغت أقصى درجات الاضطرار، فحُرِمت الطعام و النوم؛ ثمّ برقت في قلبي في تلك الحال بارقة الرحمة، و داعبني النسيم العليل من عالم الربوبيّة، فاستطعت أن ابصر طريقي».
و كان هذا الاكتشاف للدرب هو الذي فتح له باب المكاشفات، ثمّ وصل أخيراً إلى المقصد و صار يمتلك التوحيد الذاتيّ الإلهيّ. ولكنّ رفقاءه من همدان يعلمون وحدهم أ يّ محن و مشاكل قد تحمّل في سبيل ذلك، ثمّ‏
                        الروح المجرد، ص: 57
رحل و هو في عنفوان الرشد و الكمال الروحيّ و قد أينعت ثمار شجرة التجرّد التامّ و التوحيد الكامل لديه؛ أي في سنّ التاسعة و الخمسين [1]. و بالتأكيد فإنّه لو كان قد اهتدى في سلوكه إلى استاذ كامل لأزاح جميع هذه المشاكل و العقبات من طريقه، و لعمّر إلى سنّ السبعين أو الثمانين كأغلب العظماء، مثل المرحوم الآخوند الملّا حسين قلي الهمدانيّ و الشيخ محمّد البهاريّ الهمدانيّ و الحاجّ الميرزا علي القاضي.
إن أفضل دليل على الحاجة للُاستاذ هو قول ذلك المرحوم نفسه: «لقد بحثتُ طويلًا في قم بلا جدوى، عن استاذ كامل خبير ينفعني و يُشير لي إلى طريق العلاج و الخلاص، لذا فقد أصبت بمحنة و قادتني المحنة و الاضطرار».
و لو وجد المرحوم استاذاً في بلدة قم الطيّبة آنذاك، لرجع إليه‏
__________________________________________________
1- و ذلك على أثر شدّة العشق و الشوق الوافر للقاء الربّ المتعال و طلب الفناء في الذات الأحديّة، و لانعدام استاذ و دليل له؛ فقد كان يعمل وفق نظريّته هو، لذا فقد اصيب بضعف القلب، و كان يستعمل الأعشاب و العقاقير المفيدة لتهدئة القلب، لأنّه كان أخصّائيّاً في الطبّ القديم. ثمّ جاء إلى طهران قبل وفاته بسنة و بقي فيها شهراً، و طلب من الحقير أن آخذ له موعداً عند الدكتور أردشير نهاوندي الأخصّائيّ بأمراض القلب؛ فلمّا عاينه بدقّة قال له في جملة كلامه: لقد خضع هذا القلب طيلة عشرين سنة لضغط العشق الشديد؛ أفكنتم عاشقين؟ أجاب: نعم. ثمّ قال للحقير حين غادرنا الطبيب: يا له من طبيب خبير و حاذق! لقد أصاب في تشخيصه، لكنّ علمه يقصر عن فهم و تشخيص مورد ذلك العشق.
هذا و كنتُ قد صحبته مراراً أيّام الجمع حين كنتُ في همدان إلى الحمّام العموميّ للقيام بغُسل الجمعة و التنظيف، فكان بدنه هزيلًا و نحيفاً جدّاً بحيث لم يبق منه إلّا هيكل عظميّ. و كانت قامته طويلة، فكان صدره و كتفاه ينوآن برأسه حقّاً، أمّا قدماه فكانتا أشبه بخشبتينِ نحيفتينِ رُبطتا ببعضهما، و كانت أضلاع صدره بارزة يمكن عدّها. رحمة الله عليه رحمة واسعة.
                        الروح المجرد، ص: 58
بلا تأخير؛ و كان بنفسه يقول: «كان المرحوم آية الله الميرزا جواد قد رحل عن الدنيا آنذاك».
و لو انتفت الحاجة للُاستاذ، فكيف كان المرحوم الأنصاريّ يعتبر نفسه استاذاً للطريقة و يعطي طريقةً للعمل؟! و لقد أعطى للحقير تعليمات في النجف الأشرف حين قدم إليها للتشرّف بالزيارة، و كان يبعث لي بتعليماته خلال إقامتي في النجف الأشرف بعد زيارته لها- و دامت أربع سنوات- و بعد عودتي إلى طهران طيلة السنوات الثلاث التي سبقت رحلته، حتّى أنّه أعطى للحقير الأوراد الواردة التي لم يعطها لأحد سوى المرحوم آية الله الشيخ حسن علي نجابت و حجّة الإسلام السيّد عبد الله فاطمي الشيرازيّ.
                        الردّ على القائلين بأنّ الذِّكر والوِرد والتأمّل والرياضات المشروعة أمر خاطي‏ء

و أمّا الردّ على ذلك الشخص الآخر الذي ينتمي إلى ذاك المحترم بعلاقة سببيّة، و الذي يصرّ على عدم ضرورة الرياضات الشرعيّة، و على إنكار الذِّكر و المراقبة و المحاسبة و التأمّل، بل يعتبر هذه المسائل أمراً خاطئاً مغلوطاً، مضافاً إلى نفيه لضرورة وجود الاستاذ؛ فقد كان الحقير يلفت نظره إلى ذلك تلميحاً لا تصريحاً، فلم يكن ذلك ليجدي نفعاً، فقد كان حاله في وضع يجعله عاجزاً عن القبول بهذه الامور. و لقد جاء يوماً قبل سنتين إلى البيت المتواضع للحقير في مشهد المقدّسة يصحبه اثنان من رفقائه و أصدقائه، فشرع بدون مقدِّمة بانتقاد أمر اتّخاذ الاستاذ و انتقاد الذِّكر و الوِرد و انتقاد الرياضات المشروعة المتداولة، فرأيتُ أ نّ السكوت هنا ربّما أدّى إلى إضلال رفيقَيهِ الآخرينِ، فقلت:
 «سماحة الحاجّ ... سلّمه الله و أيّده! الجميع يعلم أ نّ عملكم السابق هو الزراعة و الفلاحة، أوَ ليس ذلك حقاً؟» أجاب: «بلى!».
فقلت: «إ نّ الفلّاح يحرث الأرض أوّلًا، ثمّ ينثر البذور، ثمّ يسقي‏
                        الروح المجرد، ص: 59
الأرض بالماء، ثمّ ينقّي الحاصل بعد نموّه و اخضراره (باستئصال الأعشاب الضارّة التي تنبت قربه كي لا تقضي عليه) و يقوم عند إصابة الحاصل بالآفات برشّه بالسموم، و غير ذلك من الأعمال التي يقوم بها بالنسبة للأرض و البذر و النبات؛ كلّ ذلك ليجني محصولًا جيّداً و سالماً. أوَ ليس الأمر كذلك؟» قال: «بلى».
قلت: «أيمكن أن ينتج محصول بلا فلّاح؟ أوَ يمكن عند وجود الفلّاح أن لا يقوم بهذه العمليّات، كأن لا يسقي الأرض، أو أن يسقيها فوق حاجتها، أو أن ينثر البذور ثمّ لا يغطّيها بالتراب، أو أن لا يقوم باستئصال الأعشاب الضارّة، أو أن لا يرشّ السموم و أدوية المكافحة؟! و ما الذي سيكون عليه وضع المحصول آنذاك؟ أفلا تذهب أتعاب الفلّاح أدراج الرياح؟».
أجاب: «بلى!».
فقلت: «فكّروا جيّداً! هل الأمر هكذا أم لا؟».
ردّ قائلًا: «لا حاجة للتفكير، فما تقولونه واضح جليّ؛ فالنبات يحتاج للزارع الذي يجب أن يعمل ذلك!».
فقلت: «إ نّ استاذ السير و السلوك- يا عزيزي!- هو ذلك الزارع؛ كما أ نّ الوِرد و الذِّكر و المراقبة و المحاسبة و التأمّل هي الماء و الشمس و الأرض المناسبة، و الرياضة هي تحديد مقدار الماء و اقتلاع الحشائش الضارّة و إبعادها عن سيقان النباتات المفيدة كي لا تسلبها ثمرة حياتها و غذاءها».
ثمّ أردفتُ: «هل سبق لكم أن قمتم بتشذيب أغصان شجرة الكرم؟».
أجاب: «كلّا، فلقد كنت مزارعاً، و لم يسبق لي أن عملت في زراعة الأشجار و رعايتها». فقلت: «لابدّ أ نّ هناك قرب أرضكم الزراعيّة، بساتين للأشجار المثمرة- قلّت أو كثرت- و لابدّ أنّكم شاهدتم أو سمعتم و علمتم‏
                        الروح المجرد، ص: 60
بشكل مُسَلَّم أ نّ الشجرة تحتاج للرعاية و للبستانيّ، و تحتاج إلى تعاهد أرضها و تسميدها في أوقات معيّنة و بمقادير معيّنة، كما تحتاج لسقيها بالماء و تشذيب أغصانها؛ فإن اهملت و لم يقم بهذه الأعمال أحد، فإنّ هذه الأشجار ستصبح بلا تعاهد و رعاية كأشجار الغابات طويلة مرعبة لكنّها بلا ثمر، و لن تعطي آنذاك أشجار العنب و المشمش و التفّاح ثمراً، فإن أثمرت كان ثمرها فجّاً مُرّاً و صغيراً لا فائدة فيه. أستحلفكم بالله! أليس ذلك حقاً؟».
قال: «بلى!».
                        السلوك بدون الاستاذ والمراقبة والذِّكر والرياضات المشروعة ليس إلّا وهماً

قلت: «إ نّ الاستاذ ليس موجوداً هيولائيّاً و غريباً موحشاً ذا قرون ليفرّ منه الناس، بل هو ذلك الفلّاح و البستانيّ الذي يلقّب في الزراعة و تعاهد النباتات بذلك الاسم، و يدعى في التربية الإنسانيّة بالاستاذ؛ كما أ نّ الوِرد و الذِّكر و المحاسبة و المشارطة و المراقبة كالماء و الشمس بالنسبة للشجرة و النبات، و استئصال الحشائش الضارّة و تشذيب الأغصان كالرياضة، فهي للنبات بذلك الشكل و للإنسان بهذا الشكل.
إنّكم تتصوّرون أ نّ الرياضة تعني مواجهة الجوع الشديد غير المحتمل و قضاء يوم كامل بتناول لوزة واحدة و أمثال ذلك! لكنّ الأمر ليس كذلك، بل هي بمعنى التربية، و لها مفهوم الترويض و التطويع. و في اللغة: رَ اضَ يَرُوضُ رِيَاضَةً؛ أي التسخير و التذليل. [1]
يقول مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام:
__________________________________________________
 [1]- أورد في «أقرب الموارد»: رَ اضَ المُهر- ن- يَرُوضُهُ رَوْضاً و رِيَاضَةً و رِيَاضاً: ذلّله و جعله مُسخّراً مُطيعاً و علّمه السير فهو رائض، ج راضة و رُوّاض و رائضون. و المُهر مَرُوض. و منه: رَ اضَ الشاعرُ القوافي الصَّعبةَ أي ذلّلها، و الدُّرَّ رياضةً: ثقبَهُ.
                        الروح المجرد، ص: 61
وَ أيْمُ اللهِ يَمِيناً أسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ لأرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إلى القُرْصِ إذَ ا قَدَرَتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَ تَقْنَعُ بِالمِلْحِ مَأدُوماً، وَ لأدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعُهَا. [1]
فالإمام يقول هنا: إنّني ارَوِضُ نفسي و اذلّلها و اربّيها بهذه الطريقة، فيا له من معنى كبير للرياضة أن تكون بمعنى التأديب!
إ نّ النفس الإنسانيّة هيولائيّة، أي أنّها قابليّة محضة و استعداد صرف؛ فإن اهملت تربيتها سقطت في أحطّ الدركات و أسوئها، و فاقت في الوحشيّة كلّ شيطان و وحش مفترس، أمّا لو ادِّبت لارتقت إلى أعلى علّيّين و لفاقت الملائكة».
ثمّ قلتُ: «أليس الأمر كذلك؟» قال: «بلى!».
ولقد بُهِتَ من كلامي بهذا النحو، أمّا رفيقاه فاستبدّ بهما الوجد و الشغف، لكأنّ أمراً معضلًا لديهما قد انحلّت عُراه المستعصية. و لقد تصوّر الحقير آنذاك أ نّ هذا البيان قد غيّر طريق هذا الشخص و نهجه، و أنّه ليس لديه ثمّة انتقاد لمسألة ضرورة الاستاذ و إعطاء الوِرد و الذِّكر و للمحاسبة و التأمّل، ولكن مع الأسف، فحين جاؤوا إلى المنزل مرّة اخرى- بعد سنة تقريباً- و تطرّق الكلام إلى هذه المقولة، رأيتُ أنّه يكرّر نفس المطالب السابقة، فعلمتُ أ نّ كلامي و بياني لم يستطع اقتلاع أساس أفكاره المسجّلة و استئصالها، و أ نّ ذلك الاسلوب و النهج صار كالعادة التي لها حكم الطبع الثانويّ المقترن بروحه، و المتحوّل جزءاً من غرائزه.
نعم، لقد كان السرّ الحقيقيّ لإعلانات ذلك الرجل و تأييد الرجل‏
__________________________________________________
 [1]- «نهج البلاغة» الرسالة 45، و في طبعة مصر، مطبعة عيسي البابي و هامش الشيخ محمّد عبده: ج 2، ص 74.
                        الروح المجرد، ص: 62
الثاني له لهذا الأمر هو عدم رغبتهما بالخضوع لولاية و هيمنة الاستاذ السيّد هاشم الحدّاد، مع أنّهما كانا يعرفانه حقّ المعرفة و يعترفان بمقاماته الروحيّة و كمالاته المعنويّة؛ ذلك الرجل الأوحد في سماء التوحيد و الولاية. و لم يكن بين تلامذة المرحوم الأنصاريّ شخص يتّفق الجميع على اتّباعه، لذا فقد ظهر هذا التشتّت و الاختلاف. لكنّ هؤلاء بقوا بلا استاذ فلم يلجأوا إلى ركن وثيق، كما أنّهم لم يستفيدوا من الاستاذ الحدّاد، و الناس حيارى لا مسلمون و لا نصارى، نعوذ بالله.
و لم تكن تلك الجماعة و ذلك الرجل المحرّك خاصّة ليجرؤوا في حضور الحقير على نقد سماحة السيّد الحدّاد، ولكن كان يطرق سمعي أحياناً أنّهم ينتقدونه باحترام و أدب فائقينِ. و حصل أن قال الحقير مرّة في أحد المجالس:
الحدّاد و ما أدراك ما الحدّاد؟! فوجم بعضهم وامتقع وجهه، و سمعتُ بعد ذلك أنّه قال للبعض: كيف يصف رجلًا بسيطاً عاديّاً بهذا الوصف؟!
ثمّ تطرّق الحديث ليلة إلى ذكر سماحة الحدّاد، فالتفت ذلك الشخص المحرّك نحوي قائلًا: إ نّ الحدّاد يصف الله بالعُري؛ والله لايعرى!
فلم ينبس الحقير ببنت شفة، ثمّ رأيتُ ليلتها في عالم الرؤيا أنّه كان يواجهني فاتحاً فاهه بحيث تبدو أسنانه للعيان، و أنّي ضممتُ قبضة يدي اليمني و قلت له: إن عدت ثانية إلى الانتقاد في مسألة توحيد الحقّ تعالى فسأنهال بيدي على فمك و احطّم أسنانك فيه!
نعم! لقد كان ذنب الحدّاد أن يصف الله تعالى منزّهاً بلا رتوش و بلا تجميل، و يشخّص حقيقة معنى «لا إله إلّا الله» و «الله لا إله إلا هو»؛ ولكن ما جدوى ذلك مع الآذان الصمّاء و الأعين العمياء!
                        الروح المجرد، ص: 63
وَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالأخِرَةِ وَ إذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. [1]
وَ جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أن يَفْقَهُوهُ وَ في ءَ اذَانِهِمْ وَقْرًا وَ إذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في الْقُرْءَ انِ وَحْدَهُ وَ لَّوْا على أدْبَارِهِمْ نُفُورًا. [2]
ذَلِكُم بِأنَّهُ إذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيّ الْكَبِيرِ. [3]
و لقد بقي الحقير عند ذلك وحيداً، فلم ينضمّ معي من تلك الجماعة التي كان جميع أفرادها يُظهرون المحبّة و الصداقة و يرتبطون معي بسابق المعرفة و لو شخص واحد. بقيتُ وحيداً بكلّ معنى الكلمة. لذا فقد رأيت أن لا مفرّ من اعتزال تلك الجماعة، و من أن يكون لي مجالس خاصّة مع بعض الشباب النزهاء البسيطين الفقراء من أهل المسجد على أساس استاذيّة سماحة السيّد الحدّاد و دوره في التربية.
و لقد حصل للحقير حتّى الآن مرّات عديدة لم يقبل فيها كلامي المحقّ و لو شخص واحد، فكنتُ أختار العزلة عن الجمع الكثير الذي ارتبط بكلّ فرد منهم بالعلاقات العائليّة المديدة أو بعلاقات الصحبة و الرفقة، و كان هذا المورد أهمّها.
و كنت في هذه الخلافات أحسّ و ألمس جيّداً مظلوميّة مولانا و جدّنا أميرالمؤمنين عليه السلام، و كيف تُرِك وحيداً مع تلك السوابق و المعرفة الطويلة. و ذلك إثر صدعه بالحقّ و جهره بالصدق، بحيث توجّب على‏
__________________________________________________
 [1]- الآية 45، من السورة 39: الزمر.
 [2]- الآية 46، من السورة 17: الإسراء.
 [3]- الآية 12، من السورة 40: غافر.
                        الروح المجرد، ص: 64
حليلته فاطمة- إتماماً للحجّة على هذه الامّة التعيسة- أن تمتطي الدابّة ليلًا فتطرق بيوت المهاجرين و الأنصار تسألهم النصرة على أن يشهدوا بالحقّ. فكانوا يقولون: كلامك صحيح يا بنت رسول الله، و كلامك يا عليّ حقّ، ولكن قد مضت بيعتنا لهذا الرجل فلا مجال بعد لفسخها، و لو أ نّ زوجك و ابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فيقول عليّ كرّم الله وجهه [عليه السلام‏]: أفكنتُ أدَعْ رسول الله صلّى الله عليه [و آله‏] و سلّم في بيته لم أدفنه، و أخرج انازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبوالحسن إلّا ما كان ينبغي له؛ و لقد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم. [1]
نعم! لقد تنحّى أميرالمؤمنين عليه السلام جانباً عن الجماعة المشركة العاصية لربّها، و أخلد في منزله للعزلة خمسة و عشرين عاماً لا يتجاوز أصحابه عدد أصحاب الكهف، قضاها محزوناً مَغيظاً:
صَبَرْتُ وَ في العَيْنِ قَذَى وَ في الحَلْقِ شَجَى. [2]
و لقد اعتزل الحقير أيضاً جميع هؤلاء و قاطعت محافلهم و نهجهم و سيرتهم، و توكّلت على الباري ظاهراً و باطناً؛ و حقّاً فكم كان للمرحوم الحاجّ السيّد هاشم روحي فداه من كرامة و من موقفٍ نبيل! و كم أنجى من السقوط في المواقع الخطيرة و في مزالق المحيط و الامور الاجتماعيّة! و كم كان شبيهاً بالامّ الحنون حين كان يأتي من كربلاء البعيدة إلى طهران، يستوي لديه الليل و النهار! و كم كانت مساعداته صحيحة و في محلّها؛
__________________________________________________
 [1]- «الإمامة و السياسة» لابن قُتَيبة الدينوريّ، ج 1، ص 12، الطبعة الثالثة، مصر سنة 1382 ه-.
 [2]- الخطبة الثالثة في «نهج البلاغة»؛ و في طبعة مصر، مطبعة عيسي البابي مع هامش الشيخ محمّد عبده: ج 1، ص 31.
                        الروح المجرد، ص: 65
استبان سرّ بعضها في آنه، و تبيّن بعضها فيما بعد تدريجيّاً، و اتّضح أمر بعضها الآن بعد ثمان سنين من رحيله، و الله يعلم ما سيظهر بعد!
                        خطاب الله سبحانه لاصحاب الكهف الذين آووا إلى الكهف‏

نعم، يقول الباري في شأن ذلك النفر القليل المؤمن الموحِّد من أصحاب الكهف الذين اعتزلوا الجمع و المجتمع المشرك و قدرته و هيمنته:
وَ إذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللهَ فَأوُا إلى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أمْرِكُم مِّرْفَقًا. [1]
و هذه الآية تلت الآية التي يصف الله سبحانه فيها حال اولئك القوم المشركين فيقول:
هَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَ الِهَةً لَّوْلَا يَأتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللهِ كَذِبًا. [2]
هذا، و لم يصحب الحقير في نهجه في متابعة السيّد الحدّاد إلّا الرفقاء الهمدانيّون الذين كانوا تلامذة المرحوم آية الله الأنصاريّ و من ملازميه ذوي السابقة و الخبرة، كالسيّد الحاجّ أحمد الحسينيّ الهمدانيّ رحمة الله عليه، والد الصديق العزيز الدكتور السيّد أبي القاسم الحسينيّ الهمدانيّ الطبيب في الأمراض النفسيّة و المقيم في مشهد المقدّسة منذ خمس و عشرين سنة، و المرحوم غلام حسين الهمايونيّ (الخطّاط المعروف) و المرحوم الحاجّ غلام حسين السبزواريّ، و الحاجّ محمّد حسن البياتيّ، و حجّة الإسلام و المسلمين السيّد أحمد حسينيّان، و الحاجّ إسماعيل تخته سنگي (مهدوي نيا)، و المرحوم الحاجّ آقا اللهياريّ من أبهر، و الحاجّ محسن شركت من إصفهان.
__________________________________________________
 [1]- الآية 16، من السورة 18: الكهف.
 [2]- الآية 15، من السورة 18: الكهف.
                        الروح المجرد، ص: 66
أمّا مريدوه في العراق فهم: حجّة الإسلام الشيخ صالح الكميليّ، و آية الله السيّد هادي التبريزيّ (و هو أحد تلامذة المرحوم الشيخ مرتضى الطالقانيّ القدماء الذين استفادوا من ذلك المرحوم كثيراً، و كان يحضر أحياناً عند المرحوم القاضي)، و حجّة الإسلام الحاجّ الشيخ محمّد جواد المظفّر من البصرة، و حجّة الإسلام السيّد حسن معين الشيرازيّ من طهران (أخو زوجة الحقير) و حجّة الإسلام السيّد شهاب الدين الصفويّ من أصفهان، و كذلك الحاجّ الشيخ أسد الله طيّارة من أصفهان، و الحاجّ محمّد علي خلف زاده، و الحاجّ أبو موسى محيي، و الحاجّ أبو أحمد عبد الجليل محيي، و الحاجّ موسى محيي، و الحاجّ عبد الزهراء، و الحاجّ قدر السماويّ (أبو أحمد)، و الحاجّ حبيب السماويّ، و الحاجّ محمّد حسن ابن الشيخ عبد المجيد السماويّ (أبو عزيز)، و الحاجّ حسن أبو الهوى، و كان يحضر عنده أحياناً من النجف الأشرف آية الله السيّد عبد الكريم الكشميريّ و المرحوم السيّد مصطفى الخمينيّ رحمة الله عليه، كما كان المرحوم السيّد كمال الشيرازيّ يحضر عنده أحياناً؛ فكان المرحوم الحدّاد يستقبل جميع هؤلاء و يُشير عليهم و يوردهم كلًّا حسب استعداده و استيعابه. و كذلك فقد كان آية الله الشيخ حسن الصافيّ الأصفهانيّ، و حجّة الإسلام الشيخ ناصر دولت آبادي، و حجّة الإسلام الشيخ محمّد تقي جعفريّ الأراكيّ دام عزّهم يتشرّفون بالحضور لديه و الاستفادة من محضره، لكنّ استاذهم في النجف كان المرحوم آية الله الشيخ عبّاس القوجانيّ، كما كان السيّد حسين دانشمايه النجفيّ و الميرزا محمّد حسن النمازيّ بهذه الكيفيّة.
                        الروح المجرد، ص: 67
                        القِسْمُ الثَّانِي: السَّفَرُ الأوَّلُ لِلْحَقِيرِ إلى العَتَبَاتِ المُقَدَّسَةِ، سَنَةَ 1381 هِجْرِيّة قَمَرِيَّة عَدَا السَّفَرِ إلى بَيْتِ اللهِ الحرام‏

                        الروح المجرد، ص: 69
السفر الأوّل للحقير إلى العتبات المقدّسة
سنة 1381 هجريّة قمريّة
عدا السفر إلى بيت الله الحرام‏
لقد كانت لي إقامة رسميّة في العراق، فكان ميسوراً لي بعد عودتي إلى إيران أن أعود إلى هناك متى شئت، بمراجعة بسيطة لأخذ سمة الخروج، دون المرور بسلسلة الإجراءات الطويلة في مديريّة السفر و الجوازات. و على الرغم من عزمي على السفر بعد مرور سنة من رحيل آية الله الأنصاريّ، إلّا أ نّ عوائق أعاقتني عن ذلك إلى ما بعد رحيله بسنتَينِ، حيث انقضى إذ ذاك على سفري إلى بيت الله الحرام أربع سنوات مررت فيه ذهاباً و إياباً بالعراق فاستفدت كثيراً من لقائي بالمرحوم الحدّاد هناك، كما كان قد انقضى على عودة الحقير من النجف الأشرف خمس سنوات.
و هكذا تحرّكت للسفر أواخر شهر ذي القعدة الحرام لسنة 1381 ه- لزيارة العتبات المقدّسة و للقيام بالزيارة الخاصّة بيوم عرفة، و في نيّتي البقاء في الكاظميّة المقدّسة لعشرة أيّام، ثمّ التشرّف بزيارة كربلاء و النجف و سامرّاء.
و في الكاظميّة حللتُ ضيفاً على الحاجّ عبد الزهراء، و كان قد اتّخذ منزلًا في منطقة الگريعات قرب الكاظميّة، و قد انقضى أغلب الوقت في زيارة المرقدين المطهّرين، ثمّ ذهبتُ بناءً على دعوة ابن الخال المحترم‏
                        الروح المجرد، ص: 70
العلّامة السيّد مرتضى العسكريّ أدام الله أيّام بركاته [1] فحللت ضيفاً عليه في منزله في محلّة الكرّادة الشرقيّة [2]. و لم يحالفني التوفيق خلال تلك الأيّام للتشرّف بزيارة الحرم المطهّر إلّا لمرّة واحدة فقط، و كان الحديث يدور غالباً في المسائل العلميّة و الاجتماعيّة و طبيعة الانحراف لدى المسلمين و سبل معالجته.
و لقد أوصل الحاجّ عبد الزهراء نبأ قدومي إلى كربلاء، فقام الحاجّ محمّد علي بمصاحبة سماحة الحاجّ السيّد هاشم للزيارة إلى الكاظميّة، فبقيا هناك عدّة أيّام استفدنا فيها كثيراً من محضره.
                        بيان حالات التجرّد الممتدّة والمستمرّة للسيّد الحدّاد

و كان حال السيّد الحدّادآنذاك بشكل انصرف معه من عالم الطبيعة بشكل كامل، فلم يكن ليحسّ بالجوع، و لم يكن ليميّز للطعام مذاقاً، و لم يكن ليسمع صوتاً إلّا بصوت عال يكرّر عليه المرّة تلو المرّة؛ و لو أمكننا أن نصوّر خلع البدن خلال‏الأيّام المتمادية و الشهورالمتوالية بشكل متناوب، لكان وجود السيّدالحدّاد انموذجه العينيّ و الخارجيّ.
و كنّا نبيت في تلك الليالي في بيت الحاجّ عبد الزهراء الواقع في منطقة سكنيّة حديثة الإنشاء في الكاظميّة، تحوطه بساتين النخيل و البرتقال من كلّ جانب كما زرعت الخضروات و البقول في أرضه. و كان الهواء عليلًا و لطيفاً جدّاً، و مع أ نّ الوقت كان يصادف الأشهر الأولى‏
__________________________________________________
 [1]- باعتبار أ نّ السيّد مرتضي العسكريّ دامت بركاته هو حفيد بنت المرحوم آية الله الميرزا محمّد الطهرانيّ الذي كان مقيماً بسامرّاء، و كانت المرحومة جدّتي لوالدي أي والدة أبي المسمّاة ب- «بي‏بي شهربانو» اخت الميرزا محمّد، لذا فقد صار العلّامة العسكريّ حفيد خال أبي.
 [2]- تقع الكرّادة الشرقيّة في الجانب الشرقيّ من بغداد علي نهر دجلة، كما تقع كرّادة مريم في الجانب الغربيّ منه.
                        الروح المجرد، ص: 71
للربيع، فلا بدّ من استعمال الأغطية (اللحاف) ليلًا. و كانوا قد وضعوا فراش السيّد الحدّاد في الغرفة بجوار النافذة المفتوحة المشرفة على البساتين، و كان فراشي إلى جانبه. فلمّا أصبحنا قال السيّد: اصبتُ بالبرد ليلة البارحة، و لقد كان الهواء لطيفاً أوّل الليل فلم ألقِ على جسدي غطاءً، ثمّ برد الجوّ عند منتصف الليل فأحسست بلذع البرد بحيث عجزت فيه عن النوم؛ فحاولت القيام لإغلاق النافذة، فأحسست أن لا قدرة لي على الحركة! ثمّ حاولت أن ألقي عَلَيّ الغطاء الموضوع عند قدمي، فعجزت عن الحركة! فأردت أن أقول: أيّها السيّد محمّد الحسين، ألقِ عَلَيّ الغطاء؛ فرأيت أن لا قدرة لي على الكلام. و هكذا فقد بقيت على حالي تلك إلى الصباح و اصبت بالبرد الشديد.
و كان الرفقاء من الكاظميّة يقولون: لقد جئنا يوماً مع السيّد الحدّاد من كربلاء إلى الكاظميّة في سيّارة نقل عامّة صغيرة (سيّارة عراقيّة في هيئة علبة الكبريت تتّسع لعشرين راكباً) فجاء مساعد السائق في الطريق ليجمع الاجرة من المسافرين، فسأل: كم عددكم؟ أجاب السيّد الحدّاد: خمسة أشخاص.
فقال: كلّا، أنتم ستّة أشخاص! فكرّر السيّد العدّ و قال: بل نحن خمسة! و لقد كنّا نعلم أنّنا ستّة أشخاص، لكنّنا تعمّدنا عدم قول شي‏ء ليتّضح أمر السيّد الحدّاد. قال مساعد السائق من جديد: أنتم ستّة!
فقال السيّد: خُوُيَ مَا اتْشُوُفْ؟! هَذَا وَاحِدْ، اوُ هَذَا اثْنَيْنْ، اوُ هَذَا اثْلَاثَهْ، اوُ هَذَا أرْبَعَهْ، اوُ هَذَا خَمْسَهْ! بَعَدْ شِتْگُوُلْ إنْتَ؟!
قال: يَا سَيِّدْ! إنْتَ مَا تِحْسِبْ نَفْسَكْ؟! [1]
__________________________________________________
 [1]- ما ورد في المتن هو نصّ كلام السيّد باللهجة العراقيّة العامّيّة، و يعني: ألَا تري يا أخي؟! هذا واحد، و هذا اثنان، و هذا ثلاثة، و هذا أربعة، و هذا خمسة. فماذا تقول بعد؟!
قال: أيّها السيّد! ألَا تعدَّ نفسك؟! (م)
                        الروح المجرد، ص: 72
و كان الرفقاء يقولون، و لقد كان عجيباً أ نّ السيّد الحدّاد بقي مع ذلك لا يلتفت إلى نفسه، و مع أن معاون السائق يقول له: إنّك لا تعدّ نفسك، إلّا أنّه كان غارقاً في عالم التوحيد و الانصراف من عالم الكثرة، للحدّ الذي عجز معه- مع هذا- أن يلتفت إلى لباس البدن فيعدّه ضمن الركّاب و يضيفه إلى مجموعهم.
و لقد قال السيّد الحدّاد بنفسه للحقير: لم أستطع في تلك الحال بأيّ شكل أن أعدّ نفسي، فقال الرفقاء لي أخيراً: أيّها السيّد! عدّ نفسك أنت أيضاً، فهذا الرجل صادق فيما يقول حين يريد منّا اجرة ستّة أشخاص. و هكذا فقد أعطيته اجرة ستّة أشخاص بغير يقين منّي بكلامه ولكن تعبّداً بقول الرفقاء. ثمّ ترجّلنا من السيّارة للصلاة في مسجد بَراثا، و هناك رأيت إمام المسجد: الشيخ علي الصغير مشغولًا- هو الآخر- بالحديث عن التوحيد و المناداة بنداء: لا هو إلّا هو!
و حين قَدِمنا إلى الكاظميّة و ذهبنا إلى المغاسل العموميّة للتوضّؤ، رأيت أنّني أجهل التوضّؤ. فيا إلهي! لماذا أجهل كيفيّة الوضوء؟! بل إنّي لا اميِّز وجهاً و لا يميناً و لا شمالًا. فما العمل و الصلاة لا تجوز بغير وضوء؟! قلت في نفسي: فلأسأل عن كيفيّة الوضوء من هذا الرجل المنهمك بالتوضّؤ، ثمّ قلت في نفسي: ما الذي سيجيبني به يا تري؟!
ألن يقول لي: أيّها السيّد العجوز! ألَا تعرف الوضوء و قد انقضى من عمرك ستّون سنة؟!
                        الروح المجرد، ص: 73
ثمّ أحسست و أنا أتّجه نحوه أ نّ الوضوء جاء تلقائيّاً، فقد مددت يدي إلى الماء بلا اختيار و لا علم، فغسلت وجهي ثمّ يدي، ثمّ مسحت المسحين، فرأيت ذلك الرجل المنهمك في وضوئه يقول لي حالما لمحني: أيّها السيّد! الماء هو الله، الوضوء هو الله؛ لا يخلو من الله مكان!
                        كيفيّة فناء السيّد الحدّاد في الله وتحيّره في ذات الله‏

و كان السيّد يقول: كنتُ أحسّ أحياناً بخفّة الوزن و فقدان الأثر، تماماً مثل قشّة من التبن دائرة مع الهواء. و كنت أحسّ أحياناً بالتجرّد من بدني، تماماً كما تفعل الحيّة حين تبدّل جلدها، و كنتُ أصبح شيئاً آخر، و لقد كان بدني و أعماله أشبه بجلد حيّة، يظهر بشكل كامل كأنّه حيّة واقعيّة يخيّل لمن يراه من بعيد أنّه كذلك، لكنّه في الحقيقة ليس إلّا جلداً للحيّة.
و كان يقول: و لقد تكرّر كثيراً أن أذهب للحمّام، فأخرج منه و قد ارتديت الدشداشة (اللباس العربيّ الطويل) مقلوبة.
و يضيف: و كان صاحب الحمّام يقف دوماً خلف الصندوق فيستلم من الواردين نقودهم و ودائعهم، فيسلّمها إليهم عند خروجهم. فذهبت يوماً للحمّام و دفعت نقودي عند دخولي لصاحب الحمّام الواقف خلف صندوقه، فلمّا خرجت و أردت استرجاع ما استودعته، كان مساعده يجلس خلف الصندوق فسأل: أيّها السيّد، كم تبلغ وديعتك؟
قلت: دينارين! فقال: لا، يوجد هنا ثلاثة دنانير فقط!
قلت: لِمَ تؤخّرني؟ خذ واحداً منها لك و أعطني دينارين لأذهب. فلمّا سمع صاحب الحمّام كلامنا سأل مساعده: ما الأمر؟! قال: هذا السيّد يقول إ نّ لديه دينارين، و هنا ثلاثة دنانير.
فقال له: لقد استلمت منه ثلاثة دنانير بنفسي، هذه الدنانير الثلاثة له؛ و لا تصغِ أبداً إلى كلام هذا السيّد لأنّه غالباً مضطرب و حاله ليست على ما يُرام!
                        الروح المجرد، ص: 74
و كان السيّد الحدّاد يقول: لقد كنتُ آنذاك في حال لا يمكنني معه أن أتأخّر هناك لحظة واحدة لأتكلّم معهم، و لو عطّلوني قليلًا لتركتهم و ذهبت.
و كان يقول: إ نّ علوماً في منتهى العمق و البساطة و الكلّيّة تمرّ عَلَيّ في كلّ آن، و حين احاول الالتفات إلى أحدها في اللحظة التالية اشاهد أنّها ابتعدت- و يا للعجب- عنّي فراسخ عدّة.
و هكذا فقد توقّفت في الكاظميّة لعدّة أيّام كنت فيها معه، شددنا بعدها الرحال إلى كربلاء فحللنا في منزله. و كانت تلك الدكّة في زاوية المسجد قد خُرِّبت خلال توسعة شارع العبّاسيّة، فصارت ضمن رصيف الشارع، فلم يبقَ للسيّد محلّ آخر للعبادة و الخلوة، حتّى في منزله المتواضع لكثرة عياله؛ فاضطرّ إلى الاستفادة من منزل يقع في آخر الزقاق المغلق الذي يقع فيه منزله. و هو منزل أشبه بالخربة يعود إلى والد الحاجّ محمّد حسن شركت من سهم الثلث و الخيرات العائد له، وضعه تحت تصرّف ولده، فوضعه بدوره تحت تصرّف سماحة الحاجّ السيّد هاشم ليستفيد منه. و كان يضمّ غرفتين- إحداهما تعلو باب المنزل لا تتجاوز أبعادها عن 2، 2 متراً، و الاخرى في الداخل لا تتجاوز هي الاخرى عن 2، 3 متراً- و فيه سرداب صغير، فخمّنتُ أ نّ مساحة ذلك المنزل لا تتجاوز الأربعين إلى الخمسين متراً.
لكنّ هذا المنزل كان يمتاز- مع قدمه و تصدّعه و رطوبته و الاحتمال الكبير في انهياره- بوقوعه في نهاية الزقاق المغلق، فكان لهذا محلًّا أميناً خالياً من الصخب و الضوضاء، و مناسباً جدّاً ليكون محلّا لعبادة السيّد و لاستقبال ضيوفه.
و على الرغم من الصخب الشديد الذي كان يثيره أطفال المنطقة، إلّا
                        الروح المجرد، ص: 75
أنّه كان يقول: إنّني لا أسمع صخباً!
و صادف أن وفد عليه ذلك الوقت بعد أيّام الحجّ أحد أقاربه في النسب ترافقه زوجته، فأعطاه تلك الغرفة التي تعلو باب البيت ليستريح فيها، فما انقضت ساعة إلّا وهبط منها إلى الأسفل و ذهب إلى السرداب قائلًا: إ نّ صراخ أطفال الزقاق و صخبهم لا يمنع من النوم فقط، بل إنّه أمر غير محتمل حال اليقظة.
فقال السيّد: إنّني لا أسمع صخباً، و كنت مرتاحاً في الأوقات التي أقضيها في تلك الغرفة.
                        عسرة معيشة سماحة السيّد الحدّاد خلال فترة الفناء الذي لا يوصف‏

و لقد أدى به التوارد المتوالي لتلك الحالات، إلى أن صار تحمّل العمل و الكسب متعذّراً عليه، أي أ نّ بدنه كان ينهار و روحه كانت تنصرف عن عالم الطبع، بالشكل الذي جعل إدارة امور عالَم الطبع من أعسر المشاكل، بل من الامور المتعذّرة و المستحيلة. لذا فقد أناط إدارة الدكّان إلى مساعده السابق كي يأخذ لنفسه من حاصل العمل ما يكفيه و يجلب الباقي للسيّد.
و كانت تلك هي طريقته حتّى عندما كان يذهب بنفسه إلى الدكّان؛ إذ لم يكن قد عيّن مرتَّباً معيَّناً لمساعده، و لم يكن يتناصف معه ما يكسب من العمل من الصباح حتّى وقت تعطيل الدكّان، بل كان يقول لمساعده: كم تحتاج اليوم؟ فكان يقول مثلًا: نصف دينار! أو سبعمائة فلس، أو أ يّ مبلغ آخر؛ فكان يعطيه ذلك و يجعل ما تبقّى لنفسه. و ربّما كان يبقى له أحياناً خمسون فلساً فقط، أو لا يبقى له شي‏ء؛ و كم كان يرجع بتلك الخمسين فلساً إلى البيت أو يعود بأيدٍ خالية.
فما الذي سيفعله- ترى- بهذه العائلة الكبيرة؟! إ نّ الله سبحانه يبيّن هنا واجب رفقاء الطريق بأن يراقبوا بدقّة كاملة و يهتمّوا بحال بعضهم‏
                        الروح المجرد، ص: 76
البعض، فإذا صادف أن واجهت أحدهم جذبة روحيّة شديدة جعلته يعجز عن تدبير امور عائلته بحيث يتعرّضون للفاقة و الحاجة، فإنّ على رفقائه أن لا يَدَعوه يتردّى في وادي الفقر و الهلاك، بل عليهم أن يتعاهدوه و عائلته من أموالهم حتّى يخرج السالك من تلك الحالة فيمكنه تدبير اموره بنفسه.
نعم، عليهم ألّا يؤجّلوا أمر مساعدته و تدبير اموره إلى حين دفع الحقوق الشرعيّة الواجبة كالخمس أو من صدقاتهم و زكاتهم و كفّاراتهم، بل عليهم أن يتكفّلوا امور عائلته بجميع ما يملكون، بلا حساب و لا تردّد أو تأخير، كما لو كانوا يتعاهدون امور عوائلهم، بل أولى و أفضل و أتمّ و أكمل من عوائلهم.
ذلك لأنّه رفيقهم في الطريق، الرفيق الذي أنهكته المجاهدات النفسيّة في سبيل الله تلك المجاهدة الكبرى و الجهاد الأكبر، الرفيق الذي جعلته شدّة الواردات المعنويّة و الحالات الروحيّة و التجرّدات النفسيّة و شدّة الاتّصال بعالم الغيب و ظهور التجلّيات الإلهيّة ينسلخ عن الالتفات إلى عالم الكثرة. فهل هناك جهاد أعظم من هذا؟ و هل هناك إنفاق أولى من هذا؟
                        صعوبة وصف صبر الحدّاد وتحمّله في الشدائد والامتحانات الإلهيّة

ولكن و يا للأسف الشديد! فها هو السيّد هاشم الذي لا يعلم جيرانه بحالاته، و الذي ليس لعياله اطّلاع على حاله، و الذي لا يعلم حتّى ولده ما أمره! فلم يكن ينبس ببنت شفة في البوح بالأسرار الإلهيّة، و لم يكن طبعه المنيع و روحه المتعالية لتسمح له أن يبيّن هذه الشدّة و العسرة، أو يذكر هذا الامتحان العظيم و الابتلاء الإلهيّ الكبير حتّى لأقرب الأصدقاء الحميمين و الرفقاء المخلصين في هذه المسيرة؛ اللهمّ إلّا اولئك الرفقاء الذين يقومون بأنفسهم بالتنقيب و التفتيش و الاستطلاع، و الذين يسعون و يجهدون في مراقبة و متابعة حال رفيقهم و أمره.
و من الواضح أ نّ المتمكّنين من الرفقاء مشغولون بالعمل و الكسب،
                        الروح المجرد، ص: 77
فيستبعد أن يصدر من أحدهم مثل هذا التفحّص و التفقّد؛ أمّا العاجزون و الفقراء فما أكثر منهم من تابع الاستاذ- إن قليلًا أو كثيراً- في العسرة و في الواردات القلبيّة، و كان تفقّدهم للأمر أحرى أن يزيدهم غمّاً إلى غمّهم! كما أ نّ بيان الأمر للآخرين من قبل أحدهم يعدّ خطأ و إفشاءً للسرّ؛ لو اطّلع الاستاذ عليه و علم به لأسقط ذلك الشخص من الثقة و الاعتبار.
و صادف في هذا السفر أن كانت العسرة قد وصلت لديه إلى حدّها الأعلى، كما أ نّ الواردات القلبيّة كانت في أوجها، فكان وجهه يحمرّ و عيناه تتلألآن ممّا يجعل سيماء وجهه في منتهى الروعة. كما كان أحياناً يتهالك و يعتريه التحوّل و الاصفرار، و ينتاب عظامه الألم خلال سرده لواردةٍ جلاليّة.
كُلُّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ، وَ يَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَ الإكْرَامِ. [1]
و نلحظ في هذه الآية الكريمة أن «ذُو الْجَلَالِ و الإكْرَامِ» جاءت صفة إلى «وَجْهُ رَبِّكَ» و ليس إلى «رَبِّكَ»، فوجه الربّ هو الخالد الذي تنزّه عن الحدوث و هو المرتدي لخلعتَي: رحمة الجمال و الإكرام، و عزّة الجلال و العظمة.
و كان سماحة الحاجّ السيّد هاشم يكثر في هذا السفر من تلاوة القرآن بصوت حزين و جميل، و كانت تلاوته جذّابة جدّاً و ملهبة و مفنية؛ كما كان يقرأ أبيات ابن الفارض و يترنّم بها، خاصّة تائيّته الكبرى.
و كنتُ أقتدي به في صلاة الصبح و الظهر و العصر حين لا يكون في البيت من أحد، اللهمّ إلّا أحد الرفقاء الحميمين، أمّا في صلاتَي المغرب و العشاء فكان يقتدي بالحقير. و كانت صلاتنا تجري غالباً على السطح،
__________________________________________________
 [1]- الآيتان 26 و 27، من السورة 55: الرحمن.
                        الروح المجرد، ص: 78
و كان يأمر الحقير بقراءة السور الطوال في الصلاة مثل يس و الواقعة و المسبّحات [1] و تبارك و المنافقون و هل أتى و ما أشبهها و ذلك ليثبّتني في القراءة و في نفي الخواطر حين يقتدي بي؛ و كان يقول: هكذا أفضل من أن تقتدي أنت بي!

Tidak ada komentar:

Posting Komentar