Pages

Selasa, 18 Oktober 2011

ma'rifatullah Allamah Thaba'thabai 76-160


إن الإنسان يعرف الكثير من الموجودات، فهو يعرف الشجرة و الحيوان و الأفراد من أنواع جنسه، مع أن تلك الأشياء منفصلة عن الإنسان مختلفة عنه في كثير من النواحي، و هو أمر بديهيّ و معروف، إلّا أن الإنسان يعلم بها و يتعرّف عليها بهذه البساطة. فكيف تسنّي له ذلك؟
لقد توصّل الحكماء الأفاضل إلى إنشاء قانون مفاده:
                        قاعدة: لا يعرف شي‏ء شيئاً إلّا بما هو فيه منه‏

لَا يَعْرِفُ شَيْ‏ءٌ شَيْئَاً إلَّا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْهُ.
فحين أعلَمُ بوجود حيوان، كالخروف مثلًا، فما مقدار ما أستطيع الحصول عليه من المعرفة بهذا الخروف؟! بنفس الكمّ الموجود من الخروف في ذاتي شخصيّاً. فما الموجود من الخروف في ذاتي؟ هل هي الحيوانيّة، أم الإحساس؟ هل هي الحركة بالإرادة، أم الجسميّة أم الجوهريّة؟ أم هل هي الآثار و الخواصّ و لوازمها (كالقوّة المغذّية أو النامية أو الدافعة أو المُوَلِّدة و غير ذلك) و إدراك الجزئيّات؟ ربّما كان ذلك الحسّ المشترك و معرفة الصديق و العدوّ (بما يتناسب و حصول المنفعة و اجتناب الضرر)؟ كلّ تلك الامور هي خواصّ و علائم مشتركة موزّعة بين شخصي و بين الخروف بالسويّة، و قد استفاد كلٌّ منّا مشتركاً من تلك الخواصّ‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 77
و العلائم.
و على الرغم من ذلك، فلا سبيل أمامي على الإطلاق للعِلم بالخروف من خلال الخصائص و المميّزات التي تفصلني عنه و تميّزني منه. لأنّه، و على افتراض حصولي على علم بالخروف، سواء كان ذلك العلم في «ما به الاشتراك» معه أم في «ما به الامتياز» عَنه، فعلى أساس تلك الفرضيّة، وجب أن أكون أنا الخروف عينه و الخروف هو عيني، و هذا ما يدعي بالخُلف. [1]
إن العلم بأيّ موجود و الاطّلاع عليه من قِبَل موجود آخر و التعرّف عليه يتأتّي من طريق معرفة الخواصّ المشتركة فيما بين هذين الموجودين و ليس من الامتيازات بينهما، فطريق العلم و العرفان مفتوح فقط في بيان المشتركات (أو الخواصّ المشتركة)، في حين أن الطريق نفسه مسدود عند البحث في المتميّزات، و إلّا كنّا جميعاً متشابهين، و لتشابهت كلّ الموجودات كذلك مع بعضها البعض. اي لو كان المجال (مجال العلم و المعرفة) مفتوحاً للبحث في جميع الجزئيّات و الكثرات، لأصبحت كلّ الموجودات بالضرورة موجوداً واحداً. و لكان الحصان و البقر و الجمل و الخروف و الطيور و الزواحف و الحيوانات البحريّة و الجوامد و النباتات و قبائل الجِنّ و الملائكة، موجوداً واحداً لا اختلاف يُذكَر بينها، فتزول بذلك الأسماء عن المسمّيات و تدعي كلّها باسم واحد.
و الآن، وجب أن نسأل أنفسنا نحن الذين نريد التعرّف على الله عزّ و جلّ، مَن هو الله الذي نروم التعرّف عليه؟! أين الله عزّ و جلّ و أين نحن؟ فنحن مخلوقون و هو الخالق، و نحن مرزوقون و هو الرازق، و نحن معلومون و هو العالِم، و نحن مقدور علينا و هو القادر، و نحن محكومون‏
__________________________________________________
1- اي ما يُستَدلُّ فيه بامتناع أحَد النَّقيضَيْنِ على تَحَقُّق الآخر. (م)
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 78
و هو الحاكم، و نحن مملوكون و هو المالك، و هكذا دواليك.
                        قابليّة الإنسان في الخلقة لا متناهية

الله عزّ و جلّ هو خالقنا، و هو الذي وهب لنا الجسد و الفكر و العقل، و منحنا الروح و النفس، و تلك كلّها مجرّد مظاهر من لدن الله. و الله ظاهر في ذاته عزّ و جلّ، و هو الذي فرض لنا الظهور و وهبنا إيّاه، لكنّ هذا الظهور إنّما هو ظهور مستند إلى ظهوره هو عزّ و جلّ.
ما مقدار القوّة و الاستطاعة التي نملكها حتى نعرف الله بواسطتها؟! أن ذلك المقدار هو مقدار وجود الله سبحانه في ذواتنا. و ما هو المقدار الموجود من ذات الله عزّ و جلّ فينا؟! ما المقدار من ظهور الله؟! ما المقدار من علم الله؟! ما المقدار من قدرة الله؟! و أخيراً، و ليس آخراً، ما المقدار من حياة الله؟!
لقد خلقنا الله عزّ و جلّ أحْسَنِ تَقْوِيمٍ [1] و أودع فينا من جميع الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و جعل أنفسنا من الهيولي (أي قابليّة محضة لأيّة فعليّة متصوّرة في طريق التقدّم و الكمال و التخلُّق بأسمائه و صفاته). و لم يجعل لنا حدّاً و لا حدوداً من جهة الاستعداد و القدرة على التقدّم و التكامل و الارتقاء في سُلّم اليقين و الوصول إلى العرفان و التوحيد و الفَناء في ذات الله المقدّسة و الرُّسوِّ عند صفاته الحسنى. فكما أنّه عزّ و جلّ غير متناهٍ ذاتاً و وجوداً و فعليّة في ذاته و أسمائه و صفاته و أفعاله، فقد جعلنا نحن كذلك لا متناهين قابليّة و إيجاداً و استعداداً.
و على هذا، فبإمكاننا التقدّم إلى قمّة درجات صفاته و أسمائه من جهة الإمكان و الاستعداد، و بإمكاننا أيضاً التخلُّق بجميع ذلك كلّه. أمّا من حيث الفعليّة و تحقّق تلك القابليّة و تمركزها حول الحياة و الصفات و الأفعال، فإنّ‏
__________________________________________________
1- مقتبس من الآية 4، من السورة 95: التين: لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 79
ذلك منوط بالحركة و الجهاد مع النفس و سلوك الطريق الواصل إلى الله سبحانه.
فإذا ابتعدنا في مسيرنا عن جلاله و نأيْنا بأنفسنا عن مسلكه، و خُضنا في هوي النفس الأمّارة بالسوء، و أعْتَمتِ الطبيعة و الكثرة أبصارنا، و أغشَت أدْنَي العَوَالِم نواظرنا، و لم نُعِر أهمّيّة تُذكَر لنور الوجود و البساطة في الإطلاق و التجرُّد، و صار جلُّ سعينا هو الإستمرار في السّير في طريق الابتعاد و العزلة، ففي هذه الحالة علينا أن نعترف أنّنا لم نعرف الله إلّا النزر اليسير، و أنّنا هدرنا قابليّاتنا و إمكاناتنا تحت شعار الجهل و الحماقة و الكسل، لأنّنا، و مع الأسف، لم ننتفع من وجود الآصرة بيننا و بين خالقنا على الوجه الصحيح.
و أمّا إذا صعد البشر سُلّماً أفضل، و رقي فيه درجة أعلى، و أبصر العالَم ببصيرته من زاوية أوسع، و جهد في إصلاح نفسه مُخلّصاً إيّاها من الكثرات و الموجودات المختلفة و المتفرّقة و المتشتّة و المتبدّلة، فيكون بذلك قد عرف الله عزَّ و جلّ بنفس ذلك المقدار، لأنّ الله العليّ الأعلى مثله كمَثَل الشمس الساطعة في كبد السماء التي تُضي‏ء العوالم كلّها، و لو أطرقنا برؤوسنا إلى الأسفل و أرخينا عيوننا إلى الأرض، فإنّنا لن نري إلّا نور تلك الشمس في هذا الرفّ أو ذاك، أو في هذا البستان أو ذاك. و أمّا إذا رفعنا رؤوسنا قليلًا إلى الأعلى و تخلّلت أبصارنا الغيوم و اخترقت ركام السحاب، فلا ريب في أنّنا سنري قدراً أكبر من نور الشمس لم نكن لنراه و نحن مطرقي الرؤوس، و سنبصر الافق بقعة منيرة و مكاناً ساطعاً بسبب ذلك النور. و لو عرجنا من هناك إلى مرتبة أعلى فسيكون بإمكاننا مشاهدة قرص الشمس المتوهِّج المُشِعِّ بنوره على وجه الأرض. و لو حالفنا الحظُّ و قدرنا على الصعود أكثر فأكثر فإنّنا سنري بعض الكريّات التي تُدعي‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 80
بالكواكب و السيّارات في منظومتنا الشمسيّة. و إن استمرّينا في العلوّ حتى اقتربنا من قرص الشمس فإنّنا سنطّلع على خصوصيّات أكثر لها كلّما سنحتْ لنا الفرصة من الاقتراب نحوها أكثر.
كذلك الحال مع الإنسان، فلأنّه موجود يعكس كلّ الصفات الجماليّة و الجلاليّة الربّانيّة، و هو أيضاً يمثّل الظهور التامّ و المظهر الأتمّ للّه عزّ و جلّ، فهو يمتلك قابليّة المرونة و المسير معاً. لكن، ما هي قابليّة مرونته و ما هو مسيره؟ هي تجاوزه للموجودات الباعثة على التفرّق و الفرقة، للهواجس النفسانيّة الباطلة التي تحيط بعقيدته، للخيالات و الأحلام المُمَوَّهة و الأفكار المُشوَّهة التي تذهب به بعيداً عن عالم القرب، فليست قابليّة المرونة إلّا مجموع ذلك، و لا شي‏ء غيرها.
يتحتّم على الإنسان أن يترفّع بمنزلته و ينأي بها عن ما يقتاته الحيوان في زريبته، و يأنف عن الناسوت و المادّة و يتنزّه عن أصالة الطبيعة. عليه أن لا يعير كلّ ذلك اهتماماً استقلاليّاً أو أهمّيّة كبيرة، و أن يتوجّه نحو عالم الملكوت و يوجّه فطرته إلى الوجهة الربّانيّة و ملكوتها، و أن يذوب و ينصهر فيها، و أن يصرخ بأعلى صوته:
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَ مَا أنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أن صَلَاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيَايَ وَ مَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذَلِكَ امِرْتُ وَ أنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. [1]
__________________________________________________
1- هذه الفقرة من الدعاء هي من ضمن الأدعية السبعة في التكبيرات الافتتاحيّة في الصلاة و التي ذكرها آية الله السيّد محمّد كاظم اليزديّ أعلى الله مقامه في كتاب «العروة الوثقي» في باب الصلاة، فصل (تكبيرة الإحرام)، و هو دعاء مأثور عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، مقتبس من آيتين من اي القرآن الكريم، الاولي: الآية 79، من السورة 6: الأنعام، و هي قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام إذ قال لقومه: إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ حَنِيفًا وَ مَآ أنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. و الثانية الآيتين 162 و 163، من نفس السورة، هي قوله تعالى خطاباً للنبيّ الأكرم يأمره أن يقول للمشركين: قُلْ أن صَلَاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيَايَ وَ مَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذَلِكَ امِرْتُ وَ أنَا أوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 81
فحينئذٍ، و كلّما كانت وجهة القلب تزداد ميلاناً إلى هذا النحو، سيقترب أكثر من عالَم القدس الذي هو عالَم الطهارة و التجرّد و النقاء و القدس، و سيزداد اتّصافاً بالصفات الإلهيّة، حتى يوفَّق بعد ذلك إلى لقاء حقيقيّ بربّه فيصبح حقّاً و واقعاً من العارفين بالله عزّ و جلّ. و هو لن يُوَفَّق للّقاء بخالقه و حسب، بل و كذلك سيتخلّق بأخلاق الحقّ تعالى بكلّ وجوده من قمّة رأسه حتى أخمص قَدَمَيْهِ.
                        إمكان معرفة الله التامّة و لقائه الحقيقيّ من قبل المقرّبين إلى ساحته‏

أن الذين يقولون: «لا يمكن للإنسان الوصول إلى معرفة الله سبحانه و لقائه، و هو عاجز عن الوصول إلى ذلك المقام المنيع و تلك الذروة الرفيعة و لا حتى إيجاد السبيل إلى ذلك، فإنّ هذه المقولة ستصحّ ما دام بقي من وجوده و كيانه شي‏ء يذكر، فهذا الوجود هو مخلوق، و المخلوق هو ما امتلك حالة التعيّن، فلا يمكنه، و الحال هذه، إيجاد سبيل ليصل به إلى الخالق الذي يفتقد التعيّن و اللامتناهي. ليس بمقدور الإنسان معرفة الله بوساطة الفكر و التفكير و لا حتى بطريق الإدراك، ذلك أن الفكر و التفكير محدودان بينما الله سبحانه لا حدّ له. فكلّما حاول الإنسان جهده الإحاطة بالله بالتفكّر و القدرة العقليّة كان ذلك له محالًا، ذلك لأنّ صورة تفكيره، و هو ذهنه، هي صورة تخيّليّة من صُنعِه و صنيعته هو، فأين ذلك من الله عزّ و جلّ؟
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 82
لذا، فإنّ الأخبار الدالّة على أن الإنسان عاجز عن معرفة الله تستند كلّها بالأساس إلى هذا المعني. و أمّا الأخبار القائلة بإمكانيّة تشّرف الإنسان بلقاء ربّه و حصوله على معرفة تامّة به، فهي لا تستدلّ بإمكانيّة هذا الوصول و ذلك اللقاء عن طريق الفكر و التفكير، بل عن طريق الوجدان و الإحساس في القلب. أيّ كأنّهم يقولون: اجتز حاجز الفكر و تخطَّ حدود العقل، ثمّ اخلع عنك النَّفْسَ و ترفّع عن القلب كذلك، ثمّ صِلْ إلى مرحلة لا تري فيها وجوداً لذرّة من كيانك و لا تجد فيها ما كان منك فيما سبق، و حينئذٍ، تلاشَ!
فلا وجود هناك لفكر أو عقلٍ أو نفس أو روح أو وجود بالمرّة. فليس هناك مجال لالتئام الفكرة أو تَجَسُّد الشعور أو الإدراك. ليس هناك من موجود يُذكَر. هناك، حيث يوجد الله و حسب! و الله يعرف نفسه و يعلم ما فيها. في تلك اللحظة فقط يستطيع الإنسان أن يعرف الله، تلك اللحظة التي لم يعد فيها ذلك الإنسان إنساناً، لم يعد يدرك معنى لوجوده مقابل ذات الله عزّ و جلّ. فمتي برزتْ ذرّة من الوجود لم يعد لنور الله وجود في مقابل ذلك.
فهذا العالَم هو عالم المقرّبين الذي تجرّدوا من كلّ شي‏ء، و لا مُقام لأيّ شي‏ء آخر بينهم، اي أنّه لا وجود لهم. فهم لا يملكون وجوداً، لكنهم أحياء بحياة الله، و في الوقت نفسه فهم موتي من حياتهم. و هم لا يملكون شيئاً يتباهون فيه أمام وجود الله. هناك يوجد الله، و الله فحسب. هؤلاء قد اجتازوا مراتب الكثرات، و عبروا حدود التعيّنات، و خلعوا عن أنفسهم الحُجُب و أزالوا عنها الستار، و هم بالتالى قد جاوزوا حُجُب الظُّلمات و حُجُب النور.
                        لقاء النبيّ لله تعالى ليلة المعراج، و إيحاء الله إليه‏

و لقد اجتاز الرسول الأعظم كلًّا من كثرات عالَم الطبع و عالَم البرزخ‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 83
و عالَم العقل- كلًّا حسب ما يناسبه-، هذا من جهة، و من جهة أخرى فقد اجتاز منزلة نفس الملك- التي تمتلك التعيّن و الحدّ كذلك- حتى وصل إلى مقام «قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَي» حيث لا يوجد شي‏ء سوى الله وحده!
... وَ هُوَ بِالأفُقِ الأعلى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّي، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ (ذراعين) أ وْ أدْنَي، فَأوْحَي إلى عَبْدِهِ مَآ أوْحَي، مَا كَذَبَ الْفُؤْادُ مَا رَأي، أفَتُمَارُونَهُ على مَا يَرَي، وَ لَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أخرى، عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَي، عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأوَي، إذْ يَغْشَي السِّدْرَةَ مَا يَغْشَي، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَي، لَقَدْ رَأي مِنْ ءَ ايَاتِ رَبِّهِ الْكبرى، أفَرَءَيْتُمُ اللَاتَ وَ الْعُزَّي، وَ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى (التي هي نماذج مؤنّثة من الملائكة السماويّين و واسطة لنزول فيض الله تعالى إلى الأرض)، ألَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الانثَي، تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَي (أن يكون للّه قويً انفعاليّة و يكون لكم قوي فعليّة)، إن هي إلآ أسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أنتُمْ وَ ءَ ابَآوُكُم مَّآ أنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إن يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَ مَا تَهْوَي الأنفُسُ وَ لَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى (القرآن و الرسالة). [1]
لقد كان المراد من «شَديدُ القُوي» هو الله صاحب المقام الأقدس، كما في قوله تعالى: أن اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. [2]
و أمّا القول بأنّ المراد من ذلك هو جبرائيل فمستفاد من الآية المباركة: ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [3]، و على هذا الأساس فالمقصود
__________________________________________________
1- الآيات 7 إلى 23، من السورة 53: النجم. و قبلها: وَ النَّجْمِ إذَا هَوَي (أي هوي للغروب)، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ (أي رسولنا) وَ مَا غَوَي، وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الهوى، أن هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَي، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوي.
2- الآية 58، من السورة 51: الذاريات.
3- الآية 20، من السورة 81: التكوير.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 84
ب- «شَديدُ القُوي» هو جبرائيل، و أن الضمائر المذكورة في الآيات: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَي، وَ هُوَ بِالافُقِ الأعلى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّي، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَي، كلّها تعود إليه أيضاً. و كذا الحال مع ضمير المفعول في الآية الشريفة وَ لَقَدْ رَءَ اهُ نَزْلَةً أخرى حيث يعود إلى المَلاك جبرئيل.
و أمّا الضمير في فَأوْحَي إلى عَبْدِهِ مَآ أوْحَي فيعود بالتأكيد إلى الله عزّ و جلّ، و المراد ب- مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأي فهو رؤية فؤاد رسول الله حقيقة الوحي مشافهة و رؤية و لقاء الله سبحانه كذلك.
و أيّاً كان القول فإنّ ممّا لا شكّ فيه أن هذه الآيات تدلّ كلّها على أنّها اوحيَت من قبل البارئ عزّ و جلّ إلى رسوله الكريم، و أن صيغتها بهذا الشكل إنّما هي دليل على أنّها اوحيت بطريق المشافهة الذي يتطلّب الحضور و الالتقاء حتماً.
كلّ ما في الأمر، أن الألقاب و الصفات الخاصّة بجبرئيل المذكورة في الحالة الاولى قد زُحزِحَتْ و وُضِعَت جانباً في الحالة التالية، ليأتي دَوْر تلقين الوحي و التدلّي و الدُّنوّ من مَقام العزّة و الحقّ تعالى، و رؤية ذلك الجلال الإلهيّ، فإنّ الدنوّ و الاقتراب و الرؤية في الحالة الجديدة كلّها تعود إلى الله عزّ و جلّ حيث عاين رسول الله كلّ ذلك ليلة عُرِج به إلى العُلى، و رأي الله و زاره بقلبه و بصيرته في تلك الليلة المباركة.
و لقد وردت أبحاث مفصّلة في التفاسير المختلفة حول لقاء و زيارة ليلة المعراج.
فسماحة استاذنا الأكرم العلّامه آية الله الطباطبائيّ قدّس الله تربته المنيفة يقول: «و ما أوردناه من الآيات هي الفصل الأوّل من فصول السورة الثلاثة و هي الآيات اللاتي تصدق الوحي إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و تصفه، لكن هناك روايات مستفيضة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 85
ناصّة على أن المراد بالآيات ليس بيان صفة كلّ وحي، بل بيان وحي المشافهة الذي أوحاه الله سبحانه إلى نبيّه صلى الله عليه و آله ليلة المعراج.
فالآيات متضمّنة لقصّة المعراج و ظاهر الآيات لا يخلو من تأييد لهذه الروايات و هو المستفاد أيضاً من أقوال بعض الصحابة كابن عبّاس و أنس و سعيد الخدريّ و غيرهم على ما روي عنهم و على ذلك جري كلام المفسّرين و إن اشتدّ الخلاف بينهم في تفسير مفرداتها و جملها». [1]
و على هامش الآية الشريفة مَا كَذَبَ الْفُؤْادُ مَا رَأي- يقول العلّامه قدّس الله روحه:
 «و ليس في الآية ما يدلّ على أن متعلّق الرؤية هو الله سبحانه و أنّه لمرئي له صلى الله عليه و آله، بل المرئيّ هو الافق الأعلى و الدنوّ و التدلّي و أنّه اوحي إليه، فهذه هي المذكورة في الآيات السابقة و هي آيات له تعالى، و يؤيّد ذلك ما ذكره تعالى في النزلة الأخرى من قوله:
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَي، لَقَدْ رَأي مِنْ ءَ ايَاتِ رَبِّهِ الْكبرى.
                        آيات سورة النجم دالّة على رؤية النبيّ لله تعالى في المعراج‏

على أنّها لو دلّت على تعلّق الرؤية به تعالى لم يكن به بأس فإنّها رؤية القلب و رؤية القلب غير رؤية البصر الحسّيّة التي تتعلّق بالأجسام و يستحيل تعلّقها به تعالى و قد قدّمنا كلاماً في رؤية القلب في تفسير سورة الأعراف، الآية 143». [2]
__________________________________________________
1- «الميزان في تفسير القرآن» ج 19، ص 26.
2- «تفسير الميزان» ج 19، ص 29.
يقول المؤلّف الفقير: ورد في كتاب «نفائس الفنون» ج 27، ص 68 و 69:
 «الفصل الحادي العشر، في بيان الوصول:
اعلم أن الوصول إلى حضرة البارئ عزّ و جلّ ليس من قبيل وصول الجسم إلى الجسم، أو وصول العرض إلى الجسم، أو العلم إلى المعلوم، أو العقل إلى المعقول؛ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
وكذلك ليست مسألة الوصول إلى حضرته هي بفعل العبد، بل هي لطف دون علّة و تصرّف الجذبات الالوهيّة. ألم تَرَ إلى موسى و قد قال، و هو يسعى إلى رؤية الرؤية: ربّي أرِنِي أنظُرُ إلَيْكَ، فقال: لَن تَرَانِي! لكنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، و بحكم سُبْحَانَ الذي أسْرَي بِعَبْدِهِ لَيْلًا ارْكِبَ البُراق و عُرج به (إلي السماء) مجتازاً قاب قوسين حتى وصل مقام أو أدْني، و البِسَ كلّ لباس محمّديّ بحكم ما كانَ محمّد أبا أحدٍ من رجالِكُم و بُعِثَ رحمةً و تشرّف بالخطاب القائل و ما أرسلناك إلّا رَحْمَةً للعالَمين. فكلّ من لم يستطع أن يحلّق ببراق القدرة من حضيض البشريّة إلى سدرة منتهي الروحانيّة فليعرّج على حضرته و يقدّم له الولاء و الطاعة، لأنّ من وصل إليه فقد وصل إلينا؛ من يُطِعْ الرسول فقد أطاعَ الله» إلى آخر البيان الذي أورده في هذا الفصل.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 86
و قال رحمة الله عليه في تعليقه على الآية الشريفة وَ لَقَدْ رَءَ اهُ نَزْلَةً أخرى:
 «و قد قالوا: أن ضمير الفاعل المستكن في قوله رَءَ اهُ للنبيّ صلى الله عليه و آله، و ضمير المفعول لجبرئيل، و على هذا فالنزلة نزول جبرئيل ليعرج به إلى السماوات، و قوله:
عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَي ظرف للرؤية لا للنزلة، و المراد برؤيته رؤيته و هو في صورته الأصليّة.
و المعني: أنّه نزل عليه صلى الله عليه و آله نزلة أخرى و عُرِج به إلى السماوات و تراءي له صلى الله عليه و آله عند سدرة المنتهي و هو في صورته الأصليّة.
و قد ظهر ممّا تقدّم صحّة إرجاع ضمير المفعول إليه تعالى و المراد بالرؤية رؤية القلب و المراد ب-: نَزْلَةً أخرى نزلة النبيّ عند سدرة المنتهي في عروجه إلى السماوات، فالمفاد أنّه نزل نزلة أخرى أثناء معراجه عند
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 87
سدرة المنتهي فرآه بقلبه كما رآه في النزلة الاولي». [1]
و تعليقاً على الآية مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَي قال قدّس الله سرّه:
 «الزَّيْغُ الميل عن الاستقامة، و الطغيان تجاوز الحدّ في العمل، و زَيْغُ البَصَرِ إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، و طغيانه إدراكه ما لا حقيقة له، و المراد بالبصر بصر النبيّ.
و المعني: أنّه صلى الله عليه و آله لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقيّة و لا أبصر ما لا حقيقة له، بل أبصر غير خاطئ في إبصاره.
و المراد بالإبصار رؤيته صلى الله عليه و آله بقلبه لا بجارحة العين، فإنّ المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله: وَ لَقَدْ رَءَ اهُ نَزْلَةً أخرى المشير إلى مماثلة هذه الرؤية لرؤية النزلة الاولى التي يشير إليها بقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤْادُ مَا رَأي، أفَتُمَارُونَهُ على مَا يَرَي. فافهم و لا تغفل».
و علّق رحمة الله عليه على الآية الشريفة لَقَدْ رَأي مِنْ ءَ ايَاتِ رَبِّهِ الْكبرى بقوله:
مِنْ للتبعيض، و المعني: أقسم لقد شاهد بعض الآيات الكبرى لربّه، و بذلك تمّ مشاهدة ربّه بقلبه، فإنّ مشاهدته تعالى بالقلب إنّما هي بمشاهدة آياته بما هي آياته، فإنّ الآية بما هي آية لا تحكي إلّا ذا الآية و لا تحكي عن نفسه شيئاً و إلّا لم تكن من تلك الجهة آية.
و أمّا مشاهدة ذاته المتعالية من غير توسّط آية و تخلّل حجاب فمن المستحيل ذلك، قال تعالى:
وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا. (الآية 110، من السورة 20: طه). [2]
__________________________________________________
1- «الميزان» ج 19، ص 31.
2- «الميزان في تفسير القرآن» ج 19، ص 32.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 88
                        الروايات الواردة في رؤية النبيّ لله عزّ و جلّ في المعراج‏

و قد أورد العلّامه في بحث روائيّ: و في «تفسير القمّيّ» بإسناده إلى ابن سِنان في حديث قال أبو عبد الله عليه السلام:
وَ ذَلِكَ أنَّهُ- يَعْنِي النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ- أقْرَبُ الخَلْقِ إلَى اللهِ تعالى، وَ كَانَ بِالمَكَانِ الذي قَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ لَمَّا اسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ! فَقَدْ وَ طَأتَ مَوْطِئاً لَمْ يَطَأهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ. و لَوْ لَا أن رُوحَهُ و نَفْسَهُ كَانَ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ لَمَا قَدَرَ أن يَبْلُغَهُ.
وَ كَانَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ كَمَا قَالَ عَزَّ وَ جَلَّ: «قَابَ قَوْسَيْنِ (أي ذراعين) أ وْ أدْنَي»؛ أيْ: بَلْ أدْنَى.
وفي «المجمع» و روي مرفوعاً عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله في قوله: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ، قال: قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين.
و في «التوحيد» بإسناده إلى محمّد بن الفضيل قال: سَألْتُ أبَا الحَسَنِ عليه السلام: هَلْ رَأي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَبَّهُ عَزّ وَ جَلَّ؟!
فَقَالَ: نَعَمْ! بِقَلْبِهِ رَآهُ؛ أمَا سَمِعْتَ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: «مَا كَذَبَ الْفُؤْادُ مَا رَأي»؟ لَمْ يَرَهُ بِالبَصَرِ وَ لَكِنْ رَآهُ بِالفُؤْادِ. [1]
و في «الدرّ المنثور» أخرج عبدبن حَميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن محمّد بن كعب القَرْظيّ، عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه [و آله‏] و سلّم قال:
__________________________________________________
1- روي في «اصول الكافي» ج 1، ص 98، في باب إبطال الرؤية، الحديث 8، عن محمّد بن يحيي و غيره، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال:
قالَ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لَمَّا اسْريَ بِي إلى السَّمَاءِ، بَلَغَ بِي جَبْرَئيلُ مَكَاناً لَمْ يَطَأهُ قَطُّ جَبْرَئيلُ. فَكُشِفَ لَهُ؛ فَأرَاهُ اللهُ مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ مَا أحَبَّ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 89
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟
قَالَ: لَمْ أرَهُ بِعَيْنِي؛ وَ رَأيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ تَلَا: «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّي».
قال العلّامه قدّس سرّه:
 «أقول: و روي هذا المعنى النسائيّ عن أبي ذرّ- على ما في «الدرّ المنثور»- و لفظه رَأي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‏] وَ سَلَّمَ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ، وَ لَمْ يَرَهُ بِبَصَرِهِ.
و عن «صحيح مسلم» و الترمذيّ و ابن مردويه، عن أبي ذرّ قال: سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‏] وَ سَلَّمَ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟! فَقَالَ: نُورَانِيّ أرَاهُ. [1]
أقول: «نُورَانِيٌّ» منسوب إلى النور على خلاف القياس، كجسمانيّ في النسبة إلى جسم. و قرئ «نُورٌ إنِّي أرَاهُ» بتنوين الراء و كسر الهمزة و تشديد النون ثمّ ياء المتكلِّم، و الظاهر أنّه تصحيف و إن ايِّد برواية أخرى عن مسلم في صحيحه، و ابن مردويه عن أبي ذرّ أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه [و آله‏] و سلّم: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟!
فقال: رَأيْتُ نُوراً!
و كيف كان فالمراد بالرؤية رؤية القلب، فلا الرؤية رؤية حسّيّة
__________________________________________________
1- روي في «اصول الكافي» ج 1، ص 98، باب إبطال الرؤية، الحديث 7، عن أحمد بن إدريس، عن محمّد بن عبدالجبّار، عن صفوان بن يحيي، عن عاصم بن حُمَيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
ذاكَرْتُ أبَا عبد الله عليه السلام فِيمَا يَرْوُونَ مِنَ الرُّؤْيَةِ؛ فَقالَ: الشَّمْسُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعينَ جُزْءاً مِنْ نُورِ الكُرْسيّ، وَ الكُرْسيّ جُزْءٌ مِنْ سَبْعينَ جُزْءاً مِنْ نُورِ العَرْشِ، وَ العَرْشُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعينَ جُزْءاً مِنْ نورِ الحِجابِ، وَ الحِجابُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعينَ جُزْءاً مِنْ نُورِ السِّتْرِ؛ فَإنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَلْيَمْلَؤُوا أعْيُنَهُمْ مِنَ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ!
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 90
و لا النور نور حسّيّ.
و في «الكافي» بإسناده عن صفوان بن يحيي قال: سألني أبو قرّة المحدّث أن ادخِله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام. فاستأذنته في ذلك، فأذِنَ لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام. إلى قوله: أبو قرّة، فإنّه يقول: وَ لَقَدْ رَءَ اهُ نَزْلَةً أخرى.
فقال أبوالحسن عليه السلام: أن بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا رَأى؛ حَيْثُ قَالَ: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأي». يَقُولُ: مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ مَا رَأتْ عَيْنَاهُ.
ثُمَّ أخْبَرَ بِمَا رَأى فَقَالَ: «لَقَدْ رَأى مِنْ ءَ ايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَي»؛ وَ آيَاتُ اللهِ غَيْرُ اللهِ.
أقول: الظاهر أن كلامه عليه السلام مسوق لإلزام أبي قُرّة، حيث كان يريد إثبات رؤيته تعالى بالعين الحسّيّة فألزمه بأنّ الرؤية إنّما تعلّقت بالآيات، و آيات الله غير الله، و لا ينافي ذلك كون رؤية الآيات بما هي آياته تمثّل رؤيته تعالى و إن كانت آياته غيره، و هذه الرؤية إنّما كانت بالقلب كما مرّت عدّة من الروايات في هذا المعنى.
و جاء في «تفسير القمّيّ» بإسناده إلى إسماعيل الجعفيّ عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام في حديث طويل:
فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، تَخَلَّفَ عَنْهُ جَبْرَئِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: في هَذَا المَوْضِعِ تَخْذُلُنِي؟!
فَقَالَ: تَقَدَّمْ أمَامَكَ! فَوَ اللهِ لَقَدْ بَلَغْتَ مَبْلَغاً لَمْ يَبْلُغْهُ أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ قَبْلَكَ! فَرَأيْتُ مِنْ نُورِ رَبِّي، وَ حَالَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ السُّبْحَةُ. [1]
__________________________________________________
1- سُبحَةُ الله: جَلالُه، ج: سُبَح. و سُبُحاتُ وَجهِ الله: أنوارُه، أو ما يُسبَّح به من دلائلِ عظمتِة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 91
قُلْتُ: وَ مَا السُّبْحَةُ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟! فَأوْمَى بِوَجْهِهِ إلَى الأرْضِ وَ أوْمَأ بِيَدِهِ إلَى السَّمَاءِ وَ هُوَ يَقُولُ: جَلَالُ رَبِّي! جَلَالُ رَبِّي! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
أقول: السُّبحة الجلال كما فسّر في الرواية، و السبحة ما يدلّ على تنزّهه تعالى من خَلْقه و مرجعه إلى المعنى الأوّل، و محصّل ذيل الرواية أنّه صلى الله عليه و آله رأى ربّه برؤية آياته». [1]
و أمّا القاضي البيضاويّ فقد قال في تفسير الآية الشريفة مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأى:
 «ما رأى ببصره من صورة جبرائيل عليه السلام أو الله تعالى، اي ما كذب بصره بما حكاه له، فإنّ الامور القدسيّة تُدرَك أوّلًا بالقلب ثمّ تنتقل منه إلى البصر.
أو ما قال فؤاده لمّا رآه: لم أعرفك؛ و لو قال ذلك كان كاذباً، لأنّه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، أو ما رآه بقلبه، و المعنى أنّه لم يكن تخيّلًا كاذباً. و يدلّ على ذلك «أنّه عليه الصلاة و السلام سئل: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟! فقال: رَأيْتُهُ بِفُؤَادِي!». [2]
و قال في تفسيره عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى: «التي ينتهي إليها أعمال الخلائق و علمهم، أو ما ينزل من فوقها و يصعد من تحتها، و لعلّها شُبّهت بالسدرة و هي «شجرة النَّبْق» لأنّهم يجتمعون في ظلّها، و روي مرفوعاً أنّها في السماء السابعة». [3]
__________________________________________________
1- «الميزان» ج 19، ص 34 إلى 36.
2 «تفسير البيضاويّ» ج 2، ص 472 و 473، طبعة دار الطبع العامرة.
3- «تفسير البيضاويّ» ج 2، ص 473 و 474.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 92
و قال في تفسير ألَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الانثَى: «إنكار لقولهم الملائكة بنات الله، و هذه الأصنام استوطنها جنّيّات هنّ بناته، أو هياكل الملائكة و هو المفعول الثاني لقوله: أفَرَءَيْتُمُ». [1]
                        كلام جبرئيل: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ‏

و قد شاهدنا في تفسير «علي بن إبراهيم» عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قوله: فَلمّا انتَهى بهِ إلى سِدرةِ المُنتَهى، تَخَلّفَ عَنهُ جَبْرَئِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: في هَذَا المَوْضِعِ تَخذُلُني؟!
فقال: تقدّم أمامك! فو الله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك!
و قد ورد في كثير من كتب العرفان أن جبرائيل قال: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ.
و ذكر الشيخ نجم الدين الرازيّ هذا الحديث في «مرصاد العباد» في أربعة أماكن [2]، و في رسالة «عشق و عقل» (/ الحبّ و العقل) في ثلاثة أماكن [3]. و قال المعلِّق على هذه الرسالة: «لقد جاء ذِكر هذا الحديث متواصلًا في «مرصاد العباد» و «احاديث مثنوي (/ أحاديث المثنويّ). و لم نجده في «مجمع البحرين» و «المعجم المفهرس» في حاشية موادّ: دَنا و دَنَوْتُ و أنْمُلَة، و حَرَقَ [4]. و هذا المضمون ينسب إلى جبرئيل عليه السلام و أنّه قاله للرسول صلى الله عليه و آله ليلة المعراج. و ورد ذكر هذا الكلام و معناه في أشعار الكثير من العرفاء خاصّة، و من جملتهم (سعدي) في‏
__________________________________________________
1- «تفسير البيضاويّ» ج 2، ص 473 و 474.
2- «مرصاد العباد» 120 و 121، 184، 378، 381، رقم 389، طبعة بنگاه ترجمه و نشر كتاب.
3- رسالة «عشق و عقل» ص 118، رقم 258، طبعة بنگاه ترجمه و نشر كتاب.
4- وردت هذه الرواية في «بحار الأنوار»، ج 18، ص 382، نقلًا عن «المناقب».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 93
ديوانه «بوستان» حيث يقول:
اگر ذرّه‏اى موى برتر پرم‏
فروغ تجلّى بسوزد پرم [1]
__________________________________________________
1- يقول: «لو اقتربتُ قيد أنملة- يا صاح- لأحرق نور الله جسمي و الجناح».
جاء في «كلّيّات سعدي»، محمّد على فروغى، «بوستان» ص 4 إلى 6، في مدح النبيّ صلى الله عليه و آله الأبيات التالية:
         كريم السجايا جميل الشيم             نبيّ البرايا شفيع الامم‏
             امام رسل پيشواى سبيل             امين خدا مهبط جبرئيل‏
             شفيع الورى خواجة بعث و نشر             إمام الهدى صدر ديوان حشر
             كليمى كه چرخ فلك طور اوست             همه نورها پرتو نور اوست‏
             شفيعٌ مُطاعٌ نبى كريم             قسيمٌ جسيمٌ نسيمٌ وسيم‏
             يتيمى كه ناكرده قرآن درست             كتبخانة چند ملّت بشست‏
             چو عزمش برآهيخت شمشير بيم             به معجز ميان قمر زد دو نيم‏
             چو صيتش در افواه دنيا فتاد             تزلزل در ايوان كسرى فتاد
             به لا قامت لات بشكست خُرد             به إعزاز دين آب عُزّى ببرد
             نه از لات و عُزّى برآورد گرد             كه تورات و انجيل منسوخ كرد
             شبى بر نشست از فلك بر گذشت             به تمكين‏و جاه از ملك درگذشت‏
             چنان گرم در تيه قربت براند             كه بر سدره جبريل ازو باز ماند
             بدو گفت سالار بيت الحرام             كه اى حامل وحى برتر خرام‏
             چو در دوستى مخلصم يافتي             عنانم ز صحبت چرا تافتى؟
             بگفتا فراتر مجالم نماند             بماندم كه نيروى بالم نماند
             اگر يك سر موى برتر پرم             فروغ تجلّى بسوزد پرم‏


يقول: «كريم السجايا جميل الشيم، نبيّ البرايا شفيع الامم.
إمام الرسل و سيّد السبيل، أمين الله و مهبط جبرئيل.
شفيع الورى و البعث و النشر، إمام الهدى صدر ديوان الحشر.
كليم تدور حوله الأفلاك، كلّ النور منك تبارك علاك.
/                        معرفة الله، ج‏1، ص: 94
__________________________________________________
/ شفيع مطاع، نبيّ كريم، قسيم جسيم، نسيم وسيم.
يتيمٌ (امّيّ) لم يؤلِّف القرآن (من تلقاء نفسه)، فاقت علومه كلّ ما في مكتبات العالم.
فلمّا عزم شقّ القمر نصفين بسيفه.
ولمّا ذاع صيته في الدنيا انشقّ من ذلك إيوان كسرى.
وكُسّرت اللات قطعاً صغيرة و عزّ دينه و ذهب ماء وجه العُزّى.
فلم يبق من اللات و العُزّى أثراً و قد نسخ من قبل التوراة و الإنجيل.
فأمسك بالجاه و المُلك بين ليلةٍ و ضُحاها.
وقد عَرَجَ في فضاء القُرب بمَضاء فوصل إلى السدرة التي مُنِعَ عنها جبرئيل.
فقال له حامي البيت الحرام: يا حامل الوحي، قد كنتُ مخلصاً في صداقتي معك فلِمَ تركتَ العنان و أبيتَ صُحبتي؟
قال: لا أستطيع الدنوّ أكثر من هذا لأنّ جناحي لا يقوى على التحليق لأبعد من ذلك.
فلو اقتربتُ قيد أنملة لأحرقَ نور تجلّيه تعالى جناحي».
إلى أن قال:
         خدايا به حقّ بنى فاطمه             كه بر قولم ايمان كنم خاتمه‏
             اگر دعوتم ردّ كنى ور قبول             من و دست و دامان آل رسول‏
             چه كم گردد اى صدر فرخنده پي             ز قدر رفيعت بدرگاه حيّ‏
             كه باشند مشتى گدايان خيل             به مهمان دارالسّلامت طفيل‏
             خدايت ثنا گفت و تبجيل كرد             زمين بوس قدر تو جبريل كرد
             بلند آسمان پيش قدرت خجل             تو مخلوق و آدم هنوز آب و گل‏
             تو اصل وجود آمدى از نخست             دگر هر چه موجود شد فرع تست‏
             ندانم كدامين سخن گويمت             كه والاترى ز آنچه من گويمت‏
             ترا عزّ لَوْلاكَ تمكين بس است             ثناى تو طه و يس بس است‏
             چه وصفت كند سعدى ناتمام             عليك السّلام اى نبى السّلام‏


يقول: «إلهي بحقّ بني فاطمة اجعل إيماني بهم هو الخاتمة. فسواءٌ قَبِلتَ دعوتي أم رفضتها فإنّي ممسك بجلابيب الرسول و آل بيته.
لن يقلّل من عظمة منزلتك و مكانتك الرفيعة عند الحيّ تعالى.
إذا دَعَوْتَ جمع الفقراء إلى ضيافة دار السلامة.
لقد أثني عليك ربّك و بجّلك و قبّل جبريل تراب مقدمك.
لقد طأطأت السماوات العلي لقدرك و منزلتك و قد خُلِقتَ و لمّا يزل آدم طيناً و ماءً.
أنت أصل الوجود كنت الأوّل، و ما وُجِدَ بعدك كان فرعاً منك.
لا أعرف بأيّ كلام أخاطبك، فإنّك أرفع شأناً من كلّ ما أقول.
يكفيك (عزّ لولاك) من عزّ و رفعة. يكفيك ثناءً (طه) و (يس).
فمهما وصفك سعدي لن يكون كافياً عليك السلام يا نبيّ السلام».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 95
و قال الشيخ نجم الدين الرازيّ: «كان جبرئيل و ميكائيل بازينِ صيّادَينِ في مُتصيّد ملكوت الله عزّ و جلّ يصطادان طيور التقديس و التنزيه وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ. فلمّا استحالت التوبة إلى صفات الجمال و طمحا ببصرهما إلى مواطن الصمديّة و الجلال استحالا مقصوصَي الجناح و تركا الصيد في تلك البقاع البراح، فقالا: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ.
         مرغ كآنجا پريد پر بنهاد             ديو كآنجا رسيد سر بنهاد [1]

و قيل لهم: لقد اصطدنا صيّاداً في مُتَصَيَّد الأزل بشباك «يُحِبُّهُمْ» و سنأتي به إلى هذا المُتصيَّد: إنِّي جَاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً، حتى يُريكم كيف يَتصيَّد. شعر:
         در بحر عميق غوطه خواهم خوردن             يا غرقه شدن يا گهرى آوردن [2]

__________________________________________________
1- يقول: «لمّا طار الطائر إلى هناك طوى جناحيه، و حيث وصل العفريت هناك أحنى رأسه».
2- يقول: «سأغوص في البحر العميق، فإمّا أن أغرق أو أفوز بجوهرة».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 96
         كار تو مخاطره‏ست خواهم كردن             يا سرخ كنم روى ز تو يا گردن [1]

فقالوا بأجمعهم: لا جَرَمَ إذا سبقنا هذا الصياد، في ميدان السباق بصولجان المعنى، و عمل ما لا نستطيع نحن عمله، و صاد ما لم نتمكّن جميعاً اصطياده، فإنّنا سنقوم مَقامَ خَدَمِهِ، و سنسرُّ للسجود بقلوبنا و أرواحنا أمامه...» [2]- إلى آخر عباراته اللطيفة من ذلك المقال.
نعم، فهذا كلّه يشير بالبنان إلى المقام الأوحد و المنزلة الجامعة لرسول الله صلى الله عليه و آله و أصحابه الحقيقيّين، حيث لم يتمكّن جبرئيل من أن ينال ذلك المقام أو أن يحرز تلك المنزلة و يظفر بمراده، فأخذ يقول: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ. و قد روي عن نبيّ الله أنّه قال:
                        لِي مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ.

 [3]
__________________________________________________
1- يقول: «أن ما أفعله إزاءك هو مخاطرة، فإمّا أن يحمرّ وجهي (سروراً) أو تحمرّ رقبتي (بالقتل).».
2- «مرصاد العباد» ص 381 و 382.
3- و تدلّ الفقرات التالية من زيارة الجامعة الكبيرة على هذا المقام:
فَبَلَغَ اللهُ بِكُمْ أشْرَفَ مَحَلِّ المُكَرَّمينَ وَ أعْلَى مَنازِلِ المُقَرَّبِينَ وَ أرْفَعَ دَرَجَاتِ المُرْسَلِينَ، حَيْثُ لَا يَلْحَقُهُ لَاحِقٌ وَ لَا يَفوقُهُ فَائِقٌ وَ لَا يَسْبِقُهُ سَابِقٌ وَ لَا يَطْمَعُ في إدْرَاكِهِ طَامِعٌ، حتى لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ وَ لَا صِدِّيقٌ وَ لَا شَهِيدٌ وَ لَا عالِمٌ وَ لَا جَاهِلٌ وَ لَا دَنِيّ وَ لَا فاضِلٌ وَ لَا مُؤْمِنٌ صَالِحٌ وَ لَا فَاجِرٌ طَالِحٌ وَ لَا جَبَّارٌ عَنيدٌ وَ لَا شَيْطَانٌ مَرِيدٌ وَ لَا خَلْقٌ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ شَهِيدٌ إلَّا عَرَّفَهُمْ جَلَالَةَ أمْرِكُمْ وَ عِظَمَ خَطَرِكُمْ وَ كِبَرَ شَأنِكُمْ وَ تَمَامَ نُورِكُمْ وَ صِدْقَ مَقاعِدِكُمْ وَ ثَبَاتَ مَقامِكُمْ وَ شَرَفَ مَحَلِّكُمْ وَ مَنْزِلَتِكُمْ عِنْدَهُ وَ كَرَامَتِكُمْ عَلَيْهِ وَ خاصَّتَكُمْ لَدَيْهِ وَ قُرْبَ مَنْزِلَتِكُمْ مِنْهُ.
تعتبر هذه الزيارة من الزيارات المهمّة، التي وردت في «مفاتيح الجنان» ص 544 إلى 550، الطبعة الإسلاميّة، 1379 هجريّة، و قد رُويت عن الشيخ الصدوق في «الفقيه»
/                        معرفة الله، ج‏1، ص: 97
__________________________________________________
/ و «العيون» عن موسى بن عبد الله النخعيّ.
أشعار حكيم نظامي الكنجويّ في معراج الرسول الأعظم‏
جاء ذكر معراج الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و عدم استطاعة الملائكة التقدّم معه و مرافقته إلى العُلى و ذلك في مواضع عِدّة من كتاب «كلّيّات ديوان حكيم نظامى گنجوي» طبعة أمير كبير، من جملة ذلك ما ذُكِر في «مخزن الأسرار» الذي يبدأ بالبيت التالي:
         بسم الله الرحمن الرحيم             هست كليد در گنج حكيم‏


يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم؛ ذلك مفتاح كنز الحكيم».
ويقول في ص 18:
         همسفرانش سپر انداختند             بال شكستند و پر انداختند
             او به تحيّر چو غريبان راه             حلقه زنان بر در آن بارگاه‏
             پرده نشينان كه درش داشتند             هودج او يك تنه بگذاشتند
             رفت بدان راه كه همره نبود             اين قدمش زآن قدم آگه نبود
             هر كه جز او بر در آن راز ماند             او هم از آميزش خود باز ماند


يقول: «توقّف مرافقوه عن مرافقته و كُسرت أجنحتهم و أصبح ريشهم منفوشاً.
فارتسمت عليه حيرة الغرباء و أحاطت به من كلّ جانب.
فحطّوا هودجه و تركوه وحيداً.
فتابع الطريق دون صاحب أو رفيق، يُقدّم قدماً و يؤخّر أخرى.
وتحيّر كلّ من سواه في هذا السرّ و حيل بينه و بينهم».
وجاء «في خسرو و شيرين» ص 410:
         چو بيرون رفت از آن ميدان خضرا             ركاب افشاند از صحرا به صحرا
             بدان پرّندگى طاووس اخضر             فكند از سرعتش هم بال و هم پر
             چو جبريل از ركابش باز پس گشت             عنان بر زد ز ميكائيل بگذشت‏
             سرافيل آمد و بر پر نشاندش             به هودج خانة رفرف رساندش‏
             ز رفرف بر رف طوبى علم زد             وز آنجا بر سر سدره قدم زد
             جريده بر جريده نقش مي‏خواند             بيابان در بيابان رخش ميراند


/                        معرفة الله، ج‏1، ص: 98
__________________________________________________
/
          چو بنوشت آسمان را فرش بر فرش             به استقبالش آمد تارك عرش‏
             فرس بيرون جهاند از كلّ كونين             علم زد بر سرير قابَ قَوسَين‏
             قِدم برقع ز روى خويش برداشت             حجاب كائنات از پيش برداشت‏
             جهت را جعد بر جبهت شكستند             مكان را نيز برقع باز بستند
             محمّد در مكان بى مكاني             پديد آمد نشان بى نشاني‏
             كلام سرمدى بى نقل بشنيد             خداوند جهان را بى جهت ديد


يقول: «فخرج من ذلك المكان قاطعاً الصحاري.
حتّى تناثر جناح الطاووس الأخضر و ريشه من سرعة انطلاقه.
ولمّا تخلّف جبريل عن مرافقته واصل هو مسيره تاركاً و راءه حتى ميكائيل.
ثمّ أجْلَسَهُ إسرافيل على بساطٍ من ريش و أوصله إلى هودج الديباج.
فارتقى من الهودج إلى مشارف طوبى و من هناك خطا نحو السدرة.
وطالعَ كلّ صُحُفِ (أسرار الخَليقة) بعد أن طوى البراري بجواده الخَيفَق السريع.
وزُيّنتْ السماء بالفُرُش و السجّاد و لاحت له كُنُف البيت.
قد انطلق بفرسه قاطعاً الكونَينِ و أناخَ بِرَحْلِه عند قاب قوسين.
رفع عن مُحَيّاه البرقع و أزال حجاب الكائنات من أمامه.
ازيلت من أمامه كلّ الموانع و اسْدِل الستار خلفه.
فدخل محمّد صلى الله عليه و آله إلى مكانٍ ليس كأيّ مكان و محلٍّ ليس له عنوان.
وسمِعَ كلاماً سرمديّاً و رأى ر بّ العالمين دون واسطة».
ويقول في كتاب «ليلى و مجنون» ص 434:
         بر طرّه هفت بام عالم             نه طاس گذاشتى نه پرچم‏
             هم پرچم چرخ را گسستي             هم طاسك ماه را شكستي‏
             طاووس پران چرخ اخضر             هم بال فكنده با تو هم پر
             جبريل ز همرهيت مانده             الله معك ز دور خوانده‏
             ميكائيلت نشانده بر سر             و آورده به خواجه تاج ديگر


/                        معرفة الله، ج‏1، ص: 99
__________________________________________________
/
          اسرافيلت فتاده در پاي             هم نيم رهت بمانده بر جاي‏
             رفرف كه شده رفيق راهت             برده به سرير سدره گاهت‏
             چون از سر سدره بر گذشتي             اوراق حدوث در نوشتي‏
             رفتى ز بساط هفت فرشي             تا طارم تنگبار عرشي‏
             سبّوح زنان عرش پايه             از نور تو عرش كرده سايه‏
             از حجلة عرش بر پريدي             هفتاد حجاب را دريدي‏
             تنها شدى از گرانى رخت             هم تاج گذاشتى و هم تخت‏
             بازار جهت به هم شكستي             از زحمت تحت و فوق رستي‏
             خرگاه برون زدى ز كونين             در خيمة خاص قاب قوسين‏
             هم حضرت ذو الجلال ديدي             هم سرّ كلام حقّ شنيدي‏
             از غايت وهم و غور ادراك             هم ديدن و هم شنودن پاك‏
             در خواستى آنچه بود كامت             در خواسته خاص شد به نامت‏


يقول: «لم تترك عزّاً و لا بيرقاً في العوالم السبعة.
لقد أزلت عَلَم الفَلَك و شققتَ قرص القمر.
وتناثر ريش و أجنحة طواويس الأفلاك.
وتخلّف جبريل عن مرافقته مودّعاً إيّاه على البعد قائلًا: الله معك.
فأجلسه ميكائيل على رأسه و ألبسه تاجاً آخر.
وتوقّف إسرافيل كذلك و لم يستطع من مرافقته.
فكان الديباج رفيقه في رحلته و الذي أوصل إلى سدرة المنتهى.
ولمّا اجتزت سدرة المنتهى كتبت الأقدار على الأوراق.
واجتزت البساط السباعيّ الفُرُش حتى وصلت مشارف العرش.
فسبّح المسبّحون عند قوائم العرش و قد أصبح للعرش ظلًّا من نورك.
وطِرتَ من عند العرش مجتازاً سبعين حجاباً.
وكنت الوحيد الذي لا يُضاهى لِما لَبِستَ من حُللْ و تُوّجتَ و وُضعت على العرش.
/                        معرفة الله، ج‏1، ص: 100
__________________________________________________
/ وسُدْتَ كلّ شي‏ء و ارتحت من العناء و الكلل.
وخيّمتَ خارج الكونَينِ في خيمةِ قاب قوسين.
ورأيتَ ذات ذي الجلال و سمعت سرّ كلام الحقّ.
وتطهّر بصرك و سمعك من كلّ وهم أو إدراك.
ونُلتَ كلّ ما اشتهيت، فخُتِمَ باسمك ما قد تمنيّت».
وجاء في ديوان «هفت پيكر» ص 606 و 607. يقول فيه:
         هم رفيقش ز تركتاز افتاد             هم براقش ز پويه باز افتاد
             منزل آنجا رساند كز دوري             ديد در جبرئيل دستوري‏
             سر برون زد ز مهد ميكائيل             به رصد گاه صور إسرافيل‏
             گشت از آن تخت نيز رخت گراي             رفرف و سدره هر دو مانده به جاي‏
             همرهان را به نيمه ره بگذاشت             راه درياى بيخودى (بيرهي) برداشت‏
             قطره بر قطره ز آن محيط گذشت             قُطر بر قُطر هر چه بود نوشت‏
             چون در آمد به ساق عرش فراز             نردبان ساخت از كمند نياز
             سر برون زد ز عرش نوراني             در خطر گاه سرّ سبحاني‏
             حيرتش چون خطر پذيرى كرد             رحمت آمد لگام گيرى كرد
             قاب قوسين او در آن اثنا             از دنا رفت سوى أو أدنى‏
             چون حجاب هزار نور دريد             ديده در نور بى حجاب رسيد
             گامى از بود خود فراتر شد             تا خدا ديدنش ميسّر شد
             ديد معبود خويش را به درست             ديده از هر چه ديده (غير) بشست‏


يقول: «و لقد عجز صاحبه عن اللحاق به وكَبا بُراقه أيضاً.
ووَصل إلى منزل تخلّف عنه فيه جبريل.
ثمّ أوصله ميكائيل إلى مقرّ إسرافيل.
والبِسَ كذلك حُلّة من ذلك العرش و بقي الهودج و السدرة على حالهما.
وترك أصحابه في منتصف الطريق، و راح يقطع الطريق بدون دليل. قاطعاً المحيطات مدوّناً ماكان في كلّ إقليم و ناحية.
صانعاً له من حبل الدعاء سلّماً إليه (العرش).
وظهر من نواحي العرش النورانيّ في حرم السرّ السبحانيّ.
فلمّا بدت عليه الحيرة تداركته الرحمة و أمسكت بلجام براقه.
فتحوّل حاله عند قاب قوسين، من منزلة (دنا) إلى منزلة (أو أدني).
فلمّا زال حجاب الألف نور أصبح و دخل مرحلة النور بدون حجاب.
ارتقى منزلة راقية تيسّر له فيها رؤية الله.
فرأى معبوده عياناً، بحيث لم ترى عينه غيره».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 101
و في هذا المَقام يقول الشيخ نجم الدين أيضاً:
 «... و أمّا آدم، فهو بيضة عنقاء جبل العِزّة. و تلك العنقاء هي لي خليفة و لكم سلطان، ف- اسْجُدُوا لأدَمَ عند قدمَيْه و لا تقولوا [أتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا] ناظرين بعين الحقارة إليه، «إنِّي أعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» فيه. فاغتنموا الفرصة مادام في البيضة و اسجدوا له، فإنّه لو خرج من البيضة فسيكون تحليقه إلى حيث عالَم لي مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ [وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ‏]، فلن تبقى لكم إلّا الحسرة، و ستأخذكم العَبرة و الحيرة و تكثرون من قول لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ، و يكون كلامكم في كلّ وقت:
         آن مرغكِ من كه بود زرّين بالش             آيا كه كجا پريد و چون شد حالش‏
             از دست زمانه خاك بر سر باشم             پرواز چرا نكردم از دنبالش (خ ل) [1]

__________________________________________________
1- يقول: «أين طائر السعد الذي خلّى و طار، أين ذاك الطائر إلى مَ صار؟
يا ويلتاه سأظلّ العمر كلّه نادماً لعدم لحاقي به».
/                        معرفة الله، ج‏1، ص: 102
__________________________________________________
/ رسالة «عشق و عقل» ص 84؛ و يقول المعلّق على الرسالة في ص 119 ما قوله: «حديث معروف يعتمده الصوفيّة و يستندون إليه».
وقال مؤلّف «اللؤلؤ المرصوع» في ص 66، في ذيل هذا الحديث: «يَذْكُرُهُ الصُّوفِيَّةُ كَثِيراً وَ لَمْ أرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ، وَ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَ فِيهِ إيمَاءٌ إلى مَقَامِ الاسْتِغْرَاقِ بِاللِّقَاءِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِالمَحْوِ وَ الفَنَاءِ».
ويشير مولانا إلى مضمون هذا الحديث بقوله:
         لي مع الله وقت بود آن دم مرا             لا يسع فيه نبيّ مجتبي‏
             لا يسع فينا نبيّ مرسلٌ             و المَلَك و الرّوح أيضًا فاعقلوا


يقول: «كان لي مع الله وقتٌ لم يكن لنبيّ مجتبي ما كان لي فيه». (نقلًا عن «أحاديث مثنوي» ص 39، تدوين بديع الزمان فروزانفر).
وقال الشيخ نجم الدين كذلك في كتاب «مرصاد العباد» ص 134 و 135: «... و إذا التقيتَ بالحقّ تعالى فستكون ظلًّا له، و أن اولئك الحائرين التائهين الذين أرادوا الهروب من الحقّ هم في الحقيقة لا مهرب لهم من دولته و سطوته، مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ. و متى ظَلَمْتَ نفسك فاهرب منها و ادخل ظلّ الحقّ تعالى، لي مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ. شعر:
         چون سايه دويدم ز پيش روزى چند             وز ساية او به ساية او خرسند
             امروز چو آفتاب معلومم شد             كو سايه بر اين كار نخواهد افكند


يقول: «قبل أيّام هربت كالظلّ، فخرجتُ من ظلِّه و دخلتُ ظلَّه راضياً.
فلمّا تبيّنت الشمس لي اليوم علمتُ أنّها لن تظلّل هذا الشي‏ء».
ومع أن الخواجة كان شمس العالمين إلّا أنّه نشأ في ظلّ أبيتُ عِنْدَ رَبّي. كان يتناول لقمته من مائدة يُطْعِمُنِي، و يرتشف شرابه من كأس يَسْقِينِي. [يقول جمال الدين عبدالرزّاق:]
         خوان تو أبيتُ عِنْدَ رَبّي             خواب تو وَ لا يَنامُ قَلْبي‏
             اى كرده به زير پاى، كونين             بگذشته ز حدّ قابَ قَوسَين‏
             خاك قدم تو اهل عالم             زير عَلَم تو نسل آدم‏
             طاووس ملئكه بَريدت             سرخيل مقرّبان مريدت‏
             چون نيست بضاعتى ز طاعت             از ما گنه و ز تو شفاعت‏


يقول: «مائدتك هي أبيتُ عند ربّي، و نومك هو و لا ينام قلبي.
يا من داس بقدميه الكونَينِ و اجتاز حدود قاب قوسين.
إن العالمين جميعاً هم تراب قدمك، و كلّ بني آدم منضوين تحت لوائك.
يا من كان طاووس الملائكة بريدهُ، و كانت خيول المقرّبين أتباعك و أوليائك.
ولمّا كانت كلّ طاعاتنا ليست إلّا بضاعة مُزجاة، فإن بدر منّا ذنب أو خطيئة فلا رجاء لنا غير شفاعتك».
ويقول في ص 481: «و أمّا العلم الباطن فهو معرفة تلك المعاني التي كان تُزرَق بها روح الخواجة عليه الصلاة (و السلام) دون وساطة جبرئيل من غيب الغيب، في مقام أوْ أدْنَى، في حالة لي مَعَ اللهِ وَقْتٌ؛ حيث فَأوْحَى إلى عَبْدِهِ مَآ أوْحَى. و كانت تُراق على سنّة الكرام من فيوضات كؤوس ولاية النبوّة، و على القلوب الحرقى لعالم الطلب».
، صدر الآية 80، من السورة 4: النساء.
،، الآية 10، من السورة 53: النجم.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 103
                        ما سوى الله تعالى حجاب؛ و المعرفة التامّة مشروطة بانتفاء

و خلاصة الكلام في هذا المقام أنّه: ما لم تَزُل كلّ ذرّة من الأنانيّة من الإنسان، فلن يُسمَح له بالعروج إلى مَنسَك العدم و الفَناء المطلقَينِ المتزامنَينِ مع الوجود المطلق. فذلك مقام خاصّ بذات الله عزّ و جلّ و وجوده. و الله سبحانه غيور، و من شروط الغَيرة نَهر كلّ من استقرّت في قراره ذرّة من بقايا شخصيّته و أنانيّته.
         تا بود يك ذرّه باقى از وجود             كى شود صاف از كدر، جام شهود [1]

فالمسألة جَدُّ مُحيِّرة، إذ يتحتّم هجر كلّ ما سوى الله تعالى للوصول‏
__________________________________________________
1- يقول: «لن يصفو لأحد كأس الشهود، مادام هناك فيه ذرّة من الوجود».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 104
إليه، فكلّ ما سوى الله حجاب و سراب، و مادام ذلك الحجاب باقياً، فلا سبيل إلى الحصول على المعرفة التامّة. و ما اكتُسِبَ من المعرفة إن هي إلّا معرفة جزئيّة و ناقصة. أن المعرفة الحاصلة من مشاهدة خلق الله تعالى من جبال و أحجار، و صَحارٍ و قفار، و التعرّف على حيوانات البَرّ و البحار، و ما إلى ذلك، إنّما هي معارف جزئيّة و ليست كلّيّة، و المهمّ في هذه المسألة هو المعرفة الكلّيّة، و لا سبيل للوصول إليها إلّا باجتياز سبيل خطير و عظيم!
إن العالِم في الرياضيّات الذي يكتشف بواسطة قوانينه الرياضيّة أن القرآن معجزة، و ذلك بسبب الاسلوب القويم لآياته، و السياق المتوازن لسوره، و يتوصّل إلى أن الآيات الخاصّة بالجهاد هي بالشكل الفلانيّ، و الآيات الخاصّة بالصلاة و الصوم بالشكل العلّانيّ، ثمّ يتوصّل طبقاً لحساباته الحاسوبيّة (الكومبيوتريّة) إلى إثبات أن هكذا جُمَل و هكذا ألفاظ لا يمكن للبشر أن يصوغ مثيلاتها، أو حتى صَبّها في قالبٍ يشبه إلى حدٍّ ما تلك الآيات الشريفة، و أنّه بدون تدخّل لقوّة غيبيّة أو أمرٍ من ما وراء الطبيعة سيكون ذلك مستحيلًا، و لن يكون بإمكان أحد على الإطلاق إيجاد مثل تلك الظاهرة العجيبة. فإنّ هذا، في الواقع، هو نوعٌ من أنواع المعرفة بالقرآن الكريم، و مع هذا فإنّ البُعدَ بين هذه المعرفة، و بين المعرفة الحقيقيّة للقرآن كبُعد الثريّا عن الثري! و بينهما ألفا حجاب! فأين هذه المعرفة و أين الدخول في أعماق و حقائق القرآن و بواطنه و معرفة تفسيره و تأويله و طريقة تطبيق آياته على مصاديقه؟
اولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ. [1]
فهذه المعرفة لا يمكن لها أن تكون معرفة مقنعة؛ انظروا إلى كلّ آية
__________________________________________________
1- ذيل الآية 44، من السورة 41: فصّلت.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 105
من آيات هذا الكتاب السماويّ و ستجدون كلّ واحدة من تلك الآيات مرآة تعكس وجه الله عزّ و جلّ، إلّا أن الفَرق بين رؤية مَن كانت عيونهم مفتوحة و مَن كانت على أبصارهم غشاوة جِدُّ شاسع و بعيد. فهذا الأمر يستدعي التحقُّق من صحّة الباصرة و فحصها بدقّة.
فلو كانت عينا أحدهم عمياء، فليس معنى ذلك أن سُبُل كلّ العلوم مغلقة في وجهه، بل معناه أن بإمكانه أن يحصل على كثير من العلوم عن طريق سائر حواسّه الأخرى كحاسّة السمع و حاسّة الشمّ و حاسّة اللمس و حاسّة الذوق؛ لكنّ الفَرق بينه و بين مَن كانت حاسّة بصره سليمة من أيّة عاهة و تتمتّع ببصر و بصيرة سالمتَينِ كالفَرق بين السماء و الأرض.
فلا يتمّ اجتماع الله مع سواه مادامت هناك في ذهن الإنسان أمانيّ باطلة، و نوايا تَشطُطُ، و أهداف نفسانيّة شيطانيّة، و أغراض مادّيّة من حبّ المال و البنين و الجاه و المقام و غير ذلك.
                        الأبيات الحكيمة لمجنون ليلى في معشوقته‏

أنشد قيس بن الملوّح العامريّ أبياتاً من الشِّعر في حبّ ابنة عمّه و معشوقته ليلى العَامِرِيَّة، تحتوي على أروع ما انشِدَ من الشِّعر في مقام الحِكمة و الدقائق العقلانيّة و تُعتَبَر بحقّ كتاباً للعرفان و الأسرار و الرموز الشهوديّة، مُبيّناً سبيل الوصول إلى المحبوب. و حتى لو كانت تلك الأبيات في ظاهرها تحكي قصّة حبّ عُذريّ مجازيّ، إلّا أنّها تحوي الكثير من الامور الراقية المفاهيم و العالية المعنى بوجه عامّ، تَصدُق مبانيها على كلّ عاشقٍ حقيقيّ و صادق في حبّه. و تتضمّن مفهوماً يتعلّق بحبّ الله عزّ و جلّ، و تكشف بطريقة مدهشة أسرار السلوك إلى الله و الوصول إليه و الفَناء في ذاته المقدّسة، و تُميط الستار عن أعظم حجاب معنويّ، و تصف أسلم الطرق و أأمَنَها للوصول إلى المقام الأقدس لذات الله سبحانه.
يقول قيس بن الملوّح و المعروف عند العامّة بمجنون ليلى:
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 106
         تَمَنَّيْتُ مِنْ ليلى عَلَى البُعْدِ نَظْرَةً             لِيُطْفَي جَوى بَيْنَ الحَشا وَ الأضالِعِ‏
             فَقالَتْ نِسَاءُ الحَيّ تَطْمَعُ أنْ تَرَي             بِعَيْنَيْكَ ليلى مُتْ بِداءِ المَطامِعِ‏
             وَ كَيْفَ تَرَى ليلى بِعَيْنٍ تَرَى بِها             سِواها وَ ما طَهَّرْتَها بِالمَدامِعِ‏
             وَ تَلْتَذُّ مِنْها بِالحَديثِ وَ قَدْ جَرَي             حَديثُ سِواها في خُروقِ المَسامِعِ [1]

و ليس بإمكان من صحب غير الله و خاطب أعداءه و احتوى على مقاصد غير إلهيّة، و نوايا غير سبحانيّة، و آمالٍ دَنيّة دنيويّة، أن يلقى الله تعالى و يتشرّف برؤيته. و بحكم امتناع اجتماع الضِّدَّيْن أو النقيضَيْن، فلا سبيل لدخوله ذلك الميدان ما لم تَزُل النقائض و تنمح تلك الأعراض.
منظر دل نيست جاى صحبت اغيار
ديو چو بيرون رود فرشته در آيد [2]
__________________________________________________
1- «ديوان قيس بن الملوّح العامريّ» المشهور بمجنون ليلى العامريّة، ص 109، طبعة بومبي؛ و قد روي آية الله الملّا أحمد النراقيّ أعلى الله درجته و هو (خالي لُامّي)، هذه الأبيات الأربعة في كتاب «الخزائن» ص 130، إلّا أنّه ذكر البيتَينِ الأوّلين كالتالي:
         و إذ رُمتُ من ليلى عن البُعد نظرةً             لُاطفي بها نارَ الحَشا و الأضالِعِ‏
             تقول نساءُ الحيّ تَطمعُ أن تَري             مَحاسن ليلى مُتْ بداءِ المَطامِعِ‏


وذكر الأبيات كذلك الشيخ بهاء الدين العامليّ في «الكشكول» ص 610، العمود الأيمن، الطبعة الحجريّة، و في طبعة مصر بتحقيق طاهر أحمد الزاويّ، دار إحياء الكتب العربيّة: ج 2، ص 230، و قال: «يُنْسَب إلى المجنون».
2- جاء في «ديوان حافظ» ص 84، الغزليّة رقم 187، طبعة پژمان، مطبعة
/                        معرفة الله، ج‏1، ص: 107
__________________________________________________
/ بروخيم، سنة 1318، ما يلي:
         بر سر آنم كه گر ز دست برآيد             دست بكارى زنم كه غصّه سر آيد
             منظر دل نيست جاى صحبت اضداد،             ديو چو بيرون رود فرشته در آيد
             صحبت حكّام، ظلمتِ شبِ يلداست             نور ز خورشيد خواه بو كه بر آيد
             بر در ارباب بى مروّت دنيا             چند نشينى كه خواجه كى بدر آيد
             ترك گدائى مكن كه گنج بيابي             از نظر رهروى كه بر گذر آيد
             صالح و طالح متاع خويش نمودند             تا كه قبول افتد و چه در نظر آيد
             بلبل عاشق تو عمر خواه كه آخر             باغ شود سبز و سرخ گل به بر آيد**
             غفلت حافظ درين سراچه عجب نيست             هر كه به ميخانه رفت بى خبر آيد


يقول: «إنّي عازم على بذل كلّ ما في وسعى لأضع حدّاً للأحزان.
بيت القلب ليس مكاناً لاجتماع الغرباء و الأضداد، فإذا طردتَ الشيطان من قلبك (و هو رمز الأوهام الساذجة و الشهوات الباطلة) فستدخل ملائكة السكون و الخير إليه لتنيرهُ بنور الحقّ.
إن صحبة حكّام الجور هي بحلكة ليلة يلدا (و هي أوّل و أطول ليلة من ليالي الشتاء) و برودتها، فالتمس شمس الحقيقة حتى تشرق هذه الشمس على كلّ العالم.
إلى متى تظلّ مُلازماً عتبة باب بيت اللئام، في حين أنّك تهجر بيت الله و هو القادر على أن يُحسِن إليك و يَمُنّ عليك.
لا تنسَ التوجّه إلى أصحاب الضمائر الحيّة، عسى أن تحظى بكنز السعادة بمعونة أحد العرفاء.
الصالح و الطالح كلاهما يقدمان على البارئ عزّ و جلّ بما عندهما من عمل و سنرى لأي منهما يمنح الله تعالى رضاه و يشمله برعايته.
اطلب العمر من بلبلك العاشق فسيخضرّ البستان آخر الأمر و يورق الزهر الأحمر.
لا عجب من غفلة حافظ من عاقبة الأمر في هذه الدنيا، فكلّ من يدخل خمّارتها (الدنيا) و يشربُ من خمر الهوى و الشهوة سيسكرُ لا محالة و يغفل».، جاء في التعليقة: (خلوت دل نيست) بدلًا من (صحبت اغيار).
،، البيتان التاليان المعروفان هما في نهاية الغزليّة:
         بگذرد اين روزگار تلختر از زهر             بار دگر روزگار چون شكر آيد
             صبر و ظفر هر دو دوستان قديمند             بر اثر صبر نوبت ظفر آيد


يقول: «سينقضي هذا الدهر الأمرُّ من السمّ (القاتل)، و سيعود ثانية الزمن (الحلو) كالسكّر.
إن الصبر و الظفر صديقان قديمان، إذ أن الظفر دوماً يعقب الصبر».
لكن لا يوجد هذان البيتان في النسخ القديمة. (التعليقة)
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 108
                        جَلَّ جَنَابُ الحَقِّ عَنْ أن يَكُونَ شَرِيعَةً لِكُلِّ وَارِدٍ

لقد خصّص ابن سينا، «النمط التاسع» من كتابه «الإشارات» لمقام العارفين، و يقول في نهاية ذلك النمط:
 «إشارَةٌ: جَلَّ جَنَابُ الحَقِّ عَنْ أن يَكُونَ شَرِيعَةً لِكُلِّ وَارِدٍ، أوْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إلَّا وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ. وَ لذَلِكَ فَإنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الفَنُّ ضُحْكَةٌ لِلْمُغَفَّلِ عِبْرَةٌ لِلْمُحَصِّلِ؛ فَمَنْ سَمِعَهُ فَاشْمَأزَّ عَنْهُ فَلْيَتَّهِمْ نَفْسَهُ، لَعَلَّهَا لَا تُنَاسِبُهُ؛ وَ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.» [1]
و حكي الشيخ بهاء الدين العامليّ أنّه ورد في رواية أن إبراهيم بن أدهم كان يطوف بالكعبة فرأى شابّاً أمرد جميل الوجه وسيم الطلعة. فنظر إليه برهة ثمّ تنحّى عنه و توارى بين المُطَّوِّفين‏
فلمّا اختلى بنفسه سأله بعضهم عن سبب تلك النظرة قائلين: لم نشهد لك مثل تلك النظرة إلى شابٍّ جميل فيما سبق!
فقال: هو ابني، و قد كنتُ تركته في خراسان. فلمّا شبّ ترك مدينته‏
__________________________________________________
1- «شرح الإشارات» للخواجة نصير الدين الطوسيّ، الطبعة الحجريّة، لسبع صفحات بقين منه، و عبارة «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» هي من حديث نبويّ يستشهد به العرفاء في كتبهم، منهم عزيز الدين النسفيّ في كتاب «الإنسان الكامل» ص 214.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 109
و طفق يبحث عنّي، فخفتُ أن يشغلني عن ذِكر الله، و خشيتُ إن هو عرفني أن آنس به. ثمّ أنشد هذه الأبيات:
         هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرَّاً في هَوَاكَا             وَ أيْتَمْتُ العِيَالَ لِكَيْ أرَاكَا
             فَلَوْ قَطَّعْتَنِي في الحُبِّ إرْباً             لَمَا حَنَّ الفُوَادُ إلى سِوَاكَا [1]

***
          احِبُّ التُّقَى وَ النَّفْسُ تَطْلُبُ غَيْرَهُ             وَ إنِّي وَ إيَّاهَا لَمُصْطَرِعانِ‏
             فَيَوْمٌ لَهَا مِنِّي وَ يَوْمٌ اذِلُّهَا             كِلَانَا عَلَى الأيَّامِ مُعْتَرِكَانِ [2]

                        بيان حال سيّد الشهداء عليه السلام في الخلوة بالحبيب‏

و بناءً على ما قيل، فإنّ الأبيات التي مطلعها:
، هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرَّاً في هَوَاكَا،
مرويّة عن إبراهيم بن أدهم، و أمّا نسبتها إلى سيّد الشهداء الحسين‏
__________________________________________________
1- ورد في كتاب «نفائس الفنون في عرائس العيون» ج 2، ص 28، طبعة الإسلاميّة، ذِكْر هذه القصّة بالشكل التالي:
 «و علامه أخرى من علامات المحبّة هي الحذر من أن يكون الابن أحد الموانع التي تقف في طريق الوصول؛ حيث ذكروا: أن إبراهيم أدهم رحمه الله عقد مع رفيقه، و هو في الطريق لأداء فريضة الحجّ، اتّفاق موافقة و مصاحبة، تعهّد فيها الجانبان عدم ستر المنكر عند ما يصدر من أحدهما. فلمّا وصلا إلى مكّة، شاهدا إحدى العمارات المزيّنة و قد جلس فيها فتى و سيم. فتطلّع إبراهيم إليه، و كرّر النظر. فآخذه رفيقه على هذا العمل. فاغرورقت عينا إبراهيم بالدموع و قال: ذاك ولدي فارقتُهُ و هو صغير، فالآن لمّا رأيتُهُ عرفتُهُ. فقال رفيقه: اخبِرهُ عنك؟!
فأجاب إبراهيم: لا! فإنّ ذلك شي‏ءٌ تركناهُ للّه فلا نَعودُ فيه! و أنشد هذين البيتين:
         هجرتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا             و أيتَمتُ العيالَ لكي أراكا
             و لو قَطّعتَ إرباً ثُمّ إرباً             لما حنّ الفؤادُ إلى سواكا


2- «الكشكول» ج 5، ص 496، العمود الأيمن، الطبعة الحجريّة؛ و كذا في «طرائق الحقائق»، ج 2، ص 119، الطبعة الحروفيّة، نقلًا عن الشيخ البهائيّ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 110
عليه‏السلام و ذلك على المنابر الحسينيّة فإنّ هذا لسان حاله لا لسان مقاله.
لقد كان ذلك الإمام المعصوم روحي و أرواح العالمين فداه اسوة حسنة و مثالًا يُحتَذى به في الفَناء في ذات الحقّ تعالى، إذ لا تنتهي المسألة بيوم عاشوراء و لا تُطوي بانطواء أحداثها في ذلك اليوم، بل أن نفسه الزكيّة و روحه الطاهرة كانت مجبولة على هذه الحال في سبيل الله عزّ و جلّ. أن يوم عاشوراء كان ساحة للتجلّي و الظهور، كان يوم مكاشفة الخلائق و العوالم بما خفي عنهم و إبداء ما لم يُبْدَ لهم.
و ما أروع ما أنشد ناصر الدين شاه القاجاريّ في هذا المقام، يقول:
         عشقبازى كار هر شيّاد نيست             اين شكارِ دام هر صيّاد نيست‏
             عشق از معشوقه أوّل سر زند             تا به عاشق جلوة ديگر كند
             تا به حدّى بگذرد هستى ازو             سر زند صد شورش و مستى ازو
             طالب اين مُدّعَى خواهى اگر             بر حسين و كربلايش كن نظر [1]

__________________________________________________
1- يقول: «ليس كلّ مخاتل يخبر فنّ الغراميّات، و لا كلّ صيّاد بقادر على إيقاع هذه الفريسة في شباكه.
إن العشق يبدأ أوّلًا من المعشوقة فيثير في العاشق عواطفه.
ويبلغ هذا العشق درجةً يغيب فيها عن الوجود (أي العاشق)، و تتفجّر في داخله انتفاضات و هيجانات.
وإذا كنت تبحث عن مصداق هذا الكلام تجده في الحسين و مصيبته في كربلاء».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 111
         روز عاشورا شه دنياى عشق             كرد رو به جانب سلطان عشق‏
             بارالها اين سرم اين پيكرم             اين علمدار رشيد اين أكبرم‏
             اين سُكينه اين رقيّه اين رباب             اين تنِ عريان ميان آفتاب‏
             اين من و اين ذكر يا رب يا ربم             اين من و اين ناله‏هاى زينبم‏
             پس خطاب آمد ز حقّ كاى شاه عشق             اى حسين اى يكّه تاز راه عشق‏
             گر تو بر ما عاشقى اى محترم             پرده بر چين من ز تو عاشق‏ترم‏
             هر چه از دست داده‏اى در راه ما             مرحبا صد مرحبا خود هم بيا
             خود بيا كه مي‏كشم من ناز تو             عرش و فرشم جمله پا انداز تو [1]

__________________________________________________
1- يقول: «آهٍ من يوم عاشوراء حيث توجّه العشق كلّه إلى ملك العشق. قائلًا له:
اللهمّ هذا رأسي و جسدي و حامل البيرق المغوار و على الأكبر.
وسكينة و رقيّة و رباب و الجسد العريان تحت لهيب الشمس.
وتراني و تسمع منّي نداء يا ر بِّ يا ر بِّ و تسمع نواح زينب.
فجاء النداء من الحقّ تعالى: يا سلطان العشق يا حسين يا وحيد درب العشق.
إذا كنت لي عاشقاً أيّها العزيز ارفع الستار و انظر فعشقي لك أكبر.
مرحباً بكلّ تضحياتك التي قدّمتها في سبيلي فأقدِم على أنت أيضاً.
هلمّ إلى و تدلّل على، فعرشي و بساطي تحت أمرك».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 112
         خود بيا كه من خريدار توام             مشترى بر جنس بازار توام‏
             ليك خود تنها ميا در بزم يار             خود بيا و اصغرت را هم بيار
             خوش بود در بزم ياران بلبلي             خاصه در منقار او باشد گلي‏
             خود تو بلبل، گل على أصغرت             زودتر بشتاب سوى داورت [1]

يقول المؤرّخ و العالم المعاصر حجّة الإسلام الحاجّ الشيخ محمّد شريف الرازيّ أمدّ الله في عمره الشريف، و الذي تشرّف الحقير بمعرفة سماحته مدّة خمسين سنة، حول تشرّفه مرّة بزيارة المرقد الطاهر لسيّد الشهداء عليه السلام: أن القصائد الشعريّة التي يردّدها أهل المنابر الحسينيّة هي من تأليفه هو و قد أنشدها ارتجالًا أثناء دخوله إلى الحائر الشريف:
         گر دعوت دوست مي‏شنيدم آنروز             من گوى مراد مي‏ربودم آنروز
             آن روز بود كه روز هَل مِن ناصر             ايكاش كه ناصر تو بودم آنروز [2]

__________________________________________________
1- يقول: «تعال إلى فإنّي راغب إليك، و قد تقبّلتُ قرابينك.
لكن لا تأتِ بمفردك إلى مهرجان الأحبّة، بل هاتِ معك على الأصغر.
وهنيئاً لبلبلٍ يذهب إلى حفلة الأحبّة حاملًا بمنقاره زهرة.
أنت البلبل و على الأصغر الزهرة، فأسرع بالمجي‏ء إلى ربّك».
2- يقول: «لو أنّي كنتُ قد سمعتُ دعوة الحبيب في ذلك اليوم.
لفزتُ بهدفي العظيم المنشود في ذلك اليوم، ذلك اليوم الذي انطلَقَتْ فيه صرخة هل من ناصر، فيا ليتني كنتُ أنا الناصر الذي بحَثْتَ عنه في ذلك اليوم».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 113
ثمّ شهق شهقة و اغشيَ عليه. فلمّا عاد إلى وعيه بدأ ينشد الأبيات التالية و هو يبكي:
         تو كيستى كه گرفتى به هر دلى وطني             كه نه در انجمنى نى برون ز انجمني‏
             محمّدى نه، على نه، حسن نه پس تو كه‏اي             كه جلوه‏ها بنمودى چو گل به هر چمني‏
             به خلق مثل محمّد به خوى مثل عليّ             به روى از همة خلق، خلقت حسني‏
             همان حسين غريبى كه روز عاشورا             جهان مصالحه كردى به كهنه پيرهنى [1]

__________________________________________________
1- يقول: «يا من تربّعتَ في كلّ قلب، فلا أنت في الجمع و لا خارجه.
فلا أنت محمّد و لا أنت على و لا الحسن، فمن أنت إذاً، يا من تجلّيت كزهرة في كلّ بستان.
أنت كمحمّد في الخلق و كعليّ في الخُلُق، و أن خِلقتك حسنيّة من دون جميع الخلق.
إنّك أنت الحسين الغريب الذي بعتَ الدنيا كلّها بثوب بالٍ».
 «اختران فروزان ري و طهران» أو «تذكرة المقابر في أحوال المفاخر» ص 129؛ و قال كذلك:
لقد تشرّف مراراً بزيارة العتبات المقدّسة. و أنشد من أعماق فؤاده البيتين التاليين و ذلك عند تشرّفه بزيارة الحرم الشريف لأميرالمؤمنين عليه الصلاة و السلام:
         إسكندر و من، اي شه معبود صفات             بر گرد جهان صرف نموديم اوقات‏
             بر همّت من كجا رسد همّت او             من خاك در تو جستم او آب حيات‏


يقول: «أنا و الإسكندر جُلنا العالم و قضّينا أوقاتاً طويلة، أيّها السلطان، يا معبود الصفات أين همّته و عزمه من همّتي و عزمي فهو كان يبحث عن ماء الحياة في حين كنتُ أنا أبحث عن ترابك».
وذكر في ص 130: «و حين تشرّفه بزيارة حرم الملك الحارس المرضيّ علي بن موسى عليه آلاف التحيّة و الثناء أنشد هذين البيتين بإخلاص تامّ و أهداها إلى ذلك الحرم الجليل:
         در طوس، حريم كبريا مي‏بينم             بى پرده تجلّى خدا مي‏بينم‏
             در كفش كَن حريم پور موسى             موساى كليم با عصا مي‏بينم‏


يقول: «إنّي أرى حرم الكبرياء في طوس، و أرى تجلّي الله دون حجاب.
وأرى موسى الكليم مع عصاه في منزع الأحذية في حريم موسي».
وقال في ص 131: «كان ذلك المرحوم يمتلك معلومات علميّة و ثقافيّة و أدبيّة و كان يمتلك ذوقاً و قريحة شعريّة، فكانت أشعاره الغزليّة بحقّ أشعار الملوك و ملوك الأشعار، على غرار ما يُقال في المثل الدارج: كلام الملوك و ملوك الكلام. و له ديوان شعريّ مطبوع بخطّ فارسيّ جميل و جذّاب موشّحاً بالذهب و المِينا و محفوظ في مكتبة الملك النفيسة و هي فرع من مكتبة الحرم الرضويّ الشريف في طهران برقم 6004».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 114
إلى آخر القصيدة.
                        عظمة الأوج العرفانيّ لسيّدالشهداء عليه‏السلام‏

لقد ابتغى هؤلاء الشعراء تبيان تلك الحالة التي اعترت سيّد الشهداء عليه السلام مصوِّراً مقولة «لي مَعَ الله»، تلك الحالة التي تمثّلت فيها السعادة و الأوقات العصيبة، و التي لم يكن لأيّ مَلَك مُقَرَّب أو نبيّ مُرْسَل قدرة الوصول إلى ذلك المقام الرفيع، أو تحمّل تلك الرموز العرفانيّة السامية على الإطلاق.
فلننظر معاً إلى التعابير الجزلة و الإشارات البديعة و اللطائف المليحة لحجّة الإسلام الشيخ محمّد تقي نيّر التبريزيّ، و هو يصف جانباً من حالات ذلك الإمام الهمام و الصمصام البتّار، و القائد الذي تنصّل عن كينونته و طلب الالتحاق بالمحبوب، عزيزه.
يشرح الشيخ التبريزيّ حالة ذلك المقدام في ميدان الحبّ السرمديّ‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 115
و ابتغائه الوصول إلى المحبوب الأزليّ و مقصوده و مراده الأبديّ قائلًا:
         تا خبر دارم از او، بى خبر از خويشتنم             با وجودش ز من آواز نيايد كه منم‏
             پيرهن گو همه پُر باش ز پيكان بلا             كه وجودم همه او گشت من اين پيرهنم‏
             باش يكدم كه كنم پيرهن شوق قبا             اى كمان كِش كه ز نى ناوُكِ پيكان به تنم‏
             عشق را روزِ بهار است كجا شد رضوان             تا بَرَد لاله بدامن سوى خُلد از چمنم‏
             روز عهد است بكِش اسپرم اى عقل ز پيش             تا تصوّر نكند خصم كه پيمان شكنم‏
             مى نيايد به كفن راست تنِ كشتة عشق             خصمِ دون بيهده گو باز ندوزد كفنم [1]

__________________________________________________
1- يقول:
 «طالما كان ذكره موجوداً فلا ذِكر لي، و طالما كان وجوده موجوداً فلا صرخة تُسمَع لي.
ثوبٌ ملأتْهُ سهام الورى، فأصبح ذلك الثوب وجودي كلّه.
سأجعل من ذلك الثوب جُبّة الشوق، يا من تُصوّب سهامك نحو جسدي.
لقد أصبح الربيع يوم عشقي فأين رضوان ليأتي و يأخذ من بستاني الزهرة المدّثّرة بالرداء إلى جنّات الخُلد.
إنّه يوم العهد فخُذ درعي أيّها العقل حتى لا يتوهّم العدوّ أنّي نقضتُ العهد.
وليس يَليق بقتيل العشق أن يُلبَسَ الكفن، أيُّها العدوّ اللئيم لا تَقُلْ عَبثاً إنّي بحاجة إلى كفن».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 116
         هاتفم مي‏دهد از غيب ندا شمر كجاست             گو شتابى كه به ياد آمده عهد كُهنم‏
             سخت دلتنگ شدم، همّتى اى شهپر تير             بشكن اين دام بِكش باز به سوى وطنم‏
             داية عشق ز بس داده مرا خون جگر             ميدمد آبلة زخم كنون از بدنم‏
             گوى مَطلَع چه عجب گر برم از فارِس فارْس             تا به مدح تو شها نيّر شيرين سخنم [1]

بِأبِي أنْتَ وَ امِّي وَ نَفْسِي يَا أبَا عبد الله؛ أشْهَدُ لَقَدِ اقْشَعَرَّتْ لِدِمَائِكُمْ أظِلَّةُ العَرْشِ مَعَ أظِلَّةِ الخَلَائِقِ، وَ بَكَتْكُمُ السَّمَاءُ وَ الأرْضُ وَ سُكَّانُ الجِنَانِ وَ البَرِّ وَ البَحْرِ، صلى اللهُ عَلَيْكَ عَدَدَ مَا في عِلْمِ اللهِ. [2]
__________________________________________________
1- يقول:
 «يناديني هاتفٌ من الغيب: أين الشمر، فقل له أن ما تفعلونه هو مصداق لعهدي‏
القديم.
لقد ضاق صدري فعجّلوا يا خيرة الرماة، حطّموا لي هذا القيد و عجّلوا برحيلي إلى الموطن.
لقد ملأ العشق قلبي قيحاً حتى فارت دمامل الجرح من بدني.
ما أجمل أن أبدأ كلامي أنا نيّر ذرب اللسان و أمدحك أيّها الملك».
ديوان «آتشكده» لحجّة الإسلام نيّر طاب ثراه، ص 123، الطبعة الرابعة: و هو لسان حال الإمام أبي عبد الله عليه السلام حين استشهاده.
2- «مفاتيح الجنان» ص 439، الطبعة الإسلاميّة، 1379 ه-؛ و هي جزء من جملة زيارة سيّد الشهداء عليه السلام التي تُقرأ في الأوقات الستّة: في أيّام و ليالي الأوّل من رجب، و النصف من رجب و النصف من شعبان (حسب ما روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في كتب الشيخ المفيد و السيّد ابن طاووس و الشهيد).
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 117
يستفاد من هذه الفقرة من الزيارة الشريفة أن أشباح العرش و أشباح الخلائق لم يتحمّلوا أو يطيقوا مشهد تلك الواقعة، فاقشعرّت أبدانهم و ارتعدت فرائصهم و مفاصلهم من شدّة وَقْع تلك الحادثة، و كذا السماوات و الأرضون و سكّانها، و أهل الجَنّة و الصحاري و البحار، بكوا لذلك المصاب الجلل. فعليك سيّدي و مولاي السلام بعدد الخلائق التي لا يعلم عددها إلّا الله وحده، يا مَن أظهر الجميع عجزهم الكامل أمام عظمتك و صبرك و جلدك، و تحيّروا إزاء شخصك و منزلتك.
         آسمان بار امانت نتوانست كشيد             قرعة فال به نام من ديوانه زدند [1]

__________________________________________________
1- يقول: «أزفت السماء عن حمل الأمانة، فجاءت القرعة باسمي أنا المجنون».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 119
                        البَحْثُ الخامس إلى الثَّامِنِ: اللهُ عَاشِقُ مَاسِوَاهُ، وَ مَا سوى اللهِ عَاشِقُهُ و تفسير الآية المباركه‏

يَأيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَقِيهِ‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 121
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ‏
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم‏
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ‏
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‏
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ‏
                        تفسير آية: «يا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»

قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
يَا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ.
 (الآية 6، من السورة 84: الانشقاق)
قال استاذنا الأعظم آية الحقّ و العرفان العلّامة الطباطبائيّ أعلى الله مقامه في تفسير هذه الآية الكريمة:
 «قال الراغب: الكَدْحُ السعي و العناء- انتهى. ففيه معنى السير، و قيل: الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثّر فيها انتهى- و على هذا فهو مُضَمّن معنى السير، بدليل تعدِّيه بإلى، ففي الكدح معنى السير على أيّ حال.
و قوله: فَمُلَاقِيهِ عطف على كَادِحٌ، و قد بيّن به أن غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبيّة، اي أن الإنسان بما أنّه عبد مربوب و مملوك مُدَبَّر، ساعٍ إلى الله سبحانه بما أنّه ربّه و مالكه المُدَبِّر لأمره، فإنّ العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملًا، فعليه أن لا يريد و لا يعمل إلّا ما أراده ربّه و مولاه و أمره به، فهو مسؤول عن إرادته و عمله.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 122
و من هنا يظهر أوّلًا أن قوله: إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ يتضمّن حجّة على المعاد، لما عرفت أن الربوبيّة لا تتمّ إلّا مع عبوديّة، و لا تتمّ العبوديّة إلّا مع مسؤوليّة، و لا تتمّ مسؤوليّة إلّا برجوع و حساب على الأعمال، و لا يتمّ حساب إلّا بجزاء.
و ثانياً: أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلّا حكمه، من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب.
و ثالثاً: أن المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنّه إنسان، فالمراد به الجنس، و ذلك أن الربوبيّة عامّة لكلّ إنسان». [1]
قد أثبت أعاظم حكماء الإسلام أن بين ر بّ العزّة و بين مخلوقاته نوعاً من الجذب و الانجذاب يُعَبَّر عنه بالعشق.
و لا جَرَمَ أن حبّ الله لمخلوقاته هو الذي أوجدها، و ألبس كلّ واحد منها (كلٌّ حسب إمكانيّته و استعداده و ماهيّته المتفاوتة) لباس الوجود و البقاء، و وصف كلّا منها بصفاته حسب ما يتناسب معه. أن هذا الحبّ هو الذي أعطى العالَم كيانه و بقاءه و ديمومته، بِدءاً بالأفلاك و مروراً بالأرض و الذرّة إلى الدُّرّة، و جَعْلها كلّها موجودات تتحرّك نحوه و تشقُّ طريقها إليه.
و كذا حال حياتنا و معيشتنا في حركتنا نحو الله، فهي تمضي قدماً إلى لقائه بواسطة ذلك الحبّ و العشق الذي أوجده الله عزّ و جلّ في الخلقة و الفطرة. و على هذا فإنّ كلّ موجود من الموجودات الإمكانيّة يجد طريقه إلى الاستمرار في حياته و بقائه على أساس و أصل ذلك الحبّ للمحبوب، و هكذا يستمدّ قانون التجاذب (الجذب و الانجذاب) استمراريّته بين جميع المخلوقات السفليّة (الدنيا) و العوالم العُلويّة.
__________________________________________________
1- «الميزان في تفسير القرآن» ج 20، ص 360.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 123
إن هذا التجاذب المستقرّ في كلّ موجود و بشكل معيّن، هو السبب في تكوين و إنشاء تلك الحركة المُتَّجِهة نحو المبدأ الأعلى عبر مدارج و معارج متباينة، و هو السبب في ذلك الحبّ الذي يدفع بجميع العاشقين إلى التحرُّك باتّجاه ذلك المحبوب و السير نحوه بوساطة ذلك الحبّ، من دون حجاب أو من وراء حجاب على السواء. و كلّ ما في الأمر أن الموجودات الضعيفة و الماهيّات السفليّة تتعرّض خلال سيرها لتأثير شديد من قِبَل قوي أشدّ منها نظراً لصفة المحدوديّة الموجودة في وجودها، و هو ما يتسبّب في فَنائها هناك. و طبقاً للقاعدة القائلة: (الأقرب فالأقرب)، فإنّ أيّ موجود عالٍ هو غاية السير عند الموجود و المعلول الأدنى منه، حتى يصل إلى ذات الحقّ و المُصَدِّر المطلق، و الذي هو الموجود الأوّل العظيم اللامتناهي في عالم العوالم، حيث يفني فيه و تتحقّق عند ذاك عمليّة التحابب و التعاشق بين الحقّ سبحانه و تعالى و بين ذلك الموجود.
و قد عُبِّرَ في هذه الآية الشريفة الكريمة عن تحرُّك الإنسان نحو هذا المحبوب ذي الجمال و المعشوق صاحب الجلال، و هو الهدف النهائيّ و المقصد الرئيسيّ، بالكدح.
و معنى ذلك أنّه يتوجّب على الإنسان- و هو أشرف المخلوقات استعداداً- أن يُوصِلَ ذاته و نفسه إلى الفَناء التامّ بالفعل.
فنالك مَن حالفهم الحظّ و وصلوا، و هنالك من أضاعوا استعدادهم و ضيّعوا عدّتهم، و فشلوا في أن يجدوا مأمناً و أمناً في حرم أمنه، و عجزوا عن الاستقرار في ظلّه، و لم يفلحوا في اجتياز موانع الصراط و الدخول إلى حضرة جلاله، و سيلتقي كلّ منهم به و يتلاقي معه و سيصلون إلى محبوبهم الحقيقيّ من وراء ألف حجاب، و عندها سيوقنون بأنّه هو وحده غاية مرادهم و حبيب قلوبهم، و كلّ ما في الأمر، أنّهم في دنيا الشهوات الدنيّة
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 124
التي أعشت عيونهم، لم يروا جلاله، و ها هم، يصلون بعد الحُجب لملاقاة ربّهم عزّ و جلّ.
                         «رسالة العشق» لابن سينا: الله تعالى و جميع الموجودات الإمكانيّة عشّاق‏

ذَكرَ الشيخ بهاء الدين العامليّ في كشكوله:
 «للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا رسالة في ذكر العشق [1] تحت عنوان «رسالة العشق»، و فيها يتوسّع في مقالته و يقول بأنّ العشق لا يختصّ بالإنسان وحده، بل بجميع الكائنات، من الفلكيّات و العناصر، و المواليد الثلاثة (المعادن و النباتات و الحيوانات) مجبولة عليه بالفطرة، و هي منقوشة في ذاتها و ماهيّتها» [2]. انتهى كلام الشيخ البهائيّ رحمة الله عليه.
و تبدأ الرسالة بالعبارة التالية:
بِاسْمِكَ اللهُمَّ وَ بِحَمْدِكَ، سَألْتَ أسْعَدَكَ اللهُ يَا عبد الله الفَقِيهَ المُعْصِرِيّ! أن أجْمَعَ لَكَ رِسَالَةً تَتَضَمَّنُ إيضَاحَ القَوْلِ في العِشْقِ على سَبِيلِ الإيجَازِ فَأجَبْتُكَ- إلى آخرها.
__________________________________________________
1- العشق، بمعنى الإفراط في الحبّ، و اللفظة مأخوذة من كلمة عَشَقَة، نباتٌ يلتوي على شجرة العنب و يلزمها فيمتصّ عصارتها و تذبل نتيجة ذلك. و هذا النبات الذي يدعى كذلك اللَّبْلَابِ أو السِّريشْلَة لا يمتلك حَبّاً حتى ينبت على الأرض، بل ينمو لوحده تلقائيّاً في مزارع العنب، و يلتصق جذره و ساقه بشجرة العنب. و لو فُصِلَ من هذا النبات جزء و تمكّن من الوصول إلى شجرة عنب أخرى التصق بها على الفور و نما سريعاً و يعمل على إتلاف الشجرة فتذبل و تتيبّس. و قيل إنّه يكفي زرع حَبّة واحدة من هذا النبات في مزرعة عنب لإتلافها جميعاً، فهو ينمو بسرعة و يعمل على تيبيس الشجرة. فحقّ إذاً للمزارعين أن يخافوا نموّ هذا النبات و يسارعوا إلى استئصاله فور اكتشافهم له في مزارع العنب، ثمّ يعمدون إلى حرقه لمنع تواجد أيّ أثر له على الأرض تماماً.
2- قال العرفاء عن الماهيّة بأنّها العين الثابتة، و كذلك سمّوها بالتعيّن؛ و ورد ذكرها في الروايات باسم الطينة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 125
و قد نظّم هذه الرسالة في سبعة فصول و هي:
الأوّل: في ذكر أن العشق يسري في كلّ ذات.
الثاني: في ذكر العشق في الجواهر البسيطة غير الحيّة، على سبيل المثال، الهيولي، و الظواهر، و المعادن، و كلّ جماد.
الثالث: في ذكر العشق في الموجودات و الأشياء التي تمتلك القوّة المغذّية.
الرابع: في ذكر العشق في الموجودات الحيوانيّة، لسبب أنّها تمتلك قوّة حيوانيّة.
الخامس: في ذكر العشق في الظرفاء و الفتيان في قبال حسان الوجوه.
السادس: في ذكر العشق في النفوس المتألّهة.
السابع: و هو فصل يختتم به الكتاب بالمراجعة و الاستنتاج.
و هذه الرسالة استدلاليّة، و مطالعتها من قبل ذوي الرأي لا تخلو من فائدة.
و قد تحدّث مفصّلًا في الفصل الخامس، و هو بعنوان «عِشْقُ الظُّرَفَاءِ وَ الفِتْيَانِ [1] لِلأوْجُهِ الحِسان»، و استدلّ بالحديث الشريف للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم: اطْلُبُوا الحَوَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ [2]، و عدّد أوجه الحلال‏
__________________________________________________
1- ظُرَفَاء جَمْعُ ظَرِيف. ظَرُفَ- ظَرْفاً و ظَرافَةً: كَانَ كَيِّساً حَسَنَ الهَيْئة، كَانَ ذَكِيَّاً بَارِعاً، فَهُوَ ظَرِيفٌ؛ ج: ظُرَفَاء وَ ظِرَاف وَ ظُرُف وَ ظُرُوف وَ ظَرِيفُونَ.
وفِتْيَان جَمْعُ فَتَى، وَ هُوَ الشَّابُّ الحَدَث، السَّخِيّ الكَرِيم؛ ج: فِتْيَان وَ فِتْيَة وَ فِتْوَة و فُتُوّ و فُتِى و فِتِيّ.
2- جاء في «مكاتيب الرسول» ج 2، ص 614، نقلًا عن «كنز العمال»: كِتابُهُ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إلى عُمَّالِهِ: إذَا أبْرَدْتُمْ إلى بَرِيداً فَأبْرِدُوهُ فَابْعَثوهُ حَسَنَ الوَجْهِ حَسَنَ الاسْمِ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 126
و الحرام، عقلًا و شرعاً، موضّحاً بأنّ الشريعة الإسلاميّة الغرّاء قد أوصدت باب العشق المذموم، و ذلك بالاستدلال العقليّ، و بالمقابل، قد فتحت باب العشق الممدوح على مصراعيه [1].
                        بيان العشق في النفوس المتألهة في «رسالة العشق» لابن سينا

و يستطرد في بحثه عشق النفوس المتألّهة، حتى يصل إلى المقطع الذي يقول فيه:
 «الآن، أصبح واضحاً، بأنّ العلّة الاولى، هي مصدر كلّ الخيرات، و لا مسبّب لهذه العلّة؛ و عليه، فهذه العلّة (الله) هي الخير المطلق، استناداً لمحض ذاته المقدّسة، و كذلك، بالقياس إلى جميع الموجودات، و ذلك، لأنّه هو حبل بقاء المخلوقات و دوامها.
و هذه المخلوقات، هائمة و مشتاقة إلى كمال العلّة الاولى، و بهذا، يكون هو الخير المطلق، بكلّ الاعتبارات و على جميع الأوجه.
__________________________________________________
1- يقول الملّا الروميّ ( «المثنوي» ج 1، ص 7، طبعة ميرخاني) عن الحبّ المذموم ما معناه:
         عشقهائى كز پى رنگى بود             عشق نبود عاقبت ننگى بود


يقول: «إن يكن حبّاً كثير التلوّن؛ فذاك الحبّ شؤماً ليس حبّا».
وحول الحبّ الممدوح قال:
         عشقِ آن زنده گزين كو باقى است             وز شراب جانفزايت ساقى است‏
             عشق آن بگزين كه جمله انبياء             يافتند از عشق وى كار و كيا
             تو مگو ما را بدان شه بار نيست             با كريمان كارها دشوار نيست‏


يقول: «ابحثْ عن عشق ذلك الحيّ الذي هو باقٍ على الدوام، و هو الذي يسقيك شراب الروح.
اطلبْ عشق ذلك الذي نال به جميع الأنبياء مرادهم و مطلبهم.
ولا تقلْ: أين نحن من ذلك السلطان؟ فليس التعامل مع الكرماء صعباً أو مستحيلًا».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 127
و قد قلنا من قبل أن من أدرك خيراً هام فيه بلا إرادة منه، و لهذا، فالعلّة الاولى، هي المعشوق بالنسبة إلى النفوس المتألّهة، و لأنّ كمال هذه النفوس، الإنسيّ منها و الملائكي، هو تصوّر تلك النفوس للمعقولات كلٌّ حسب قدرته (من باب التشبّه بذات الخير المطلقة) حتى تصدر عنها أفعال عادلة من قبيل الفضائل البشريّة، و على مثال تحريك النفوس الملائكيّة للجواهر العُلويّة السائلة. أن بقاء الموجودات في عالم الكون و الفساد (هو من باب التشبُّه بذات الخير المطلقة) و التقرُّب له و الاستفادة من كماله و فضيلته و الانتفاع بها. و على هذا فقد بات واضحاً أن الخير المطلق هو معشوق هذه النفوس، و لذا سُمِّيت تلك النفوس ب- «المتألّهة» لسبب نسبتها و تشبّهها به و حبّها له؛ و هذا العشق و ذلك الحبّ ثابتٌ و متأصّل في تلك النفوس المتصفة ب- التَّألُّه، غير زائل عنها».
حتّى يصل إلى قوله:
 «أصبح واضحاً بأنّ وجود الحقّ، و هو الخير المطلق، هو المعشوق الحقيقيّ للنفوس الإنسيّة و الملائكيّة».
و يقول في الفصل الختاميّ:
 «نريد في هذا الفصل، الخروج بعدّة استنتاجات:
أ وّلًا: كما ذكرنا سابقاً، أن جميع الموجودات في هذا الكون، هي في الحقيقة، عاشقة و توّاقة إلى الخير المطلق، بفعل العشق [1] الغريزيّ، و هذا
__________________________________________________
1- ذكر معلّق و مترجم الرسالة في هذا الخصوص: «يصنّف الادباء و أهل الذوق المحبّة إلى مراتب هي:
المرتبة الاولى مرتبة الهَوَى؛ الثانية مرتبة العلاقة؛ ثمّ مرتبة الكَلَف؛ ثمّ مرتبة العِشق؛ ثمّ مرتبة الشَّعَف (بالعين المهملة)؛ ثمّ مرتبة الشَّغَف (بالغين المعجمة)؛ ثمّ مرتبة الجَوَى؛ ثمّ مرتبة التَّيْم؛ ثمّ مرتبة التَّبْل (بفتح التاء و سكون الباء)؛ ثمّ مرتبة التَّدْلِيَة؛ ثمّ مرتبة الهُيوم، و هي آخر المراتب التي يمكن للعاشق الفاني في معشوقه أن يصل إليها، و في هذه المرتبة ينشد الشاعر قائلًا:
         در هر چه نظر كردم             سيماى تو مي‏بينم‏


يقول: «فما نظرت إلى شي‏ءٍ من حولي؛ إلّا و في ذاك الشي‏ء رسمك».
أو كما قال بايزيد: لَيسَ في جُبَّتِي إلَّا اللهُ.
وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: مَا رَأيْتُ شَيْئاً إلَّا وَ قَدْ رَأيْتُ اللهَ فِيهِ أوْ مَعَهُ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 128
الخير المطلق متجلٍّ لعشّاقه، ولكنّ هذا التجلّي مختلف بحسب درجات هذه الموجودات، حيث إنّهم كلّما ازدادوا تقرّباً من الخير المطلق، عظم تجلّيه لهم، و العكس بالعكس.
ثانياً: أن الخير المطلق و العلّة الاولى، يميل انسجاماً مع كرمه و رحمته الذاتيّتين إلى أن يشمل بلطفه جميع الكائنات.
ثالثاً: وجود كلّ الموجودات هو انعكاس لهذا اللطف من لدن الخير المطلق.
أما و قد تمّ توضيح هذه المسألة بشكل إجماليّ، الآن نقول: بأنّ في تركيب آحاد هذه الموجودات عشق غريزيّ لأجل استحصال كمالها الذاتيّ، و كمالها هو نفسه الخير الذي أشرنا إليه.
إذاً، فسبب وقوع كلّ الخيرات، هو ذلك المعشوق الحقيقيّ لكلّ الموجودات، و الذي عبّرنا عنه بالعلّة الاولى، فهي معشوق كلّ الموجودات، و إذا كان هناك من حُرِم معرفته، و جهل وجوده، فهذا الجهل لا ينفي العشق الغريزيّ في الموجودات، لأنّ كلّا وراء كماله الذاتيّ، و حقيقة الكمال- الذي هو الخير المطلق- تلك العلّة الاولى، و التي تتجلّى لكلّ الموجودات، بحسب ذاتها، إلّا أن يكون محجوباً بذاته عن التجلّي،
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 129
فيلزم أن يستتر، فلا ينعم أيّ من الموجودات من فيض وجوده.
إذا كان تجلّي الخير الأوّل هو بتأثير الغير، فيجب إذاً أن تكون الذات المتعالية، و المنزّهة عن كل النقائص، واقعة تحت تأثير الغير أيضاً، و هذا محال، بل الخير الأوّل يتجلى بحسب الذات، و حجب تجلّيه عن بعض الذوات، هو لقصور و ضعف في هذه الذوات ليس إلّا.
و بعبارة أخرى: كلّ نقص و عيب، يكون من جانب القابل، و ليس من جانب الفاعل، و إلّا فذاته المقدّسة متجلّية بحسب الذوات».
و يستطرد في قوله حتى يصل إلى:
 «الثاني: أن الموجود المتهيّئ لأن ينعم باللطف الإلهيّ، هو موجود ذو نفس إلهيّة، على الرغم من أنّه في البدء، و مصداقاً للآية الكريمة عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي وجد بتأثير الفعل الفعّال، و من موقع القوّة، و أمدّته من موقع التصوّرات و رتبة التعقّلات، ولكن، ما أن يصل إلى حدود الفعليّة، و ينعم بنعمة القرب من الحقّ تعالى، حتى يعلو و يسمو إلى مراتب أعلى من ذلك. حيث يقول الملك المقرّب من الله في هذا المقام: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ.
و يتابع قائلًا:
 «لذا، فقد أصبح واضحاً بأنّ اللطف الإلهيّ و الخير المطلق، هو سبب نشئ كلّ الموجودات، و علّة وجودها، فلو لا هذا اللطف الإلهيّ، ما لبس مخلوق لباس الوجود، و أن الحقّ تعالى بوجوده، عاشق لوجود جميع المعلولات، لأنّ جميع المعلولات كما أسلفنا، انعكاس لنور لطفه، و لأنّ عشق العلّة الاولى، هو أطهر العشق، فيكون مَن فاز بلطفه هو المعشوق الحقيقيّ، و هذا اللطف، هو مراد النفوس المتألّهة، و هي نفسها، معشوقات العلّة الاولى، و نستشف من كلمات الأئمّة المعصومين‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 130
صلوات الله عليهم أجمعين ما يلي:
قال الله تعالى: أيّاً من عبادي كانت له الأوصاف الفلانيّة، و عشقني، عشقته أنا أيضاً، لأنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي أن لا يهمل أو يعطّل شي‏ء يحوي جملة فضائل، و هذه الفضائل، متأصّلة في ذاته، و إن لم يصل بفضيلته إلى حدّها الأقصى، و عليه، فالخير المطلق، بمقتضى حكمته الذاتيّة، هو عاشق؛ عاشق لمن لبس الكمال، و إن لم يكن أقصى الكمال... وَ إذَا بَلَغْنا هَذَا المَبْلَغَ فَلْنَخْتِمِ الرِّسَالَةَ، وَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ. [1]
                        إثبات صدر المتألهين سريان العشق في جميع الموجودات‏

و قد بسط المرحوم صدر المتألّهين قدّس الله نفسه الزكيّة الكلام في بحث العشق على نحو أعمق و أجمل ممّا فعل الشيخ الرئيس، حيث برهن تحت عنوان: «الفَصْلُ 15: في إثْبَاتِ أن جَمِيعَ المَوْجُودَاتِ عَاشِقَةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مُشْتَاقَةٌ إلى لِقائِهِ وَ الوُصُولِ إلى دَارِ كَرَامَتِهِ»، على أن الله سبحانه و تعالى، قدّر لكلّ موجود من الموجودات: العقليّة و النفسيّة و الحسّيّة و الطبيعيّة، بصيصاً من الكمال، و لأجل بلوغ هذا الكمال و التحرّك نحو إتمامه، ركّز فيهم العشق و الشوق. أمّا العشق بلا شوق، فهو من اختصاص المفارقات العقليّة، التي تمتلك الفعليّة في جميع جهاتها، و أمّا في غير المفارقات العقليّة من الموجودات التي تفتقر إلى الكمال ولكنّها
__________________________________________________
1- قامت منشورات بيدار بطبع «رسالة عشق» (
/ رسالة العشق) مع اثنتين و عشرين رسالة أخرى في بلدة قم الطيّبة تحت عنوان «رسائل الشيخ الرئيس أبي على الحسين بن عبد الله بن سينا» (ج 1)، و قد احتلّت «رسالة عشق» الصفحات 373 إلى 397. و قام الخطيب الشهير السيّد ضياء الدين الدرّيّ بترجمتها مع ثلاث رسائل أخرى للشيخ باسم «الفوائد الدرّيّة»، و تولّت المكتبة المركزيّة طبعها سنة 1358 ه-، و بلغ مجموع الصفحات التي استوعبتها «رسالة عشق» من هذه الطبعة الثلاثين.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 131
تمتلك القوّة و الاستعداد، فقد أودع فيها العشق و الشوق الإراديّينِ بمقدار، و هكذا العشق و الشوق الطبيعيّين بمقدار، بحسب تفاوت درجاتها في كلّ من هذين الصنفين».
و يتابع الحديث، إلى أن يصل في كلامه إلى:
 «و أنت تعلم أن إثبات العشق في شي‏ء بدون الحياة و الشعور فيه كان مجرّد التسمية، و نحن قد بيّنا- في السفر الأوّل في مباحث العلّة و المعلول- عشق الهيولى إلى الصورة بوجه قياسيّ حِكَمِيّ لا مزيد عليه.
و قد مرّ أيضاً إثبات الحياة و الشعور في جميع الموجودات و هو العمدة في هذا الباب و لم يتيسّر للشيخ الرئيس تحقيقه، و لا لأحد ممّن تأخّر عنه إلى يومنا هذا إلّا لأهل الكشف من الصوفيّة، فإنّه لاح لهم- بضرب من الوجدان و تتبّع أنوار الكتاب و السنّة- أن كلّ شي‏ءٍ حَيّ وَ نَاطِقٌ وَ ذَاكِرٌ لِلَّهِ، مُسَبِّحٌ سَاجِدٌ لَهُ كما نطق به القرآن في قوله:
وَ إن مِّن شَيْ‏ءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. [1]
و قوله: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ. [2]
                        ردّ صدر المتألهين على الشيخ الرئيس في عشق البسائط غير الحيّة

و نحن بحمد الله عرفنا ذلك بالبرهان و الإيمان جميعاً، و هذا أمر قد اختصّ بنا بفضل الله و حسن توفيقه.
فإنّ الذي بلغ إليه نظر «الشيخ» و هو من أعظم الفلاسفة في هذه الدورة الإسلاميّة في إثبات العشق في البسائط غير الحيّة ما ذكره في تلك الرسالة بقوله: «أن البسائط غير الحيّة ثلاثة: أحدها الهيولى الحقيقيّة، و الثاني‏
__________________________________________________
1- مقطع من الآية 44، من السورة 17: الإسراء.
2- صدر الآية 15، من السورة 13: الرعد.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 132
الصورة التي لا يمكن لها القوام بانفراد ذاتها، الثالث الأعراض». [1]
و هنا يذكر صدر المتألّهين نصّ عبارة الشيخ، و هي تقع في صفحة و نصف الصفحة تقريباً، مستنتجاً بأنّ الشيخ قد عبّر عن تلازم الهيولى و الصورة بالعشق، ثمّ يقول: «أن كلّ واحد من البسائط غير الحيّة قرين عشق غريزيّ، فإذاً الذي ذكره الشيخ ليس بشي‏ء.
و نحن نثبت وجود العشق في الموجودات غير الحيّة، عن طريق إثبات وجود الحياة و الشعور لديها، و ما ذكره الشيخ، هو في غاية الضعف، حيث إنّه لا يخفي على أيّ ذكيّ بأنّ قوله في إثبات معنى العشق في هذه الموجودات لم يتحقّق إلّا اللهمّ بطريق التشبيه». [2]
و يتابع صاحب «الأسفار الأربعة» الكلام حتى يصل إلى هذا المقطع:
الفَصْلُ 16: في بَيأنِ طَرِيقٍ آخَرَ في سَرَيَانِ معنى العِشْقِ في كُلِّ الأشْيَاءِ. [3]
و بعد إتمام هذا البحث، يصل إلى:
الفَصْلُ 17: في بَيَانِ أن المَعْشُوقَ الحَقِيقِيّ لِجَمِيعِ المَوْجُودَاتِ وَ أن كَانَ شَيْئاً وَاحِداً في المَآلِ وَ هُوَ نَيْلُ الخَيْرِ المُطْلَقِ وَ الجَمَالِ الأكْمَلِ، إلَّا أن لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أصْنَافِ المَوْجُودَاتِ مَعْشوقاً خَاصَّاً قَرِيباً يَتَوَسَّلُ بِعِشْقِهِ إلى ذَلِكَ المَعْشُوقِ العَامِّ. [4]
في هذا البحث أيضاً، يقوم صدر المتألّهين ببسط القول و تقديم بيانٍ‏
__________________________________________________
1- «الأسفار الأربعة» ج 7، ص 152 إلى 154.
2- «الأسفار الأربعة» ج 7، ص 148 إلى 155.
3- «الأسفار الأربعة» ج 7، ص 158 و 160.
4- «الأسفار الأربعة» ج 7، ص 160.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 133
شافٍ و مفصّل، و بعد بيان الفصل (18)، يصل بالموضوع إلى:
الفَصْلُ 19: في ذِكْرِ عِشْقِ الظُّرَفَاءِ وَ الفِتْيَانِ لِلأوْجُهِ الحِسَانِ، حيث مبتغانا في بيان العشق العامّ في الموجودات للذات القدسيّة للحقّ تعالى، هذه الفقرة من هذا العشق للذات القدسيّة للبارئ جلّ و علا سبحانه و تعالى شأنه.
و بعد سرد تعريفات مختلفة للعشق، يقوم صدر المتألّهين بالبرهنة على أن العشق ليس عشقاً للجسم أو الصورة أو للشكل أو الشمائل، بل هو عشق للنفس وحدها، و لا يمكن أن يكون مراد العشق مادّة أو أمراً مادّيّاً محسوساً. بل المراد، هو أمر معنويّ و حسب، و لهذا فإنّ العاشق حتى و إن أدرك جسم المعشوق، أو وجهه، أو كلّ أعضائه، فإنّ عشقه لن يسكن و لن يهدأ إلّا بعد أن تتّصل روحه بروح المعشوق، و تذوب و تتلاشى فيها.
قال: «و منهم من قال أن العشق هو إفراط الشوق إلى الاتّحاد، و هذا القول و إن كان حسناً إلّا أنّه كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، لأنّ هذا الاتّحاد من أيّ ضروب الاتّحاد، فإنّ الاتّحاد قد يكون بين الجسمَينِ، و ذلك بالامتزاج و الاختلاط، و ليس ذلك يتصوّر في حقّ النفوس، ثمّ لو فرض وقوع الاتّصال بين بدنَي العاشق و المعشوق في حالة الغفلة و الذهول [1] أو النوم فعُلِم يقيناً أن بذلك لم يحصل المقصود، لأنّ العشق كما مرّ من صفات النفوس لا من صفات الأجرام السماويّة، بل الذي يتصوّر و يصحّ من معنى الاتّحاد هو الذي بيّناه- في مباحث العقل و المعقول- من اتّحاد النفس العاقلة بصورة العقل بالفعل و اتّحاد النفس الحسّاسة بصورة
__________________________________________________
1- قال الحكيم السبزواريّ، إنّما قيّد به إذ في حالة انفكاك الاتّصال الجسمانيّ عن الاتّصال الروحانيّ ينكشف جليّة الحال من أنّه أيّهما المقصود.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 134
المحسوس بالفعل.
فعلى هذا المعنى يصحّ صيرورة النفس العاشقة لشخص متّحدة بصورة معشوقها و ذلك بعد تكرّر المشاهدات [1] و توارد الأنظار و شدّة الفكر و الذِّكر في أشكاله و شمائله حتى يصير متمثّلًا صورته حاضرة متدرّعة في ذات العاشق. و هذا ممّا أوضحنا سبيله و حقّقنا طريقه بحيث لم يبق لأحد من الأزكياء مجال الإنكار فيه.
و قد وقع في حكايات العشّاق ما يدلّ على ذلك، كما روي أن مجنون العامريّ كان في بعض الأحايين مستغرقاً في العشق بحيث جاءت حبيبته و نادته: يَا مَجْنونُ! أنَا ليلى. فما التفت إليها، و قال:
لِي عَنْكِ غِنيً بِعِشْقِكِ! [2]
فإنّ العشق بالحقيقة هو الصورة الحاصلة، و هي المعشوقة بالذات لا الأمر الخارجيّ و هو ذو الصورة إلّا بالعرض، كما أن المعلوم بالذات هو نفس الصورة العلميّة لا ما خرج عن التصوّر.
و إذا تبيّن و صحّ اتّحاد العاقل بصورة المعقول و اتّحاد الجوهر الحاسّ بصورة المحسوس- كلّ ذلك عند الاستحضار الشديد و المشاهدة القويّة كما سبق- فقد صحّ اتّحاد نفس العاشق بصورة معشوقه بحيث لم يفتقر بعد ذلك إلى حضور جسمه و الاستفادة من شخصه، كما قال الشاعر:
         أنَا مَنْ أهْوَى وَ مَنْ أهْوَى أنَا             نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا

__________________________________________________
1- قال الحكيم السبزواريّ: يعني أن الاتّحاد، و إن حصل بمشاهدة مرّة، إلّا أنّه يستدعي مَلَكة الاتّحاد، لأنّه أثر هذه الصور على جميع مدركاته.
2- قال سماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد روحي فداه: أن مجنون ليلى كان يقول لليلى: دَعِي نَفْسَكِ عَنِّي! فَإنَّ فِيكِ غِنيً عَنْكِ!
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 135
         فَإذَا أبْصَرْتَنِي أبْصَرْتَهُ             وَ إذَا أبْصَرْتَهُ أبْصَرْتَنَا [1]

                        استحالة الاتّصال الحقيقيّ بين جسمين، و وجود العشق بين جسمين‏

ثمّ لا يخفى أن الاتّحاد بين الشيئين لا يتصوّر إلّا كما حقّقنا، و ذلك من خاصّيّة الامور الروحانيّة و الأحوال النفسانيّة. و أمّا الأجسام و الجسمانيّات فلا يمكن فيها الاتّحاد بوجه، بل المجاورة و الممازجة و المماسّة لا غير، بل التحقيق أن لا يوجد وصال في هذا العالم و لا تصل ذات إلى ذات في هذه النشأة أبداً و ذلك من جهتين:
الجهة الاولى: أن الجسم الواحد المتّصل إذا حقّق أمره عُلِمَ أنّه مشوب بالغيبة و الفقد، لأنّ كلّ جزء منه مفقود عن صاحبه مفارق عنه، فهذا الاتّصال بين أجزائه عين الانفصال، إلّا أنّه لمّا لم يدخل بين تلك الأجزاء جسم مبائن و لا فضاء خال و لا حدث سطح في خلالها، قيل إنّها متّصلة واحدة و ليس وحدتها وحدة خالصة عن الكثرة، فإذا كان حال‏
__________________________________________________
1- قال الحكيم السبزواريّ قدّس الله نفسه في تعليقه على هذا البيت ما معناه:
 «قد يتوهّم البعض من أنّه كان من الأفضل أن يقال نحن روح واحد حلّ بدنَيْن، و الجواب هو أن الشاعر أراد: أنّنا في الحقيقة شخصان من حيث إنّنا متّحدان، فلو تحقّق وجود أحد البدنَينِ تحقّق وجود الثاني كذلك، فلا تتوهّموا و تقولوا أن روحي فقط هي التي حلّتْ في بدني، بل أن روحه أيضاً حلّتْ فيه، ذلك أن روحي هي روحه. و كذا الحال مع بدنه و روحه هو»- انتهى كلام الحكيم السبزواريّ).
وجاء في كتاب «نفائس الفنون» ج 2، ص 26 و 27، طبعة الدار الإسلاميّة:
 «قال الجُنيد: المحبّةُ دخولُ صفاتِ المُحَبِّ على البدنِ من المُحِبِّ. و يتبيّن سرّ «فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعاً وَ بَصَراً» من حقيقة البيتَينِ المذكورَينِ:
         أنا من أهوَى و من أهوَى أنا             نحن روحان حللنا بدنا
             فإذا أبصرتَني أبصرتَه             و إذا أبصرتَه أبصرتَنا
             إلّا أنّه ليس للمحبّة ثمّة سبب واضح             إنّ المحبَّةَ أمرُها عجبٌ‏
             تُلقَى عليك و ما لها سببٌ‏



                        معرفة الله، ج‏1، ص: 136
الجسم في حدّ ذاته كذلك من عدم الحضور و الوحدة، فكيف يتّحد له شي‏ء آخر أو يقع الوصال بينه و بين شي‏ء.
الجهة الثانية: أنّه مع قطع النظر- كما ذكرنا- لا يمكن الوصلة بين الجسمين إلّا بنحو تلاقي السطحين منهما، و السطح خارج عن حقيقة الجسم و ذاته، فإذاً لا يمكن وصول شي‏ء من المحبّ إلى ذات الجسم الذي للمعشوق، لأنّ ذلك الشي‏ء إمّا نفسه أو جسمه أو عرض من عوارض نفسه أو بدنه، و الثالث محال لاستحالة انتقال العرض، و كذا الثاني لاستحالة التداخل بين الجسمين. و التلاقي بالأطراف و النهايات لا يشفي عليل طالب الوصال، و لا يروي غليله.
و أمّا الأوّل فهو أيضاً محال، لأنّ نفساً من النفوس لو فرض اتّصالها في ذاتها ببدن لكانت نفساً لها، فيلزم حينئذٍ أن يصير بدن واحد ذا نفسين و هو ممتنع.
و لأجل ذلك أن العاشق إذا اتّفق له ما كانت غاية متمنّاه، و هو الدنوّ من معشوقه و الحضور في مجلس صحبته معه، فإذا حصل له هذا المتمنّي يدعي فوق ذلك، و هو تمنّي الخلوة و المجالسة معه من غير حضور أحد، فإذا سهل ذلك و خلى المجلس عن الأغيار تمنّى المعانقة و التقبيل، فإن تيسّر ذلك تمنّى الدخول في لحاف واحد و الالتزام بجميع الجوارح أكثر ما ينبغي. و مع ذلك كله الشوق بحاله، و حرقة النفس كما كانت، بل ازداد الشوق و الاضطراب كما قال قائلهم:
         اعَانِقُهَا وَ النَّفْسُ بَعْدُ مَشوقَةٌ             إلَيْهَا وَ هَلْ بَعْدَ العِنَاقِ تَدَاني‏
             وَ ألْثَمُ فَاهَا كَيْ تَزُولَ حَرَارَتِي             فَيَزْدَادُ مَا ألْقَى مِنَ الهَيَجانِ‏
             كَأنَّ فُؤَادِي لَيْسَ يُشْفَي غَلِيلُهُ             سِوَى أن يُرَى الرُّوحَانِ يَتَّحِدَانِ‏

و السبب اللمّيّ في ذلك أن المحبوب في الحقيقة ليس هو العظم‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 137
و لا اللحم و لا شي‏ء من البدن، بل و لا يوجد في عالم الأجسام ما تشتاقه النفس و تهواه، بل صورة روحانيّة موجودة في غير هذا العالم». [1]
نعم، هذه المسائل ذكرت، لنتبيّن عظمة الروح و النفس الإنسانيّة، و أن كلّ ما هو موجود فهو منه، و إليه ينتهي كلّ مقام و رتبة. فالبدن جسد مسخّر لتنفيذ أوامر و نواهي النفس ليس إلّا.
                        ليس في عالم الأجسام شي‏ء تشتاق إليه النفس‏

إن العشق يولّد روحاً، و العاشق يتحوّل إلى روح للمعشوق الحقيقيّ، و المصدر الأوّل، المجرّد المنزّه، و الصرف الخالص. و للروح قوّة هيوليّة، و قابليّة بسيطة غير متناهية، ليحظى بشرف لقاء الله و نعمة التكلّم إليه، فيصبح عندها كليم الله.
إن على الإنسان أن يعرف قدر نفسه، و أن لا يحكم على هذه الجوهرة النفيسة أن تكون أسيرة البدن و رغباته و شهواته المادّيّة، و لا يحبس القوّة الناطقة في حدود القوّة الحيوانيّة و البهيميّة، و لا يبدّل عشقه للأوجه الحسان في عالم التجرّد، بعشقه للأشقياء و العاصين في عالم الطبيعة، فتكون عاقبته الخسران العظيم.
يقول صدر المتألّهين، في بحث العظمة و التجرّد و النورانيّة:
 «اعلم أن هذه المسألة دقيقة المسلك بعيدة الغور و لذلك وقع الاختلاف بين الفلاسفة السابقين في بابها، و وجه ذلك أن النفس الإنسانيّة ليس لها مقام معلوم في الهويّة، و لا لها درجة معيّنة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعيّة و النفسيّة و العقليّة التي كلٌّ له مقام معلوم، بل النفس الإنسانيّة ذات مقامات و درجات متفاوتة، و لها نشآت سابقة و لاحقة، و لها في كلّ مقام و عالم صورة أخرى، كما قيل في البيت الشعريّ التالى:
__________________________________________________
1- «الأسفار الأربعة» ج 7، ص 171 إلى 179.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 138
         لَقَدْ صَارَ قَلْبِي قَابِلًا كُلَّ صُورَةٍ             فَمَرْعى لِغَزْلَانٍ وَ دَيْراً لِرُهْبانِ [1]

                        تجرّد النفس يستدعي بقاءها و فناءها في ذات الله تعالى‏

و ما هذا شأنه صعب إدراك حقيقته و عسر فهم هويّته، و الذي أدركه القوم من حقيقة النفس ليس إلّا ما لزم وجودها من جهة البدن و عوارضه الإدراكيّة و التحريكيّة، و لم يتفطّنوا من أحوالها إلّا من جهة ما يلحقها من الإدراك و التحريك، و هذان الأمران ممّا اشترك فيهما جميع الحيوانات.
و أمّا ما أدرك منها أزيد من ذلك و هو تجرّدها و بقاؤها بعد انقطاع تصرّفها عن هذا البدن فإنّما عُرِفَ ذلك من كونها محلّ العلوم، و أن العلم لا ينقسم و محلّ غير المنقسم غير منقسم، فالنفس بسيطة الذات، و كلّ بسيطة الذات غير قابل للفناء و إلّا لزم تركّبه من قوّة الوجود و العدم و فعليّة
__________________________________________________
1- قال الحكيم السبزواريّ في تعليقه على هذا البيت ما يلي:
 «يعني بسبب اللطافة و البساطة في ألوانه صار قابلًا للتحوّل إلى كلّ صورة؛ سواء كانت من جنس تلك الصور المترتّبة و الطوليّة الحاصلة له بواسطة الحركة الجوهريّة و العرضيّة، أم من الصور الذهنيّة غير المترتّبة بالترتيب الطبيعيّ المعهود لها.
وبناءً على هذا فإنّ مرعى لِغِزْلَانِ هو باعتبار النشأة الحيوانيّة السابقة، وَ دَيْراً لِرُهْبانِ باعتبار النشأة العقليّة اللاحقة. أو أن خياله كان في السابق مصروفاً إلى أمتعة الدنيا من أنعام و زرع و غيرهما، ثمّ كان قد تذكّر الله تعالى بعد ذلك و الملائكة المقرّبين و الأطهار المنتجبين لساحته تعالى.
وأمّا التعبير بالغزال و ذلك من جهة توحّشه، فهو إشارة إلى أن شهواته تشبه الحيوانات الوحشيّة غير المعلَّمة طالما أنّها لم تكبح، إلّا أنّه يمكن لقلب الإنسان أن يكون مرعى للحيوانات الإنسيّة بكونها مسخّرة و مقهورة تحت إشارة العقل و إيماءته للتوجّه إلى الله تعالى، بل و يمكن أن يكمن خلاصه و نجاته بذبح حيوانيّته بتقديم الهدي و القربان في سبيل الله: أن اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفُسَهُمْ وَ أمْوَلَهُم بِأنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ. و لعلّ كذلك المراد بهذا هو أن قلب الإنسان قد يتحوّل إلى مرعى للمحبوبة التي تمتلك عيوناً تشبه عيون الغزلان الجميلة الطلعة».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 139
الوجود و العدم هذا خلف.
هذا غاية عرفانهم بالنفس أو ما يقرب من هذا. و من ظنّ أنّه بهذا القدر عرف حقيقة النفس فقد استسمن ذا ورم». [1]
و هنا يجهد صاحب «الأسفار» بطرق مختلفة في تعريف النفس و بيانها، و بما أنّنا لسنا بصدد إثبات تجرّد النفس، فسنعزف عن ذكره هنا.
و على العموم، يجب تطهير العين من النظر لغير ليلى، و غسل الاذن من الاستماع، إلّا لصوتها، حتى تأذن بالنظر إلى طلعتها، و الإنصات لحديثها.
إلهي، ما العمل؟ و ما الحيلة؟ و إجمالًا، هل من بارقة أمل، أم علينا أن نلقي بأنفسنا في أحضان اليأس؟
لقد قالت نساء الحيّ من قبيلة ليلى: اذهبْ و طهّر عينيك و أذنيك. تطهير العين هو بالبكاء على فراق المحبوب الأزليّ في الليالى الحالكة؛ و تطهير الاذن بغلقها عن سماع حديث السوء الذي يغضب المعشوق؛ تطهير العين عَنْ كُلِّ مَا لَا يُحِلُّ اللهُ النَّظَرَ إليه و تطهير الاذن عَنْ كُلِّ مَا لَا يُحِلُّ اللهُ الاسْتِمَاعَ إليه.
أليس قد ورد في الروايات أن الله العليّ القدير يحبّ العين الباكية من بين سائر العيون؟ و أن كلّ عين يوم القيامة ستبكي، إلّا التي سهرت الليالى باكية من خوف الله.
ولكن لِمَ هذا البكاء؟ هذا البكاء للنظرات التي كانت لغير الله، و هو غُسل لدَنَس و أوساخ البصر و البصيرة؛ لأنّ النظر إلى ليلى بدون هذا الغسل و التطهير غير ممكن. فالتطهير- إذاً- هو طريق و سبيل يوصل إلى‏
__________________________________________________
1- «الأسفار الأربعة» ج 8، ص 343 و 344، باب 7، فصل 3.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 140
الهدف، و بعد طي هذه الطريق، يسمو الإنسان أعلى و أعلى حتى يتعرّف إلى الله، و هناك حيث لا أحد غير الله. فكل المراحل قد طويت، و هذا المسكين قد بكي حتى طهر ناظِرَيه، و نساء الحيّ قد كففن عن ملامته، و يمضي و يمضي حتى يصل إلى ليلى إذ لَم يَعُد عشقه مجازيّاً و لا مادّيّاً، كما لم تعد ليلى بدناً، بل هي روح و نفس مجرّدة؛ و في هذه الحال إذا أمست في المشرق و قيس في المغرب، فهناك ارتباط بينهما. فهو يعيش صحوها و نومها، و مرضها و عافيتها.
كان كثير من أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و أصحاب الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم على هذه الحال. هكذا كان اوَيس اليمانيّ القرنيّ و كانوا يحسّون بالوجدان نوايا أسيادهم و قادتهم، و كانت ضمائرهم تُدرك الصالح و الفاسد في الامور على خطى ضمائر أسيادهم و مواليهم. فهذا اويس يُكسر له ضرس في اليمن، في نفس اليوم و في نفس الساعة التي كُسِرَ فيها ضرس النبيّ في يوم احد.
قيل لمّا فُصِدَ قيس، تعالى صياحه، و فسّر ذلك بأنّه يخاف على ليلى من الألم، و خشيَ أن- حين فَصدوا يَده- قد فصدوا يدها و هي في ديارها.
         گفت مجنون من نمي‏ترسم ز نيش             صبر من از كوه سنگين است بيش‏
             منبلم بى زخم ناسايد تنم             عاشقم بر زخمها بر مي‏تنم [1]

__________________________________________________
1- يقول: «قال- مجنون ليلى-: أنا لا أخاف المِبضَع، لأنّ صبري أقوى من الجبل الشامخ.
ولأنّني عاشق فإنّ جسمي لا يهدأ بعيداً عن الجروح التي أستطيع مقاومتها و الصبر على آلامها».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 141
         ليك از ليلى وجود من پُر است             اين صدف پر از صفات آن دُر است‏
             ترسم اى فصّاد اگر فصدم كني             نيش را ناگاه بر ليلى زني‏
             داند آن عقلى كه او دل روشنى است             در ميان ليلى و من فرق نيست‏
             من كيم ليلى و ليلى كيست من             ما يكى روحيم اندر دو بدن [1]

                        ينبغي معرفة الله بالله تعالى؛ «جاءت الشمس على الشمس دليلًا»

الله سبحانه و تعالى شأنه نور، و هو ظاهر، و هو الذي أظهر جميع المخلوقات؛ و الإنسان يريد أن يصل إلى الله، فكيف له إدراك الظاهر و هو المخلوق الذي يمثّل ظهوراً؟ فعند ما يكفّ عن الظهور، فإنّه سيلتحم بالشعاع و يرجع إلى أصل النور. يرجع إلى الشمس و يخترق ذاتها، و هناك لن يكون ثمّة شعاع، فالشمس هي الشمس و لا يمكن لأحد أن يعرف ذاتاً للشمس غير الشمس نفسها.
و مهما تكلّمنا عن الشمس و تحدّثنا عن عظمتها و خصائصها و صفاتها، فمن أين لنا أن نعرف كنه حقيقتها لنتحدث عنها؟ و أين سنراها؟ أنّي سندرك حرارتها؟ بل كيف سنلمّ كمّها و كيفها؟ ملايين الفراسخ تفصلنا عنها، و ما يصلنا من حرارتها هو نزر يسير ليس إلّا، و متى‏
__________________________________________________
1- يقول: «و أن وجودي ملي‏ءٌ بالحيويّة بسبب وجود ليلى، فهذه الصَّدَفَة (التي هي أنا) تعكس كلّ صفات تلك الجوهرة التي هي ليلى.
وإنّي- أيّها الحجّام- لأخاف أن تشتبه يدك فتجرح ليلى بينما تريد فصد عرقي.
ذلك أن كلّ من له عقل و هو لبيب لا يمكنه التفريق بيني و بين ليلى.
فأنا في الحقيقة ليلى و ليلى هي أنا، إذ نحن روح واحدة تسكن بدنَيْن».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 142
ما أردنا رؤيتها وضعنا زجاجة سوداء على أعيننا و من وراء حجاب أسود و مظلم نستطيع فقط رؤية قرصها.
هذا مبلغ علمنا عن الشمس، فمن ذا الذي عرف الشمس كما هي؟
الذي عرف كُنه الشمس و حقيقتها، هو الذي انطلق من الأرض و دخل في أعماقها، و ذاب و انمحى في ذراتها، و لم يبق له أيّ أثر، و للأسف عندها لن يكون هو موجوداً فيها، بل أن كلمة (هو) لن تجد لها مكانا في بطن الشمس.
         مدح تو حيف است با زندانيان             گويم اندر مجمع روحانيان‏
             مدح، تعريف است و تخريق حجاب             فارغ است از مدح و تعريف آفتاب‏
             مادح خورشيد مدّاح خود است             كه دو چشمم روشن و نامُرمَد [1] است‏
             ذمّ خورشيد جهان ذمّ خود است             كه دو چشمم كور و تاريك و بد است [2]

__________________________________________________
1- اي غير المصابة بالرمد، و الرمد مرض يصيب العين فيجعلها ترى القمر محاطاً بهالة دائميّة.
2- يقول: «أن مدحي لك مع السجناء مدعاة للأسف، إذ يجب مدحك ضمن جماعة الروحانيّين.
إن المدح تعريف و خرق للحجاب، و الشمس غنيّة عن المدح و التعريف.
إن مدّاح الشمس في الواقع يمدح نفسه، و كأنّه يقول: أن عينيّ مفتوحتان و سالمتان، غير مُرمدتين.
وأن من يذمّ الشمس إنّما يذمّ نفسه، فهو كمن يقول: عيناي لا تبصران شيئاً، و لا أرى سوى الظلمة و الشرّ».
ديوان «المثنوي» ص 429، السطر 4 و 5، بداية (الكتاب الأوّل)، طبعة آقا ميرزا المحموديّ‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 143
                        العشّاق هم ضحايا المعشوقين‏

و قال في مكان آخر:
         عاشقى پيداست از زارى دل             نيست بيمارى چو بيمارى دل‏
             علّت عاشق ز علّتها جداست             عشق، اصطرلاب اسرار خداست [1]

***
          آفتاب آمد دليل آفتاب [2]             گر دليلت بايد از وى رو متاب‏
             از وى ار سايه نشانى مي‏دهد             شمس هر دم نور جانى مي‏دهد
             سايه خواب آرد ترا همچون سمر             چون بزايد شمس، انشقّ القَمر [3]

__________________________________________________
1- يقول: «أن العشق ظاهر من خلال شكاوي القلب و الفؤاد، و لا داء كالعشق أبداً.
إن علّة العاشق لا تشبه العلل الأخرى، فمثل العشق كمثل إسطرلاب أسرار الله».
2- إشارة إلى الحديث عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبِّي، و كذلك يَا مَنْ دَلَّ على ذَاتِهِ بِذَاتِهِ. (التعليقة).
3- يقول: «إذا كانت الشمس لكَ دليلًا للشمس فلا تُشِحْ بوجهك عنها.
إنّها و إن كانت تُظهر الظلّ إلّا أنّها تشعّ على العالم بالنور و الضياء.
إن الظلّ يغريك على النوم كالقصّة (التي تقال عند رأس من يريد النوم)، فلو ولدت الشمس، انشقّ القمر».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 144
         خود غريبى در جهان چون شمس نيست             شمس جان باقئى كش أمس نيست [1]

يقول الشيخ مصلح الدين سعدي الشيرازيّ:
 «الطوّافون حول كعبة جلاله قد اعترفوا بتقصيرهم في عبادته و ينادون: مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبادَتِكَ، و تحيّر العارفون في وصف جماله قائلين: مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ! [2]
__________________________________________________
1- يقول: «لا غريب كالشمس في هذا العالم، فمع انقضاء يوم أمس يبدو و كأنّ الشمس لم يكُن لها وجود إلّا اليوم».
ديوان «المثنوي» ج 1، ص 4، سطر 12 و 16 و 17، طبعة ميرزا المحموديّ.
2- يقول السمعانيّ في كتاب «روح الأرواح في شرح أسماء الملك الفتّاح» ص 54:
 «فتأتي ملائكة الملوك إلى صوامع العبادة و تشعل ناراً فيها، و تبعثر أكداس التقديس و التسبيح قائلةً: مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ. ثمّ يأتي العرفاء و الموحّدون ناشرين أيديهم قائلين: مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ».

Tidak ada komentar:

Posting Komentar