Pages

Selasa, 18 Oktober 2011

Allamah Thaba'thabai "Ruh yang non materi 78-151

                        الروح المجرد، ص: 79
الطوال في القرآن بصوت جميل و لحن رائع، ثمّ يجلس تجاه القبلة فيبقى متأمّلًا، ثمّ يرقد، ثمّ يستيقظ مرّة أخرى فيصلّي ركعات بتلك الكيفيّة؛ و كانت الليالي قصاراً فلم يكن ليتبقّى وقت طويل لحلول أذان الصبح. و كان كثيراً ما يقول في تلك الحال أو في المرّة الأولى حين يستيقظ: أيّها السيّد محمّد الحسين! هات شاياً أو ماءً مغليّاً! فكان الحقير يهبط إلى الأسفل فيعدّ الشاي على سراج نفطيّ و يجلبه على الفور.
و كان السيّد يقول: لقد كان السيّد المرحوم نفسه هكذا (يقصد المرحوم القاضيّ) فقد كان يأمرنا و يقول: تناولوا شيئاً بسيطاً حين تنهضون لصلاة الليل، كالشاي أو اللبن الرائب الممزوج بالماء أو عنقوداً من العنب أو شيئاً بسيطاً آخر يخرج بدنكم من حال الفتور و الكسل، وليكن لكم نشاط للعبادة.
و هكذا فقد كنتُ أجلب له إلى السطح ما يرغب في تناوله، الماء المغلي أو الشاي أو اللبن الرائب الممزوج بالماء أو الخيار (و لم يكن العنب قد حان أوانه آنذاك) ثمّ اصلّي معه صلاة الصبح بعد الأذان فكان يسجد بعدها فتطول سجدته إلى نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة و لربّما إلى ساعة كاملة. و كان يذهب أحياناً إلى الحمّام ليغتسل بالماء و يخرج لزيارة القبر المطهّر لسيّد الشهداء عليه السلام و القبر المطهّر لأبي الفضل العبّاس سلام الله عليه، ثمّ يعود إلى البيت بعد تهيئة بعض احتياجات المنزل.
و حلّت ليلة عرفة، فوفد سيل من الرفقاء من النجف و الكاظميّة و السماوة و إيران، فغصّت بهم ساحة المنزل و غرفه و شُرفته، ثمّ قُرئت بعض أدعية ليلة عرفة؛ و كان حقّاً مجلساً جذّاباً و شيّقاً. ثمّ تناول الجميع طعاماً بسيطاً و غادروا المنزل للزيارة و للقيام بأعمال تلك الليلة، ثمّ عاد منهم إلى المنزل عدّة قليلة يعدّون من أخصّ أصدقائه و رفقائه.
                        الروح المجرد، ص: 80
ثمّ تشرفتُ بالذهاب إلى النجف الأشرف برفقته للقيام بالزيارة المخصوصة لعيد الغدير، و كنتُ و جميع الرفقاء مدعوّين ظهر يوم العيد في منزل السيّد حسين النجفيّ. و كان هناك سماحة آية الله الشيخ عبّاس مع أتباعه جميعاً؛ فكان هو الآخر محفلًا شيّقاً مثيراً للوجد و الحبور.
ثمّ عاد السيّد إلى كربلاء في اليوم التالي للعيد، و بقي الحقير أيّاماً قلائل للتشرّف بالزيارة و الاستزادة منها و لتجديد العهد مع الأصدقاء السابقين. و كنت قد حللت في منزل الاستاذ الحاجّ الشيخ عبّاس، حيث بقيت في النجف الأشرف حتّى اليوم الرابع و العشرين و هو يوم مباهلة رسول الله و أهل بيته لنصارى نَجْران، و اليوم الخامس و العشرين و هو يوم التصدّق بالخاتم و نزول سورة «هل أتى» في شأن أهل البيت عليهم السلام. و كانت أيّام محرّم الحرام قد قربت و نحن على مشارف طلوع هلاله المثير للحزن و الأسى حين عدنا إلى كربلاء لنحظى ببركات العزاء تحت قبّة الحسين عليه السلام.
و من الواضح أ نّ منزلي الحقيقيّ في ورودي إلى كربلاء و خروجي منها كان منزل سماحة السيّد الحدّاد؛ ذلك لأنّ العلاقات بيننا كانت حميمة و خالصة إلى درجة كبيرة، بحيث كان يعدّني ولده، و كان أولاده يعاملونني معاملة الأخ لهم. لكنّ الحقير لم يكن يرفض فقط اعتبار نفسه ولداً للسيّد، (إذ لم أكن ولده جسماً و لا روحاً)، بل لو شئنا اختيار اسم يعبّر حقّ التعبير عن وضعي لما وجدنا غير تعبير الغلام المولود بين الاسرة. نعم! لقد كنت ذلك الغلام الذي وُلِدَ في هذا المنزل و وجد في كرامة السيّد و مدده و معونته، حياته الجديدة.
و قد صادف أ نّ هذا الاسم قد طابق المسمّى من جهة معيّنة؛ ذلك لأنّ والدة الحقير كانت قد ثقبت اذني اليمنى زمن طفولتي و وضعت فيها حلقة
                        الروح المجرد، ص: 81
باسم «الحلقة الحيدريّة» و كانوا ينادونني: الغلام الحيدريّ، أي أ نّ هذا الغلام كان العبد الطيّع لحيدر.
و لقد بَقِيَتْ اذني اليمنى مثقوبة لم تلتئم حتّى اليوم و غير قابلة للالتئام بعد، فكيف يمكن لمن انعقدت نطفته بولاية حيدر، و رشف مع اللبن ولاية حيدر وثُقِبَتْ اذنه باسم حيدر و ختمه، فوضع فيها حلقة العبوديّة أن يكفّ عن تبعيّته و عبوديّته ظاهراً و باطناً، سرّاً و علناً؟!
لقد كان سماحة السيّد الحدّاد أبي الواقعي حقّاً، و كان دخولي منزله و خروجي منه في جميع الأسفار هو دخول و خروج أهل البيت؛ لذا فإنّ من الواضح بعد العودة من النجف أن يعود المسافر إلى بيته و أهله.
                        تفصيل وقائع عاشوراء التي كانت عشقاً محضاً

لقد كان وضع سماحة الحدّاد متغيّراً و متقلّباً طوال الأيّام العشرة للعزاء، و كان وجهه يحمرّ و عيناه تتلألآن و تنيران؛ لكنّ حال الحزن و الغمّ لم تكن لتبدو عليه، بل كان الابتهاج و السرور يملأ كيانه. و كان يقول: كم أ نّ هؤلاء الناس غافلون حين يحزنون و يقيمون المأتم و العزاء لهذا الشهيد القتيل! إ نّ مسرح عاشوراء من أبدع مناظر العشق، و من أروع مواطن الجمال و الجلال الإلهيّ، و أحسن مظاهر أسماء الرحمة و الغضب؛ و لم يكن ليمثّل لأهل البيت عليهم السلام إلّا العبور من الدرجات و المراتب، و الوصول إلى أعلى ذروة الحياة الخالدة و الانسلاخ عن المظاهر و التحقّق بأصل الظاهر، و الفناء المطلق في الذات الأحديّة.
و لقد كان في الحقيقة يوم سرور أهل البيت و بهجتهم، لأنّه يوم الظفر و نيل المنى و الفوز بورود حريم الله و حرم أمنه و أمانه، يوم تخطّي الجزئيّة و الدخول إلى عالم الكلّيّة، يوم النصر و النجاح و بلوغ المنشود الغائيّ و الهدف الأصليّ، يومٌ لو كشف عن جزء منه للسالكين و العاشقين و الولهين في طريق الله، لجعلهم إلى آخر العمر مدهوشين من فرط
                        الروح المجرد، ص: 82
السرور، و لخرّوا ساجدين إلى يوم القيامة شكراً للّه.
كان سماحة السيّد الحدّاد يقول: إ نّ الناس غافلون، أصمّت محبّةالدنيا آذانهم و أعمت أعينهم، بحيث صاروا يتأسّفون لذلك اليوم و يئنّون‏أنين الثكلى! فهم لا يعلمون أنّها بأجمعها فوز و نجاح و معاملة رابحةلابتياع الأشياء النفيسة و الجواهر الثمينة مقابل إعطاء الخزف و القشور؛ و أ نّ ذلك القتل لم يكن موتاً بل كان عين الحياة، و لم يكن انقطاعاً و انصراماًللعمر بل حياة الخلود السرمديّ.
                        قراءة سماحة الحدّاد أشعار «المثنويّ» في غفلة عامّة الناس عن عاشوراء

                        أشعار المولويّ في مرثيّة سيّد الشهداء عليه السلام‏

و كان يقول: لقد قَدِم شاعر على أهل حلب، فقال:
         گفت آرى ليك كو دور يزيد             كِى بُد است‏آن غم چه دير اينجا رسيد
             چشم كوران آن خسارت را بديد             گوش كرّان اين حكايت را شنيد [1]

و لقد كان سماحة السيّد الحدّاد يبكي كثيراً و يذرف الدموع غزاراً في الأيّام العشر الأوائل من المحرّم، و كلّ ذلك البكاء من فرط الشوق؛ و كانت دموعه تنصبّ أحياناً من شدّة الوجد و السرور أشبه بميزاب يصبّ ماء الرحمة و مطر العشق على محاسنه الشريفة.
و كان يقرأ في كتاب مولانا محمّد البلخيّ الروميّ هذه الأشعار و يردّدها بصوت لا أروع و لا أبدع منه! لا تزال نبراته و تلك النغمات و فيض الدموع ذلك مجسّماً في خاطري؛ لكأنّ الحدّاد قد جلس الآن أمامي‏
__________________________________________________
 [1]- يقول: «قال الشاعر: نعم، ولكن أين عصر يزيد، و متي كان هذا الحزن؟ و كم وصل إلي هنا متأخّراً؟!
فلقد رأي حتّى العميان هذه الخسارة، و سمع حتّى الصمّ بهذه الحكاية».
                        الروح المجرد، ص: 83
و كتاب «المثنويّ» بيده يقرأ:
         زادة ثانى است أحمد در جهان             صد قيامت بود او اندر عيان‏
             زو قيامت را همى پرسيده‏اند             كاى قيامت! تا قيامت راه چند
             با زبان حال مى گفتى بسى:             كه ز محشر حشر را پرسد كسى؟
             بهر اين گفت آن رسول خوش پيام             رَمْزِ موتوا قبل موتوا [1] يا كرام‏
             همچنان كه مُرده‏ام من قبل موت             زانطرف آورده‏ام من صيت و صوت‏
             پس قيامت شو قيامت را ببين             ديدن هر چيز را شرطست اين [2]
            __________________________________________________
 [1]- «رمز موتوا»: إشارة إلي الحديث النبويّ الشريف: مُوتُوا قَبْلَ أ نْ تَموُتُوا؛ أي: اختاروا الموت الاختياريّ كي لا تروا حال الموتي! [2]- «مثنوي معنوي» للملّا الروميّ، المجلّد السادس، ص 570 و 571، طبعة آقا ميرزا محمود؛ و في طبعة ميرخاني: ص 550 إلي 552: يقول: «إ نّ المولود الثاني في العالم هو أحمد، و كان يمثّل عياناً مائة قيامة. لذا فقد كانوا ينشدونه عن القيامة فيقولون: أيّها القيامة! متي تأتي القيامة؟ فيجيب بلسان الحال: أهناك ثَمّ من يسأل المحشر عن الحشر؟! و لهذا قال ذلك الرسول المبشّر رمزاً: موتوا قبل أن تموتوا يا كرام! و هكذا فعلتُ حين متُ قبل موتي، و جئتُ بهذا الصدي و النداء و من ذلك الجانب. فكن قيامة لتري القيامة، فإنّ رؤية كلّ شي‏ء تستلزم هذا الشرط».


                        الروح المجرد، ص: 84
         تا نگردى اين ندانيّش تمام             خواه كان أنوار باشد يا ظلام‏
             عقل گردى عقل را دانى كمال             عشق گردى عشق را بينى جمال‏
             نار گردى نار را دانى يقين             نور گردى هم بدانى آن و اين‏
             گفتمى برهان بر اين دعوت مُبين             گر بدى إدراك اندر خورد اين‏
             هست أنجير اينطرف بسيار خوار             گر رسد مرغى قُنُق أنجيرخوار
             در همه عالم اگر مرد و زنند             دم به دم در نزع و اندر مردنند
             اين سخنها را وصيّتها شمر             كه پدر گويد در آندم با پسر [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «و ما لم تتحوّل إليه و تصبح في مقامه لم تره، سواء كان نوراً أ م ظلاماً. و لو تحوّلت عقلًا لرأيت العقل هو الكمال، و لو تحوّلت عشقاً لرأيت العشق هو الجمال. و لو صرتَ ناراً لعلمت النار يقيناً، و لو استحلتَ نوراً لعلمت هذا و ذاك. إ نّ قولي هذا برهان مبين لمدّعاي، لو كان هناك من يدركه. و لو حطّ طائر يأكل التين فحلّ هنا ضيفاً، فإنّ هناك تيناً كثيراً مطروحاً في هذا الجانب. (يقصد: لو جاء من يدرك حقائق و أسرار الغيب فإنّ هنا الكثير منها). و كلّ مَن في العالم من الرجال والنساء، هم في حال النزع و الاحتضار في كلّ حين. فعُدّ هذه الأقوال وصايا أب يفضي بها عند نزعه إلي ولده».


                        الروح المجرد، ص: 85
         تا برويد رحمت و غيرت بدين             تا ببرّد بيخ بُغض و رَشك و كين‏
             تو بدان نيت نِگر در أقربا             تا ز نزع او بسوزد دل ترا
             كل آت آت آنرا نقد دان             دوست را در نزع و اندر فقد دان‏
             ور غرضها زين نظر گردد حجيب             اين نظرها را برون افكن ز جيب‏
             در نياز خشك و بر عجزى مايست             زانكه با عاجز گزيده معجزيست‏
             عجز زنجيريست زنجيرت نهاد             چشم در زنجير نه بايد گشاد
             پس تضرّع كن كه اى هاديّ زيست             باز بودم پشّه گشتم اين ز چيست؟ [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «من أجل أن تنمو بها الرحمة و الغيرة، ولكي تُستأصل بها جذور الحقد و البغض و الحسد. فانظر بهذه النيّة إلي معارفك، ليحزن قلبك عند احتضار أحدهم. و اعلم فعلًا أ نّ كلّ آت هو آت، و اعلم أنّ أعزّاءك في احتضار و فقدان. و إن حجبتك النوايا عن هذا النظر، فانبذها خارجاً من جيبك. لا تقف عند الاحتياج و العجز، لأنّ وقوفك علي العجز يعجزك أكثر و أكثر، و عجزك دليل وجود مَن لا يعجز. العجز قيد قيّدك به، فلا ينبغي لك أن تحدّق في القيد. و تضرّع لمن أعجزك، يا دليل الحياة و الوجود، لقد كنتُ صقراً فَلِم صِرتَ بعوضة؟».


                        الروح المجرد، ص: 86
         سخت‏تر افشرده‏ام در سر قدم             كه لَفِى خُسْرَم ز قَهْرَت دم به دم‏
             از نصيحتهاى تو كر بوده‏ام             بت شكن دعويّ و بُتگر بوده‏ام‏
             ياد صنعت فرض تر، يا ياد مرگ             مرگ مانند خَزان، تو أصل برگ‏
             سالها اين مرگ طبلك مى زند             گوش تو بيگاه جنبش مى كند [1]

تشبيه مغفّلى كه عُمر ضايع كند و در نزع بيدار شود
به ماتم أهل حَلب [2]
         گويد أندر نزع جان از آه مرگ             اين زمان كردت ز خود آگاه مرگ‏
             اين گلوى مرگ از نعره گرفت             طَبْلِ او بشكافت از ضربِ شگفت [3]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «اطأطئ رأسي بين ركبتَيّ، فأنا كلّ لحظة في خُسر من غضبك و قهرك. لقد كنتُ أصمّاً عن سماع نصائحك، أدّعي تحطيم الأصنام بينما أصنعها بيدي. لا أعلم أيّهما أوجب: ذكر صنعك أم ذكر الموت، فالموت يشبه الخريف بينما أنت أصل الأوراق. لقد قرع هذا الموت طبله سنين متمادية، لكنّ اذنك لم تُصغ إلّا بعد فوات الأوان». [2]- تشبيه مغفّل أضاع عمره ثمّ تنبّه عند احتضاره بتعزيه اهل حلب [3]- يقول: «ثمّ صار يتأوّه عند احتضاره، أوَ ذكّرك الموت نفسه في هذا الأوان. الموت الذي بُحّ من الصراخ، و انشقّ طبله من الفرع الهائل».


                        الروح المجرد، ص: 87
         در دقائق خويش را در تافتى             رمزِ مردن اين زمان دريافتى [1]

                        أبيات عاشوراء في أشعار «المثنويّ»

رسيدن شاعر به حلب روز عاشورا و حال معلوم نمودن‏
و نكته گفتن و بيان حال كردن [2]
         روز عاشورا همه أهل حَلَب             باب أنطاكيّه اندر تا بشب‏
             گرد آيد مرد و زن جمعى عظيم             ماتم آن خاندان دارد مقيم‏
             تا بشب نوحه كنند اندر بُكا             شيعه عاشورا براى كربلا
             بشمرند آن ظلمها و امتهان             كز يزيد و شمر ديد آن خاندان [3]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «لقد كنتَ متمرّداً و مشغولًا عن سماع صرخات الموت و إنذاره فها أنت قد استوعبت الآن سرّ الموت». [2]- وصول الشاعر إلي حلب يوم عاشوراء و استفساره عن حالهم و الطعن بهم [3]- يقول: «يوم عاشوراء يجتمع أهل حلب من الصباح إلي الليل عند باب أنطاكية. يجتمعون رجالًا و نساءً في مجلس عظيم، ليقيموا مأتم أهل البيت. يجتمع الشيعة يوم عاشوراء، لينوحوا و يبكوا علي مصاب كربلاء. و ليعدّدوا تلك المظالم و الامتهانات التي بدرت من يزيد و الشمر لأهل البيت».


                        الروح المجرد، ص: 88
         از غريو و ناله‏ها در سرگذشت             پر همى گردد همه صحرا و دشت‏
             يك غريبى شاعرى از ره رسيد             روز عاشورا و آن افغان شنيد
             شهر را بگذاشت و آن سو راى كرد             قصد جستجوى آن هيهاى كرد
             پرس پرسان مى شد اندر افتقاد             چيست اين غم بر كه اين ماتم فتاد؟
             اين رئيسى زَفْت باشد كه بمرد             اين چنين مجمع نباشد كار خرد
             نام او ألقاب او شرحم دهيد             كه غريبم من، شما أهل دِهيد
             چيست نام و پيشه و أوصاف او             تا بگويم مرثية ألطاف او [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «فكانوا يئنّون و يبكون يوم عاشوراء، حتّى تمتلئ الصحراء و السهول بنياحهم و هم يسردون وقائع ما قد حدث. وصل آنذاك شاعر غريب مسافر إلي مدينة حلب، فسمع الأنين و الآهات. فترك المدينة و اتّجه نحو باب أنطاكيه، للاستفسار عن أمر ذلك النوح و الضجّة. و هكذا فقد جاء يسأل الناس متفقّداً: ما هذا الحزن الذي يغمر هذا المأتم؟ فاجتماعكم لم يحصل إلّا لأجل زعيم أو شخص كبير، لا لأمر تافه بسيط. فاذكروا لي اسمه و ألقابه، فأنا غريب لا أعلم عنه شيئاً؛ و أنتم أهل البلدة. و قولوا ما اسمه و ما مهنته و أوصافه، لُانشي مرثيّة في مناقبه».


                        الروح المجرد، ص: 89
         مرثيه سازم كه مرد شاعرم             تا از اينجا برگ و لا لَنگى برم‏
             آن يكى گفتش كه: تو ديوانه‏اى             تو نه‏اى شيعه عدوّ خانه‏اى‏
             روز عاشورا نمي‏دانى كه هست             ماتم جانى كه از قرنى به است؟
             پيش مؤمن كى بود اين قصّه خوار             قدر عشق گوش، عشق گوشوار
             پيش مؤمن ماتم آن پاك روح             شُهره‏تر باشد زصد طوفان نوح [1]

                        ما أحسن تحقيق الملّا الروميّ لقضايا عاشوراء!

نكته گفتن شاعر جهت طَعن شيعة حَلَب [2]
         گفت آرى ليك كو دور يزيد             كى بُد است آن غم چه ديراينجا رسيد [3]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «و سأنظم مرثيّة- أنا الشاعر- لينالني عطاؤكم و فتات موائدكم. فردّ عليه أحدهم: أنت مجنون و غير شيعيّ، و عدوّ لأهل البيت. ألا تعلم ما يوم عاشوراء؟ هذا اليوم المقام لتأبين تلك الروح، اليوم الذي هو خير من قرن كامل من الزمن. و كيف يمكن للمؤمن أن يتجاهل هذه القصّة! لأنّ عشق القُرط المعلّق بالاذن ينبغي أن يُماثل عشق الاذن. إ نّ مأتم تلك الروح الطاهرة، أشهر لدي المؤمن من مائة طوفان نوح». [2]- قول الشاعر في الطعن علي شيعة حلب: [3]- يقول: «قال: نعم، ولكن أين عصر يزيد، ولكن لِمَ وصل هذا الخبر المحزن إلي هنا متأخّراً؟».


                        الروح المجرد، ص: 90
         چشم كوران آن خسارت را بديد             گوش كرّان اين حكايت را شنيد
             خفته بودستيد تا اكنون شما             تا كنون جامه دريديد از عزا
             پس عزا بر خود كنيد اى خفتگان             زانكه بد مرگيست اين خواب گران‏
             روح سلطانى ز زندانى بِجَست             جامه چون درّيم و چون خائيم دست؟
             چونكه ايشان خسرو دين بوده‏اند             وقت شادى شد چو بگسستند بند
             سوى شادروان دولت تاختند             كُنده و زنجير را انداختند
             روز مُلكست و گَه شاهنشهى             گر تو يك ذرّه از ايشان آگهى [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «فلقد رأي حتّى العميان هذه الخسارة، و سمع حتّى الصمّ بهذه الحكاية. أفكنتم حتّى الآن نائمين، فصرتم الآن تشقّون جيوبكم في العزاء؟ فاندبوا أنفسكم أيّها النائمون، لأنّ هذا النوم و الغفلة أسوأ موت و أدهاه. لقد حلّق روح هذا الملك العظيم متحرّراً من السجن، فلِمَ نشقّ الجيوب و ننفض الأيدي حُزناً؟! و حين يحطّم هؤلاء العظماء و ملوك الدين قيودهم، فذاك وقت السرور و الحبور، لا البكاء و العزاء. و لقد ألقوا بالقيود و الأغلال التي تكبّلهم، و أسرعوا إلي سرادق الملك و الملكوت. و لو كان لك بهم من العلم ذرّة، لعلمتَ أ نّ هذا وقت ملكهم و سلطانهم».


                        الروح المجرد، ص: 91
         ورنه‏اى آگه برو بر خود گرى             زانكه در إنكار نقل و محشرى‏
             بر دل و دين خرابت نوحه كن             چون نمي‏بيند جز اين خاك كُهُن‏
             ور همى بيند چرا نبود دلير             پشت دار و جان سپار و چشم سير؟
             در رخت كو از پى دين فرّخى             گر بديدى بَحر كو كفّ سخيّ؟
             آنكه جو ديد آب را نكند دريغ             خاصه آنكو ديد دريا را و ميغ [1]

تمثيل حريص بر دنيا به مورى كه به دانه‏اى از خرمنى قانع نشود [2]
         مور بر دانه از آن لرزان شود             كو ز خرمنگاه خود عُمْيان بود [3]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «أمّا لو جهلتَ ذلك فاذهب لنفسك فاندبها، لأنّك أنكرت الحشر و العالم الآخر. و نُحْ علي قلبك و دينك الفاسدَينِ، لأنّ قلبك لا يري إلّا الحمأ المسنون. و لو كان مُبصراً فلِمَ يفتقد الشجاعة؟ و لِمَ لا يمتلك الاستقامة و التضحية و القناعة؟ أين البشاشة و طلاقة الوجه من أثر التديّن؛ و إن كنت رأيت البحر فأين منك يد السخاء و العطاء؟ إ نّ من رأي ساقية صغيرة لا يبخل بالماء و لا يمنعه، فكيف بمن شاهد البحر و السحاب!». [2]- تشبيه الحريص علي الدنيا بالنملة التي لا تقنع من البيدر بحبّة واحدة [3]- يقول: «تتشبّث النملة بالحَبّة بكلتا يديها، لأنّها عمياء عن إبصار البيدر الكبير».


                        الروح المجرد، ص: 92
         مي‏كشد يكدانه را از حرص و بيم             چون نمي‏بيند چنان چاش عظيم‏
             صاحب خرمن همى گويد كه هي             اى زكورى پيش تو معدوم شي‏ء
             تو ز خرمن‏هاى ما آن ديده‏اى             كاندر آن دانه بجان پيچيده‏اى‏
             اي به صورت ذرّه كيوان را ببين             مور لنگى رو سليمان را ببين‏
             تو نِه‏اى آن جسم، بل آن ديده‏اى             وارهى از جسم گر جان ديده‏اى‏
             آدمى ديده است، و باقى لَحم و پوست             هرچه چشمش ديده‏است آن خيراوست‏
             كوه را غرقه كند يك خُم زِ نَم             مَنفذى گر باز باشد سوى يَمْ [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «فتسحب تلك الحبّة في طمع و خوف، لأنّها لا تبصر تلّ حبوب الحنطة. يناديها صاحب البيدر: أيّتها العمياء التي من شدّة عماها تحسب الشي‏ء الكبير معدوماً! أنتِ لم تبصري من بيادرنا إلّا هذه الحبّة الصغيرة التي لَصَقْتِ بها روحاً و قلباً. فيا مَن هو في صورة ذرّة في الوجود، انظر إلي الكوكب زُحل! أنت نملة عرجاء فاذهب و انظر إلي سليمان. أنتَ لست هذا الجسم، بل ذلك البصر و البصيرة؛ فإذا رأيت الروح تحرّرت من الجسد. و ليس البشر إلّا البصر و البصيرة، أمّا الباقي فلحم و جِلد، فما وقع عليه بصيرته فهو خير له. إذا وجدت روح الجرّة منفذاً إلي البحر، فإنّها ستغرق الجبل بمائها».


                        الروح المجرد، ص: 93
         چون به دريا راه شد از جان خُم             خُم با جِيحون بر آرد اشتلُم‏
             زين سبب قُلْ گفتة دريا بُوَد             گرچه نطق أحمدى گويا بُوَد
             گفتة او جمله دُرِّ بَحْر بُوْد             كه دلش را بُوْد در دريا نفوذ
             داد دريا چون ز خُمّ ما بُوَد             چه عجب گر ماهى از دريا بُوَد
             چشم حِسّ افسرده بر نقش قمر             تو قمر مى بينى و او مستقرّ
             اين دوئى أوصاف ديدة أحول است             ورنه أوّل آخر، آخر أوّل است‏
             هين گذر از نقش خُم در خُم نگر             كاندر او بحرى است بى پايان و سَر [1]
            __________________________________________________
 [1]- يقول: «إذا وجدت روح الجرّة منفذاً إلي البحر، لفاقت في كبريائها نهر جيحون. و لهذا فإنّ كلمة «قُلْ» كانت كلام بحر الالوهيّة، و لو نُطقت بلسان النبيّ محمّد صلّي الله عليه و آله. كانت كلمات ذلك العظيم درر ذلك البحر، لأنّ قلبه كان قد وجد سبيله إلي البحر. و حين يفيض البحر من جرّتنا؛ فما العجب أن تكون السمكة جزءاً من البحر؟ إ نّ حقيقة القمر ليست غير شي‏ء واحد، لكنّ عين الحسّ المادّيّة الضعيفة تراه في الماء و المرآة شيئاً ثابتاً و مستقرّاً، لكنّك و أنت ذو العقل و الإدراك تشاهد حقيقة القمر المتحرِّك في المنازل و الأشكال المختلفة. فهذه الثنائيّة في الأوصاف رؤية الأحول، و إلّا فإنّ الأوّل هو الآخر و الآخر هو الأوّل. فتجاوز الآن رسم الجرّة و تأمّل في الجرّة، ففي داخلها بحر لا أوّل له و لا آخر».


                        الروح المجرد، ص: 94
         پاك از آغاز و آخر آن عِذاب             مانده محرومان ز قهرش در عَذاب‏
             اين چنين خُم را تو دريا دان يقين             زنده از وى آسمان و هم زمين‏
             گشته دريائى دوئى در عين وصل             شد ز سو در بى سوئى در عين وصل‏
             بلكه وحدت گشته او را در وصال             شد خطاب او خطاب ذوالجلال [1]

نعم، لقد كان الموت بالنسبة لسيّد الشهداء و سيّد المظلومين عليه السلام عين الدرجة و الارتقاء و الفوز و النجاح، لذا جاء في الرواية التي أوردناها في بحث «معرفة المعاد» أ نّ المصائب كلما ازدادت و ادلهمّت يوم عاشوراء و كلّما استعر اوار الحرب زاد إشراق وجهه المنير...
وَ كَانَ الحُسَيْنُ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ خَصَائِصِهِ تُشْرِقُ ألْوَانُهُمْ وَ تَهْدَا جَوَارِحُهُمْ وَ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا لَا يُبَالِي بِالمَوْتِ! فَقَالَ لهم الحُسَيْنُ عَلَيهِ السَّلَامُ: صَبْراً بَنِي الكِرَامِ! فَمَا المَوْتُ إلَّا قَنْطَرَةً تَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ البُؤْسِ وَ الضَّرَّاءِ إلى الجِنَانِ الوَاسِعَةِ وَ النَّعِيمِ الدَّائِمَةِ؛ فَأيُّكُمْ يَكْرَهُ أ نْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إلى قَصْرٍ؟!
__________________________________________________
 [1]- يقول: «ولقد كان ماؤه طاهراً عذباً منذ البدء، أمّا من حُرموا منه فقد بقوا في عذاب من قهره و غضبه.
فأيقنْ أ نّ مَثَل هذه الجرّة، بحر تحيي به السماء و الأرض كلاهما.
صار في الثنائيّة بحراً حين الوصال، و كان ذا جهة فآل إلي حيث لا جهة و لا حدّ في عين الوصل.
بل إنّه صار في الوصال عين الوحدة، و صار خطابه خطاب ذي الجلال».
                        الروح المجرد، ص: 95
... إ نَّ أبي حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: إ نَّ الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وَ جَنَّةُ الكَافِرِ، وَ المَوْتَ جِسْرُ هَؤُلَاءِ إلى جِنَانِهِمْ وَ جِسْرُ هَؤُلَاءِ إلى جَحِيمِهِمْ؛ مَا كَذِبْتُ وَ لَا كُذِبْتُ! [1]
و ينبغي العلم أ نّ ما تفضّل به المرحوم الحدّاد، كان عن حاله الشخصيّ في ذلك الوقت؛ حيث عبر من عوالم الكثرات و وصل إلى الفَناء المطلق في الله. و بعبارة أخرى: فإنّ السفر إلى الله كان قد بلغ غايته، و كان مشتغلًا في السفر الثاني: السفر في الله؛ كما في أحوال الملّا الروميّ عند إنشاده هذه الأشعار، و أحوال ذلك الشاعر الشيعيّ الذي ورد مدينة حلب، حيث تبدّل جانب «وجه الخلق» فيهم إلى جانب «وجه الحقّ» و الوجه الربّيّ و عبروا من درجات النفس و تمكّنوا و استقرّوا في حرم عزّ التوحيد و حريم وصال الحقّ.
أمّا بالنسبة لسائر أفراد الناس الذين لم يتخلّصوا من عالم الكثرات و بَقَوا أسرى فيه، و الذين عجزوا عن تخطّى عالم النفس؛ فإنّ عليهم حتماً البكاء و إقامة العزاء و لطم الصدور و قراءة المراثي، ليتمكّنوا بهذا النحو من طيّ الطريق و نيل ذلك المقصد السامي، فهذا المجاز قنطرة للوصول لتلك الحقيقة. كما أنّهم عليهم السلام أمرونا- كما في الروايات الكثيرة المستفيضة- بإقامة العزاء لنطهّر أنفسنا بهذه الوسيلة، و لتتناغم خطانا في هذا الدرب مع اولئك القادة العظام.
على أن الأسفار الأربعة حين تُطوى فإنّ من لوازم البقاء بالله بعد مقام‏
__________________________________________________
 [1]- «معاني الأخبار» ص 288 و 289، باب معني الموت، الحديث 3، الطبعة الحيدريّة، سنة 1379؛ و «معرفة المعاد» من دورة العلوم و المعارف الإسلامية، ج 1، ص 89، نهاية المجلس الثالث.
                        الروح المجرد، ص: 96
الفناء في الله هو التشكّل بعوالم الكثرة، و رعاية حقّ كلّ عالم كما هو حقّه، و هو الكون مع الله في عالم الخلق و الاتّصاف بالصفات الخلقيّة في عين‏الوحدة الربوبيّة، حيث يوجد العشق و العزاء، و التوحيد و الكثرة معاً. و قدشوهدت هذه الحالات نفسها عند سماحة السيّد الحدّاد أواخر عمره، فقدصار له مقام البقاء بعد نيله مقام الفناء الصِّرف و التمكّن في التجرّد، لذا فقد كان مشهوداً منه بكاؤه بحرقة و لوعة في مجالس العزاء مقروناً بالعشق الشديد. كما أ نّ سيّد الشهداء عليه السلام قال بنفسه لابنته الحبيبة سكينة:
         لَا تُحْرِقِي قَلْبِي بِدَمْعِكِ حَسْرَةً             مَادَامَ مِنِّي الرُّوحُ في جُثْمَانِي‏

و باختصار و إجمال: فإنّ قصّة كربلاء قصّة غامضة و معقّدة جدّاً، فهي كالعُملة المعدنيّة ذات و جهين، وجهها الأوّل عشق و حماس سيّد الشهداء عليه السلام و فوزه بتلك العوالم، و الوجه الآخر الغمّ و الهمّ و العذاب و الألم و البكاء. لكن الذين يمكنهم رؤية ذلك الوجه الآخر هم الذين شاهدوا هذا الوجه و تخطّوه و عبروه؛ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ.
                        قراءة سماحة الحدّاد أشعار «المثنويّ»

                        قراءة سماحة الحدّاد أبيات عاشوراء وكأ نّها مختمرة مع روحه ونفسه‏

نعم، لقد كان اسلوب و كيفيّة قراءة أبيات مولانا هذه بشكل كأنّ السيّد الحدّاد كان متّحداً مع حقيقة تلك المعاني، فهو يتحدّث عن مَعين واقعيّاتها و حقائقها و معادنها. لكأنّ يوم عاشوراء ماثل أمامه، فهو يُخبرعن ضمير سيّد الشهداء عليه السلام و باطنه و يكشف الستار عن أصحابه‏و أنصاره.
و كان لفظ «الفَناء» أكثر الألفاظ تردّداً على لسان الحدّاد، فلم يكن ليرى مفرّاً و لا مناصاً أسمى من الفناء ليدعو رفقاءه إليه.
و لقد بقي الحقير في كربلاء إلى اليوم الثالث لشهادة الحسين عليه السلام، ثمّ ذهبتُ إلى الكاظمين عليهما السلام برفقة الاستاذ في اليوم الرابع عشر من المحرّم و توقّفنا فيها يومين، ثمّ تشرّفتُ بالذهاب معه إلى‏
                        الروح المجرد، ص: 97
سامرّاء مع بعض الرفقاء، و نهلنا من بركات تلك الأنوار القدسيّة أربع ليال عُدنا بعدها إلى الكاظميّة و منها مباشرة إلى طهران حيث وصلتها بعد العشرين من محرّم الحرام و استغرق سفري هذا خمسةً و خمسين يوماً.
                        الروح المجرد، ص: 99
                        القِسْمُ الثَّالِثُ: السَّفَرُ الثُّانِي لِلْحَقِيرِ إلى العَتَبَاتِ الْمُقَدَّسَةِ، سَنَةَ 1383 هِجرِيَّة قَمَرِيَّة

                        الروح المجرد، ص: 101
السفر الثاني للحقير إلى العتبات المقدّسة
سنة 1383 هجريّة قمريّة
و في السنة التالية أحسستُ في نفس الفترة برغبة عارمة للتشرّف بزيارة تلك البقاع المقدّسة و عقدت العزم على ذلك، فراجعت مديريّة السفر لأخذ سمة الخروج، و قطعت تذكرة السفر بالسيّارة من شركة سفر «ميهن تور» على أن يبدأ السفر بعد غد ذلك اليوم. و عند ذهابي لتوديع الأرحام و الأقارب، قالت لي إحدى أخواتي التي مضى على وفاتها و التحاقها بالرحمة الإلهيّة اليوم تسع سنين: يا فلان! أنت تذهب للزيارة، ولكنّ نظم البيت سينفرط بدون إشرافكم و رعايتكم المباشرة، و لربّما نال الإجحاف و الظلم بعض أهليكم!
فقلت: إنني ذاهب إلى الزيارة، و لست أرضى أن ينال أحداً في هذا الأمر التقرّبيّ ظلم و حيف. و مادام الأمر كذلك، فقد صرفت النظر عن السفر الآن.
و هكذا فقد ذهبت في نفس ذلك اليوم و أعدت تذكرة السفر. و أذكر هذه القضية هنا ليعلم الجيل الآتي مدى ما كان يعانيه رجال الدين و أهل العلم في العهد البهلويّ- الأب و الابن- و ضخامة الأوضاع التي عاصرها الرجال المتديّنون و النساء المحجّبات.
لقد ذهبت لإرجاع تذكرة السفر، فقلتُ لأهل بيتي و كانت بصحبتي:
إ نّ محلّ شركة السفر مزدحم، فانتظروني خارجاً و سأذهب لإرجاع التذكرة و أعود. و حين خرجت وجدتها تسير خلف ضابط و هي تقول:
                        الروح المجرد، ص: 102
أيّها السيّد! أنا لست شحّاذة!
و لقد كان محلّ شركة السفر (ميهن تور) واقعاً بين شارِعَي «سوّم اسفند» (/ الثالث من اسفند) و «ثبت أسناد» (/ دائرة تسجيل الأسناد) و هي من المناطق الحسّاسة، إذ يقع هناك مصنع الأسلحة و نادى الضبّاط و دائرة الشرطة و الأمن و وزارة الحربيّة، فهي محلّ تردّد و عبور الكثير من الضبّاط. و لقد شاهد أحد الضبّاط عيالي محجّبة ترتدي العباءة و النقاب فظنّ أنّها شحّاذة و متسوّلة وقفت هناك للاستجداء، لذا فقد وضع في يدها قطعة صغيرة من النقود، فاضطربت و لحقته لإعادة ما أعطاها، فانتبه الضابط و استردّ نقوده و اعتذر قائلًا: سامحيني أيّتها السيّدة!
و لم يكن ذلك الأمر مقتصراً عَلَيّ فحسب، بل كان حماة الدين و حرّاسه يعيشون بأجمعهم ظروفاً كهذه حيث تُعدّ فيها العمامة لباساً للاستجداء، و عباءة عِصمة المرأة رداءً لستر الخجل من استلام نقود الاستجداء. أمّا حاليّاً فالفضلاء و الطلّاب يعرفون قدر عمامة رسول الله، كما تصون نساؤنا أنفسهنّ بحجابهنّ و عفّتهن من أعين الغرباء و يحفظنها من النظرات الشيطانيّة.
و لعدم تيسّر السفر لي في تلك السنة، فقد شددتُ الرحال إلى العتبات المقدّسة في السنة التي تليها، و في الفترة ذاتها، أي أواخر ذي القعدة الحرام.
                        استئجار سماحة الحدّاد طابقاً في منزل، بعد غصب نصف منزله‏

و هكذا، فقد قام الحقير بزيارة الكاظمين عليهما السلام عدّة أيّام، ثمّ تحرّكت مع بعض الرفقاء من الكاظميّة إلى كربلاء. و كان السيّد الحدّاد قد غيّر منزله في هذا السفر، و اضطرّ- كي يقوم بأعمال إصلاح البيت و تعميره- إلى استئجار طابق منزل يقع مقابل منزله يحوي ثلاث غرف، لكنّه كان يمتلك سطحاً واسعاً مسيّجاً و كان يستفيد منه في الليالي للصلاة
                        الروح المجرد، ص: 103
و لاجتماع الرفقاء في ليالي الجمعة و أيّام الزيارة.
و كان منزله ملكاً لعياله، و هبها إيّاه أبوها المدعو ب- «حسين أبو عَمْشة» [1]، و كان يحترم السادة و يحبّهم كثيراً و خاصّة صهره السيّد هاشم هذا. و باعتبار كبر عائلة السيّد هاشم فقد قال: إ نّ هذا البيت خاصّ بهؤلاء الأطفال السادة. و أوصى بذلك خطّيّاً؛ إلّا أ نّ زوج اخت زوجته المدعو بالحاجّ صمد الدلّال أنكر هذه الوصيّة بعد وفاته و قام بمراجعة الدوائر الرسميّة، على الرغم من عدم حاجته و تمكّنه المادّيّ!
و من ثمّ فقد أرسلت الحكومة من قام ببناء جدار وسط البيت؛ فصار هذا البيت الصغير الحاوي على ثلاث غرف صغيرة ناقصاً غير قابل للسكنى، إذ لم يكن لهذا النصف باب إلى الخارج و لا مرافق صحّيّة، فكان أهله و أطفاله يُجبرون على صعود السلّم إلى السطح ثمّ النزول إلى الجانب الآخر عبر سلّم آخر، ممّا أدّى إلى إصابة أهل السيّد هاشم بالأمراض. فاجبروا أخيراً على إخلاء المنزل لنصب باب له و لبناء مرافق صحّيّة و لإصلاح الحائط المحاذي للشارع و الذي كان متداعياً من أساسه.
و كان المرحوم القاضي قد أخبره عن غصب نصف هذا المنزل و عن بنائه و تسليمه إيّاه، و هكذا حدث بالفعل؛ و للمسألة شرح يطول الأمر بذكره.
أمّا ذلك المنزل المستأجر المقابل فقد تسبّب- لفقدانه الإنارة و الامور الصحّيّة بشكل صحيح و كامل- في وفاة أحد أحفاد السيّد هاشم،
__________________________________________________
 [1]- أبو عَمْشة، كنية يطلقها العرب علي من يتزوّج فتولد له بنت و ليس له ولد، إذا كان اسمه حُسيناً، و كان صاحبنا أبو عمشة يشتغل بإصلاح الأسلحة الناريّة كالبنادق و غيرها، و كان غالباً ما يسافر إلي القري و القصبات فيتوقّف في كلّ قرية عدّة أيّام لتصليح أسلحة ساكنيها، ثمّ يُسافر إلي قرية اخري.
                        الروح المجرد، ص: 104
و اسمه السيّد محمّد بن السيّد حسن في تلك الأيّام التي حلّ فيها الحقير عندهم إثر إصابته بمرض الحصبة.
و كان هذا الطفل شبيهاً بالمرحوم القاضي للحدّ الذي كان السيّد الحدّاد يسمّيه بالقاضي الثاني، و كان يحبّه كثيراً. و قد تأثّر السيّد الحدّاد لموت هذا الطفل كثيراً؛ و حين نقل الحقير الجنازة معه إلى محلّ غسل الأموات في منطقة المُخَيَّم الحسينيّ، لم يتمكَّن من السيطرة على دموعه التي انهمرت بغزارة. فقلت له عصر ذلك اليوم: أوَ لم يكن لكم رغبة في بقاء هذا الطفل حيّاً ليردّ الله عنه الموت و يكتب له الحياة؟!
قال: بلى، ولكنّ الأمر من ذلك الجانب يغلب أحياناً، فيسلب الرغبة و الإرادة من هذا الجانب.
و كان السيّد حسن هو ولده الثالث. فقد كان أوّلهم السيّد مهدي، يليه بالترتيب السيّد قاسم و السيّد حسن و السيّد صالح و السيّد بُرهان و السيّد عبد الأمير، و بنت أكبر منهم يدعونها بالعلويّة و اسمها زهراء، و يقال لها فاطمة و أيضاً بَيگم، حيث إ نّ تسميتها فاطمة و بيگم يعود إلى أن السيّد الحدّاد كان له ابنتان قبل ابنته هذه توفّيتا في طفولتهما، فكان إسماهما يُطلقان عليها أحياناً.
و كان المرحوم الحدّاد يقول: كان لبيگم سنتان حين رحلت عن الدنيا، و كنتُ آنذاك في حال لا اميِّز فيه بين الموت و الحياة أبداً؛ فقد كانا بالنسبة لي على حدّ سواء. و حين حملنا جنازتها مع والد زوجتي (أبو عَمْشة) و ذهبنا للقيام بالغسل و الكفن و الدفن لم أذرف الدموع أبداً، لكنّه- في المقابل- كان محزوناً و متأثّراً جدّاً، و كان يبكي بحيث تغيّرت حالته النفسيّة. و كان يقول: عجباً لهذا السيّد الذي يمتلك قلباً قاسياً لا يعرف للرحمة طعماً؛ فهو لا يبكي و لا يندب، حتّى أ نّ دموعه لم تنحدر! و لأنّا
                        الروح المجرد، ص: 105
كنّا نعيش معه في منزل واحد فقد خاصمني مدّة لم يكلمني فيها.
و بعد بيگم توفّيت بنت السيّد الثانية و اسمها فاطمة. فكان يقول عنها: كانت وفاتها ليلًا، فوضعناها في زاوية الغرفة لندفنها في اليوم التالي؛ و كنت قد نظرت إليها مدّة على أنّها طفلة رحلت عن الدنيا، فلم تكن لها تلك الأهمّيّة الكبيرة.
                        مشاهدة الحدّاد عظمة روحيّة أطفال الشيعة بعد الموت‏

ثمّ رأيت تلك الليلة أ نّ روحها تكبر في‏زاوية الغرفة حتّى ملأت البيت، ثمّ كبرت فملأت كربلاء كلّها، ثمّ شملت‏الدنيا بأسرها. و لقد كانت تلك الطفلة تظهر حقيقتها أن: كم أنا كبيرة مع أنّي ما زلت طفلة!
و كان يقول: هذه هي عظمتها الحقيقيّة. لذا فإنّ علينا أن ننظر إلى أطفالنا بعين الاحترام و نلحظهم على أنّهم كبار، لأنّهم كبار فعلًا لكنّنا نتصوّرهم صغاراً. و لقد كان إبراهيم ابن رسول الله ذو السنتين كبيراً و عظيماً بحيث إنّه لو بقي لكان بمثابة نفس النبيّ. لكأنّ النبيّ كان نفس ولده إبراهيم و قد كبر؛ و لكأنّ إبراهيم هو النبيّ نفسه، كلّ ما في الأمر أنّه في زمن طفولته و صباه؛ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ. [1]
و كان يقول: لذا فإنّ من الأجدر على الإنسان احتراماً للطفل المولود حديثاً أن يجتنب الجماع أربعين يوماً، و أن يؤخذ الطفل الصغير الذي لم يتعدّ عدّة أشهر و هو في قماطه إلى مجالس العلم و محافل الذِّكر، و إلى الحسينيّة و أماكن إقامة العزاء التي يذكر فيها اسم سيّد الشهداء؛ لأنّ نفس الطفل أشبه بالمغناطيس تجذب العلوم و الأوراد و الأذكار و قدسيّة روح الإمام الحسين عليه السلام. و مع أ نّ الطفل لا يستطيع الكلام لكنّه يتمتّع بالإدراك، و لو وُضعت روحه في محلّ أو محالّ المعصية، لتلوّثت بذلك‏
__________________________________________________
 [1]- صدر الآية 34، من السورة 3: آل عمران.
                        الروح المجرد، ص: 106
الجرم و تلك المعصية، أمّا لو اخذ إلى محلّ أو محالّ الذِّكر و العبادة و العلم لاكتسب تلك الطهارة و الصفاء.
و كان يقول: ضعوا أطفالكم في زاوية الغرفة التي يُقام فيها قراءة التعزية أو الذِّكر الذي تقومون به! فلقد كان العلماء السابقون يفعلون ذلك، لأنّ الآثار التي يكتسبها الطفل في هذه المرحلة تبقى ثابتة فيه إلى آخر عمره و تصبح ضمن غرائزه و صفاته الفطريّة، ذلك لأنّ نفس الطفل في هذه الفترة لها قابلية محضة، مع أ نّ عامّة الناس لا يدركون هذا المعنى المهمّ و السرّ الخطير.
و أنا أقول: نعم، الأمر كذلك؛ و لدينا في هذا الموضوع كثير من الشواهد البرهانيّة و الأدلّة العلميّة و التجربيّة و المشاهدات القويّة غير القابلة للتأويل في هذا الموضوع، لا مجال لذكرها الآن.
                        وفاة ولد الحقير: السيّد محمّد جواد

و من بين الأدلّة التجربيّة و المشاهدة غير القابلة للتأويل، وفاة ولد الحقير ذي الأحد عشر شهراً و اسمه السيّد محمّد جواد. فقد ولد في التاسع من صفر لسنة 1380 هجريّة قمريّة، و قد أطلقنا عليه هذا الاسم للتوسّل بجواد الأئمّة عليه السلام، و لولادته بعد ارتحال استاذ العرفان سماحة آية الله الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ الهمدانيّ رضوان الله عليه بثلاثة أشهر و سبعة أيّام (فقد توفّي الفقيد في الثاني من ذي القعدة لسنة 1379 ه-. ق).
و كان طفلًا طلق المحيّا يسطع النور و الصفاء منه، لكأنّه كان نوراً خالصاً، و قد كان ذلك مشهوداً فيه منذ طفولته تلك، و كنتُ قد لقّبته ب- «مسيح الزمان» و «النور الخالص». و كان لم ينطق بعدُ و لم يمشي على قدميه، بل كانوا يلفّونه بقماط فينهض صباحاً بدون أن يبكي أو يطالب بالرضاعة أو يبحث عن والدته، فيحبو في قماطه و لفّافته تلك صوبي فيجلس في حجري.
                        الروح المجرد، ص: 107
نعم، كنّا قد انتقلنا إلى منزل جديد في منطقة «أحمديه دولاب»، و كنتُ قد مرضت بشكل جعلني عدّة أيّام لا أقوى إلّا على تناول عدّة ملاعق من حساء الحليب المعدّ للأطفال، بسبب دُمل داخل اللوزتين و تورّمهما. و انتابتني حمّى شديدة مضافاً إلى المرض المرهق الذي أنهك قواي؛ و خلاصة الأمر فقد كانت حالتي غير جيّدة. و كنت قد رأيت و أنا في الغرفة الخارجيّة (البرّاني) في يوم وفاة ذلك الطفل و قبل ساعة من وفاته رؤيا: كأنّ قطعة نور كانت تأتي من جهة مرقد عبد العظيم الحسنيّ عليه السلام إلى جهة طهران، و كأنّ حرباً قد نشبت في طهران بين المسلمين و الكفّار؛ فجاءت قطعة النور هذه و انضمّت إلى المسلمين و أعانتهم فقهروا الكفّار. و كان ذلك النور السيّد محمّد جواد. ثمّ استيقظتُ و جاء بعد ساعة ولدي الأكبر السيّد محمّد صادق يسأل الحقير عن دروس المدرسة و مسائل الحساب، و كنت مشغولًا معه حين رأيت السيّد محمّد جواد جنب الحوض الصخريّ في ساحة المنزل يلعب بماء الحوض، فهرعت إليه و أدخلته إلى الداخل عند امّه و كانت مشغولة بأعمال الخياطة، و أوصيتها و أكّدتُ عليها بالمحافظة عليه! فهذا الطفل مولع باللعب بالماء و سيعود إلى هناك. ثمّ عدت إلى القسم الخارجيّ من البيت (البرّاني) و انشغلت بملاحظة دروس ولدي الأكبر.
و بالتأكيد فلم تنقضِ دقائق خمس حتّى علا صراخ امّه من ساحة المنزل: الويل لي! لقد مات ولدي! فأسرعتُ من الغرفة إلى ساحة المنزل و شاهدت أن الأمر قد انتهي. و لقد نقلناه على الفور إلى المستشفي حيث اجري له التنفّس بالاوكسيجين ولكن بلا جدوي، فأعدته بنفسي إلى المنزل و وضعته في زاوية الغرفة الخارجيّة و قلت لُامّه و لباقي العائلة: إ نّ حال الطفل جيّدة.
                        الروح المجرد، ص: 108
و كنتُ أنوي القيام بغسل الطفل ليلًا إلّا أ نّ الحاجّ هادي الأبهريّ لم يدعني أفعل ذلك و قال: بأنّ الحاجّ محمّد إسماعيل سيغسله و أ نّ آية الله الشيخ صدر الدين الحائريّ سيصبّ عليه الماء. ثمّ إنّه غُسِّل و كُفِّن و دُفِن بعد مراسم مفصّلة في مقبرة «چهل تن دولاب».
و الغرض من هذه القصّة: أ نّ عيالي قد تألّمت بشدّة إثر هذه الواقعة، و كانت تتأسّف و تتلهّف. حتّى أتت يوماً إلى مسجد القائم و نقلت الأمر إلى إحدي المخدّرات من مأمومات المسجد و اسمها «فاطمة خانم» فقالت لها: لا تتأسّفي عليه! فقد رأيتُ في المنام أ نّ جبلًا كان يوشك أن ينهار على رأس السيّد أبيه، و كان السيّد نائماً تحت ذلك الجبل، فجاء هذا الولد و وقف أمام الجبل و مدّ يديه فأسند بها الجبل فمنعه من السقوط.
و يُستفاد من ذلك أ نّ موته كان في الحقيقة اختياريّاً. و كان المرحوم الحاجّ هادي الأبهريّ يقول: كان البلاء يوشك أن يحلّ بهذا المنزل، فضحّي هذا الطفل بنفسه و صدّ بلاءً أكبر من الوقوع. كما هو شأن عليّ الأصغر عليه السلام الذي اختار الاستشهاد بنفسه، و كإبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي فدي بنفسه الإمام الحسين عليه السلام و رضي بأن يموت مكانه. و هذه نكتة تستحقّ التأمّل، و هي أ نّ الأطفال يمتلكون أرواحاً كبيرة و اختياراً و انتخاباً وجدانيّاً.
                        عبادات الاطفال حقيقيّة وليست تمرينيّة

و من بين هذه الشواهد، الأدلّة الشرعيّة لحجّ الأطفال و استحبابه الشرعيّ. بأن يُلبس الأطفال- و لو اولئك الذين لا تتجاوز أعمارهم اليوم الواحد- ملابسَ الإحرام، و أن ينوي وليّ الطفل نيابة عنه و يطوف به و يصلّي عنه و يأخذه معه إلى عرفات و المشعر و مني، و أن يضحّي و يقوم بجميع المناسك مكانه؛ و يقيناً أ نّ هذه الأعمال ليست من باب العمل التعبّديّ الصرف و التشبّه بالحجّاج، بل لأنّ روح الطفل و نفسه تمتلك‏
                        الروح المجرد، ص: 109
القابليّة لأن تحجّ حقيقة و تلبّي و تنال الفوز و درجات الشخص المُحْرِم و الحاجّ، أي أ نّ آثار حجّ الشخص الحاجّ ستوجد بالاستعداد و القوّة في نفسه؛ مع أ نّ مسألة حِجّة الإسلام و وظيفة الحجّ الواجب مسألة اخرى منفصلة. كما يستحبّ أخذ الطفل للعمرة و القيام بالعمرة المفردة بهذا النحو فيكون معتمِراً.
و كذلك لو أتي الطفل بجميع الواجبات و المستحبّات الاخري، فإنّ الآثار الوجوديّة لتلك الأعمال ستؤثّر في روحه؛ و مع أ نّ الإلزام و التكليف قد ازيل عنه، إلّا أ نّ أصل الأثر باقٍ. و لذا، فقد قال فقهاؤنا رضوان الله عليهم: إ نّ أيّ عمل واجب على المكلّفين، له عنوان العمل المستحبّ للصغار غير المكلّفين؛ و إ نّ كلّ عمل حرام على المكلّفين، له عنوان العمل المكروه لهم؛ كما أ نّ عباداتهم حقيقيّة و ليست تمرينيّة.
                        أجداد سماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد ونسبه‏

و كان والد السيّد هاشم السيّد قاسم قد تزوّج بامّه و اسمها زينب. و تزوّج السيّد الحدّاد بامرأة اسمها هديّة و تكنّي بامّ مهدي، و تنتمي إلى عشيرة الجنابات و هي من العشائر العربيّة الأصيلة و العريقة و المشهورة بعراقتها و أصالتها، و تتواجد حاليّاً في الحلّة و كربلاء و النجف الأشرف و بعض المناطق الاخري، و من عادة أفرادها أن لا يزوِّجوا بناتهم لغيرهم و لا يتزوَّجوا من غيرهم. و يشغل أفرادها غالباً المناصب الحكوميّة من الرؤساء و الضبّاط؛ لذا فحين ذهبت امّ مهدي مع السيّد الحدّاد مرّة إلى المحكمة لإصدار شهادة الجنسيّة لأولادها، قال لها الحاكم: أليس من الحيف أن تتزوّجي من هذا السيّد الغريب الهنديّ المجهول الذي لا أصل له و لا نسب؟!
فما كان من هذه المرأة الثابتة الجنان إلّا أن زمجرت في وجهه كاللبوة: أنت الذي لا أصل لك و لا نسب! فهذا السيّد ابن رسول الله و ابن‏
                        الروح المجرد، ص: 110
أميرالمؤمنين و فاطمة الزهراء. هذا هو نسبه، فقل لي نسبك إلى ما قبل مائة سنة، فضلًا عن ألف و أربعمائة سنة!
و هكذا فقد أذعن الحاكم أمام منطقها و اعتذر منها.
و كان أبو زوجته كما أسلفنا هو حسين أبو عَمْشة، و كان اسم امّ زوجته نجيبة.
و كانت كربلاء مسقط رأس السيّد هاشم، كما كان أبوه من مواليد تلك المدينة أيضاً؛ أمّا جدّه السيّد حسن فكان من شيعة الهند، و كان قد وقع في الأسر خلال النزاع و الحرب الدائرة بين طائفتَينِ من أهل الهند بِيَدِ الطائفة المنتصرة، فباع هؤلاء المرحوم السيّد حسن- جدّ الحدّاد- إلى عائلة شيعيّة ملقّبة ب- «أفضل خان»، ثمّ هاجرت هذه العائلة إلى كربلاء و أخذوا السيّد حسن معهم إليها. ثمّ إنّهم أطلقوه من الأسر لمّا شاهدوا منه الكرامات العديدة و لم يعودوا يكلّفوه بعمل. لكنّ السيّد حسن كان يأبى منهم تركه بلا عمل؛ فخيّروه بين عدّة أعمال، فاختار منها السقاية، و قال: هي شغل عمّي العبّاس سلام الله عليه.
و هكذا فقد حطّ السيّد حسن رحاله في كربلاء المقدّسة، ثمّ تزوّج بجدّة السيّد الحدّاد. و من أبنائه السيّد قاسم الذي انجب ثلاثة أولاد: السيّد هاشم الذي وُلِد في «قلعة هندي»، و كان ذلك بسبب الهجوم الذي وقع على كربلاء و قَطْع الماء عنها، ممّا اضطرّ السيّد قاسم و عائلته إلى النزوح عنها و الذهاب إلى المنطقة المذكورة؛ و السيّد محمود و السيّد حسين. و قد التقى الحقير بالسيّد محمود و السيّد حسين كليهما. و كان السيّد محمود يعيش في كربلاء، و قد توفّي قبل السيّد حسين. أمّا السيّد حسين فكان يعيش في بغداد، و يعمل في صناعة الأحذية. و مع أنّهما كانا أصغر من السيّد هاشم، إلّا أنّهما التحقا بالرحمة الأبديّة قبله.
                        الروح المجرد، ص: 111
هذا، و قد عمل السيّد حسن في كربلاء بالسقاية، حيث قصّ السيّد الحدّاد قصصاً عن شدّة نجابته و حيائه.
منها: أ نّ العرب ذوي الغيرة كانوا أحياناً يرسلون معه نساءهم لوحدهنّ من القري الواقعة في أطراف كربلاء ليشترين ما يحتجْن إليه من كربلاء، فكانت إحداهن تركب الحمار فيسيرون فراسخ عديدة حتّى يصلون المدينة، لكنّ نظره لم يكن ليقع عليهنّ و لو لمرّة واحدة، أي أنّه كان متحفّظاً بحيث لا ينظر إليهنّ و لو سهواً.
و كان متعارفاً عند العرب أن يأتوا مع ابنتهم إلى المدينة عدّة أيّام لشراء لوازم زواج بناتهم فيهيّئون ما يحتاجونه بمساعدة أقاربهم و معارفهم، لكنّهم كانوا يعهدون في السيّد حسن الحياء و العصمة بحيث كانوا يُركبون ابنتهم على الحمار و يرسلونها معه إلى المدينة ليبقوا فيها عدّة أيّام و يشترون ما يحتاجونه و يعودون.
و كان سماحة السيّد الحدّاد يقول: و في كربلاء نفسها حيث كان يسقي بعض البيوت، كان ملتزماً بشكل ينحني معه إلى الجدار عند دخوله المنزل إلى حين خروجه لئلّا يري امرأة ما؛ سواء كان في البيت أحد أم لم يكن. و لهذا فقد كان أصحاب البيوت- و قد عرفوا هذه الروح فيه- يوصون أهاليهم بأنّ السيّد حسن لا يحتاج لإذن في دخوله البيوت و لا لقرع الأبواب، بل يأتي فيفرغ الماء في المحلّ المعيّن له و ينصرف.
لقد رحل سماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد روحي فداه في سنّ السادسة و الثمانين في شهر رمضان المبارك لسنة ألف و أربعمائة و أربع هجريّة قمريّة في مدينة كربلاء (مسقط رأسه و موطنه)، لذا فإنّ ميلاده السعيد سيوافق سنة 1318 ه-. ق.
و كان أوّل لقاء الحقير به في سنة 1376 ه-. ق، ولي من العمر آنذاك‏
                        الروح المجرد، ص: 112
اثنتان و ثلاثون سنة و هو ابن ثمان و خمسين سنة؛ و من ثمّ فقد دامت مدّة استفادة الحقير و نهله من محضر أنواره ثمان و عشرين سنة.
و باعتبار أ نّ رحلة سماحة الميرزا السيّد على القاضي قدّس الله تربته كانت في السادس من ربيع الأوّل لسنة 1366 ه-. ق، فإنّ العمر الشريف للسيّد الحدّاد كان آنذاك ثمان و أربعين سنة. و إذا ما علمنا أ نّ السيّد الحدّاد قد تشرّف و تتلمذ في محضر سماحة السيّد القاضي و هو في العشرين من عمره، فإنّه سيكون- هو الآخر- قد استفاد من محضر السيّد القاضي ثمان و عشرين سنة. و كان الحاجّ الشيخ عبّاس يقول: لقد أدركتُ محضر السيّد القاضي ثلاث عشرة سنة.
و بما أ نّ المرحوم السيّد حسن الإصفهانيّ المَسقطيّ- و كان من أعاظم تلامذة المرحوم القاضي و له علاقات ممتدّة و حسنة جدّاً مع السيّد الحدّاد قد رحل عن الدنيا سنة 1350 ه-. ق، فإنّ المرحوم السيّد هاشم قد اكتسب من فيض المرحوم القاضي أكثر منه بستّ عشرة سنة.
فكم- يا تري- استفاد المرحوم المسقطيّ من محضر المرحوم القاضي؟ لو كانت الإجابة اثنتا عشرة سنة لا تّضح أ نّ رفيقَي الطريق هذين قد تشرّفا في الحضور في محضر المرحوم القاضي في زمن واحد، أمّا إذا كان ذلك أقلّ من اثنتي عشرة سنة، فسيكون السيّد الحدّاد قد سبقه في الاستفادة من محضره.
                        السيّد حسن المسقطيّ كما يصفه سماحة السيّد هاشم الحدّاد قدّس سرّه‏

و كان السيّد هاشم يذكر السيّد حسن المسقطيّ كثيراً في كلامه و يقول: كان له حماسٌ شديد و توحيدٌ رفيع، و كان استاذاً في البحث و تدريس الحكمة، و كان متفوّقاً و مميّزاً في المجادلة، فلم يكن أحد ليجرؤ أن يجادله أو ينازعه أو يبحث معه أمراً؛ لأنّه لا يخرج من ذلك إلّا بنصيب الإدانة.
                        الروح المجرد، ص: 113
و كان يجلس في الصحن المطهّر لأمير المومنين عليه السلام فيدرّس الطلّاب درس الحكمة و العرفان، و كان يثير الحماس و الهيجان بحيث كان يبعث في طلّابه روح التوحيد و الخلوص و الطهارة بدروسه المتينة المحكمة، و يسوقهم إلى الإعراض عن الدنيا و الاتّجاه صوب العقبي و عالم التوحيد الحقّ.
و لقد نقل أتباع المرحوم آية الله السيّد أبي الحسن الإصفهانيّ قدّس سرّه له: بأنّ السيّد حسن لو استمرّ في دروسه لقلب الحوزة العلميّة إلى حوزة توحيديّة، و لأوصل جميع الطلّاب إلى عالم الربوبيّة الحقّ و إلى حقيقة عبوديّتهم.
لذا فقد مُنِع تدريس علم الحكمة الإلهيّة و العرفان في النجف؛ كما امِر السيّد حسن بالذهاب إلى «مسقط» للتبليغ و ترويج الدين.
و لم يكن للسيّد حسن أدني رغبة في الخروج من النجف الأشرف، و كان فراق المرحوم القاضي بالنسبة له من أصعب الامور و المشكلات؛ لذا فقد ذهب إلى استاذه السيّد القاضي و قال له: أتسمحون أن أستمرّ في الدرس و أتجاهل منع السيّد و أستمرّ في الجهاد في طريق التوحيد؟!
فردّ المرحوم آية الله القاضي عليه: اذهب من النجف إلى مسقط حسب أمر السيّد! إ نّ الله معك، و سيهديك و يأخذ بيدك حيثما كنت فيوصلك إلى المطلوب الغائيّ و نهاية درب السلوك و أعلي ذروة التوحيد و المعرفة.
و هكذا فقد سافر السيّد حسن إلى مسقط، و كان إصفهانيّ الأصل و معروفاً بالإصفهانيّ، ثمّ عُرف بعد ذلك بالمَسْقَطيّ. و كان لا يرد- في طريقه إلى مسقط فندقاً أو دار ضيافة، بل كان يأوي إلى المساجد. و حين وصل مسقط كان له حظّ في التبليغ و الترويج، فقد جعل أهل مسقط
                        الروح المجرد، ص: 114
بأجمعهم من المؤمنين الموحّدين، و دعاهم إلى الصدق و الإخلاص و إهمال الزخارف المادّيّة و التعيّنات الصوريّة و الاعتباريّة؛ فعرفه الجميع على أنّه مرشد الكلّ و هادي السبل، و أذعن أمام عظمته العالم و الجاهل و العوامّ و الخواصّ. و كان آخر عمره يعيش دوماً مرتدياً لباسَي الإحرام.
و كان أن دعوه للذهاب إلى الهند، فأجاب دعوتهم و شدّ الرحال إلى تلك الديار في سبيله إلى المقصود. و لم يكن كذلك ليحلّ في طريقه بالفنادق بل كان يذهب إلى المساجد فيبيت فيها؛ حتّى وجدوه- و هو في طريقه متنقّلًا من مدينة إلى أخرى- في مسجد من المساجد مرتدياً نفس ثوبَي الإحرام و قد فارق الحياة حال سجوده. [1]
                        خطبة همّام في «نهج البلاغة»

وَ لَوْلَا الأجَلُ الذي كُتِبَ عَلَيهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أ رْوَاحُهُمْ في أجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إلى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ العِقَابِ. عَظُمَ الخَالِقُ في أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ في أعْيُنِهِمْ. فَهُمْ وَ الجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَ شُرُورُهُمْ مَأمُونَةٌ، وَ أجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَ أنْفُسُهُمْ عَفِيَفَةٌ.
صَبَرُوا أيَّاماً قَصِيرَةً أعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً؛ تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ‏
__________________________________________________
1- قال سماحة السيّد محمّد حسن القاضي أدام الله أيّام بركاته ابن المرحوم القاضي أعلي الله درجته:
لقد ابرق بنبأ رحلة المرحوم المسقطيّ إلى سماحة السيّد أبي الحسن الإصفهانيّ، فأرسل البرقيّة التي تتضمّن نبأ الوفاة بِيَدِ أحدهم إلى المرحوم القاضي، و كان قد اتّخذ غرفة في مدرسة الهنديّ. و كنت في صحن المدرسة مع العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ و الشيخ محمّد تقي الآملي و غيرهما من تلامذة المرحوم القاضي، فلم يجرؤ أحد منهم أن ينقل خبر رحيل المسقطيّ إلى الغرفة العليا و يوصله إلى المرحوم القاضي، فقد كانوا يعلمون أ نّ هذا النبأ غير محتمل بالنسبة للمرحوم القاضي لفرط علاقته بالمسقطيّ، لذا فقد اختاروا السيّد الحدّاد لهذه المهمّة؛ فلمّا نقل إليه النبأ التفت إليه المرحوم القاضي قائلًا: أعلمُ بذلك!
                        الروح المجرد، ص: 115
رَبُّهُمْ. أ رَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَ أسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أنْفُسَهُمْ مِنْهَا. أمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أقْدَامَهُمْ تَالِينَ لأجْزَاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِهِ أنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ.
حتّي يصل إلى قوله عليه السلام:
يَنْظُرُ إلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَي وَ مَا بِالقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ؛ وَ يَقُولُ: قَدْ خُولِطُوا؛ وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أمْرٌ عَظِيمٌ. [1]
نعم! لقد أبعدت حوزة النجف السيّد حسن المسقطيّ؛ و لم تعلم هذه الحوزة الضائعة المتحيّرة أ يّ جوهر ثمين فقدت! و أ يّ رجل توحيد، و أ يّ شخصيّة إلهيّة، و أ يّ اسطوانة عِلم و سَنَد فضيلة أضاعت! و لو عَلَمَتْ لكان جهلًا بسيطاً، ولكنّه- و يا للأسف الشديد- الجهل المركب! فالسيّد حسن أينما ذهب؛ إلى مسقط أو الهند أو البحر أو الصحراء، فهو مع الله و الله معه، و هو الساجد الراكع و المرتدي لرداء الإحرام ظاهراً و باطناً، و هو المستغرق في عالم الولاية و مع الوليّ المطلق. [2]
__________________________________________________
1- «نهج البلاغة» الخطبة 191 (خطبة همّام) طبعة مصر، مطبعة عيسي البابي، مع هامش الشيخ محمّد عبده، ج 1، ص 396 و 397.
تدريس الأبحاث القرآنيّة والعلوم العقليّة والعرفان من ضرورات علوم الحوزات‏
2- لقد كان بحث الحكمة و الفلسفة شائعاً و رائجاً في الحوزات العلميّة للشيعة و المعتزلة، خلافاً للأشاعرة الذين لم يكونوا يبحثون في المطالب العقليّة. لذا فقد حاز متكلّمو الشيعة قصب السبق و الظفر و التفوّق طوال الألف سنة الماضية، و قد تخرّج من هذه الحوزات علماء و فقهاء أمثال هشام بن الحكم و السيّد المرتضي و الشيخ المفيد و الخواجة نصير الدين الطوسيّ و العلّامة الحلّيّ و الميرداماد و الملّا صدرا الشيرازيّ و القاضي نور الله التستريّ، و أخيراً السيّد مهدي بحر العلوم و الآخوند الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ و الحاجّ الميرزا محمّد حسن الآشتيانيّ و ابنه الحاجّ الميرزا أحمد الآشتيانيّ و الحاجّ الميرزا مهدي الآشتيانيّ و الآخوند الملّا حسين قُلي الهمدانيّ و السيّد أحمد الكربلائيّ الطهرانيّ و الحاجّ الميرزا محمّد حسن النائينيّ و الحاجّ الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء و الحاجّ الشيخ/
                        الروح المجرد، ص: 116
/__________________________________________________
 محمّد حسين الإصفهانيّ الكمبانيّ و الحاجّ الملّا مهدي النراقيّ و الحاجّ الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ و الشيخ محمّد باقر الإصطهباناتيّ و الشيخ أحمد الشيرازيّ و الحاجّ الميرزا فتح الله المشهور بشيخ الشريعة الإصفهانيّ و الحاجّ السيّد أحمد الخونساريّ و الحاجّ الشيخ محمّد علي الشاه‏آباديّ و تلميذه البارز القائد الكبير الفقيد للثورة الإسلامية آية الله الحاجّ روح الله الخمينيّ و الحاجّ الميرزا أبي الحسن الرفيعيّ القزوينيّ و السيّد حسين بادكوبه‏اي و تلميذيه: استاذنا الاكرم العلّامة الطباطبائيّ و أخيه الحاجّ السيّد محمّد حسن إلهيّ التبريزيّ، و غيرهم ممّن يضيق حصرهم و عدّهم؛ اولئك الذين كانوا حماةً للدين و القرآن و لشريعة سيّد المرسلين و الأئمّة الطاهرين.
وبناءً على هذا الأساس، فإنّ البحث التفسيريّ للقرآن الكريم و تدريس الحكمة و الفلسفة و العلوم العقليّة و حوزات العرفان و الأخلاق من الضرورات اللازمة لهذه الحوزات الفقهيّة، لا تنفك عنها. و كان المرحوم آية الله السيّد عبد الهادي الشيرازيّ يتأسّف ليلةً في مجلس خلوة و يقول: كان هناك في النجف الأشرف حين قدمتُ للدراسة اثنتا عشرة حوزة رسميّة لتدريس الأخلاق و العرفان، أمّا الآن فليس هناك حتّى حوزة واحدة.
نعم، لقد استمرّت هذه الحوزات فعّالة بتدريس الأبحاث القرآنيّة و التفسيريّة و الأخلاقيّة و العرفانيّة و الحكميّة و الفلسفيّة إلى زمن النهضة الدستوريّة (في إيران)، ثمّ سعى الاستعمار الكافر أوّلًا: إلى إنهاء وجود النجف كمركز علميّ و فقهيّ، و إلى نقل الحوزات و تفريقها إلى أماكن أخرى.
وثانياً: لإنهاء تدريس القرآن و التفسير و العلوم العقليّة و الفلسفيّة من الحوزات الشيعيّة، ليصبح علماؤهم كالأشاعرة من العامّة و الأخباريّين و الحشويّين يهتمّون بالظواهر في حين يبقي المحتوي و اللبّ خالياً فارغاً؛ و ذلك لئلّا يثور عليهم أحد أو يقف بوجههم، و لتهبط قدرة و إمكانيّة البحث و التفكير و المسائل العقليّة و العلميّة في الحوزات، فتتغلّب عليها خططهم و دسائسهم المموّهة. و إلى هذا اليوم فقد استؤصل بحث التفسير و البحوث القرآنيّة و بحوث الحكمة و الفلسفة و العرفان استئصالًا تامّاً، فصار العلماء الأعلام و الفضلاء العظام يعدّون تدريسها من الامور الوضيعة.
وقد نقل المرحوم آية الله الشيخ مرتضي المطهريّ للحقير عن سماحة آية الله الحاجّ السيّد رضى الشيرازيّ دامت بركاته أنّه قال: قلتُ لأحد المراجع العظام المشهورين و المعروفين في إحدى سفراتي الأخيرة إلى العتبات المقدّسة: لماذا لا تشرعون بدرس التفسير في الحوزة؟ قال: ليس ذلك ممكناً مع وضعنا و موقعنا الحاليّ! قلتُ: لماذا كان ذلك ممكنا للعلّامة الطباطبائيّ حين جعله درساً رسميّاً في حوزة قم العلميّة؟!
قال: لقد قام بتضحية حين فعل ذلك (أي أنّه ضحّى بنفسه)! اوردُ هذا المطلب هنا ليعلم الجميع أ نّ أساس مدرسة التشيّع قائم على التضحية، و على العلماء العظام و الفضلاء الفخام أن يكونوا السبّاقين في هذا المضمار؛ و إلّا فما الفرق بين حوزاتنا مع حوزات العامّة من الحنابلة و الشافعيّة و المالكيّة و الحنفيّة الذين يُشغِلون أنفسهم بالأبحاث و المسائل بدون الاستناد إلى مسألة الولاية؟
                        الروح المجرد، ص: 117
نعم، لقد قال السيّد هاشم: كنت مشغولًا في كربلاء بالدروس العلميّة و غيرها من دروس الطلبة، فقرأتُ للسيوطيّ، و حين تشرّفت بالذهاب إلى النجف للدراسة و التحصيل لأنهل من محضر السيّد المرحوم القاضي و لأقوم بخدمة المدرسة (المدرسة الهنديّة: محلّ إقامة المرحوم القاضيّ)؛ و ما إن دخلتُ هناك حتّى رأيت أمامي سيّداً جالساً فأحسست بانجذاب نحوه بلا إرادة، فذهبتُ و سلّمت عليه و قبّلت يده، فقال المرحوم القاضي: لقد وصلتَ!
ثمّ اتّخذتُ غرفة هناك لنفسي، و منذ ذلك الوقت و من هناك فتح باب المراودة مع السيّد. و صادف أن كانت غرفة السيّد الحدّاد هي غرفة المرحوم السيّد بحر العلوم. و كان المرحوم القاضي يتردّد عليها كثيراً؛ و كان يقول له أحياناً: أخلِ الغرفة الليلة! اريد أن أبيت هنا لوحدي!
و كان السيّد يقول: و بعد عودتي إلى كربلاء كنت أتشرّف أحياناً بالذهاب إلى النجف في أوقات الزيارة و غيرها- غير الأوقات التي كان السيّد القاضي يتشرّف فيها بالمجي‏ء إلى كربلاء- فذهبتُ يوماً من كربلاء إلى النجف الأشرف و أخذتُ للسيّد خمسين فلساً (أي درهماً واحداً،
                        الروح المجرد، ص: 118
و الدينار العراقيّ عشرون درهماً) و كان منزل السيّد في محلّة الجُدَيْدَة (الشارع الثاني) و كان الجوّ حارّاً، فعلمتُ أ نّ السيّد نائم، و قلتُ في نفسي: إن طرقتُ الباب استيقظ السيّد. فجلستُ على الأرض جنب باب البيت، و كنت تعباً لدرجة أ نّ النعاس سرعان ما غلبني. ثمّ استيقظت بعد ساعة فرأيت السيّد و قد خرج إلى و لاطفني كثيراً و دعاني إلى الدخول، ثمّ قدّمت له الخمسين فلساً و عدتُ.
                        التعبّد الشديد للسيّد هاشم بالاحكام الشرعيّة

و لقد كان المرحوم الحدّاد متعبِّداً كثيراً بالنسبة لُامور الشرع و للأحكام الفقهيّة. و كان يستحيل أن يعلم بحكم فلا يعمل به، حتّى العمل بالمستحبّات و ترك المكروهات. و كان بنفسه مصباحاً نورانيّاً من العلم، إلّا أنّه كان- من باب حفظ الشرع و أحكامه- يقلّد غيره في الامور العباديّة و الأحكام الجزئيّة.
و لقد كنّا في ذلك السفر مجتمعين فوق سطح البيت ليلة عرفة مع جمع من أهالي النجف و الكاظميّة و بغداد و السماوة و غيرها، و كان ذلك بعد صلاتَي المغرب و العشاء، و كانوا يريدون تقديم طعام بسيط لينصرف الحضور إلى الاشتغال بأعمال ليلة عرفة و الزيارة؛ فقال السيّد في بهجة لا تفوقها بهجة: إ نّ السيّد فلاناً هو سيّد الطائفتَينِ! (أي: أنّه مجتهد في أمر الشريعة، و مجتهد في أمر الطريقة كذلك). ثمّ قال: لقد كنتُ حتّى الآن اقلِّدُ سماحة الشيخ هادي الشيخ زين العابدين [1] لكنّي ساقلِّده من الآن‏
__________________________________________________
1- كان المرحوم الشيخ زين العابدين المرنديّ من أعاظم العلماء و المجتهدين و الزهّاد المعروفين في النجف الأشرف، و له ثلاثة أولاد، الشيخ مهدي، و الشيخ هادي، و الشيخ هداية الله. و جميعهم من أعاظم العلماء و المجتهدين و المشهورين بالقداسة و التقوى. و قد التقى الحقير حين كنتُ في النجف الأشرف بولدَيهِ الجليلين، لكنّي حُرِمت من فيض محضر الشيخ هداية الله لعودته إلى مرند و تبريز. و باعتبار أن الشيخ زين العابدين كان يبقى غالباً في المنزل و كان يتوجّب على أحد أبنائه البقاء في المنزل أيضاً للقيام باحتياجات المنزل، فقد هيّأ لنفسه و لأولاده الثلاثة عباءتين فقط؛ فالعباءة في المنزل غير ضروريّة، أمّا خارج المنزل فلم يكن بالإمكان أن يخرج أكثر من اثنين، و كان ذلك من شدّة زهد ذلك المرحوم و ورعه. لذا فحين توفّي و أرادوا حمل جنازته فقد كان هناك عباءتان لاثنين من أولاده و لم تكن هناك عباءة للثالث.
وعلى كلّ حال فلقد أنجب هؤلاء الأفاضل الأجلّاء و الحمد و المنّة للّه أولاداً علماء فضلاء و مؤدّبين و هم: الحاجّ الشيخ محمّد المرنديّ ابن الشيخ مهدي، و الشيخ موسى و الشيخ عبّاس و الشيخ كاظم أبناء الشيخ هادي، و الشيخ أبو القاسم الغرويّ المرنديّ ابن الشيخ هدآية الله؛ و كلّ هؤلاء من الآيات و الحجج الإلهيّة أدام الله بقاءهم.
                        الروح المجرد، ص: 119
فصاعداً!
و كان السيّد ينتقد الحقير أحياناً في المسائل الشرعيّة، فقد قال مرّة: حين تمسح على الرجلين، ضعهما على مكان ثابت كي يكون مسحهما جيّداً؛ لأنّ المسح عليهما معلّقتين ربما غفل خلاله الإنسان، و عند ذلك فلن تكون اليدين هما اللتين تمسحان القدمين، بل ستكون القدمان هما اللتين تمسحان اليدين. و قال مرّة أخرى: إ نّ البصاق في المرحاض أمر مكروه، لأنّه من أجزاء بدن المؤمن و ينبغي ألا يختلط بالقاذورات؛ أمّا النخامة التي تلقى من فم الإنسان في المرحاض فليست كذلك، لأنّها ليست من أجزاء البدن بل هي من الفضلات، فلا إشكال في خلطها بسائر القاذورات.
و قال مرّة أخرى: من الأفضل للمرء حين يعطي صدقاته المستحبّة و الخيريّة، أن تكون من أزكى أقسام أمواله؛ فتقسيم المال و إعطاء قسمه المشكوك للفقراء و للسادة خاصّة أمر غير مقبول.
و حصل ذلك في وقت كان الحقير قد أرسل حديثاً مالًا بعنوان الصدقة المستحبّة و الامور الخيريّة إلى أحد السادة، و كنتُ قد استبقيتُ‏
                        الروح المجرد، ص: 120
لنفسي وقت التعيين تلك القسمة الزاكية بلا شبهة، و اخترت القسم المشتبه و مجهول الحال لإرساله لذلك السيّد؛ و يعلم الله أنّه لم يطّلع على ذلك غيري سواه سبحانه. فقام السيّد بهذا الإخبار باطّلاعي و تنبيهي لهذا الأمر المستور، و أعطى كذلك الأمر بالعمل بفحوى الآية القرآنيّة الكريمة:
لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حتّى تُنفِقُوا ممّا تُحِبُّونَ. [1]
و صادف مرّة أن وضعتُ قدراً من الثلج في قدح فيه لبن رائب ممزوج بالماء، و أردتُ تقديمه إليه فقمتُ بمزجه و خلطه بسبّابتي لتبريده قبل تقديمه؛ فلم يشربه و قال: استعمل الملعقة للمزج، فأحرى باليد أن تكون ملوّثة! ثمّ قال: لقد اتّفق لي نفس هذا الأمر مع المرحوم السيّد (القاضي) فقد تشرّف يوماً بالمجي‏ء إلى كربلاء و تفضّل بالمجي‏ء إلى دكّاني، فأعددتُ له قدحاً من اللبن الرائب الممزوج بالماء و وضعت فيه الثلج ثمّ مزجته بإصبعي لُاقدّمه له، فاستنكف عن شربه و قال: لا تمزج بإصبعك!
                        تفسير السيّد هاشم لفائدة حقيقة اللعن في دعاء علقمة

و في يوم تاسوعاء جرى قراءة زيارة عاشوراء في منزله، ثمّ اللعن مائة مرّة والسلام مائة مرّة، ثمّ قُرئ دعاء علقمة بعد صلاة الزيارة؛ فسأل أحد الحاضرين في نهاية الدعاء: كيف تنسجم هذه اللعنات الشديدة الأكيدة بهذه المضامين المختلفة مع روح الإمام الصادق عليه السلام التي كانت مركزاً و منبعاً للرحمة و المحبة؟! ففي هذا الدعاء الذي يبدأ ب- «يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ يَا مُجِيبَ دَعْوَةِ المُضْطَرِّينَ» يصل إلى القول:
اللهُمَّ مَنْ أرَادَنِي بِسُوءٍ فَأرِدْهُ! وَ مَنْ كَادَنِي فَكِدْهُ! وَ اصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُ وَ مَكْرَهُ وَ بَأسَهُ وَ أمَانِيَّهُ! وَ امْنَعْهُ عَنِّي كَيْفَ شِئْتَ وَ أنَّى شِئْتَ!
__________________________________________________
 [1]- الآية 92، من السورة 3: آل عمران.
                        الروح المجرد، ص: 121
اللهُمَّ اشْغَلْهُ عَنِّي بِفَقْرٍ لَا تَجْبُرُهُ، وَ بِبَلَاءٍ لَا تَسْتُرُهُ، وَ بِفَاقَةٍ لَا تَسُدُّهَا، وَ بِسُقْمٍ لَا تُعَافِيهِ، وَ ذُلٍّ لَا تُعِزُّهُ، وَ بِمَسْكَنَةٍ لَا تَجْبُرُهَا!
اللهُمَّ اضْرِبْ بِالذُّلِّ نَصْبَ عَيْنَيْهِ، وَ أدْخِلْ عَلَيهِ الفَقْرَ في مَنْزِلِهِ، وَ العِلَّةَ وَ السُّقْمَ في بَدَنِهِ؛ حتّى تَشْغَلَهُ عَنِّي بِشُغْلٍ شَاغِلٍ لَا فَرَاغَ لَهُ، وَ أنْسِهِ ذِكْرِي كَمَا أنْسَيْتَهُ ذِكْرَكَ، وَ خُذْ عَنِّي بِسَمْعِهِ وَ بَصَرِهِ وَ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ وَ رِجْلِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَمِيعِ جَوَارِحِهِ، وَ أدْخِلْ عَلَيهِ في جَمِيعِ ذَلِكَ السُّقْمَ، وَ لَا تَشْفِهِ حتّى تَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُ شُغْلًا شَاغِلًا بِهِ عَنِّي وَ عَنْ ذِكْرِي. وَ اكْفِنِي مَا لَا يَكْفِي سِوَاكَ؛ فَإنَّكَ الكَافِي لَا كَافِيَ سِوَاكَ، وَ مُفَرِّجٌ لَا مُفَرِّجَ سِوَاكَ، وَ مُغِيثٌ لَا مُغِيثَ سِوَاكَ، وَ جَارٌ لَا جَارَ سِوَاكَ. [1]
                        كلامه: لا يرشح عن أولياء الله شرّ؛ ولعنهم للاعداء نفع يعود على الاعداء

فكان جوابه على ذلك: أ نّ هذا الدعاء كلّه طلب للخير و الرحمة، بالرغم من ظهوره بعبارات و كلمات اللعن. و بشكل عامّ فإنّ جميع اللعنات التي ترد على لسان الله تعالى أو على لسان النبيّ و الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين هي كلّها خير محض؛ فلا ينضح عن الله و أوليائه غير الخير.
و تنصبّ جميع هذه اللعنات على الشخص المعتدي، لا المؤمن المتّقي المشغول بعمله؛ فمهما اعطي ذلك المعتدي الظالم عمراً و صحّة و قدرة، صرفها جميعاً في إضراره بالآخرين و اعتدائه على حرمة المظلومين. و من ثمّ فإنّ في تحديد سلامته و قدرته و حياته دفعاً للضرر، و دفع الضرر ليس في الحقيقة إلّا نفعاً. و قد يخيّل إلينا بهذه النظرة الطبيعيّة
__________________________________________________
 [1]- دعاء عَلْقَمة المعروف، في «زاد المعاد» للمجلسيّ، ص 305، الباب 6، في أعمال شهر المحرّم، طبعة الحاجّ الشيخ فضل الله نوري، بخطّ مصطفي نجم آبادي، سنة 1321.
                        الروح المجرد، ص: 122
و الحسّيّة أ نّ الخير هو على الدوام في السلامة و القدرة و الحياة، من دون ملاحظة لواقعيّة الحياة في النيّة الحسنة أو السيّئة و في الإرادة الحسنة أو السيّئة و في الاعتقاد الحسن أو السيّئ، لكن الأمر ليس كذلك إذ ينبغي أيضاً ملاحظة المعنى؛ فالحياة خير للإنسان حين تكون منشأ خير لنفسه و للآخرين، أمّا لو صارت منشأً للشرّ، فإنّ إطالة عمره و زيادة سلامته و صحّته و زيادة قدرته ستؤدّي إلى ظلمه لنفسه و تعدّيه و تجاوزه على حرمة البشريّة، و لا خير في تلك الحياة هنا، و لا يصدق عليها عنوان الخير. 1
__________________________________________________
1- ينقل في هامش «مفاتيح الجنان» ص 351 و 352، كتاب الباقيات الصالحات، الفصل 4، من الباب 4، الطبعة الإسلاميّة، بخطّ طاهر خوش نويس، سنة 1379 ه-. ق دعاء عن الإمام محمّد التقيّ عليه السلام أ نّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله كان يقول حين يفرغ من الصلاة:
اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَ مَا أخَّرْتُ وَ مَا أسْرَرْتُ وَ مَا أعْلَنْتُ وَ إسْرَافِي على نَفْسِي وَ مَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي. اللهُمَّ أنْتَ المُقَدِّمُ وَ المُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ بِعِلْمِكَ الغَيْبَ وَ بِقُدْرَتِكَ على الخَلْقِ أجْمَعينَ. مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي فَأحْيِنِي، وَ تَوَفَّنِي إذَا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْراً لِي- إلى آخر الدعاء.
وورد في «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» ضمن دعاء الاستخارة و هو الدعاء الثالث و الثلاثين: وَ ألْهِمْنَا الانْقِيَادَ لِمَا أ وْرَدْتَ عَلَينَا مِن مَشيَّتِكَ حتّى لَا نُحِبَّ تَأخِيرَ مَا عَجَّلْتَ وَ لَا تَعْجِيلَ مَا أخَّرْتَ وَ لَا نُكْرِهَ مَا أحْبَبْتَ وَ لَا نَتَخَيَّرَ مَا كَرِهْتَ.
وفي نهاية دعاء أبي حمزة الثماليّ الذي يُقرأ في أسحار شهر رمضان (و الوارد في «مفاتيح الجنان»: ص 198) يضرع الإمام زين العابدين عليه السلام في فناء ربّ العزّة: اللهُمَّ إنِّي أسْألُكَ إيمَاناً تُبَاشِرُ بِهِ قَلْبِي، وَ يَقيناً حتّى أعْلَمَ أنَّهُ لَنْ يُصيبَنِي إلَّا مَا كَتَبْتَ لِي، وَ رَضِّنِي مِنَ العَيْشِ بِمَا قَسَمْتَ لِي، يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
ومعنى «إيمَاناً تُبَاشِرُ بِهِ قَلْبِي»: يا ربّ لتكن لك أنت المباشرة في قلبي و في اختيار اموري، و اسلبْ بهذه المباشرة- بلا رادع أو مانع من إرادتي و اختياري أو إرادة و اختيار آخر- كلّ إرادة لي في محيط الأعمال و الأفعال و الصفات و العقائد و القصد و النيّة، و اجعل إرادتك بدل إرادتي، أي لتكن إرادتي عين إرادتك. و هو معنى عظيم في مقام التوحيد و درجة عالية عرفانيّة.
والجدير بالملاحظة هنا أ نّ هذه الفقرات المشتركة تتكرّر في جميع أدعية العشر الثالثة من ليالي شهر رمضان المبارك، بالرغم من اختلاف الأدعية في مضامينها الاخرى: لَكَ الأسْمَاءُ الحُسْنَى وَ الأمْثَالُ العُلْيَا وَ الكِبْرِيَاءُ وَ الآلَاءُ، أسْألُكَ أنْ تُصَلِّيَ على مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ أ نْ تَجْعَلَ اسْمِي في هَذِهِ اللَّيْلَةِ في السُّعَدَاءِ وَ رُوحِي مَعَ الشُّهَدَاءِ وَ إحْسَانِي في عِلِّيَّينَ وَ إسَاءَتِي مَغْفُورَةً، وَ أنْ تَهَبَ لِي يَقِيناً تُبَاشِرُ بِهِ قَلْبِي وَ إيمَاناً يُذْهِبُ الشَّكَّ عَنِّي وَ رَضِّنِي بِمَا قَسَمْتَ لِي. ( «مفاتيح الجنان» ص 228 إلى 233) كما ورد في «الصحيفة العلويّة الثانية» ص 52، الطبعة الحجريّة، عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام: اللهُمَّ مُنَّ عَلَيّ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ وَ التَّفْوِيضِ إلَيْكَ وَ الرِّضَا بِقَدَرِكَ وَ التَّسْلِيمِ لأمْرِكَ، حتّى لَا احِبُّ تَعْجِيلَ مَا أخَّرْتَ وَ لَا تَأخِيرَ مَا عَجَّلْتَ؛ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
                        الروح المجرد، ص: 123
و في هذه الحال و في هذا الفرض، فإنّ ضدّه سيكون خيراً. أي أ نّ الموت و المرض و المسكنة لهذا الرجل خير، و لو لم يكن هو أو الآخرون يعلمون بذلك. فحين يستأصل مبضع الجرّاح عضواً فاسداً، فإنّه يقوم بعمل خير و لو استلزم المرض و التخدير و إراقة دم المريض و تناول الأدوية المرّة؛ و على الرغم من أ نّ ذلك العضو الفاسد يعتبر نفسه صالحاً، إلّا أ نّ الحقيقة ليست كذلك.
و ليست الرحمة مقرونة دائماً بالسمنة و تناول الأغذية الدسمة و الحلويّات، بل هي أحياناً في الهزال و تحمل الجوع و القنوع بتناول الأطعمة البسيطة. و من شأن الطفل أن يطلب من أبيه الحلويّات، لكنّ أباه العطوف لا يعطيه ذلك دوماً بل يعطيه منها أحياناً و بقدر معيّن، فذلك خير للطفل و رحمة. كما أنّه يُعطيه أحياناً المسهل و المرّ، و يزرقه أحياناً اخرى بحقن الدواء، و يُرقده على سرير المستشفى لإجراء عمليّة جراحيّة، و يمنعه من اللعب؛ فلا يرضى الطفل بهذا الاسلوب، لأنّه يرغب دوماً في الركض و اللعب و تناول الحلوى، لذا فإنّه ينتقد أباه لحصره و لمنعه له‏
                        الروح المجرد، ص: 124
و لربّما خطر في باله أ نّ أباه عدوّ له و شخص يتعمّد إيذاءه! لكنّ حقيقة الأمر و واقعه غير ذلك، فلقد كانت جميع تصرّفات الأب خيراً للطفل و رحمة لأنّها توجب حياته و لو جهل الطفل ذلك و لم يرضاه. لذا نرى الأب ينزعج كثيراً ممّا ينتاب طفله من سوء، فيستعصي عليه النوم و يقف في المستشفى ساهراً عند سرير طفله و هو ما يمثِّل عين الرحمة.
و قد تتجلّى الرحمة أحياناً في مجال الإعطاء و تقديم الحلوى، و أحياناً في المنع و زرق المغذّي في الوريد، و كلاهما رحمة بمظهرَينِ و كيفيتَينِ.
و لقد جاء الأنبياء و الأئمّة من أجل الحياة الحقيقيّة و السعادة الخالدة للبشر و تركّزت رسالاتهم و انصبّت في هذا المجال، لذا فأينما تعارضت الحياة الواقعيّة الحقيقيّة مع الحياة الطبيعيّة، و الصحّة الحقيقيّة مع الصحّة المجازيّة، و القدرة الأصيلة مع القدرة الاعتباريّة؛ غضّوا عن الثانية لحفظ الأولى. فهم يُصدرون الأمر بالجهاد فيقتلون المشركين و الكفّار و يؤدّبون المنافقين و يعاقبون المجرمين، و هي جميعاً خير لإيصال الشخص المعتدي و الظالم للهدف الإنسانيّ الرفيع.
كما أ نّ عرك الاذن للتأديب، و الإصابة بالإقعاد، و الفقر و الفاقة، و المرض و انحراف الصحّة هي خير جميعاً، لأنّها تنبّه الإنسان و تعيده لنفسه، و تقلّل من التمادي و الغرور للنفس الأمّارة و تمنح الإنسان أصالة، فهي خير و رحمة إذاً- انتهى مفاد و محصّل جواب السيّد.
                        دعاء «الصحيفة السجّاديّة» يشابه دعاء علقمة في لعن الكفّار

و يشاهد نظير هذا الدعاء في الكثير من الأدعية المرويّة عن الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، و من بينها دعاء الإمام زين العابدين و سيّد الساجدين عليّ بن الحسين عليهما السلام الوارد في «الصحيفة الكاملة» في شأن حرّاس و حَفَظَة ثغور الإسلام و المسلمين؛ فهو بعد أن يدعو لهم دعاء الخير و الرحمة مفصّلًا، يدعو في ساحة الربّ بشأن‏
                        الروح المجرد، ص: 125
أعدائهم الذين يواجهونهم:
اللهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ، وَ اقْلِمْ عَنْهُمْ أظْفَارَهُمْ، وَ فَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أسْلِحَتِهِمْ، وَ اخْلَعْ وَثَائِقَ أفْئِدَتِهِمْ، وَ بَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أزْوِدَتِهِمْ، وَ حَيِّرْهُمْ في سُبُلِهِمْ، وَ ضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَ اقْطَعْ عَنْهُمُ المددَ، وَ انْقُصْ مِنْهُمُ العَدَدَ، وَ امْلأ أفْئِدَتَهُمْ الرُّعْبَ، وَ اقْبِضْ أيْدِيَهُمْ عَنِ البَسْطِ، وَ اخْزِمْ ألْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَ شَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَ نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَ اقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ.
اللهُمَّ عَقِّمْ أرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَ يَبِّسْ أصْلَابَ رِجَالِهِمْ، وَ اقْطَعْ نَسْلَ دَوَابِّهِمْ وَ أنْعَامِهِمْ، لَا تَأذَنْ لِسَمَائِهِمْ في قَطْرٍ، وَ لَا لأرْضِهِمْ في نَبَاتٍ! [1]
و على كلّ حال، فلقد تشرّف الحقير في هذا السفر- كما فعل في السفر السابق- بالذهاب إلى النجف الأشرف أيّام عيد الغدير و أقمتُ هناك عشرة أيّام، لكنّ السيّد الحدّاد لم يتشرّف هذه المرّة بالمجي‏ء إلى النجف؛ ثمّ عدتُ إلى كربلاء فبقيتُ إلى ما بعد شهادة الإمام بثلاثة أيّام، و تشرّفت بعد ذلك بزيارة الكاظمين و سامرّاء بصحبة السيّد الحدّاد، ثمّ عدت إلى طهران في أوائل العشرة الثالثة من محرّم الحرام.
__________________________________________________
 [1]- الدعاء السابع و العشرون من دعائه عليه السلام لأهل الثغور: الفقرتان 5 و 6.
                        الروح المجرد، ص: 127
                        القِسْمُ الرَّابِعُ: السَّفَرُ الثَّالِثُ لِلْحَقِيرِ إلى العَتَبَاتِ المُقَدَّسَةِ سَنَةَ 1385 هِجْرِيَّة قَمَرِيَّة

                        الروح المجرد، ص: 129
السفر الثالث للحقير إلى العتبات المقدّسة
سنة 1385 هجريّة قمريّة
لقد كان محلّ نوم و استراحة عائلة السيّد الحدّاد و زوجات أبنائه في المنزل المستأجر الأخير خلال فصل الصيف منحصراً في سطح المنزل، فمن المعهود عند عرب النجف الأشرف و كربلاء المقدّسة أن يصعدوا في الليالي إلى سطوح منازلهم المسيّجة في فصل الصيف، ذلك لأنّ شدّة الحرّ تجبرهم على النوم في الأماكن المرتفعة المكشوفة و تجعل الغرف غير صالحة كأماكن للنوم و الاستراحة. و كنت مجبراً في سفري و حلولي على سماحة السيّد الحدّاد في منزله المستأجر هذا خلال فصل الربيع و أشهره الأخيرة على النوم مع سماحته على السطح ليلًا، فكانت النساء يرقدن في الغرف، و كنّ بالطبع يتحمّلن الأذى في ذلك، و كان السطح مكشوفاً لا يمكن تجزئته؛ لذا فقد قرّر الحقير أنّه من الأفضل أن تكون سفراتي الآتية للتشرّف بزيارة العتبات المقدّسة في فصل غير فصل الحرّ، كي لا يسبّب ذلك الأذى لأهل بيت السيّد و عائلته، و قد فاتحته بهذا الأمر فأيّد ذلك و أقرّه.
هذا من جهة، و من جهة أخرى فقد سمعتُ بنيّة السيّد على الذهاب لحجّ بيت الله الحرام هذه السنة، حيث يستوعب سفره شهرَي ذي القعدة و ذي الحجّة. و من ثمّ فقد اخترت وقوع السفر التالي في فصل الشتاء و ذلك للقيام بالزيارة الرجبيّة و الشعبانيّة، و هكذا تحرّكت نحو الكاظميّة قبل حلول شهر جمادي الآخرة لسنة 1385 هجريّة قمريّة بأيّام، حيث توقّفت‏
                        الروح المجرد، ص: 130
فيها عدّة أيّام لزيارة ذينك الإمامين الهمامين. ثمّ توجّهت صوب كربلاء و حللتُ في منزل سماحة السيّد الحدّاد فقضيت ليالي و أيّاماً في محضره المبارك.
                        سفر آية الله السيّد إبراهيم خسروشاهي ولقاؤه بالحدّاد قدّس الله نفسه‏

و قد شرَّفنا بالمجئ صباح أحد أيّام الزيارة الرجبيّة تلك، صديق الحقير الحميم و رفيقه الشفيق، النزيه الفاضل من أهل الفضل: سماحة آية الله السيّد إبراهيم خسروشاهي الكرمانشاهيّ أدام الله أيّام بركاته حيث قَدِمَ للالتقاء بالحقير و كذلك لزيارة سماحة الحاجّ السيّد الحدّاد ضمناً. و كنتُ جالساً في زاوية الغرفة و السيّد الحدّاد نائماً في الجانب الآخر من الغرفة يتردّد صوت أنفاسه في النوم بشكل واضح.
و كان الحقير قد بحث سابقاً بشكل مفصّل مع هذا الصديق الذي يفوق الأخ في عطفه، و الأكثر إخلاصاً من كلّ صاحب و صديق، و الأكثر خلوصاً و تنزّهاً عن أ يّ نوع من الشوائب و الأوهام بشأن عظمة سماحة السيّد الحدّاد و قدرته العلميّة و التوحيديّة و سعة علومه الملكوتيّة و وارداته القلبيّة، و الإجلال و الإكرام اللذين كانا يبديهما له الاستاذ الأعظم آية الله الحاجّ الميرزا علي آقا القاضي قدّس الله تربته.
و من ثمّ فقد دعوتُه بشكل جادّ إلى التبعيّة و التسليم مقابل ولاية السيّد الحدّاد، و قلت له: لقد طفتم عمراً باحثين عن المعارف الإلهيّة، و لم تتورّعوا عن بذل كلّ مسعى لكشف الحجب و للشهود العيانيّ، بل إ نّ السيّد الحدّاد يمثّل امنيتكم الكامنة في صدركم الشريف، فلقد بحثتم عن إنسان كامل تسلّمون أنفسكم إليه على يقين و بيّنة! فها هو ذا أمامكم نائماً في تلك الزاوية من الغرفة. و لقد تشرّفتم بالمجي‏ء إلى كربلاء عدّة أيّام، فتعالوا هنا و أنا معكم، و الأمل كبير إن شاء الله تعالى في أن تُقضى حوائجكم و تُحلّ مشاكلكم.
                        الروح المجرد، ص: 131
فقال: أخاف ألّا يكون هو من أبغي، و حينذاك سأتورّط في الأمر و لن يكون لي من طريق للنجاة و الخلاص.
قلتُ: لستم طفلًا قاصراً أو سفيهاً لتُخدعوا أو تضلّلوا، فأنتم بحمد الله و منّه من العلماء الذين لهم سابقتهم و فضلهم و لهم معرفتهم بالقرآن و بأخبار المعصومين عليهم السلام، و لقد درستم دروس الحكمة عند استاذنا العلّامة آية الله السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الشريفة، و فهمتم جيّداً «شرح منازل السائرين» و «شرح القيصري» و «الفتوحات المكّيّة» لمحيي الدين بن عربي، فليس مقبولًا مع كلّ هذه الامور أن تقولوا: إنّني اخدع، أو إنّني أتورّط في ورطة لا أمل في النجاة منها! إ نّ أحداً لا يُجبركم، كما أ نّ أحداً لا يدعوكم للتسليم لمحضره؛ بل تعالوا بأنفسكم كشخص عادي وسلوا عن مشكلاتكم بكلّ حرّيّة، ثمّ انظروا هل سيمكنه حلّها أم لا؟! اختبروه في قدرة التوحيد و الوصول إلى أعلى درجة اليقين، و انظروا هل تجدون فيه- و هو الرجل العادي الحدّاد صانع النعل- ما قرأتموه و سمعتموه أم لا؟
فإن لم تجدوا ذلك، فإنّ شيئاً لن يضيركم و ستستمرّون على انتهاج طريقكم السابق، و إذا ما وجدتموه حائزاً للشرائط التي تتطلبونها بأنفسكم فالتزموا بتعاليمه. على أنّه ليس بالشخص الذي يفتح بابه لكلّ وارد، و أنتم ترون انزواءه و عزلته و أ نّ أحداً لا يطرق باب بيته، و أنّه غير متفرِّغ لمثل هذه الامور؛ ولكن بناءً على العطف و المحبّة اللذان أبداهما للحقير بكرمه و لطفه، فسأ توسّط في الأمر و أطلب منه ذلك، و إذا ما وافق فلربّما ستجدون ضالّتكم المنشودة هنا!
إن هذا الرجل استاذ كامل خبير في العلوم العرفانيّة و المشاهدات الربّانيّة، فهو يرفض الكثير من كلمات محيي الدين بن عربي و ينقد
                        الروح المجرد، ص: 132
اصولها و يُبَيِّن جانب الخطأ لديه، فسلوه عن أعقد مطالب «منظومة» الحاجّ السبزواريّ و «أسفار» الآخوند و أقوال «شرح فصوص الحكم» و «مصباح الانس» و «شرح النصوص» الأشدّ إبهاماً و غموضاً، و انظروا من أ يّ افق سيطلع، و كيف سيجيب و يعدّد مطالبها الصحيحة و السقيمة! هذا الرجل لا ينام، بل هو يقظ على الدوام، يقظ في النوم و الصحو؛ نومه و استيقاظه على حدّ سواء، فهو يغمض عينيه لكنّ قلبه صاحٍ متيقِّظ، فما الذي تريدونه أكثر من هذا؟!
قال: لو كان كما تقول، فها هو الآن نائم، فسله عن أمرٍ ما لنرى كيف يفهم في نومه و يجيب!
قلتُ: لا مانع عندي من السؤال، ولكن أيليق برجل عظيم كهذا أن نُهبطه من ذلك العلو الملكوتيّ الروحيّ و المحو في جمال الحقّ، فنسأل منه مطلباً للامتحان فقط؟! إنّني لم يسبق لي أن قمت بمثل هذه الاختبارات؛ و ما هو مشهود لديّ قد تحقّق بنفسه تلقائيّاً.
و أخيراً استيقظ السيّد و ذهب لتجديد وضوئه، ثمّ عاد بعد أن توضّأ و جلسنا لتناول طعام الفطور. فقال لي السيّد إبراهيم: لا مجال لديّ الآن، فأنا في زيارة لكربلاء لعدّة أيّام- ربّما لأنّه كان يرافق جماعة في سفره- و سيبقى ذلك إلى وقتٍ آخر إن شاء الله، عسى الله أن يوفّقني له.
و هكذا فقد انقضى ما حصل اليوم. فلمّا كان اليوم التالي استيقظ السيّد من النوم، فكان يتكلّم مع نفسه في الفراش: «يقال عنه: إنّه لا ينام. يقول: لا أذكرُ في جميع عمري أنّني بقيتُ ليلةً لم أنم فيها؛ فما الذي سيعود علينا لطفه؟ فهو ليس لنا!».
                        دعوة الحقير لآية الله السيّد إبراهيم لضرورة درك محضر آية الله الانصاريّ‏

و كان الحقير قد دعا هذا الصديق المكرّم- قبل دعوتي له للسيّد هاشم- إلى المرحوم آية الله الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ قدّس الله تربته‏
                        الروح المجرد، ص: 133
زمن حياته، و ألححتُ عليه بإصرار و قلت له: إ نّ ضالّتك عند هذا الرجل، فهو رجل إلهيّ ذو صفات إلهيّة، رجلٌ تخطّى نفسه و تجاوزها و فاز بدرجة المخلَصين.
و كان قد قبل دعوة الحقير يوماً و شرّفني بتناول طعام الغداء و كنت آنذاك في النجف الأشرف للتحصيل و الدرس. فجلسنا في السرداب المتعارف للمنزل الذي ابتاعه الحقير في محلّة العمارة جنب السور نتحدّث حول مقامات و كمالات المرحوم الأنصاريّ من وقت الغداء، أي بعد الفريضة لساعتين تقريباً. و كنتُ أعلم أن الحاجّ السيّد إبراهيم- شأنه شأن الحقير والهٌ قد أضناه التمزّق، فهو يبحث عن ضالّته المنشودة من سالف الأيّام، لذا فقد أحببتُ كثيراً أن أدعوه هو الآخر إلى انتهاج السلوك العمليّ و العرفانيّ للمرحوم آية الله الأنصاريّ و مشيه و منهجه.
فقال: أجل، لقد كتبتُ قبل عدّة سنوات من مدينة قم (محلّ سكناه و تحصيله) رسالةً إلى آية الله الأنصاريّ سألته فيها عن امور أردت معرفتها، فأجاب المرحوم الأنصاريّ على رسالتي بمحبّته و لطفه الوافر، و أشار فيها إلى أ نّ الطريق مفتوح؛ لكنّي تعلّلت بعد ذلك بعلل و لم اتابع الأمر لجهات عديدة.
منها: أنّه معروف في همدان بالتصوّف، و واضح أ نّ نهجنا و طريقتنا غير طريقة الصوفيّة و نهجهم.
و منها: أ نّ بعض علماء همدان و أئمّة الجماعة فيها ينتقده و لا يذكره بخير.
و منها: أ نّ السيّد... نقل أ نّ أحد أصحاب الأنصاريّ انتابته في جلسته حالة من التغيير و انقلاب الحال، فادّعى الوصل و مشاهدات العالم الربوبيّ، ثمّ عرضت له حالة تقيّؤ، فاستبان أ نّ انقلاب حاله و ادّعاءه الوصل‏
                        الروح المجرد، ص: 134
و المشاهدة كانا من الإفراط في الأكل و امتلاء معدته و أمعائه.
فقال الحقير: لقد رافقتُ المرحوم الأنصاريّ في النجف الأشرف شهرين كاملين، و صحبتُه في سفره إلى همدان لُاسبوعين كاملين شهدت فيها عن قرب حالاته و مقاماته و كمالاته و شدّة عبوديّته و عاينت حرصه المفرط على احترام الشريعة، و الذي كان بدرجة شديدة ربّما بدت أحياناً في نظر الحقير إفراطاً. ثمّ قصصتُ عليه عدّة قضايا و وقائع بالتفصيل.
و من ثمّ فإنّ جميع هذه الامور المنقولة عنه كذب محض و افتراء، فأوّلًا: إ نّ المرحوم الأنصاريّ يخالف بشدّة طريقة الصوفيّين، فقد كان يعدّ ذلك الطريق طريقاً لترقّي النفس و تقويتها لا طريقاً لفَناء النفس. و كان قد صرّح: أ نّ طريق التكامل يكمن في الإتيان بأعمال التقرّب سواءً كان لها ظهور أم لم يكن.
                        الرمي بالتصوّف هو حربة الوعّاظ غير المتّعظين في تحطيم العرفاء والعرفان‏

نعم، إ نّ في عرف العوامّ و المحصّلين الجهلة عندنا أنّهم يلقّبون بالصوفيّ كلّ من يصلّي صلوات النافلة الليليّة و النهاريّة و يقوم بالإتيان بالسجدات الطويلة و يسعى وراء الحلال، و يجتنب مجالس اللهو و الغِيبة و الكذب و أمثالها بشكل جادّ و حازم و يبتعد قدراً- لإصلاح نفسه- عن عامّة الناس من عبدة الدنيا. و ليس هذا إلّا من تعاسة و شقاء الوعّاظ غير المتّعظين، فكيف بالعوامّ من الناس!
ألم يدعوا المرحوم الآخوند الملّا حسين قُلي الهمدانيّ في النجف صوفيّاً؟! ألم يدعوا المرحوم الحاجّ الميرزا علي آقا القاضي صوفيّاً؟! ألم يسمّوا المرحوم الحاجّ الشيخ محمّد حسين الإصفهانيّ الكمبانيّ صوفيّاً، و قاموا بإحراق رسالته المطبوعة في المطبعة بهذه التهمة؟! ألم يعدّوا المرحوم الحاجّ الميرزا جواد آقا التبريزيّ الملكيّ صوفيّاً؟!
فيا أيّها العزيز! ينبغي عدم الإصغاء لكلام المغرضين و المعاندين‏
                        الروح المجرد، ص: 135
و اللاهثين وراء الدنيا و عَبدتها و لو تلبّسوا بلباس أهل العلم، و إلّا فاتتك القافلة إلى يوم القيامة!
و ثانياً: إ نّ الأعاظم من علماء همدان، كالحاجّ الشيخ هادي التألّهيّ، و الآقا الآخوند ملّا علي المعصوميّ الهمدانيّ و أمثالهما يمتدحونه بالقدسيّة و الورع المفرط. فلماذا لا تسألون هؤلاء عن أحوال الأنصاريّ ليصفونه لكم بمرتبة تفوق مرتبة العدالة و لتتّضح لكم- بإقرارهم و عجزهم عن إدراك معلومات الأنصاريّ لقصور معلوماتهم- كمالاتُه بشكل مشهود؟!
و ثالثاً: إ نّ تلامذة و مريدي المرحوم الأنصاريّ في همدان لا يتعدّون عدّة أشخاص و هذه هي أسماؤهم: الحاجّ محمّد البيك زاده، الحاجّ السيّد أحمد الحسينيّ، الحاجّ غلام حسين السبزواريّ، غلام حسين الهمايونيّ، محمّد حسن البياتيّ، إبراهيم إسلاميّة، و محسن بينا؛ أمّا بيان أحوالهم و ترجمتهم فهو أشهر من الشمس في سطوعها، فلأيّ شخص منهم حيكت هذه القصّة المختلقة فوصلت إلى قم؛ حتّى ينتقد السيّد... على المنبر المرحومَ الأنصاريّ تلويحاً و كناية بما هو أبلغ من التصريح؟!
فلا تتصوّروا أ نّ اتّهام أشخاص كهؤلاء أمر يسير! و سيكون لكلّ منهم موقف يوم القيامة يعترضون فيه سبيل من اتّهمهم و يستوقفونه فلا يدعونه يتقدّم خطوةً واحدة ما لم يُجِب على ما فعل، و ليست تلك المواقف إلّا مواقف جزئيّة قبل الوصول إلى المواقف الكلّيّة و العظيمة.
فقال الحاجّ السيّد إبراهيم: أخشى أن أذهب إلى بيته في همدان فيصبح نفس ذهابي- و لو كان للتحقيق و استجلاء الأمر و الحقيقة- في حال تبيّن خلاف الأمر، تأييداً للباطل؛ لأنّ ذهابي و أنا في لباس أهل العلم و زيّهم ليس كذهاب شخص عاديّ و لربّما صار لا سمح الله إمضاءً و تأييداً للباطل و نشراً له.
                        الروح المجرد، ص: 136
فقلت: فاذهبوا ليلًا! اذهبوا سرّاً! ضعوا عباءتكم فوق رأسكم و اذهبوا! و لا تذهبوا إلى منزله بل إلى منزل رفقائه الذين يذهب إليهم! فلقد وضع الله سبحانه طرقاً متعدّدة. مَنْ طَلَبَ شَيْئاً وَ جَدَّ وَجَدَ، وَ مَنْ قَرَعَ باباً وَ لَجَّ وَلَجَ. [1]
                        استخارة آية الله السيّد إبراهيم في الرجوع لمحضر آية الله الانصاريّ‏

و بعد اللتيّا و اللتي قال لي: استخيروا لي! فاستخرت الله فطالعتنا هذه الآية:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ- يَا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إ نَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَ تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَ مَا هُم بِسُكَارَى وَ لَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ. [2]
و لم يقل لي لأيّ شي‏ء كانت الاستخارة لكنّها كانت بعد تلك المذاكرة، فحدستُ أنّها كانت للذهاب إلى همدان و الحضور عند المرحوم الأنصاريّ قدّس الله نفسه. ثمّ قرأت عليه الآية فقال: من الواضح أنّها سيّئة. و انقطع الحديث بيننا بشأن آية الله الأنصاريّ إلى اليوم.
و قد ذكرتُ ذلك الأمر بعد مرور سنة إلى أحد السالكين [3] فقال: لقد
__________________________________________________
 [1]- أورد في «نهج الفصاحة» لأبي القاسم باينده، ص 622، الحديث 3062، طبعة انتشارات جاويدان، سنة 1367 ه-؛ و في «وهج الفصاحة» لعلاء الدين الأعلميّ، ص 594، الحديث 2977، الطبعة الأولى من منشورات مؤسّسة الأعلميّ، بيروت، 1408، من كلمات رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال: مَنْ طَلَبَ شَيْئاً وَ جَدَّ وَجَدَ. و أورد في «نهج الفصاحة» ص 622، الحديث 3065؛ و في «وهج الفصاحة» ص 602، الحديث 3080، أنّه صلّى الله عليه وآله قال: مَنْ يُدِمْ قَرْعَ البَابِ يُوشِكُ أ نْ يُفْتَحَ لَهُ.
 [2]- الآيتان 1 و 2، من السورة 22: الحجّ.
 [3]- و هو سماحة ثقة الإسلام العالم المعروف و صديقنا العزيز المتوفّي: السيّد عبد الله الفاطميّ الشيرازيّ رضوان الله عليه.
                        الروح المجرد، ص: 137
أخطأ في ذلك، فهذه الآية لهذا القصد جيّدة جدّاً؛ فهي تدلّ على أنّه لو ذهب إلى همدان و حضر عند آية الله الأنصاريّ لقامت قيامته و لزلزلت الزلزلة الملكوتيّة و الجذبات الجلاليّة أركان وجوده، و لأفنت كلّ أثر من شوائب الوجود و الوجود المجازيّ المُعار فيه، و لوصل إلى مقام الفناء المطلق، فهذا هو تعبير هذه الآية و تفسيرها لهذا الغرض و الهدف.
                        زهد و ورع آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ محمّد زاده قدّس الله نفسه‏

و من الجدير بالذكر أ نّ الصديق العزيز آية الله الحاجّ السيّد إبراهيم كان سابقاً في قم من التلامذة و المريدين المخلصين لآية الله المرحوم الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ محمّد زادة قدّس الله نفسه، و المجدّين في دروسه الأخلاقيّة و نهجه و طريقته، و كان ذلك المرحوم عالماً جليلًا متخلّقاً و مؤدّباً بالآداب الشرعيّة. و كان قد اختار الابتعاد في قم عن أبناء الدنيا في فترة اشتداد الانحراف و العمى في عهد البهلويّ الكبير، فذهب إلى آخر المدينة و بنى بيتاً قرب مزارع الرمّان. و كانت له حكايات شيّقة في التوسّل بإمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه، و دعوة طلّاب قم و معاشريه إلى تجنّب آداب الكفر، و الابتعاد عن الحضارة الغربيّة الضالّة و المضلّة. و كان رجلًا مجاهداً صريح اللهجة، و له علاقة صداقة حميمة و قرابة صميميّة و كمال المراودة و المعرفة مع الفقيد السعيد القائد الكبير للثورة الإسلاميّة آية الله الخمينيّ قدّس الله نفسه. 1
__________________________________________________
1- كان عمر الحاجّ الشيخ عبّاس يزيد كثيراً على عمر آية الله الخمينيّ و آية الله الگلبايگاني، و كان يقول: في الوقت الذي كنت أنا و الحاجّ السيّد أحمد الخونساريّ و الحاجّ الشيخ محمّد علي الأراكيّ نذهب إلى درس الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائريّ، كان آية الله الگلبايگانيّ و آية الله الخمينيّ يدرسان «المطوّل». و كان يقول: رأيتُ في النوم ذات ليلة أنّي ذهبت إلى وليمة، فلمّا أمسكت بلقمة رأيت السيّد الگلبايگانيّ قد أسرع فأخذها و تناولها. ثمّ قال بعد ذلك: و تأويل ذلك أنّه سيصبح مرجعاً. و كان اسم والد آية الله الحاجّ الشيخ/
                        الروح المجرد، ص: 138
/__________________________________________________
 عبّاس الطهرانيّ: الحاجّ محمّد السيگاريّ.
ويلزم هنا بيان تفسير رؤياه و توضيحه لئلّا يتصوّر بعض من غير ذوي المعرفة أ نّ هدف مرجعيّة الشيعة التي تمثّل النيابة الحقّة عن مقام الإمامة، هو الوصول إلى زخارف الدنيا و التمتّع باللذائذ الحيوانيّة، بل إ نّ الأمر على العكس من ذلك تماماً، و ليس للمراجع الحقّة الشيعيّة إلّا تحمّل ثقل المشكلات و الصعوبات و الأذى. كلّ ذلك إبقاءً للشريعة الحقّة منزّهة عن تلاعب أيدي الأجانب و المخالفين، و لتربية تلامذة حقيقيّين و واقعيّين للنهج الجعفريّ و لإحياء علوم التشيّع و آدابه عند الشيعة.
ولقد كان المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ سالكاً و مراقباً لنفسه، فهذه النِّعَم الدنيويّة و اللذائذ المادّيّة و الشهويّة تتجسّم للسالكين في طريق الله في عالم النوم و الرؤيا بشكل آخر، و هكذا الأمر بالنسبة للنِّعَم المعنويّة و الروحيّة و نِعم الجنّة التي تتجلّى لهم بصورة أخرى غير تلك التي يراها الناس العاديّين في منامهم. و بعبارة أخرى فإنّ تعبير رؤيا السالكين يختلف عن تعبير نفس الرؤيا لغير السالكين. فالسالك يطوي الطريق إلى الله، و هذا الطريق عبارة عن العبور من النفس الأمّارة و ترك المشتهيات المادّيّة و اللذائذ الشهويّة للّه و في الله. و ترك هذه الامور- الذي عين أعمال التقرّب إلى الله- يتمثّل للسالك في النوم بصورة طعام لذيذ و فاكهة حلوة و بشكل روضة و بُستان و حشائش خضراء و ماء صاف زلال.
أي إ نّ السالك حين يمتنع اليوم- مثلًا- عن تناول تفّاحة فيعطيها ليتيم، يرى في رؤياه أنّه منهمك بتناول تفّاحة كبيرة ذات لون و مذاق لطيف، و إذا ما قدّم السالك أحياناً لذّة نفسه فإنّه يرى تلك الليلة كأنّ عقرباً تلسعه. لذا فإنّ رؤيا المريدين و السالكين إلى الله هي بأجمعها رؤيا جميلة مفرحة و مُبهجة، على الرغم من ابتلائهم في الدنيا بأشدّ أنواع الفقر و المسكنة و تحمّلهم لأقسى أذى الناس.
ويستبين بهذا التوضيح المختصر الذي قُدّم هنا أ نّ مائدة طعام الوليمة التي حضرها الحاجّ الشيخ عبّاس و السيّد الگلبايگانيّ كانت مائدة معنويّة و مائدة من الجنّة، أي أنّها جزاء و ثواب المرارات و تحمّل المشاكل في الدنيا في سبيل الله، حيث توفّي الحاجّ الشيخ عبّاس قبل ثلاثين سنة فلم يصبح مرجعاً، و يتفضّل الله على السيّد الگلبايگانيّ بطول العمر لينهض بهذا العب‏ء. و لقد كانت أتعاب آية الله الگلبايگانيّ لإبقاء الحوزة المقدّسة العلميّة في قم و الحفاظ عليها أتعاباً تستحقّ التقدير، و لقد بيّن بنفسه للحقير بعضها قبل عصر الثورة و بعده في مجلس لم يضمّ سوانا نحن الاثنين.
وقد قام الحقير بتدوين بعضها في كتاباتي الشخصيّة. إ نّ نفس آية الله الگلبايگانيّ تمتاز بالصفاء و التألّق إلى حد كبير، فهو حين يشخّص الحقّ يبقى عليه فلا يتجاوزه أو يتعدّاه. أبقاه الله و أيّده ذخراً للإسلام و المسلمين و عافاه الله من مرضه بمحمّد و آله الطيّبين.
                        الروح المجرد، ص: 139
و قد استفاد الحقير من المحضر الشريف لآية الله الطهرانيّ، و كنتُ أذهب في بعض أيّام الجمعة حين تشرّفت بالتحصيل و الدرس في الحوزة المباركة في قم، بمعيّة السيّد إبراهيم فنستفيد من محضره المنوّر، و يفيض علينا من مواعظه و نصائحه. و كان له بعض الحالات الروحيّة التي تكشف عن نوع من الاتّصال، لكنّ الآلام الشديدة التي كان يعاني منها في بطنه و قرحة المعدة التي أقعدته لسنين متمادية من جهة، و المحافظة على الأسرار من جهة أخرى، لم تكونا لتسمحان له أن يكشف الستار عن الطلعة التي تختفي وراءه و يبيِّن الحقائق كما فعل العلّامة الطباطبائيّ و آية الله الأنصاريّ.
و كان يقول: لقد وجدتُ جوهرة في خَرِبَة، فلستُ أعلم طريق العثور عليها. و لقد سأله الحقير يوماً عن التوحيد الأفعاليّ فقال: صَهْ! هذا من الأسرار! و اعلمْ إجمالًا أ نّ جميع الامور من الله تعالى!
و هكذا فلم تتوثّق بيننا علاقة الاستاذ و التلميذ، لكنّني كنت أتشرّف بالحضور عنده بوصفه عالماً جليلًا مخلصاً ذا فؤاد كليل، و له حُرقة و لوعة خاصّة عند قراءة دعاء الندبة. و حقّاً فلم يكن ليمنع شيئاً أو يبخل بشي‏ء، و لقد صار الكثير من مواعظه يتصدّر برنامج حياة الحقير حتّى اليوم. رحمة الله عليه رحمة واسعة.
لقد كان سماحة آية الله العلّامة فقط هو استاذ الحقير في السلوك‏
                        الروح المجرد، ص: 140
حين كنت مشغولًا بالتحصيل في الحوزة الطيّبة في قم، و كان يعطي تعليمات خاصّة و يشكّل جلسات تضمّ عدّة أفراد. لكنّ السيّد إبراهيم كان له علاقة قلبيّة و التفات أكثر إلى آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ، فكان يطيعه في جميع الامور طاعة محضة، و كان منزله آنذاك مع المرحومة والدته المكرّمة فقط، و كان قرب منزل الحاجّ الشيخ عبّاس، و كان يتردّد على محضره في أوقات الصلاة و في لقاءات خاصّة.
و على هذا الأساس و على أثر شدّة علاقته به، فقد صار أخيراً صهراً له؛ بَيدَ أ نّ الحقير لم يكن قد أوكل نفسه إلى ذلك المرحوم، فكنت أمتلك الحرّيّة أكثر في البحث عن الحقيقة، لذا فقد دعوتُه في النجف و كربلاء زمن حياة المرحوم الشيخ عبّاس لمتابعة المرحوم الأنصاريّ، لكنّ دعوتي له لمتابعة سماحة السيّد هاشم كانت بعد ارتحال ذلك المرحوم.
و لقد كان آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ يحبّ الحقير كما يحبّ ولده، كما هو الظاهر من رسالته التي أرسلها إلى النجف الأشرف جواباً لرسالة الحقير. 1
                        رسالة الشيخ عبّاس الطهرانيّ للحقير و استعانة بآية الله الگلبايگاني‏

__________________________________________________
1- ترجمة الرسالة: باسمه تعالى‏
يا إنسان العين و عين الإنسان، و يا قرّة عيني و ثمرة فؤادي! عزيزي، إ نّ عدم استحقاق الحقير الغارق في التقصير لما أظهرتموه كتابةً و غياباً كان ملاك تأخير الرسالة، و لقد صار في الحقيقة حجاباً للحقير و مانعاً من إبداء الجواب و بيان المودّة و الإخلاص.
فتأمّل في أطوار النفس و استعذ بالله تعالى من شرّها و اقرأ إحدى المناجاة المسمّاة بخمسة عشر المبدوّة بهذه الكلمات: اللهُمَّ إلَيْكَ أشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أمَّارَةً- إلى آخرها، في خلواتك مع كمال الانكسار أعاذنا الله من مكائدها و أطوارها.
وإجمالًا، بلِّغْ خالص سلامي إلى المحضر المقدّس لسماحة آية الله الگلبايگانيّ دامت بركاته و قل له على لسان الحقير: لمْ أنسَ كلمة تفضّلتم بها أثناء تحرّككم من النجف خارج المدينة وقت التوديع، قُلتم: أثملتَ من كأسٍ واحدة! فيا سيّدي! ليتني كنتُ/
                        الروح المجرد، ص: 141
/__________________________________________________
 رشفت كأساً واحدة!
         مجلس تمام گشت و به آخر رسيد عمر             ما همچنان به اول وصلش هم نرسيده‏ايم‏
             حيران شدم حيران شدم مجنون وسرگردان شدم             از هر رهى گويد بيا دنبال من، دنبال من‏
             چون مى روم دنبال او، نى زو خبر، نى زو اثر             از هر درى گويد بيا كاينجا منم، كاينجا منم‏
             چون سوى آن در مى روم، بينم كه گردد بسته در



يقول: «لقد انتهى المجلس و بلغ العمر آخره، لكنّنا لم نحظَ بعدُ بأول وصاله.
صرتُ حائراً، حائراً و مجنوناً والهاً، فهو يناديني من كلّ صوب: تعال و اتبعني و اتبعني.
وحين أتبعه أجد أن لا أثر منه و لا خبر؛ يقول من كلّ باب: تعال ها أناذا، ها أناذا.
وحين أخطو صوب ذلك الباب أراه قد أغلق».
إنّ الله خِلوٌ عن خلقه- إلى آخره، بائن عن خلقه- إلى آخره.
         يا ربّ اين ترك پرى چهره عجب عيّارى است             كه كند تازه ز وصلش غم هجران مرا


يقول: «فيا ربّ عجباً من هذا التركيّ ذي القسمات الملائكيّة، كم هو حاذق حين يجعل أوّلَ وصاله الخوفَ من هجرانه».
تبدو و تخفى! إذن فالوصل محال، و هجرانه خيال.
قولوا له: سيّدي! اقسم عليك بحقّ جدّتك الزهراء المرضيّة سلام الله عليها أن تعينني!
لم يكن المنزل بعيداً في السفر الروحانيّ. بل إ نّ العمر بلغ منتهاه، و ها هي شمسه تودّع شرفات السطوح؛ يَا حَسْرَتَا على مَا فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللهِ.
         پهلوى آب و تشنه لب از روى اختيار             در جنب يار و منصرف از بوس و از كنار
             يا ربّ مباد كس چو من خستة فكار             غرق وصال، سوخته جان از فراق يار


يقول: «أجلسُ عند الماء بشفةٍ ظمأى اختياراً، و أكونُ قرب الحبيب فأعرض عن التقبيل و الخلوة.
فعسى أن لا يكون هناك- يا ربّ- أحدٌ مثلي هدّه الفكر، غارقاً في الوصال محترقَ الروح من فراق الحبيب».
ومع خوفي من أن لا يكون لذلك السيّد الجليل تلك العنايات السابقة لغلبة الأحكام الظاهريّة، و أن يكون قد انشغل بمقام الأحوط فالأحوط، و أن يكون أولاده المحترمون قد شغلوه؛ على أ نّ مقام «جمع الجمع» يزيل التنافي. فجميع الوجود أمْرٌ بَيْنَ الأمْرَيْنِ.
وعلى أيّة حال أرجو الدعاء و أطلب المعونة و المدد، و أنتظر آثارها الغيبيّة التلغرافيّة، و سأخبركم بالنتيجة إن شاء الله تعالى (... إلى آخر رسالته). الأحقر عبّاس الطهرانيّ.
وكذلك فقد كتب صهره السيّد إبراهيم ضمن رسالته للحقير في النجف الأشرف:
                  گر چراغى نور شمعى را كشيد
 هر كه ديد آن نور را پس شمع ديد


يقول: «لو رشف المصباحُ نورَ الشمعة، فإنّ من يرى ذلك النور فقد رأى الشمعة».
وكتب كذلك:
         دردا كه در ديار دلم درد يار نيست             و آن دل كه درد يار ندارد ديار نيست‏


يقول: «الغُصّة في أ نّ ديار قلبي خالية من ألم الحبيب، فذاك القلب الذي لا ألم للحبيب فيه ليس دياراً».
                        الروح المجرد، ص: 142
و لقد كان باب المكاتبة و المراودة بيننا و بينه مفتوحاً بحمد الله و منّه حتّى آخر عمره الشريف، و كان الحقير، حتّى بعد العودة من النجف إلى طهران، يتشرّف أحياناً بالحضور و الاستفادة من محضره في قم أو في طهران في منزل المرحوم الحاجّ الميرزا أبي القاسم العطّار؛ لكن علاقة الاستاذ و التلميذ التي كانت تربط بين الحقير و بين سماحة العلّامة و سماحة الأنصاريّ و سماحة الحدّاد كانت شيئاً آخراً. و كان الحقير يحرص على دعوة الحاجّ السيّد إبراهيم إلى هذه المائدة، فقد كانت روابط الخلوص و الإخلاص عند الحقير تستوجب أن لا يجلس الحقير لوحده إلى هذه المائدة.
                        الروح المجرد، ص: 143
نعم، لقد عاد الصديق آية الله الحاجّ السيّد إبراهيم أدام الله أيّام سعادته بعد رحيل المرحوم الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ رضوان الله عليه، إلى موطنه «باختران» مدّة فاشتغل في مسجد «الصاحب» هناك بإقامة صلوات الجماعة و التدريس و ترويج الدين، ثمّ ذهب إلى طهران فانصرف إلى وظائف إرشاد الناس و هدايتهم في مسجد بمنطقة «قلهك» ثمّ في «دزاشيب نياوران» في مسجد «المهدي»، حيث يمرّ عليه حتّى الآن ما يقرب من خمسة عشر عاماً اشتغل فيها بإقامة صلوات الجماعة و الإرشاد و التبليغ و التدريس و الترويج للدين. و حقّاً فإنّه عالم حرّ و ذو فهم عال و دقّة نظر، كما أنّه حاضر البديهة، حميم في علاقته بالدين و الشريعة محزون لأجلها؛ لذا فقد ابتلي بأمراض مختلفة كضعف الأعصاب و قرحة المعدة و لا يزال يعاني منها السنين الطويلة. حفظه الله إن شاء الله و عافاه من جميع الآفات و العاهات و أبقاه الله ذخراً للإسلام و المسلمين بمحمّد و آله الطيّبين الطاهرين.
                        كان الحاجّ السيّد هاشم ما فوق الافق، وكان قد تخطّى الجزئيّة إلى الكلّيّة

لقد كان سماحة الحاجّ السيّد هاشم يعيش في افق آخر، و إذا ما أوفينا التعبير حقّه فقد كان يعيش في اللا افق، حيث تخطّى التعيّن، و اجتاز الاسم و الصفة، و صار جامعاً لجميع أسماء الحقّ المتعالي و صفاته بنحو أتمّ و أكمل، و صار مورداً للتجلّيات الذاتيّة الوحدانيّة القهّاريّة، و لقد طوى الأسفار الأربعة تماماً و وصل إلى مقام الإنسان الكامل. 1
__________________________________________________
1- نقل في «تفسير روح البيان» في تفسير آية الكرسي، ج 1، ص 399، الطبعة العثمانيّة، عدّة أبيات في هذا المجال عن الملّا الجاميّ:
         گرچه لا داشت تيرگيّ عدم             دارد إلّا فروغ نور قدم‏
             گر چه لا داشت كان كفر و جحود             هست إلّا كليد گنج شهود
             چون كند لا بساط كثرت طى             دهد إلّا ز جام وحدت مِى‏
             آن رهاند ز نقش بيش و كمت             وين رساند به وحدت قدمت‏
             تا نسازى حجاب كثرت دور             ندهد آفتاب وحدت نور
             دائم آن آفتاب تابان است             از حجاب تو از تو پنهان است‏
             گر برون آئى از حجاب توئى             مرتفع گردد از ميانه دوئى‏
             در زمين و زمان و كون و مكان             همه او بينى آشكار و نهان‏


يقول: «مع أ نّ «لا» كان فيها ظلمة العدم، لكنّ «إلّا» لها سطوع نور القِدَم.
ومع أ نّ «لا» كانت معدن الكفر و الجحود، فإنّ «إلّا» مفتاح كنز الشهود.
وبينما تطوي «لا» بساط الكثرة، تسقي «إلّا» كأس شراب الوحدة.
تلك تُحرّرك من دور الزيادة و النقصان، و هذه تُوصلك إلى وحدة القِدَم.
فإن لم تُزحْ عنك حجاب الكثرة، فلن تمنحك شمس الوحدة نورها.
فتلك الشمس ساطعة على الدوام، و لكنّها مستورة عنك بحجابك.
ولو خطوت خارج حجاب أنانيّتك، لارتفعت الثنويّة من البين.
وستراه حينئذٍ في الأرض و الزمان و الكون و المكان، ظاهراً و مستتراً».
                        الروح المجرد، ص: 144
و لم يكن أيّاً من القوى و الاستعدادات في جميع المنازل و المراحل السلوكيّة من الملكوت الأسفل و الملكوت الأعلى و طيّ أدوار عالم اللاهوت و التجوال فيها، إلّا وكان قد تحقّق في وجوده القيّم و وصل إلى الفعليّة.
و لقد كان السيّد هاشم إنساناً له الفعليّة التامّة في جميع زوايا الحياة المعنويّة و نواحيها.
و لقد كان الموت و الحياة، الصحّة و السقم، الفقر و الغناء، مشاهدة الصور المعنويّة و عدمها، و الجنّة و الجحيم، بالنسبة له على حدّ سواء؛ فقد كان رجلًا إلهيّاً انقطعت عنه جميع العلائق و النسب في جميع العوالم إلّا نسبة الله تعالى.
و لقد كنّا معه طيلة ثمان و عشرين سنة من اللقاءات و وصل الليل بالنهار و الأسفار، حيث حسبتُ مجموع الأوقات المتفرّقة التي كنت فيها
                        الروح المجرد، ص: 145
معه ليلًا و نهاراً بشكل دقيق، فكانت لو ضممناها إلى بعضها سنتين كاملتين؛ لم اشاهده طيلتها يرجو أحداً أبداً، لم أره يسأل أحداً أن يدعو له، و لم يسأل غيره شيئاً أبداً، كأن يقول له: ادعُ لي أن تكون عاقبة أمري خيراً، أو أن تُغفر ذنوبي، أو أن يوصلني الله إلى هدفي، كلّا لم أرَ منه شيئاً من ذلك أبداً و مطلقاً، لا تلك الامور و لا أمثالها. إذ كيف يسأل هذه المعاني امرؤ هو نفسه في مُنتهى الدرجة من الفقر و العبوديّة، و ليس له مقابل الحقّ الجليل إلا العبوديّة و التخلّي عن الإرادة و الاختيار و فقدان الآمال و الأماني؟!
و من البيِّن أ نّ التجلّيات الربوبيّة و المظهريّة التامّة للأسماء الجماليّة و الجلاليّة للحق تعالى هي من لوازم هذه العبوديّة التي لا تنفكّ عنها.
لقد كان الحاجّ السيّد هاشم رجلًا وصل من الجزئيّة إلى الكلّيّة، فلم يكن لينظر بعدُ إلى الكثرات، بل كان محيطاً و مهيمناً و مسيطراً على الكثرات. و لم يكن له في جميع عمره كلام ينبع من مجاملة من المجاملات المعهودة المتداولة، أو وفق مصلحة، كما لن يكن يُظهِر في إجابته لأحد التواضع و الانكسار المتعارف الذي لا ينطبق مع الواقع أبداً، فلم يكن لينبس بجملة أو كلمة من باب التواضع و التذلّل و الانكسار، و ذلك لأنّها كانت بأجمعها- طبقاً لحاله و مقامه- مجازاً و خلافاً للواقع. إذ كان قد وصل إلى مقام لا يحتاج إلى التلفّظ بهذه الجُمل صدقاً أو حسب المصالح العامّة.
                        كان الحاجّ السيّد هاشم عبداً للّه بما في الكلمة من معنى‏

و لقد كان عبداً للّه بما في الكلمة من معنى. لذا فقد كان من الخطأ أن يبحث عن شي‏ء في هذا المجال أو يريده أو يطلبه، ذلك لأنّ نفسه قد استقرّت في مقام أرفع و في افق أرحب و في ذروة أمنع ينظر منها إلى جميع كائنات و مخلوقات الحقّ المتعالي، و لقد كان ناظراً من ذلك المقام المنيع و شاهداً على نفسه و على غيره، فهو مظهر التوحيد، مظهر لا إله إلّا الله، مظهر لا هو إلّا هو.
                        الروح المجرد، ص: 146
و قد ذكرنا أنّه كان يقول: ما أشبهني بقشّة تبن تدور في فضاءٍ لا يتناهى، بلا اختيار منّي أو إرادة، و إنّني أخرج أحياناً من نفسي كالحيّة التي تلقي بجلدها، فليس في إلّا هذا الجِلد.
أتعلمون ما الذي كان يريد قوله في هذه الجملة القصيرة؟!
إ نّ الحيّات تبدّل جلودها كلّ سنة بشكل طبيعيّ، أي أنّها تخرج من جِلدها السابق، و إذا ما نظرتم إلى ذلك الجلد لرأيتم حيّة كاملة لها رأس و بدن و ذيل، كما أ نّ لون جسمها و نقوشه و تعرّجاته يماثل ما كان للحيّة السابقة، و لربّما يتصوّر الإنسان في البدء أ نّ هذا الجلد حيّة حقيقيّة، لكنّه حين يخطو إلى الأمام و يضع يده عليه يتّضح أنّه لم يكن إلّا جلداً و أ نّ الحيّة قد خرجت منه.
لقد كان سماحة الحدّاد يقول: إ نّ مثَلي كذلك، فلقد كنت أتخطّى نفسي و أخرج منها فأذهب إلى مكان آخر.
أي: أنّني- أنا الذي خرجت منها- الحدّاد بجميع شؤونه من البدن و الأفعال و الأعمال و الذهن و الفعل و كلّ الآثار و لوازمها، مع أنّها موجودة و تقوم بأعمالها الطبيعيّة كالعبادات و المعاملات و الاتّصالات و النوم و الأكل و العلوم الذهنيّة التفكيريّة و العلوم العقليّة الكلّيّة و العلوم القلبيّة المشاهديّة، و بدون أيّة ذرّة من التغيّر، فهي بأجمعها موجودة في مكانها، لكنّني لم أعد موجوداً فيها؛ لقد خرجت منها. أي إ نّ جميع هذا البدن و آثاره و جميع علومه الذهنيّة و العقليّة و القلبيّة و آثارها و جميع قدراته و جميع أنحاء حياته تصبح كجلد الحيّة، و ليست بأجمعها مقابل حقيقتي إلا جلداً فقط، في حين أ نّ حقيقتي التي يُقال لها «أنا» في مكانٍ آخر.
فأين ذلك المكان الآخر يا تُرى؟! من المسلّم أن يكون مكاناً أفضل و أعلى و أرقى من الجزئيّة و الكلّيّة التي هي موطن البدن و المثال و العقل،
                        الروح المجرد، ص: 147
هناك كلّيّة تفوق جميع الكلّيّات، و تجرّد يفوق التجرّدات، و بساطة أفضل من جميع البساطات؛ مكان لا يتناهى مدّةً و شدّة و عدّة بما لا يتناهى.
                        كان الحاجّ السيّد هاشم ظهورَ ومظهرَ كلمة «لا هو إلّا هو»

هناك عالم الفناء المطلق و الاندكاك في ذات الحقّ المتعالي جلّت عظمته، هناك مقام العبوديّة المطلقة، العبوديّة التي قُدّمت على الرسالة في التشهّد فورد: وَ أشْهَدُ أ نَّ محمّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ. هناك الإحاطة بجميع النشآت و عوالم الملك و الملكوت، لا أن يكون العبد هناك مثل الله، فهذا التعبير تعبير خاطئ، إذ ليس- مع وجود ذات القهّار الأحد- من معنى لِمِثل و شبه و نظير، ليس هناك إلّا الله تعالى و لا شي‏ء سواه. و هذا هو التعبير الصحيح؛ هناك: الله «موجود» و حسب، و العبد «فناء» و حسب، هناك ظهور و مظهر لا هو إلّا هو. 1
__________________________________________________
1- ما أجمل و أبلغ ما أوفي العارف الجليل الشيخ محمود الشبستريّ هذه الحقيقة حقّها حين قال:
سؤال:
         چرا مخلوق را گويند واصل؟             سلوك و سير او چون گشت حاصل؟


جواب‏
         وصال حقّ ز خلقيّت جدائيست             زخود بيگانه گشتن آشنائى است‏
             چو ممكن گرد إمكان برفشاند             بجز واجب دگر چيزى نماند
             وجود هر دو عالم چون خيال است             كه در وقت بقا عين زوال است‏
             نه مخلوق است آن كو گشت واصل             نگويد اين سخن را مرد كامل‏
             عدم كى راه يابد اندرين باب             چه نسبت خاك را با ربّ ارباب؟
             عدم چبود كه با حقّ واصل آيد             و زو سير و سلوكى حاصل آيد
             تو معدوم و عدم پيوسته ساكن             به واجب كى رسد معدوم ممكن؟
             اگر جانت شود زين معنى آگاه             بگوئى در زمان: أستغفر الله‏
             ندارد هيچ جوهر بى عرض عين             عرض چبود و لايبقى زمانَيْن‏
             حكيمى كاندرين فنّ كرد تصنيف             به طول وعرض وعمقش كرد تعريف‏
/
                        الروح المجرد، ص: 148
/__________________________________________________
          هيولا چيست جز معدوم مطلق             كه مى گردد بدو صورت محقّق‏
             چه صورت بي‏هيولا در قدم نيست             هيولا نيز بى او جز عدم نيست‏
             شده اجسام عالم زين دو معدوم             كه جز معدوم از ايشان نيست معلوم‏
             ببين ماهيّتش را بي‏كم و بيش             نه موجود و نه معدوم است در خويش‏
             نظر كن در حقيقت سوى إمكان             كه او بي‏هستى آمد عين نقصان‏
             وجود اندر كمال خويش سارى است             تعيّن‏ها امور اعتبارى است‏
             امور اعتبارى نيست موجود             عدد بسيار يك چيز است معدود
             جهان را نيست هستى جز مجازى             سراسر كار او لهو است و بازي‏


 ( «گلشن راز» خط عماد أردبيلى، سنة 1333، ص 43 إلى 45).
سؤال:
يقول: «لماذا يقال للمخلوق واصلًا؟ كيف حصل له السير و السلوك؟».
الجواب:
يقول: «ذلك لأنّ وصال الحقّ انفكاك عن الخلقة، و الوصول إلى إنكار الذات هو المعرفة.
ولو نفض الممكن ذرّات الإمكان و غباره، فلن يبقى شي‏ء إلّا الواجب.
إنّ وجود كلا العالمَينِ خيال، فهما في بقائهما ليسا إلّا محض الزوال.
وليس مخلوقاً ذلك الذي تمكّن من الوصول، فهذا الكلام لا يدّعيه الرجل الكامل.
وأنّى للعدم أن يجد سبيلًا إلى داخل هذا الباب، و ما نسبة التراب إلى ربّ الأرباب؟!
وما هو العدم حتّى يصل إلى الحقّ، و ليحصل منه السير و السلوك؟
أنت معدوم، و العدم ساكن على الدوام، فمتى يصل المعدوم الممكن إلى الواجب؟!
وإذا ما أيقنَتْ روحك هذا المعنى، فقل على الفور: أستغفر الله!
ليس للجوهر الذي لا عَرَض له عينيّة؛ و ما العرض حين لا يبقى زمانَينِ؟
لقد عرّفه الحكيم الذي صنّف في هذا الفنّ، بالطول و العرض و العمق.
وليست الهيولى إلّا المعدوم المطلق، الذي تتحقّق الصورة ببساطته.
ذلك لأنّ الصورة لا قِدَم لها بلا هيولى، و كذا الهيولى بدون الصورة ليست إلّا عدماً.
صارت أجسام العالمين معدومة بسبب هذين الاثنين، و صار لا يُعلم منها إلّا عدمها.
فانظر ماهيّتها بلا زيادة و لا نقصان، فهي في حدّ ذاتها لا موجودة و لا معدومة.
وانظر إلى حقيقة الإمكان، فهو بلا وجود محض النقصان.
إنّ الوجود سارٍ في ذات كماله، أمّا التعيّنات فهي امور اعتباريّة.
والامور الاعتباريّة ليست موجودة، كما أ نّ الأعداد كثيرة لكنّ المعدود واحد.
وليس للعالم وجود إلّا مجازاً، و ليس كلّ ما يدور فيه إلّا لهواً و لعباً».
                        الروح المجرد، ص: 149
                        مواعظ وإرشادات الحاجّ السيّد هاشم التي صدرت من الافق الرفيع‏

و لقد كانت إشارات السيّد الحدّاد و دلالاته كلّها من هذا القبيل، أي أنّه كان يستعين و يستهدي بافق الوحدانيّة لا من غطاء وجوده هو.
قال يوماً للحقير: أيّها السيّد محمّد الحسين! أنت مشغول جداً! أي أ نّ لك الخواطر المتوالية و المشوّشة!
و لقد كان كلاماً عجيباً! فقد كان للحقير في تلك الساعة كما ذكر، الخواطر النفسيّة التي تتعب الذهن و ترهقه، و لم يكن لأحد إلّا الله اطّلاع على أفكاري.
و كان يقول: تعامل مع الله في كلّ حال! أي: اجعل معاملتك لخلق الله معاملة مع الله. إذ إنّه ينبغي الالتفات إلى أ نّ العيال و الأولاد و الجار و الشريك و مأمومي المسجد كلّهم مظاهر الباري تعالى.
و كان يقول: لو تخاصمتَ مع الناس أو مع أولادك فليكن ذلك بشكل صوريّ لا يلحقك منه أذى و لا يحيق بهم الضرر، فلو خاصمتهم بجدّ فإنّ ذلك سيلحق الأذى بالطرفين؛ و العصبيّة و الجدّيّة تضرّك و تضرّ الطرف المقابل.
كان يقول: أتفرّ من الناس كي لا يصيبك أذاهم، أو كي لا يصيبهم أذاك؟! إ نّ الاحتمال الثاني هو الجيّد لا الأوّل، و أفضل منهما أن لا تراهم و لا ترى نفسك!
                        الروح المجرد، ص: 150
و كان يوصي: عوّدْ أولادَك و أهل بيتك أن يبقوا مستيقظين فيما بين الطلوعَينِ.
و كان يقول: إ نّ الخواطر على أربعة أقسام:
الأوّل: إلهيّة، و هي الخواطر التي تصرف الإنسان عن نفسه و توجّهه تجاه ربّه و تدعوه إلى قربه.
الثاني: شيطانيّة، و هي الخواطر التي تجعل الإنسان غافلًا عن الله، و تثير في قلبه الغضب و الحقد و الجشع و الحسد.
الثالث: ملكوتيّة، و هي الخواطر التي تقود الإنسان إلى العبادة و التقوي.
و الرابع: نفسانيّة، و هي الخواطر التي تدعو الإنسان إلى زينة الدنيا و إلى الشهوات.

Tidak ada komentar:

Posting Komentar