Pages

Sabtu, 03 Desember 2011

Iman Dan Fikiran Ja'faf Subhani


                        الايمان والكفر، ص: 3
قاربوا الخطى أيُّها المسلمون‏
بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏
الوحدة الإسلامية وجمع شمل المسلمين ورصّ صفوفهم وجمع طاقاتهم على اتّجاهٍ واحدٍ ممّا يتبنّاه كل مسلم واعٍ له إلمامٌ بما يجرى على المسلمين في أراضيهم وعقر دارهم.
ولكن الساحة الإسلامية تشاهد اليوم بعض أصحاب القلم، والصدارة قد جعلوا على عاتقهم تفريق الكلمة، وتكفير بعضهم بعضاً، وتجزئة الأُمّة، بدل توحيدها، وتماسك صفوفها، فلم نزل نشاهد فتوى بعد فتوى في تكفير فرقة دون فرقة وتفسيق طائفة أُخرى.
هذا وذاك دعاني إلى دراسة مسألة الإيمان والكفر في ضوء الكتاب والسنّة حتى يتّضح للقرّاء المتأثرين بهذه الفتاوى‏ حدا الإيمان والكفر، فسوف يتضح أنّه لا يصح لنا تكفير أهل القبلة ما داموا مؤمنين بتوحيد اللَّه تعالى ورسالة نبيه الأكرم- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- والمعاد، والطوائف الإسلامية كلّهم متظلّلون تحت هذه الخيمة، رافلين في حلل الإيمان، مبتعدين عما يوجب الخروج عن الإسلام وسيتضح لك ذلك بقراءة الفصول العشرة لذلك الكتاب.
واللَّه من وراء القصد.
جعفر السبحاني‏
قم المشرفة- 15/ 12/ 1415 ه ق‏
                        الايمان والكفر، ص: 5
بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏
الإيمان والكفر، مفهومهما وحدودهما تمهيد
البحث عن الإيمان والكفر من المسائل المهمة في حياتنا الحاضرة، لأنّ الرابطة الوحيدة بين المسلمين هي رابطة الإيمان الوثيقة من غير فرق بين أجناسهم.
ولم يزل المسلمون ومنذ قرون، غرضاً لأهداف المستعمرين، وهم يبذلون جهدهم في تفريقهم وتشتيتهم إلى‏ فرق وأُمم متباعدة، ينهش بعضهم بعضاً، وكأنّهم ليسوا من أُمة واحدة، كل ذلك ليكونوا فريسة سائغة لهم ينهبون ثرواتهم ويقضون على‏ عقيدتهم وثقافتهم الإسلامية بشتّى‏ الوسائل.
فالمسلمون في هذه الظروف الحرجة في أشدّ الحاجة إلى‏ رصّ الصفوف وتوحيد الكلمة كما أنّ لهم كلمة التوحيد، ولا يتسنّى‏ ذلك إلّا بعد التعرّف عليهم‏
                        الايمان والكفر، ص: 6
وعلى‏ أفكارهم، عسى‏ أن يتظلَّل الجميع- دون استثناء- في ظلّ الإيمان باللَّه ورسوله، وهذا ما يدعونا قبل كل شي‏ء إلى‏ دراسة حقيقة الإيمان في ضوء الكتاب والسنّة، كي تكون هي المقياس في القضاء العادل في حق الفرق المختلفة في الساحة الإسلامية.
ونجتني من ذلك فائدتين:
الأُولى‏: ربّما تؤدّي الدراسة إلى‏ ثمرة مهمة في ساحة الوحدة الإسلامية وهي: أنّه بعد تبيين حقيقة الإيمان مفهوماً وحدّاً ربّما تنضوي تحتها عشرات الفرق الإسلامية، التي ربّما أُسى‏ء الظنّ بهم بشتّى‏ الوسائل، وربّما احتسبوا أجانب فيصبحوا إخواناً مخلصين.
الثانية: وربّما ينعكس الأمر على‏ البعض الآخر فيُلفَظوا عن حظيرة الإسلام وقد كنّا نتصوّرهم من أُمّها وصميمها.
                        الايمان والكفر، ص: 7
الإيمان في الكتاب والسنّة:
البحث في الإيمان والكفر بحث واسع، مترامي الأطراف، والخوض في غماره يخرج الرسالة عن كونها رسالة موجزة، فالذي سوف نركّز عليه من بين البحوث المتوفّرة هو البحث في الجهات التالية:
الجهة الأُولى: في تفسير الإيمان لغة واصطلاحاً.
الجهة الثانية: في أنَّ العمل جزء من الإيمان وعدمه.
الجهة الثالثة: في أنّه يقبل الزيادة والنقيصة أو لا.
الجهة الرابعة: فيما يجب الإيمان به.
الجهة الخامسة: في تحديد الكفر وأسبابه وأقسامه.
الجهة السادسة: في جواز تكفير أهل القبلة وعدمه.
الجهة السابعة: في الفرق بين الإسلام والإيمان.
الجهة الثامنة: لزوم تحصيل العلم في العقائد.
الجهة التاسعة: في الدفاع عن الحقيقة.
الجهة العاشرة: في الوحدة الإسلامية.
والمهم منها هو الجهة الرابعة والخامسة، إذ بهما يتميّز المؤمن عن الكافر، يتميّز كل من ينضوي تحت راية الإيمان عمّن يُقصى‏ منها، وإليك البحث في الأُمور أعلاه:
***
                        الايمان والكفر، ص: 9
 الجهة الأُولى‏: الإيمان لغة واصطلاحاً
1- قال الخليل: الأمن: ضدّ الخوف، والفعل منه أمن يأمن أمناً، والإيمان: التصديق نفسه، وقوله تعالى‏: «وَما أنْتَ بِمُؤمنٍ لَنا» بمصدِّق لنا «1».
قال ابن فارس: «أمن» له أصلان: أحدهما الأمانة التي هي ضدّ الخيانة، والآخر التصديق. والمعنيان متدانيان «2».
وقال ابن الأثير: في أسماء اللَّه تعالى‏: «المؤمن» هوالذي يَصدُق عباده وعده، فهو من الإيمان: التصديق، أو يؤمّنهم في القيامة من عذابه، فهو من الأمان، والأمن ضدّ الخوف «3».
ويظهر من ابن منظور أنّ له استعمالات مختلفة:
1- الأمن ضدّ الخوف. 2- الأمانة ضد الخيانة. 3- الإيمان ضد الكفر. 4- الإيمان: التصديق، ضدّه التكذيب يقال: آمن به قوم، وكذَّب به قوم. فأمّا آمنته المتعدي فهو ضدّ أخفته. وفي التنزيل العزيز: «آمنهم من خوف» «4».
__________________________________________________
 (1). ترتيب العين: 56.
 (2). المقاييس: 1/ 133.
 (3). النهاية: 1/ 69.
 (4). لسان العرب: 13/ 21.
                        الايمان والكفر، ص: 10
والحصيلة من كلماتهم أنّ الثلاثي المجرّد من مادة «أمن» يستعمل في ضدّ الخوف كما قال سبحانه: «وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً يَعْبُدونَنِي لايُشْرِكُوا بِي شَيْئاً» (النور- 55) وأمّا المزيد منه فالمقرون بالباء أو اللام يأتى بمعنى‏ التصديق كقوله سبحانه: «امَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيهِ مِنْ رَبّهِ» (البقرة- 285) وقوله عزّ من قائل: «وَما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا» (يوسف- 17) وأمّا المتعدّي بنفسه فهو بمعنى‏ ضدّ أخاف، كما عرفت.
وعلى‏ ذلك درج المتكلّمون في تعريف الإيمان حيث فسّروه بالتصديق.
قال عضد الدين الإيجي: الإيمان: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، فتفصيلًا فيما علم تفصيلًا، وإجمالًا فيما علم إجمالًا «1».
وقال التفتازاني: الإيمان: اسم للتصديق عند الأكثرين أي‏تصديق النبىّ فيما علم مجيئه به بالضرورة «2».
وأمّا أكثر أعلام الشيعة ففسّروه بالتصديق، نقتصر على‏ ما يلى:
قال المرتضى‏ (355- 436 ه): إنّ الإيمان عبارة عن التصديق القلبي ولا اعتبار بما يجري على‏ اللسان، فمن كان عارفاً باللَّه تعالى‏ وبكلّ ما أوجب معرفته، مقرّاً بذلك ومصدّقاً فهو مؤمن «3».
وقال ابن ميثم: إنّ الإيمان عبارة عن التصديق القلبي باللَّه تعالى‏، وبما جاء به رسوله من قول أو فعل، والقول اللساني سبب ظهوره، وسائر الطاعات ثمرات مؤكدة له «4».
__________________________________________________
 (1). شرح المواقف: 8/ 323، قسم المتن.
 (2). شرح المقاصد: 5/ 176.
 (3). المرتضى‏: الذخيرة في علم الكلام: 536- 537.
 (4). ابن ميثم: قواعد المرام: 170.
                        الايمان والكفر، ص: 11
وقال نصير الدين الطوسي: والإيمان: التصديق بالقلب واللسان، ولا يكفي الأوّل لقوله تعالى‏: «و اسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ» ونحوه، ولا الثاني لقوله: «قُلْ لَمْ تُؤمِنُوا» واختاره العلّامة الحلّى في شرحه لكلام المحقّق الطوسي «1».
وهو خيرة المحقّق الطوسي في الفصول النصيرية «2» والفاضل المقداد في إرشاد الطالبين «3» ونقله المجلسي عن بعض المحقّقين وقال: إنّه عرفه بقوله: هو التسليم للَّه‏تعالى‏ والتصديق بما جاء به النبيّ لساناً وقلباً على‏ بصيرة «4».
نعم، فسّره الطبرسى في تفسيره بالمعرفة وقال: أصل الإيمان هو المعرفة باللَّه وبرسوله وبجميع ما جاءت به رسله، وكل عارف بشي‏ء فهو مصدّق له «5».
ونسبه الشهيد الثاني إلى‏ أصحابنا «6».
ولكنّه تفسير له بالمبدأ فإنّ التصديق القلبي فرع المعرفة فكلّ مصدّق، عارف بما يصدّقه ولا عكس؛ إذ ربّما يعرف ولا يصدّق قال سبحانه: «الَّذينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهَمْ» (البقرة- 146) ومع العرفان ما كانوا مؤمنين.
والفرق بين التصديق والمعرفة واضح، لأنّ في الأوّل سكون النفس وهو كسبي اختياري يؤمر به ويثاب عليه، والمعرفة ربّما تحصل بلا كسب والفرق بينهما كالفرق بين الإيمان والعلم، فلو كان التصديق ملازماً للتسليم فهو، وإلّا يشترط
__________________________________________________
 (1). العلّامة الحلي: كشف المراد: 426.
 (2). نقله العلّامة المجلسي عنه في البحار: 69/ 131، وقال: إنّ الإيمان هو التصديق القلبي مذهب جمع من متقدّمي الإمامية ومتأخّريهم ومنهم المحقّق الطوسي في فصوله.
 (3). الفاضل المقداد: إرشاد الطالبين: 442.
 (4). المجلسي: البحار: 68/ 296.
 (5). الطبرسى: مجمع البيان: 1/ 89.
 (6). زين الدين العاملي في رسالة حقائق الإيمان وهو فسّره لغة بالتصديق، لاحظ البحار: 69/ 131.
                        الايمان والكفر، ص: 12
فيه وراء التصديق: التسليم، لقوله سبحانه: «فلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما» (النساء- 65).
وبما ذكرنا يعلم عدم تمامية ما ذكره التفتازاني في ذيل كلامه المتقدم، وهو أنّ الشيعة فسّرت الإيمان بالمعرفة كجهم والصالحي، لما عرفت أنّه قول الطبرسى- قدّس سرّه- وغيره على ما نقله الشهيد الثاني، لا قول الشيعة بأجمعهم.
الإيمان اصطلاحاً:
فإذا كان الإيمان بمعنى‏ التصديق: فيقع الكلام في كفاية أيّ قسم منه، فإنّ للتصديق مظاهر مختلفة، فالمحتملات أربعة:
1- الإيمان هو الإقرار باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه، وهو قول محمد بن كرّام السجستاني.
2- التصديق القلبي وإن أظهر الكفر بلسانه، وهذا هو المنسوب إلى‏ جهم ابن صفوان.
3- الإيمان هو التصديق القلبي منضمّاً إلى‏ التصديق باللسان، وأمّا العمل فهو من ثمراته غير داخل في صميم الإيمان، وهو المنسوب إلى‏ مشاهير المتكلّمين والفقهاء.
4- الإيمان هو التصديق القلبي منضمّاً إلى‏ الإقرار باللسان والعمل بالجوارح، وهو قول المعتزلة والإباضية، وجمع من القدامى‏.
لنأخذ بدراسة هذه الأقوال:
أمّا الأوّل: فقد زعموا أنّ النبيّ وأصحابه ومن بعدهم اتّفقوا على‏ أنّ من‏
                        الايمان والكفر، ص: 13
أعلن بلسانه شهادة فإنّه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام، أضف إليهم قول رسول اللَّه في السوداء: «اعتقها فإنّها مؤمنة» «1».
يلاحظ عليه: أنّ الحكم عليه بالإيمان لأجل كون الإقرار باللسان طريقاً وذريعة إلى‏ فهم باطنه وتصديق قلبه، وأمّا لو علم عدم مطابقة اللسان مع الجنان فيحكم عليه بالنفاق، قال سبحانه: «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَومِ الآخِرِ وما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» (البقرة- 8). ولمّا كان الرسول وأصحابه مأمورين بالحكم بحسب الظاهر، أُمروا بالقتال إلى‏ أن يشهدوا بتوحيده سبحانه كما قال- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: «أُمِرْت أن أُقاتل الناس حتى‏ يشهدوا أن لا إله إلّااللَّه ويؤمنوا بما أُرسلت به، فإذاً عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّابحقّها وحسابهم على‏ اللَّه «وبذلك يظهر وجه حكمه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- في السوداء «بأنّها مؤمنة» «2» روى‏ ابن حزم عن خالد بن الوليد أنّه قال: رُبّ رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- «إنّى لم أُبعث لأشُقّ عن قلوب الناس».
وأمّا الثاني: أي كون الإيمان هو التصديق القلبي وإن أظهر الكفر بلسانه الذي نسب إلى‏ جهم بن صفوان: فقد استدل بما مرّ من الآيات عند البحث في تفسير الإيمان لغة، قال سبحانه: «ومَا أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا» (يوسف- 17) وقوله تعالى‏: «وامنَ لَهُ لُوط» (العنكبوت- 26) مضافاً بأنّ القرآن نزل بلسان عربيّ مبين وخاطبنا اللَّه بلغة العرب وهو في اللغة التصديق والعمل بالجوارح لا يُسمّى‏ إيماناً.
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره دليل على‏ خروج العمل عن حقيقة الإيمان، وأمّا كونه نفس التصديق القلبي فلا يثبته، كيف وقد دلّت بعض الآيات على‏ أنّ من جَحَدَ لساناً أو عملًا وإن استيقن قلباً فهو ليس بمؤمن، بل هو من الكافرين، يقول سبحانه: «وجَحَدوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوّاً فانْظُرْ كَيْفَ كانَ‏
__________________________________________________
 (1). ابن حزم: الفصل: 3/ 190.
 (2). ابن حزم: الفصل: 2/ 206، وسيوافيك تخريج الحديث.
                        الايمان والكفر، ص: 14
عَاقِبةُ المُفْسِدِينَ» (النمل- 14) والآية نازلة في حقّ الفراعنة الذين أذعنوا في ظل معاجز موسى‏ بأنّه مبعوث من اللَّه سبحانه، ولكنّهم جَحَدوا بآيات اللَّه فصاروا من الكافرين.
نعم هناك نكتة، وهي: أنّ الآية لا تقوم بنفي كفاية التصديق القلبي في تحقّق الإيمان إذا لم يقترن مع الجَحْد، وإنّما تثبت عدم كفايته إذا اقترن به، فلا بدّ في إثبات عدم كفاية الأوّل من التماس دليل آخر.
ثم إنّ لابن حزم الظاهري (ت 456 ه) كلاماً في المقام استشكل به على‏ المستدل، وذلك بوجهين:
الأوّل: انّ الإيمان في اللغة ليس هو التصديق، لأنّه لا يسمى‏ التصديق بالقلب دون التصديق باللسان إيماناً في لغة العرب، وما قال- قطّ- عربىّ إنّ من صدق شيئاً بقلبه فأعلن التكذيب بلسانه أنّه يسمى‏ مصدّقاً به، ولا مؤمناً به، وكذلك ما سُمى- قطّ- التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً بلغة العرب.
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره يثبت عدم كفاية التصديق مع التكذيب باللّسان، وأمّا عدم كفاية التصديق مع عدم التكذيب فلا تثبته الآية ولا كلام العرب كما عرفت، ولأجل ذلك قلنا: لابدّ في إثبات عدم كفاية ذلك القسم من التماس دليل آخر.
الثاني: لو كان ما قاله صحيحاً لوجب أن يطلق اسم الإيمان لكل من صدق بشى‏ء مؤمناً، ولكان من صدق باطنية الحلّاج والمسيح والأوثان مؤمنين لأنّهم مصدّقون بما صدقوا به «1».
__________________________________________________
 (1). ابن حزم الفصل: 3/ 190.
                        الايمان والكفر، ص: 15
يلاحظ عليه: أنّه كلام واهٍ جدّاً، لأنّ موضوع الدراسة هو الإيمان اصطلاحاً فلا يعمّ ما كان على‏ طرف النقيض منه كالتصديق بإلهية الحلّاج والمسيح.
نعم لو كان موضوع الدراسة هو تفسير التصديق لغة، فلا شك أنّه يشمل كل تصديق متعلّق بشي‏ء، قال سبحانه: «وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا» (يوسف- 17).
وكم لابن حزم في كتبه من «الفصل» و «المحلّى‏» كلمات واهية مضافاً إلى‏ ما اتّخذ لنفسه خطّة في الكتابة وهي؛ التحامل على‏ الفرق الإسلامية بالسّباب وبذاءة الكلام، عفا اللَّه عنّا وعنه.
وأمّا القول الثالث والرابع: فمتقاربان، غير أنّ الرابع جعل العمل جزء من الإيمان، والثالث جعله من ثمراته وكماله، لاجزءاً لحقيقته، وهذا هو الموضوع الذي فرّق المسلمين إلى‏ فرق ثلاثة، أعني بهم:
أ- الخوارج: الذين كفّروا مرتكب الكبيرة، ومنعوا من إطلاق المؤمن عليه، وبلغوا الغاية في التشديد وجعلوه مخلّداً في النار لخروجه عن ربقة الإيمان.
ب- المعتزلة: وهم الذين جعلوا مرتكب الكبيرة منزلة بين منزلتين فلا هو بمؤمن ولا كافر، ولكنّهم صفّقوا مع الخوارج في جعل مرتكب الكبيرة مخلّداً في النار إذا مات بلا توبة.
ج- جمهرة الفقهاء والمتكلّمين من السنّة والشيعة: وهم الذين جعلوا الإيمان نفس التصديق مع الإقرار باللسان، وجعلوا العمل كمال الإيمان، وهذا لايعني ما ذهبت إليه المرجئة من عدم الاهتمام بالعمل، بل يهدف إلى‏ أنّ محوّل الإنسان من الكفر إلى‏ الايمان والحكم بحرمة دمه وماله هو التصديق القلبي إذا اقترن بالإقرار باللسان إن أمكن، أو بالإشارة إن لم يمكن كما هو الحال في الأبكم، وأمّا المنقذ من النار والمُدْخِل إلى‏ الجنّة فلا يكفيه ذلك ما لم يقترن بالعمل.
                        الايمان والكفر، ص: 16
قال الشيخ المفيد: «اتفقت الإمامية على‏ أنّ مرتكب الكبائر من أهل المعرفة والإقرار لا يخرج بذلك عن الإسلام وأنّه مسلم، وإن كان فاسقاً بما فعله من الكبائر والآثام، ووافقهم على‏ هذا القول المرجئة كافّة، وأصحاب الحديث قاطبة، ونفر من الزيدية وأجمعت المعتزلة وكثير من الخوارج والزيدية على‏ خلاف ذلك، وزعموا انّ مرتكب الكبائر ممّن ذكرناه فاسق ليس بمؤمن ولا مسلم «1».
هذا وتحقيق الحق يأتي في الفصل القادم.
***__________________________________________________
 (1). المفيد: أوائل المقالات ص 15.
                        الايمان والكفر، ص: 17
الجهة الثانية: في أنّ العمل جزء من الإيمان وعدمه‏
قد عرفت أنّ الخوارج والمعتزلة جعلوا الإيمان مركّباً من التصديق والعمل ولأجله كفّروا مرتكب الكبيرة أو جعلوه في منزلة بين المنزلتين، لكن دراسة الموضوع حسب الآيات القرآنية يرشدنا إلى‏ خروج العمل عن الإيمان، وتكفي في هذه الآيات التالية:
1- قال سبحانه: «إنّ الَّذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ» (البقرة- 277) فمقتضى‏ العطف هو المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فلو كان العمل داخلًا فيه لزم التكرار، واحتمال كون المقام من قبيل ذكر الخاص بعد العام يتوقف على‏ وجود نكتة لتخصيصه بالذكر. أضف إلى‏ ذلك أنّ الصالحات جمع معرّف يشمل الفرض والنقل، والقائل بكون العمل جزءاً من الإيمان يريد به خصوص فعل الواجبات واجتناب المحرمات، فكيف يمكن أن تكون الصالحات بهذا المعنى‏ جزء الإيمان ويكون ذكره من قبيل عطف الخاص على‏ العام.
2- قال سبحانه: «وَمْن يَعْمَل مِنَ الصّالِحاتِ وَهُو مُؤْمِنٌ» (طه- 112) وقوله: «وهو مؤمن» جملة حالية والمقصود يعمل صالحاً حال كونه مؤمناً وهذا يقتضى المغايرة.
                        الايمان والكفر، ص: 18
3- وقال سبحانه: «وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَينهُما فَإنْ بَغَتْ إحداهُما عَلى‏ الأُخرى‏ فَقاتِلُوا الَّتي تَبغِي حَتّى‏ تَفي‏ء إلى‏ أمْرِ اللَّه» (الحجرات- 9) ترى‏ أنّه سبحانه أطلق المؤمن على‏ الطائفة العاصية وقال ما هذا مثاله: فإن بغت إحدى‏ الطائفتين من المؤمنين على‏ الطائفة الأُخرى‏ منهم، والظاهر أنّ الإطلاق بلحاظ كونهم مؤمنين حال البغي لا بلحاظ ما سبق وانقضى‏، أي بمعنى‏ أنّهم كانوا مؤمنين.
4- «يا أيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا اللَّه وكُونُوا مَعَ الصّادِقينَ» (التوبة- 119) فأمر الموصوفين بالإيمان بالتقوى‏ أي الإتيان بالطاعات واجتناب المحرّمات، ودلّ على‏ أنّ الإيمان يجتمع مع عدم التقوى‏، وإلّا كان الأمر به لغواً وتحصيلًا للحاصل، وحمل الأمر في الآية على‏ الاستدامة خلاف الظاهر.
5- هناك آيات تدل على‏ أنّ محل الإيمان ومرتكز لوائه هو القلب، قال سبحانه: «أُولئكَ كُتِبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمانُ» (المجادلة- 22) ولو كان العمل جزءاً منه لما كان القلب محلّاً لجميعه، وقال سبحانه: «وَلَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُم» (الحجرات- 14).
وهناك سؤال يطرح نفسه وهو: أنّ ظاهر الآية كون القلب محلّاً لجميع الإيمان مع أنّ جمهور الفقهاء والمتكلّمين جعلوا الإقرار باللسان جزءاً منه والإقرار قائم باللسان لا بالقلب، ولكن الإجابة عنه سهلة، وهي: أنّ حقيقة الإيمان ومرتكز لوائه هو القلب، غير أنّه لا يصحّ الحكم بكونه مؤمناً إلّابعد اعترافه باللسان. فالجحد مانع وإن أذعن قلباً والإقرار باللسان شرط لا جزء له، أي شرط لحكمنا بكونه مؤمناً. نعم، لو كان هناك عِلْم لا يقبل الخطأ بأنّ الرجل مصدّق بما جاء به الرسول غير أنّه لا يستطيع أن يقرّ، كما في مَلِك الحبشة، فقد آمن بالرسول واعترف بنبوّته قلباً، فهو مؤمن، والشرط عندئذ ساقط للضرورة، ولأجل ذلك صلّى‏
                        الايمان والكفر، ص: 19
عليه الرسول- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- عندما بلغته وفاته.
هذا هو مقتضى‏ الكتاب ويؤيده الإجماع، حيث جعلوا الإيمان شرطاً لصحة العبادات ولا يكون الشي‏ء شرطاً لصحة جزئه.
وأمّا السنّة فهي تعاضد أيضاً هذه النظرية.
أخرج البخاري في كتاب الإيمان ومسلم في باب فضائل علي- عليه السلام- أنّه قال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- يوم خيبر:
 «لأُعطينَّ هذه الراية رجلًا يحبُّ اللَّه ورسوله يفتح اللَّه على‏ يديه».
قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الامارة إلّايومئذ، قال: فتساورْتُ لها رجاء أن أُدعى‏ إليها، قال فدَعى‏ رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- عليّ بن أبي طالب فأعطاه إيّاها، وقال: «إمش ولا تلتفت حتى‏ يفتح اللَّه عليك» فسار (علىّ) شيئاً ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: «يا رسول اللَّه على‏ ماذا أُقاتل النّاس»؟
قال:- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: «قاتلهم حتى‏ يشهدوا أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه، فإذا فعلوا ذلك فقد مَنعوا منك دماءهم وأموالهم إلّابحقّها وحسابهم على‏ اللَّه». «1»
روى‏ الشافعي في كتاب «الأُم» عن أبي هريرة، أنّ رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- قال: «لا أزال أُقاتل الناس حتى‏ يقولوا: لا إله إلّااللَّه، فإذا قالوا لا إله إلّااللَّه، فقد عصموا منّى دماءهم وأموالهم إلّابحقّها وحسابهم على‏ اللَّه».
قال الشافعي: فأعْلَمَ رسول اللَّه: إنّ فرض اللَّه أن يقاتلهم حتى‏ يظهروا أن لا إله إلّااللَّه، فإذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلّابحقّها، يعنى بما يحكم اللَّه عليهم فيها وحسابهم على‏ اللَّه بصدقهم وكذبهم وسرائرهم، اللَّه العالم بسرائرهم، المتولّي الحكم عليهم دون أنبيائه وحكّام خلقه، وبذلك مضت أحكام رسول اللَّه فيما بين‏
__________________________________________________
 (1). البخاري: الصحيح: 1/ 10، كتاب الإيمان، وصحيح مسلم: 7/ 17، باب فضائل علي- عليه السلام-.
                        الايمان والكفر، ص: 20
العباد من الحدود وجميع الحقوق، وأعلمهم أنّ جميع أحكامه على‏ مايظهرون وأنّ اللَّه يدين بالسرائر «1».
روى‏ الصدوق بسند صحيح قال: قلت لأبي عبداللَّه- عليه السلام- (الإمام الصادق): ما أدنى‏ ما يكون به العبد مؤمناً؟ قال: «يشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ويقرّ بالطاعة ويعرف إمام زمانه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن» «2».
وقد استدلّ الإمام عليّ- عليه السلام- على‏ خطأ الخوارج في رمى مرتكب الكبيرة بالكفر بفعل رسول اللَّه وأنّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- كان يعامل معهم معاملة المؤمن. وقال: «وقد علمتم أنّ رسول اللَّه رجم الزاني ثم صلّى‏ عليه، ثم ورّثه أهله، وقتل القاتل وورّث تراثه أهله، وقطع السارق، وجلد الزاني غير المحصن ثم قسّم عليهما من الفي. فأخذهم رسول اللَّه بذنوبهم، وأقام حقّ اللَّه فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله» «3».
فبما أنّ بعض السطحيين ربّما يرمون أصحاب هذا القول بالإرجاء- وأين هو من الإرجاء- نزيد في المقام بياناً ونقول: إن كون القلب مركزاً للإيمان وخروج العمل عن كونه عنصراً مقوّماً له، لا يعني أن التصديق القلبي يكفى في نجاة الإنسان في الحياة الأُخروية بل يهدف إلى‏ أنّه يكفي في خروج الإنسان عن زمرة الكافرين الذين لهم خصائص وأحكام- التصديق القلبي-، فيحرم دمه وماله وتحلّ ذبيحته وتصحّ مناكحته، إلى‏ غير ذلك من الأحكام التي تترتب على‏ التصديق القلبي إذا أظهره بلسانه أو وقف عليه الغير بطريق من الطرق، وأمّا كون‏
__________________________________________________
 (1). الشافعي: الأُم: 1/ 158- 159.
 (2). المجلسي: البحار: 66/ 16، كتاب الإيمان والكفر، نقلًا عن معاني الأخبار للصدوق.
 (3). نهج البلاغة الخطبة: 125.
                        الايمان والكفر، ص: 21
ذلك موجباً للنجاة يوم الحساب فلا، فإنّ للنجاة في الحياة الأُخروية شرائط أُخرى‏ تكفّل ببيانها الذكر الحكيم والسنّة الكريمة.
وبذلك يفترق عن قول المرجئة الذين اكتفوا بالتصديق القلبي أو اللساني واستغنوا عن العمل، وبعبارة أُخرى‏ قدّموا الإيمان وأخّروا العمل، فهذه الطائفة من أكثر الطوائف خطراً على‏ الإسلام وأهله، لأنّهم بإذاعة هذا التفكير بين الشباب، يدعونهم إلى‏ الإباحية والتجرّد عن الأخلاق والمثل العليا ويعتقدون أنّ الوعيد خاص بالكفار دون المؤمنين، فالجحيم ونارها ولهيبها لهم دون المسلمين، ومعنى‏ أنّه يكفي في النجاة الإيمان المجرّد عن العمل، وأىّ خطر أعظم من ذلك؟
وعلى‏ ضوء ذلك يظهر المراد ممّا رواه البخاري عن عبد اللَّه بن عمر: قال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: «شهادة أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم شهر رمضان» «1» فإنّ المراد من الإسلام، ليس هو الإسلام المقابل للإيمان في قوله سبحانه: «قَالَتِ الأعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولكنْ قُولُوا أسلَمْنا ولَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُمْ» (الحجرات- 14) ولا الإسلام والإيمان بأقلّ درجاتهما الذي له أحكام خاصة، بل الإيمان المُنْجي لصاحبه من العذاب الأليم، وهذا لا يضرّ بما قلنا من أنّ مقوّم الإيمان، هو العقيدة القلبية وذلك لأنّ المقصود هناك من الاكتفاء بالتصديق بشرط الإقرار هو الإيمان الذي يصون دم المقر وماله وعرضه، لا الإيمان المنجي في الآخرة، إذ هو كما في الرواية يتوقّف على‏ العمل. وإليه ينظر ما روي عن الإمام الصادق من أنّ الإسلام يحقن به الدم وتؤدّي به الأمانة، ويستحلّ به الفرج، والثواب على‏ الإيمان. «2» وحصيلة الكلام: أنّ كون التصديق القلبي مقياساً للإيمان، غير القول بأنّ‏
__________________________________________________
 (1). البخاري: الصحيح: 1/ 6، كتاب الإيمان، الباب الثاني، ولاحظ أيضاً ص 16 باب أداء الخمس.
 (2). البرقي: المحاسن: 1/ 285.
                        الايمان والكفر، ص: 22
التصديق القولي أو القلبي المجرّدين عن العمل كاف للنجاة، ولأجل ذلك تركّز الآيات على‏ العمل بعد الإيمان وتقول: «إنّ الَّذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئكَ هُمْ خَيْرُ البَرّيةِ» (البيّنة- 7) وقال تعالى‏: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وهُوَ مُؤمنٌ» (طه- 112) وقال تعالى‏: «يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا اتَّقوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادقين» (التوبة- 119) فلو كان العمل عنصراً مقوّماً للإيمان فما معنى‏ الأمر بالتقوى‏ بعد فرض الإيمان لأنّه يكون أشبه بطلب الأمر الموجود وتحصيل الحاصل.
ولا تنس ما ذكره الإمام الشافعي من أنّ اللَّه يعامل بالسرائر وعباده يعاملون بما يظهر من الإنسان من الإقرار الكاشف عن التصديق، وربّما لا يكون كذلك.
إكمال‏
نقل الفريقان عن رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- أنّه قال: «لا يزني الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن». «1» وروى‏ عبيد بن زرارة قال: دخل ابن قيس الماصر، وعمر بن ذرّ- وأظن معهما أبو حنيفة- على‏ أبي جعفر- عليه السلام- فتكلّم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملتنا من الإيمان في المعاصي والذنوب، قال: فقال له أبو جعفر- عليه السلام-: يابن قيس أمّا رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- فقد قال: «لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن». «2» وقد تضافر عن أئمة أهل البيت- عليهم السلام- انّ رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- قال: «إنّ الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان». «3» وروى‏ عن أئمة أهل البيت نظير هذا فعن أبي الصلت الهروي قال: سألت‏
__________________________________________________
 (1). النسائي: السنن: 8/ 64 كتاب قطع السارق، الكليني: الكافي: 5/ 123 ح 4.
 (2). الكليني: الكافي: 2/ 285 ح 22.
 (3). الصدوق: الخصال: 1/ 179 ح 241.
                        الايمان والكفر، ص: 23
الرضا- عليه السلام- عن الإيمان؟ فقال: «الإيمان عقد بالقلب، ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون الإيمان إلّاهكذا» «1».
وعلى‏ ضوء هذا، فكيف نعدّ مرتكب الكبائر مؤمناً ولا نعدّ العمل ركناً للإيمان؟
هذا هو السؤال وأمّا الجواب فالتأمل والإمعان في الآيات والروايات يثبت أنّ للإيمان إطلاقات ولكل إطلاق فائدة وثمرة نشير إليها:
الأوّل: الاعتقاد بالأُصول الحقّة والعقائدالصحيحة الذي يترتب عليه في الدنيا، الأمانُ من القتل ونهب الأموال، والأمانة إلّاأن يأتي بقتل أو فاحشة يوجب القتل أو الجلد أو التعزير.
وأمّا في الآخرة فيترتب عليه صحة أعماله واستحقاق الثواب عليها وعدم الخلود في النار، واستحقاق العفو والشفاعة، ويقابله الكفر.
وعلى‏ هذا الإطلاق فمرتكب الكبيرة مؤمن وإن زنى‏ وإن سرق.
الثاني: الاعتقاد الصحيح مع الإتيان بالفرائض التي ظهر وجوبها من القرآن وترك الكبائر التي أوعد اللَّه عليها، وعلى‏ هذا أطلق الكافر على‏ تارك الصلاة، وتارك الزكاة وأشباههم وعليه يحمل قول الرسول- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: «لا يزنى الزانى وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن» وعليه يحمل قولهم: الإيمان عقد بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وثمرة هذا الإيمان عدم استحقاق الإذلال والإهانة والعذاب في الدنيا والآخرة.
الثالث: الاعتقاد الصحيح مع فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرّمات، وثمرته، اللحوق بالمقرّبين، والحشر مع الصدّيقين وتضاف المثوبات ورفع الدرجات.
__________________________________________________
 (1). الصدوق: الخصال: 1/ 178 ح 240.
                        الايمان والكفر، ص: 24
الرابع: هذا القسم مع ضم فعل المندوبات وترك المكروهات بل المباحات كما ورد في إجبار صفات المؤمن وبهذا المعنى‏ يختص بالأنبياء والأوصياء.
وبه يفسّر قوله سبحانه: «وَمَا أكثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ...* وَمَا يُؤْمِنُ أكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلّاوَهُم مُشْرِكُون» (يوسف 103- 106)
وعلى‏ هذا فجميع المعاصي بل التوسل بغيره تعالى‏ يكون داخلًا في الترك المذكور في الآية وثمرة هذا الإيمان أنّه يؤمن على‏ اللَّه فيجيز أمانه، وأنّه لا يردّ دعاءه وسائر ماورد في درجاتهم ومنازلهم عند اللَّه.
وعلى‏ ضوء هذا ان الآيات والأخبار الدالة على‏ دخول الأعمال في الإيمان يحتمل وجوهاً:
1- أن يحمل على‏ ظواهرها ويقال إنّ العمل داخل في حقيقة الإيمان على‏ بعض المعاني.
2- أن يكون الإيمان هو نفس العقيدة لكن مشروطاً بالأعمال فيكون العمل شرطاً لاشطراً.
3- أن يكون للإيمان درجات تختلف شدة وضعفاً وتكون الأعمال كثرة وقلّة كاشفة عن حصول كل مرتبة من تلك المراتب «1».
ولأجل إكمال البحث وإيضاح الحقيقة نرجع إلى ما استدل به القائل: «بأنّ العمل جزء من الإيمان» حتى تتجلّى‏ الحقيقة بأجلى مظاهرها، وتعلم صحة ما ذكرنا من المحامل الثلاثة الآنفة الذكر.
__________________________________________________
 (1). المجلسي: البحار: 69/ 127- 128.
                        الايمان والكفر، ص: 25
حجة القائل بأنّ العمل جزء من الايمان؟
احتجّ القائل بأنّ العمل جزء من الإيمان بآيات:
1- قوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِيَنةَ فِى قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمَانِهِمْ» (الفتح/ 4). ولو كانت حقيقة الإيمان هي التّصديق، لما قبل الزيادة والنقيصة، لأنّ التصديق أمره دائر بين الوجود والعدم. وهذا بخلاف ما لو كان العمل جزءاً من الإيمان. فعندئذ يزيد وينقص حسب زيادة العمل ونقيصته. والزيادة لا تكون إلّافي كمّية عدد لا في ما سواه، ولا عدد للاعتقاد ولا كمّية له «1».
يلاحظ عليه: أنّ الإيمان بمعنى الإذعان أمر مقول بالتّشكيك. فلليقين مراتب، فيقين الإنسان بأنّ الاثنين نصف الأربع، يفارق يقينه في الشدّة والظهور، بأنّ نور القمر مستفاد من الشّمس، كما أنّ يقينه الثاني، يختلف عن يقينه بأنّ كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهيّة ووجود، وهكذا يتنزّل اليقين من القوّة إلى الضّعف، إلى أن يصل إلى أضعف مراتبه الّذي لو تجاوز عنه لزال وصف اليقين، ووصل إلى حدّ الظنّ، وله أيضاً مثل اليقين درجات ومراتب، ويقين الإنسان بالقيامة ومشاهدها في هذه النشأة ليس كيقينه بعد الحشر والنشر، ومشاهدتها بأُمّ العين. قال سبحانه: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد» (ق/ 22) فمن ادّعى بأنّ أمر الإيمان بمعنى التّصديق والإذعان، دائر بين الوجود والعدم، فقد غفل عن حقيقته ومراتبه. فهل يصحّ لنا أن ندّعي أنّ إيمان الأنبياء بعالم الغيب، كإيمان الإنسان العادي، مع أنّ مصونيّتهم من العصيان والعدوان رهن علمهم بآثار المعاصي وعواقبه، الّذي يصدّهم عن اقتراف المعاصي وارتكاب الموبقات. فلو كان إذعانهم كإذعان سائر الناس، لما تميّزوا بالعصمة عن المعصية. وما ذكره من أنّ الزيادة تستعمل في كمّية العدد منقوض‏
__________________________________________________
 (1). الفصل: 3/ 194.
                        الايمان والكفر، ص: 26
بآيات كثيرة استعملت الزيادة فيها في غير زيادة الكمّية. قال سبحانه: «وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» (الإسراء/ 109).
وقال: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلّانُفُوراً» (الإسراء/ 41). والمراد شدّة خشوعهم ونفورهم، لا كثرة عددهم، إلى غير ذلك من الآيات الّتي استعمل فيها ذلك اللّفظ في القوّة والشدّة لا الكثرة العدديّة.
2- قوله سبحانه: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ» (البقرة/ 143) وإنّما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن تنسخ بالصّلاة إلى الكعبة.
يلاحظ عليه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة، ولا نشكّ في أنّ العمل أثر للإذعان وردّ فعل له، ومن الممكن أن يطلق السبب ويراد به المسبّب. إنّما الكلام في أنّ الإيمان لغةً وكتاباً موضوع لشي‏ء جزؤه العمل وهذا ممّا لا يثبته الاستعمال. أضف إليه أنّه لو أخذنا بظاهرها الحرفي، لزم أن يكون العمل نفس الايمان لا جزءاً منه، ولم يقل به أحد.
3- قوله سبحانه: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (النساء/ 65). أقسم سبحانه بنفسه أنّهم لا يؤمنون إلّابتحكيم النّبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- والتسليم بالقلب وعدم وجدان الحرج في قضائه. والتحكيم غير التصديق والتسليم، بل هو عمل خارجي.
يلاحظ عليه: أنّ المنافقين- كما ورد في شأن نزول الآية- كانوا يتركون النّبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- ويرجعون في دعاويهم إلى الأخبار و- مع ذلك- كانوا يدّعون الإيمان بمعنى الإذعان والتسليم للنّبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- فنزلت الآية لا يقبل منهم ذلك الإدّعاء حتّى يرى أثره في حياتهم وهو تحكيم النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- في المرافعات، والتسليم العملي أمام قضائه، وعدم إحساسهم بالحرج ممّا قضى. وهذا ظاهر متبادر من الآية وشأن نزولها. فمعنى قوله سبحانه: «فلا وربّك لا يؤمنون»، أنّه لا يقبل ادّعاء الإيمان‏
                        الايمان والكفر، ص: 27
منهم إلّاعن ذلك الطّريق. وبعبارة ثانية؛ إنّ الآية وردت في سياق الآيات الآمرة بإطاعة النّبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- قال سبحانه:
 «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلّالِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» (النساء/ 64) والمنافقون كانوا يدّعون الايمان، وفي الوقت نفسه كانوا يتحاكمون إلى الطّاغوت.
فنزلت الآية، وأعلنت أنّ مجرّد التصديق لساناً ليس إيماناً. بل الإيمان تسليم تامّ باطني وظاهري. فلا يستكشف ذلك التسليم التامّ، إلّابالتسليم للرّسول ظاهراً، وعدم التحرّج من حكم الرّسول باطناً، وآية ذلك ترك الرُّجوع إلى الطّاغوت ورفع النزاع إلى النّبي، وقبول حكمه بلا حرج. فأين هو من كون نفس التحكيم جزءاً من الإيمان؟
4- قوله سبحانه: «وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ» (آل عمران/ 97) سمّى سبحانه تارك الحجّ كافراً.
يلاحظ عليه: أنّ المراد إمّا كفران النّعمة وأنّ ترك المأمور به كفران لنعمة الأمر، أو كفر الملة لأجل جحد وجوبه.
5- قوله سبحانه: «وَمَا أُمِرُوا إلّالِيَعْبُدُوا اللَّهَ مخُلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلوةَ وَيُؤْتُوا الزَّكوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة» (البيّنة/ 5).
والمشار إليه بلفظة «ذلك» جميع ما جاء بعد «إلّا» من إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة، فدلّت هذه الآية على دخول العبادات في ماهية الدين.
والمراد من الدّين، هو الإسلام لقوله سبحانه: «إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام» (آل عمران/ 19).
وعلى ضوء هذا، فالعبادات داخلة في الدّين حسب الآية الاولى، والمراد من الدين هو الإسلام حسب الآية الثانية، فيثبت أنّ العبادات داخلة في الإسلام، وقد دلّ الدّليل على وحدة الإسلام والإيمان وذلك بوجوه:
الف- الإسلام هو المبتغى لقوله: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ‏
                        الايمان والكفر، ص: 28
مِنْهُ» (آل عمران/ 85) والإيمان أيضاً هو المبتغى، فيكون الإسلام والإيمان متّحدين.
ب- قوله سبحانه: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (الحجرات/ 17) فجعل الإسلام مرادفاً للإيمان.
ج- قوله سبحانه: «فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المؤْمِنِينَ* فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَبَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ» (الذاريات/ 35- 36) وقد أُريد من المؤمنين والمسلمين معنى واحداً، فهذه الآيات تدل على وحدة الإسلام والايمان. فإذا كانت الطّاعات داخلة في الإسلام فتكون داخلة في الإيمان أيضاً لحديث الوحدة «1».
يلاحظ عليه أوّلًا: أنّه من المحتمل قوياً أن يكون المشار إليه في قوله: «وذلك دين القيّمة» هو الجملة الاولى بعد «إلّا» أعني: «ليعبدوا اللَّه مخلصين له الدّين» لا جميع ما وقع بعدها من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والمراد من قوله «ليعبدوا اللَّه مخلصين له الدين» هو إخلاص العبادة للَّه، كإخلاص الطّاعة «2» له، والشّاهد على ذلك قوله سبحانه: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنيِفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرِ الناسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذِلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (الروم/ 30). فإنّ وزان قوله: «ذلك الدّين القيّم» وزان قوله «ذلك دين القيّمة» والمشار إليه في الجملة الأُولى هو الدّين الحنيف الخالص عن الشرك، بإخلاص العباد والطّاعة له سبحانه.
ثانياً: يمنع كون العبادات داخلة في الإسلام حتّى في قوله سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام» وقوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِيناً ...» لأنّ المراد منه هو التّسليم أمام اللَّه وتشريعاته، بإخلاص العبادة والطّاعة له في مقام العمل‏
__________________________________________________
 (1). الفصل: 3/ 234، والبحار: 66/ 16- 17.
 (2). المراد من الدين في قوله: «مخلصين له الدين» هو الطاعة.
                        الايمان والكفر، ص: 29
دون غيره من الأوثان والأصنام، وبهذا المعنى سمّي إبراهيم «مسلماً» في قوله تعالى: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولا نَصْرانِياً وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ» (آل عمران/ 67) وبهذا المعنى طلب يوسف من ربّه أن يميته مسلماً قال سبحانه حكاية عنه: «تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ» (يوسف/ 101) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول إخلاص العبادة له، والتجنّب من الشّرك، فلو فرض أنّ العبادة داخلة في مفهوم الدّين، فلا دليل على دخولها في مفهوم الإسلام.
ثالثاً: نمنع كون الإسلام والإيمان بمعنى واحد، فالظّاهر من الذّكر الحكيم اختلافهما مفهوماً. قال سبحانه: «قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلِكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فيِ قُلوبِكُمْ» (الحجرات/ 13) فلو استعمل الإسلام أو المسلمين وأُريد منهما الإيمان والمؤمنين في مورد أو موردين، فهو لوجود قرينة تدلّ على أنّ المراد من العامّ هو الخاصّ.
إلى غير ذلك من الآيات الّتي جمعها ابن حزم في «الفصل» «1» ولا دلالة فيها على ما يرتئيه، والاستدلال بهذه الآيات يدلّ على أنّ الرّجل ظاهريّ المذهب إلى النّهاية يتعبّد بحرفيّة الظواهر، ولا يتأمّل في القرائن الحافّة بالكلام وأسباب النّزول.
نعم هناك روايات عن أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- تعرب عن كون العمل جزءاً من الإيمان وإليك بعضها:
1- روى الكراجكي عن الصّادق أنّه قال: «ملعون ملعون من قال: الإيمان قول بلا عمل» «2».
2- روى الكليني عن أبي جعفر الباقر- عليه السلام- قال: «قيل لأمير المؤمنين‏
__________________________________________________
 (1). الفصل- بكسر الفاء وفتح الصاد-: بمعنى النخلة المنقولة من محلّها إلى محلّ آخر لتثمر، كقصعة وقصع.
 (2). البحار: 69/ 19، الحديث 1.
                        الايمان والكفر، ص: 30
- عليه السلام-: من شهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه كان مؤمناً؟ قال: فأين فرائض اللَّه؟ قال: وسمعته يقول: كان عليّ- عليه السلام- يقول: لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم، ولا صلاة، ولا حلال، ولا حرام، قال: وقلت لأبي جعفر- عليه السلام-: إنّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه فهو مؤمن قال: فلم يضربون الحدود؟ ولم تقطع أيديهم؟ وما خلق اللَّه عزّ وجلّ خلقاً أكرم على اللَّه عزّ وجلّ من المؤمن، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين وأنّ جوار اللَّه للمؤمنين، وأنّ الجنّة للمؤمنين، وأنّ الحور العين للمؤمنين، ثمّ قال:
فما بال من جحد الفرائض كان كافراً» «1».
والمراد من «جحد الفرائض» تركها عمداً بلا عذر، لا جحدها قلباً وإلّا لما صلح للاستدلال.
3- روى الكليني عن محمّد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن- عليه السلام-: الكبائر تخرج من الإيمان؟ فقال: نعم وما دون الكبائر، قال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن «2».
4- وروى أيضاً عن عبيد بن زرارة قال: دخل ابن قيس الماصر وعمر بن ذرّ- وأظنّ معهما أبو حنيفة- على أبي جعفر- عليه السلام- فتكلّم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملّتنا من الإيمان في المعاصي والذنوب. قال: فقال له أبو جعفر- عليه السلام-: «يا ابن قيس أمّا رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- فقد قال: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت» «3».
5- وعن الرضا عن آبائه- صلوات اللَّه عليهم- قال: «قال رسول اللَّه- صلى اللَّه عليه وآله-: الايمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان وعمل بالأركان» «4».
__________________________________________________
 (1). الكافي: 2/ 33، الحديث 2، والبحار: 66/ 19، الحديث 2.
 (2). الكافي: 2/ 284- 285، الحديث 21.
 (3). الكافي: 2/ 285، الحديث 22.
 (4). عيون أخبار الرضا: 1/ 226.
                        الايمان والكفر، ص: 31
إلى غير ذلك من الرّوايات الّتي جمعها العلّامة المجلسي- قدس سره-: فيى بحاره، باب «الإيمان مبثوث على الجوارح» «1».
أقول: الظّاهر أنّها وردت لغاية ردّ المرجئة الّتي تكتفي في الحياة الدينية بالقول والمعرفة، وتؤخّر العمل وترجو رحمته وغفرانه مع عدم القيام بالوظائف، وقد تضافر عن أئمة أهل البيت- عليهم السلام- لعن المرجئة.
روى الكليني عن الصادق- عليه السلام- أنّه قال: «لعن اللَّه القدريّة، لعن اللَّه الخوارج، لعن اللَّه المرجئة، لعن اللَّه المرجئة»، فقلت: لعنت هؤلاء مرّة مرّة ولعنت هؤلاء مرّتين؟ قال: «إنّ هؤلاء يقولون: إنّ قَتَلَتَنا مؤمنون، فدماؤنا متلطّخة بثيابهم إلى يوم القيامة. إنّ اللَّه حكى عن قوم في كتابه: «ألّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُموهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» قال:
كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم اللَّه القتل برضاهم ما فعلوا» «2».
وروى أيضاً عن أبي مسروق قال: سألني أبو عبد اللَّه- عليه السلام- عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت: مرجئة وقدريّة وحروريّة، قال: «لعن اللَّه تلك الملل الكافرة المشركة الّتي لا تعبد اللَّه على شي‏ء» «3».
إلى غير ذلك من الرّوايات الواردة في ذمّ هذه الفرقة الّتي كانت تثير روح العصيان والتمرّد على الأخلاق والمثل بين الشباب، وتحرّضهم على اقتراف الذنوب والمعاصي رجاء المغفرة.
والّذي يظهر من ملاحظة مجموع الأدلّة، هو أنّ الإيمان ذو مراتب ودرجات، ولكل أثره الخاصّ.
1- مجرّد التصديق بالعقائد الحقّة، وقد عرفت ثمرته وهي حرمة دمه وعرضه‏
__________________________________________________
 (1). بحار الأنوار: 69 الباب 30 من كتاب الكفر والإيمان: 18- 149.
 (2). الكافي: 2/ 409، الحديث 1. والآية 183 من سورة آل عمران.
 (3). الكافي: 2/ 409، الحديث 2.
                        الايمان والكفر، ص: 32
وماله، وبه يناط صحّة الأعمال واستحقاق الثّواب، وعدم الخلود في النار، واستحقاق العفو والشفاعة.
2- التصديق بها مع الاتيان بالفرائض الّتي ثبت وجوبها بالدّليل القطعي كالقرآن، وترك الكبائر الّتي أوعد اللَّه عليها النّار، وبهذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة، ومانع الزّكاة، وتارك الحجّ، وعليه ورد قوله- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: «لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن» وثمرة هذا الإيمان عدم استحقاق الإذلال والإهانة والعذاب في الدنيا والآخرة.
3- التصديق بها مع القيام بفعل جميع الواجبات وترك جميع المحرّمات. وثمرته اللّحوق بالمقرّبين، والحشر مع الصّديقين وتضاعف المثوبات، ورفع الدّرجات.
4- نفس ما ذكر في الدّرجة الثالثة لكن بإضافة القيام بفعل المندوبات، وترك المكروهات، بل بعض المباحات، وهذا يختصّ بالأنبياء والأوصياء «1».
ويعرب عن كون الإيمان ذا درجات ومراتب، ما رواه الكليني عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللَّه- عليه السلام- في حديث قال:
 «قلت: ألا تخبرني عن الإيمان؟ أقول هو وعمل، أم قول بلا عمل؟ فقال: الإيمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل، بفرض من اللَّه بيّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجّته، يشهد له به الكتاب، ويدعوه إليه، قال: صفه لي جعلت فداك حتّى أفهمه، قال: الإيمان حالات ودرجات وطبقات، ومنازل: فمنه التامّ المنتهي تمامه، ومنه النّاقص البيّن نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه.
قلت: إن الإيمان ليتمّ وينقص ويزيد؟ قال: نعم، قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنّ اللَّه تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلّاوقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به ا
__________________________________________________
 (1). البحار: 69/ 126- 127.
                        الايمان والكفر، ص: 33
ختها..» «1».
ويعرب عنه أيضاً ما رواه الصدوق عن أبي عبد اللَّه- عليه السلام- قال: «قال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- ليس الإيمان بالتحلّي، ولا بالتمنّي، ولكنّ الإيمان ما خلص في القلب، وصدّقه الأعمال» «2».
والمراد بالتحلّي التزيّن بالأعمال من غير يقين بالقلب، كما أنّ المراد من التمنّي هو تمنّي النجاة بمحض العقائد من غير عمل.
وفي ما رواه النّعماني في كتاب القرآن عن أمير المؤمنين- عليه السلام- شواهد على ذلك التقسيم «3».
خاتمة المطاف:
إنّ البحث في أنّ العمل هل هو داخل في الإيمان أم لا، وإن كان مهمّاً قابلًا للمعالجة في ضوء الكتاب والسنّة، كما عالجناه، إلّاأنّ للبحث وجهاً آخر لا تقلّ أهميته عن الوجه الأوّل وهو تحديد موضوع ما نطلبه من الآثار. فإذا دلّ الدليل على أنّ الموضوع لهذا الأثر أو لهذه الآثار هو نفس الاعتقاد الجازم، أو هو مع العمل، يجب علينا أن نتّبعه سواء أصدق الإيمان على المجرّد أم لا؟ سواء كان العمل عنصراً مقوّماً أم لا؟
مثلًا؛ إنّ حقن الدماء وحرمة الأعراض والأموال يترتّب على الإقرار باللسان سواء أكان مذعناً في القلب أم لا، ما لم تعلم مخالفة اللسان مع الجنان. ولأجل ذلك نرى أنّ كلّ عربيّ وعجميّ وأعرابيّ وقرويّ أقرّ بالشهادتين عند الرسول الأكرم- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- حكم عليه بحقن دمه واحترام ماله. قال أمير المؤمنين- عليه السلام-: «أُمرت أن أُقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّااللَّه، فإذا قالوها فقد حرم عليّ‏
__________________________________________________
 (1). البحار: 69/ 23- 24، لاحظ تمام الرواية وقد شرحها العلّامة المجلسي.
 (2). البحار: 69/ 72، نقلّا عن معاني الأخبار: 187.
 (3). البحار: 69/ 73- 74، نقلًا عن تفسير النعماني.
                        الايمان والكفر، ص: 34
دماؤهم وأموالهم» «1».
فهذه الآثار لا تتطلّب أزيد من الإقرار باللّسان ما لم تعلم مخالفته للجنان، سواء أصحّ كونه مؤمناً أم لا.
وأمّا غير هذه من الآثار الّتي نعبّر عنه بالسعادة الأُخروية فلا شكّ أنّها رهن العمل، وأنّ مجرّد الاعتقاد والإقرار باللسان لا يسمن ولا يغني من جوع. وهذا يظهر بالرجوع إلى الكتاب والسنّة. قال سبحانه: «إِنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُوِلهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فيِ سَبِيلِ اللَّهِ أُولِئكَ هُمُ الصّادِقُونَ» (الحجرات/ 15). نرى أنّه ينفي الإيمان عن غير العامل. وما هذا إلّالأنّ المراد منه، الإيمان المؤثّر في السعادة الأُخرويّة، وقال أمير المؤمنين- عليه السلام-: «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل» «2».
فالإمام- عليه السلام- بصدد بيان الإسلام الناجع في الحياة الأُخروية، ولأجل ذلك فسّره نهايةً بالعمل. ولكنّ الإسلام الّذي ينسلك به الإنسان في عداد المسلمين، ويحكم له وعليه ظاهراً ما يحكم للسائرين من المسلمين، تكفي فيه الشهادة باللّفظ ما لم تعلم المخالفة بالقلب، وعلى ذلك جرت سيرة النّبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- وأصحابه.
فلو أوصلّنا السبر والدقّة إلى تحديد الإيمان فهو المطلوب، وإلّا فالمهمّ هو النّظر إلى الآثار المطلوبة وتحديد موضوعاتها حسب الأدلة سواء أصدق عليه الإيمان أم لا، سواء أدخل العمل في حقيقته أم لا كما تقدّم. هذا ما ذكرناه هنا عجالة، وسوف نميط السّتر عن وجه الحقيقة عند البحث عن الجهة الرابعة والخامسة.
__________________________________________________
 (1). بحار الأنوار: 68/ 242.
 (2). نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم 125.
                        الايمان والكفر، ص: 35
الجهة الثالثة: في زيادة الإيمان ونقصانه‏
من المسائل المتفرّعة على‏ تفسير الإيمان بالتصديق وحده أو به منضمّاً إلى‏ العمل، قابليّته للزيادة والنقيصة، فقد اشتهر بين الجمهور أنّه لو فُسّر بنفس التصديق، فلا يقبل الزيادة والنقيصة، بخلاف ما لو فسّر بالثاني فيزيد وينقص.
1- قال الرازي: الإيمان عندنا لا يزيد ولا ينقص، لأنّه لما كان اسماً لتصديق الرسول في كل ما علم بالضرورة مجيئه به، وهذا لا يقبل التفاوت فسمىّ الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وعند المعتزلة لما كان اسماً لأداء العبادات كان قابلًا لهما، وعند السلف لما كان اسماً للإقرار والاعتقاد والعمل فكذلك، والبحث لغوي ولكلّ واحد من الفرق نصوص، والتوفيق أن يقال: الأعمال من ثمرات التصديق، فما دلّ على‏ أنّ الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفاً إلى‏ أصل الإيمان. وما دل على‏ كونه قابلًا لها فهو مصروف إلى‏ الإيمان الكامل.
2- وقال التفتازانى: ظاهر الكتاب والسنّة وهو مذهب الأشاعرة والمعتزلة والمحكي عن الشافعي وكثير من العلماء، أنّ الإيمان يزيد وينقص، وعند أبي حنيفة وأصحابه وكثير من العلماء- وهو اختيار إمام الحرمين- أنّه لا يزيد ولا ينقص، لأنّه اسم للتصديق البالغ حدّ الجزم والإذعان، ولا تتصور فيه الزيادة والنقصان، والمصدّق إذا ضمّ الطاعات إليه أو ارتكب المعاصي، فتصديقه بحاله‏
                        الايمان والكفر، ص: 36
لم يتغيّر أصلًا، وإنّما يتفاوت إذا كان اسماً للطاعات المتفاوتة قلّة وكثرة، ولهذا قال الإمام الرازي وغيره: إنّ هذا الخلاف فرع تفسير الإيمان. فإن قلنا: هو التصديق، فلا يتفاوت، وإن قلنا: هو الأعمال فمتفاوت. وقال إمام الحرمين: إذا حملنا الإيمان على‏ التصديق فلا يُفضّلُ تصديقٌ تصديقاً كما لا يُفَضَّل علم علماً، ومن حمله على‏ الطاعة سرّاً وعلناً- وقد مال إليه القلانسي- فلا يبعد إطلاق القول بأنّه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ونحن لا نؤثر هذا.
ثم قال: ولقائل أن يقول: لا نسلّم أنّ التصديق لا يتفاوت، بل يتفاوت قوّة وضعفاً، كما في التصديق بطلوع الشمس، والتصديق بحدوث العالم، لأنّه إمّا نفس الاعتقاد القابل للتفاوت، أو مبنيّ عليه، وقلّة وكثرة، كما في التصديق الإجمالي والتفصيلي الملاحظ لبعض التفاصيل وأكثر، فإنّ ذلك من الإيمان لكونه تصديقاً بما جاء به النبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- إجمالًا فيما علم إجمالًا، وتفصيلًا فيما علم تفصيلًا «1» 3- قال الإيجي: الحقّ أنّ التصديق يقبل الزيادة والنقصان وذلك بوجهين:
الأوّل: القوّة والضعف. قولكم، الواجب اليقين، والتفاوت لاحتمال النقيض قلنا: لا نسلّم أنّ التفاوت لذلك، ثم ذلك يقتضى أن يكون إيمان النبي واحاد الأُمة سواء وأنّه باطل إجماعاً، ولقول إبراهيم- عليه السلام-: ولكن ليطمئنّ قلبى، والظاهر أنّ الظنّ الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمه حكم اليقين.
الثاني: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه، ثوابه على‏ تصديقه بالإجمال، والنصوص دالّة على‏ قبوله لهما «2».
4- وقال زين الدين العاملي- قدّس سرّه- (911- 965 ه) في رسالة العقائد: حقيقة الإيمان- بعد الاتّصاف بها بحيث يكون المتّصف بها مؤمناً عند اللَّه تعالى‏-
__________________________________________________
 (1). التفتازاني: شرح المقاصد: 5/ 211- 212.
 (2). الإيجي: المواقف: 388.
                        الايمان والكفر، ص: 37
هل تقبل الزيادة أم لا؟ فقيل بالثاني لما تقدم من أنّه التصديق القلبي الذي بلغ الجزم والثبات فلا تتصوّر فيه الزيادة عن ذلك سواء أتى‏ بالطاعات وترك المعاصي أو لا، وكذا لا تعرض له النقيصة وإلّا لما كان ثابتاً، وقد فرضناه كذلك هذا خلف، وأيضاً حقيقة الشي‏ء لو قبلت الزيادة والنقصان لكانت حقائق متعدّدة، وقد فرضناها واحدة وهذا خلف «1».
5- قال السيد الرضي في تفسير قول الإمام: إنّ الإيمان يبدو لُمظةً في القلب كلّما ازداد الإيمان ازدادت اللُمظة «2». اللمظة مثل النكته أو نحوها من البياض، ومنه قيل فرس ألمظ اذا كان بجحفلته شي‏ء من البياض.
وقال ابن أبي الحديد: قال أبو عبيد هي لمظة بضم اللام، والمحدثون يقولون لمظة بالفتح، والمعروف من كلام العرب الضم، وقال: وفي الحديث حجّة على‏ من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص، والجحفلة للبهائم بمنزلة الشفة من الإنسان. «3» 6- اعلم أنّ المتكلّمين اختلفوا في أنّ الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أو لا؟ ومنهم من جعل هذا الخلاف فرع الخلاف في أنّ الأعمال داخلة فيه أو لا، قال الرازي في المحصّل: الإيمان عندنا لا يزيد ولا ينقص، لأنّه لمّا كان اسماً لتصديق الرسول في كل ما علم بالضرورة مجيئه به، وهذا لا يقبل التفاوت فسمّى الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وعند المعتزلة لما كان اسماً لأداء العبادات كان قابلًا لهما، وعند السلف لمّا كان اسماً للاقرار والاعتقاد والعمل فكذلك والبحث لغوي ولكل واحد من الفرق نصوص والتوفيق أن يقال الأعمال من ثمرات‏
__________________________________________________
 (1). زين الدين العاملي: رسالة العقائد كما في البحار: 69/ 201.
 (2). ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة: 20/ 111.
 (3). ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة: 20/ 111.
                        الايمان والكفر، ص: 38
التصديق، فما دل على‏ أنّ الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفاً إلى‏ أصل الإيمان. وما دل على‏ كونه قابلًا لهما فهو مصروف إلى‏ الإيمان الكامل «1».
أقول: إنّ القول بأنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص أشبه بقول المرجئة الذين رفعوا شعار لا تضّر المعصية مع الإيمان، فاكتفوا بالتصديق وأهملوا العمل، فقالوا: إنّ إيمان واحد منّا، كإيمان جبرئيل ومحمّد «2» ولأجل ذلك ترى أنّ المحقّقين رفضوا ذلك الأصل وقالوا بأنّه يزيد وينقص حتّى ولو فسّر بالتصديق.
وذلك لأنّ للتصديق درجات ومراتب وليس تصديق الرسول كتصديق الولى، ولا تصديقهما كتصديق سائر الناس، قال سبحانه: «وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيماناً» (الأنفال- 2) وقال سبحانه: «إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيماناً» (آل عمران- 173) وقال سبحانه: «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وما زادَهُمْ إلّاإيماناً وتَسلِيماً» (الأحزاب- 22) والمراد من الإيمان هو التصديق بقرينة عطف «تسليماً» عليه.
إنّ الإيمان يزيد وينقص في كلا الجانبين، أمّا من جانب العقيدة: فأين إيمان الأولياء والأنبياء باللَّه ورسوله من إيمان سائر الناس، وأمّا من جانب العمل، فأين إيمان من لا يعصي اللَّه سبحانه طرفة عين بل لا يخطر بباله العصيان، من المؤمن التارك للفرائض والمرتكب للكبائر.
ثم لا ننكر أنّه ربما يؤدي ترك الفرائض وركوب المعاصي مدّة طويلة إلى الإلحاد والإنكار والتكذيب والجحد، قال سبحانه: «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الّذينَ أساءُوا السُّوأى‏ أنْ كَذَّبُوا بِاياتِ اللَّهِ وكانُوا بِها يَسْتَهزِءُون» (الروم- 10).
__________________________________________________
 (1). المجلسي: البحار: 69/ 201.
 (2). ابن شاذان: الإيضاح: 46، قال ناقلًا عنهم: إنّه إذا أقرّ بلسانه بالشهادتين أنّه مستكمل الإيمان، إيمانه كإيمان جبرئيل وميكائيل- صلى‏ اللَّه عليهما- فعل، ما فعل، وارتكب ماارتكب.
                        الايمان والكفر، ص: 39
إنّ وزان «العقيدة والعمل الصالح» وزان الجذور والسيقان في الشجرة فكما أنّ تقوية الجذور مؤثرّة في قوة السيقان، وكمال الشجرة و جودة ثمرتها، فكذلك تهذيب السيقان ورعايتها بقطع الزوائد عنها وتشذيبها، وتعرضها لنور الشمس، مؤثرة في قوّة الجذور، إنّها علاقة تبادلية بين العمل والعقيدة كالعلاقة التبادلية بين الجذور والسيقان.
أجل ذلك هو الحال بالنسبة إلى‏ تأثير الإيمان في العمل، وهكذا الحال بالنسبة إلى‏ تأثير العمل في الاعتقاد، فإنّ الذي ينطلق في ميدان الشهوة بلا قيد، ويمضي في إشباع الغرائز إلى‏ أبعد الحدود، يستحيل عليه أن يبقى‏ محافظاً على‏ أفكاره واعتقاداته الدينية وقيمه الروحية.
إنّه كلّما ازداد توغّلًا في المفاسد ازداد بعداً عن قيم الدين، وهي تمنعه عن المضى في سبيله والتمادي في عصيانه، وهكذا يتحرّر، عن تلك المعتقدات شيئاً فشيئاً وينسلخ منها وينبذها وراءه ظهريّا.
وقد أشارت الآية الكريمة إلى‏ هذه الحقيقة أيضاً.
وبهذا يعتبر الفصل بين العمل والكفر، بين العقيدة والسلوك على‏ وجه الإطلاق نظرية خاطئة ناشئة من الغفلة عن التأثير المتقابل بين هذين البعدين.
ولهذا يسعى‏ المستعمرون دائماً إلى‏ إفساد الأجواء الاجتماعية بهدف إفساد الأخلاق والسلوك تمهيداً لتغيّر الأفكار والقضاء على‏ المعتقدات.
وعلى‏ هذا الأساس صح التقسيم الثلاثي في سورة الواقعة إلى‏ السابقين وأصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة «1».
__________________________________________________
 (1). الواقعة: 7- 39.
                        الايمان والكفر، ص: 40
الجهة الرابعة: فيما يجب الإيمان به‏
إذا كان النبي الأكرم مبعوثاً من قبل اللَّه سبحانه وموحى‏ إليه، فيجب الإيمان بكل ما جاء به ولا يصح التبعيض بأن يُؤمنَ ببعض ويُكفرَ ببعض، فإنّ ذلك تكذيب للوحى، غير أنّ ما جاء به النبي في مجال المعارف والأحكام لمّا كان واسعاً مترامي الأطراف لا يمكن استحضاره في الضمير ثم التصديق به، فلذلك ينقسم ما جاء به النبي إلى‏ قسمين، قسم منه معلوم بالتفضيل كتوحيده سبحانه والحشر يوم المعاد ووجوب الصلاة والزكاة، وقسم آخر معلوم بالإجمال وهو موجود بين ثنايا الكتاب وسنّة النبي الأكرم، فلا محيص من الإيمان بما علم تفصيلًا بالتفصيل، وبما علم إجمالًا بالإجمال، هذا هو الموافق للتحقيق وما عليه المحقّقون.
قال عضد الدين الإيجي: الإيمان عندنا وعند الأئمة كالقاضى «1» والأُستاذ «2»: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة فتفصيلًا فيما علم تفصيلًا، وإجمالًا فيما علم إجمالًا «3».
وقال التفتازاني: هو تصديق النبي فيما علم مجيئه به بالضرورة أي فيما اشتهر
__________________________________________________
 (1). يريد القاضى الباقلانى (ت 403 ه).
 (2). يريد أبا إسحاق الاسفرائينى.
 (3). الإيجي، المواقف: 384.
                        الايمان والكفر، ص: 41
كونه من الدين بحيث يعلمه من غير افتقار إلى‏ نظر واستدلال، كوحدة الصانع ووجوب الصلاة وحرمة الخمر ونحو ذلك، ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالًا. ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلًا حتى‏ لو لم يصدق بوجوب الصلاة وبحرمة الخمر عند السؤال عنهما كان كافراً، وهذا هو المشهور وعليه الجمهور «1».
وعلى‏ ضوء ذلك نقول: إنّ الإيمان يتمثل بالاعتقاد بأُمور ويكفي في انتفائه، انتفاء الإيمان بواحد منها شأن كل أمر مركب يوجد بوجود جميع الأجزاء، وينتفي بانتفاء جزء منها.
ما يجب الإيمان به تفصيلًا:
أمّا الذي يجب الإيمان به تفصيلًا فهو عبارة عن الأُمور التالية:
1- وجوده سبحانه- جلّت عظمته وتقدّست ذاته- وتوحيده وأنّه واحد لاندّ له ولا مثل، وقد تمثّل هذا النوع من التوحيد في سورة الإخلاص، قال سبحانه: «قُل هُو اللَّهُ أحدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَم يُولَدْ* وَلَم يَكُن لَهُ كُفُواً أحَدٌ».
2- أنّه متفرّد في الخالقية ولا خالق للعالم وما فيه إلّااللَّه سبحانه، وقد أكد القرآن على‏ ذلك أشد تأكيد، قال سبحانه:
 «قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهّار» (الرعد- 16).
 «اللَّهُ خالِقُ كُلّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ عَلَى‏ كُلّ شَىْ‏ءٍ وَكِيل» (الزمر- 62).
 «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلّ شَيْ‏ءٍ لا إلهَ إلّاهُو» (المؤمن- 62).
__________________________________________________
 (1). التفتازاني: شرح المقاصد: 5/ 127.
                        الايمان والكفر، ص: 42
 «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَاإلهَ إلّاهُوَ خالِقُ كُلّ شَى‏ءٍ فَاعبُدُوهُ» (الأنعام- 102).
 «هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارئُ المُصَوّرُ لَهُ الأسماءُ الحُسنى‏» (الحشر- 24).
 «أنّى‏ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وخَلَقَ كُلَّ شَىْ‏ءٍ» (الأنعام- 101).
إنّ التوحيد الذاتي وأنّه سبحانه واحد لا مثيل له، وإن كان يلازم التوحيد في الخالقية، ولكنّه لو التفت إلى‏ فعله سبحانه، لا محيص من الاعتراف بتوحيده في الخلق والإيجاد.
3- أنّه سبحانه: متفرّد في الربوبية والتدبير وأنّه لا مدبر للعالم ومافيه سواه وهذا يركّز القرآن عليه في مسير دعوته الاعتقادية ويقول:
 «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرضَ فِى سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ استَوى‏ عَلَى‏ العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمرَ ما مِنْ شَفيعٍ إلّامِنْ بَعْدِ إذنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أفَلا تَذكَّرون» (يونس- 3).
 «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ استوى‏ عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلّ يَجْرِى لأجَلٍ مُسَمّى يُدَبِّرُ الأمرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبّكُمْ تُوقِنون» (الرعد- 2).
كما نبّه بعقيدة أهل الكتاب وندّد بها ويقول:
 «اتَّخَذُوا أحبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرباباً مِنْ دُونِ اللَّه» (التوبة- 31).
 «وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أرباباً مِنْ دُونِ اللَّه» (آل عمران- 64).
وبما أنّ التدبير في التكوين فرع من الخلق بل هو شعبة من شعبه ولا ينفك عنه، ربما يكفي الإيمان بالتوحيد في الخالقية عن الإيمان بالتوحيد في التدبير، غير أنّ هذه الملازمة، ملازمة فلسفية، لا يلتفت إليها إلّاالعالم بأحوال الكون، والعامي الذي يرى‏ الإيجاد، غير التدبير، لو التفت إلى‏ التدبير، تعيّن عليه الاعتقاد بتوحيده سبحانه فيه كالإيجاد.
                        الايمان والكفر، ص: 43
4- كونه المستحق للعبادة فقط، ولا معبود بحق سواه وهذا هو الهدف المهم من بعث الأنبياء، لأنّ سلامة الفطرة تسوق الإنسان إلى‏ التوحيد في الذات وإنّما تحيط به الوساوس في توحيد العبادة ولأجله ركز الأنبياء على‏ ذلك أكثر ممّا سواه قال سبحانه: «ولقد بَعَثنا في كُلّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ و اجتَنِبُوا الطّاغُوتَ» (النحل- 36).
وقال سبحانه: «وَمَا أرْسَلْنا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ إلّانُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلهَ إلّاأنا فاعبُدُونِ» (الأنبياء- 25).
وبما أنّ الإله في قولنا: «لا إله إلّااللَّه» ليس بمعنى‏ المعبود- كما هو المعروف- بل هو ولفظة الجلالة سيان في المعنى‏ غير أنّ أحدهما مفهوم كلّى والآخر علم لفرد من هذا الكلّى، يكون الاعتراف بتوحيد الإله بذلك المعنى‏- اعترافاً بأُمور أربعة:
أ- توحيده في ذاته ووجوده وأنّه لا نظير له.
ب- توحيده في الخلق والإيجاد.
ج- توحيده في التدبير والربوبية.
د- توحيده في العبادة.
إنَّ المراد من حصر الخلق باللَّه سبحانه، هو الإيجاد القائم بذاته، المستقل في فعله، كما أنّ المراد من حصر التدبير فيه، كونه قائماً بتدبر العالم، على‏ وجه الاستقلال، من غير أن يستعين بآخر.
والخلق والتدبّر، بهذا المعنى‏ من شؤون الإله الواجب القديم الذي لا نظير له، فلا حاجة إلى‏ الإذعان بالثاني والثالث تفصيلًا، نعم لو التفت إلى‏ أنّ هنا أُموراً ثلاثة: ذاته، إيجاده، وتدبيره، لم يكن محيص عن الاعتقاد بالثلاثة، وأنّه منفرداً في ذاته، وفعله وتدبيره.
                        الايمان والكفر، ص: 44
كما أنّ العبادة من شؤون الخالقية والربوبية ومن شؤون من بيده مصير الإنسان عاجلًا وآجلًا فتوحيده فيهما، يلازم توحيده في مجال العبودية.
وبذلك يعلم سر الاقتصار بكلمة الإخلاص من مجال التوحيد إذ هي في وحدتها، تفيد جميع المعاني والمراتب.
كما يعلم أنّ الاكتفاء في بيان ما يجب الإيمان به بتوحيد ذاته- فقط «1»- غير صحيح.
5- نبوة الرسول الأكرم ورسالته العالمية. قال سبحانه: «وإنْ كُنتُمْ في رَيَبٍ ممّا نَزَّلنا عَلَى عَبْدنا فَأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثلِهِ و ادعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إن كُنْتُم صادقين* فَإن لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النارَ التي وَقُودُها الناسُ والحِجارَةُ أُعِدَّتْ للكافِرِين» (البقرة- 23- 24).
ولذلك يعدّ القرآن أهل الكتاب ضالّين لعدم إيمانهم بمثل ما آمن به المؤمنون قال سبحانه: «فإنْ آمَنُوا بِمثلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتَدَوا وإنْ تَوَلَّوا فإنّما هُم في شِقاق» (البقرة- 137).
ولمّا كان الإيمان بالتوحيد، مقروناً بالإيمان برسالة النبي الأكرم، كان الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً وشعارهم لا إله إلّااللَّه، محمد رسول اللَّه.
6- المعاد ويوم الجزاء والاعتراف به من أركان الإيمان، وإن غفل عن ذكره أكثر المتكلّمين الباحثين في الإيمان والكفر، ولا يتحقّق للدين بمعناه الوسيع، مفهوم، مالم يوجد فيه عنصر العقيدة بيوم المعاد ولا تّتسم العقيدة بسمة الدين إلّابه. ولأجل ذلك قرن الإيمان به، بالإيمان باللَّه سبحانه في غير واحدة من الآيات قال سبحانه: «إن كُنتُمْ تُؤمِنُونَ باللَّه واليَومِ الآخِر» (النساء- 59) وقوله: «مَن كانَ‏
__________________________________________________
 (1). السيد الخوئي: التنقيح: 2/ 58.
                        الايمان والكفر، ص: 45
مِنكُمُ يُؤمِنُ بِاللَّهِ واليومِ الآخِر» (البقرة- 232) إلى‏ غير ذلك من الآيات الواردة حول الإيمان بيوم الجزاء. وأمّا الإيمان بالضروريات، فسيوافيك البحث فيه في الفصل القادم.
إن الاعتراف بهذه الأُمور قد أخذ في موضوع تحقّق الإسلام بمعنى‏ أنّ إنكارها أو الجهل بها يقتضي الحكم بكفر جاهلها أو منكرها وإن كان ربما لا يستحق العقاب لكونه جاهلًا أو قاصراً ومع ذلك يعد كافراً ويترتب عليه أحكامه.
وحصيلة الكلام: أنّ الإيمان يتمّثل بالتصديق بهذه الأُمور، جميعاً، وإنكار واحدٍ منها عناداً أو شبهة يخرج عن حظيرة الإسلام ويقع في عداد الكافرين. وكان الإقرار بالشهادتين في عصر الرسالة متضمنّا لهذه الشهادات الست، لأجل قرائن حالية موجودة حولهما، وبذلك يظهر سر لفيف من الروايات الدالة على‏ كفاية الشهادتين في الدخول في حظيرة الإيمان والتي هي على‏ صنفين:
1- ما يدل على‏ كفاية الإقرار بالشهادتين والتصديق بالتوحيد والرسالة.
2- ما يضيف إليهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان.
وإليك الصنفين:
الصنف الأوّل، وهو ما اقتصر بإظهار الشهادتين:
1- روى‏ البخاري عن عمر بن الخطاب أنّ علياً صرخ: «يا رسول اللَّه على‏ ماذا أُقاتل الناس»؟ قال- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: «قاتلهم حتى‏ يشهدوا أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلّابحقها وحسابهم على‏ اللَّه» «1».
__________________________________________________
 (1). البخاري: الصحيح: 1/ 10، كتاب الإيمان؛ وصحيح مسلم: 7/ 17، كتاب فضائل علي- عليه السلام- ..
                        الايمان والكفر، ص: 46
2- ما رواه الإمام الشافعي عن أبي هريرة أنّ رسول اللَّه قال: «لا أزال أُقاتل النّاسَ حتى‏ يقولُوا: لا إله إلّااللَّه فإذا قالوها فقد عصموا منّى دماءهم وأموالهم إلّابحقّها وحسابهم على‏ اللَّه» «1».
3- روى‏ التميمي عن الإمام الرضا- عليه السلام- عن آبائه عن عليّ قال: «قال النبي: أُمرت أُقاتل النّاس حتى‏ يقولوا لا إله إلّااللَّه، فإذا قالوا حرمت عليّ دماؤهم وأموالهم» «2».
4- روى‏ البرقى مسنداً عن الإمام الصادق- عليه السلام- أنّه قال: «الإسلام يحقن به الدم، وتؤدّى‏ به الأمانة، ويستحلّ به الفرج، والثواب على‏ الإيمان» «3».
5- وقال الإمام الصادق- عليه السلام-: «الإسلام شهادة أن لا إله إلّااللَّه والتصديق برسول اللَّه، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث» «4».
6- قال الإمام الشافعي: فأعْلَمَ رسول اللَّه أنّه سبحانه فرض أن يقاتلهم حتى‏ يُظهِرُوا أنّ لا إله إلّااللَّه، فإذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها «5».
7- قال القاضي عياض: اختصاص عصم النفس والمال لمن قال: لا إله إلّااللَّه، تعبير عن الإجابة عن الإيمان، أو أنّ المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحّد، وهم كانوا أوّل من دُعى إلى‏ الإسلام وقوتل عليه، فأمّا غيرهم ممّن يقرّ بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلّااللَّه إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، ولذلك جاء في الحديث الآخر: وأنّى رسول اللَّه، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة «6».
__________________________________________________
 (1). الشافعي: الأُم: 6/ 157، 158.
 (2). المجلسي: البحار: 68/ 242.
 (3). المجلسي: البحار: 68/ 243 ح 3 و 248 ح 8.
 (4). المجلسي: البحار: 68/ 243 ح 3 و 248 ح 8.
 (5). الشافعي: الأُم: 7/ 296- 297.
 (6). المجلسي: البحار: 68/ 243.
                        الايمان والكفر، ص: 47
وأمّا الصنف الثاني فنأتي ببعض نصوصه:
8- ما رواه البخاري عن عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه: «بُنى الإسلام على‏ خمس: شهادة أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم شهر رمضان» «1».
9- ما تضافر عن رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: من شهد أن لا إله إلّااللَّه، واستقبل قبلتنا وصلّى‏ صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على‏ المسلم «2».
10- روى‏ أنس بن مالك عن رسول اللَّه قال: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى‏ يقولوا لا إله إلّااللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلّوا صلاتنا، حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلّابحقّها» «3».
وهذه النصوص- وما أكثرها وقد اقتصرنا بالقليل- تُصرّح بأنّ ما تحقن به الدماء وتصان به الأعراض ويدخل به الإنسان في عداد المسلمين ويستظلُّ بخيمة الإسلام، هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه ورسالة الرسول وهذا ما نعبر عنه ببساطة العقيدة وسهولة التكاليف الإسلامية.
إذا عرفت هذين الصنفين من الروايات فاعلم أنّ الجميع يهدف إلى‏ أمر واحد وهو أنّ الدخول في الإسلام والتظلّل تحت مظلّته ليس بأمر عسير بل سهل جداً، وليس في الإسلام ما هو معقّد في المعارف، ولا معسور في الأحكام، وشتان بين بساطة العقيدة فيه، والتعقيد الموجود في المسيحية من القول بالتثليث وفي الوقت نفسه من الاعتقاد بكونه سبحانه إلهاًواحداً.
__________________________________________________
 (1). البخاري: الصحيح: 1/ 16، كتاب الإيمان، باب أداء الخمس.
 (2). ابن الأثير: جامع الأُصول: 1/ 158- 159.
 (3). ابن الأثير: جامع الأُصول: 1/ 158- 159.
                        الايمان والكفر، ص: 48
وأمّا الاختلاف بين الصنفين فيمكن رفع ذلك بوجهين:
الأوّل: انّ موقف الصنف الأوّل غير موقف الصنف الثاني، فالأوّل بصدد بيانه ما تصان به الدماء وتحل به الذبائح، وتجوز المناكحة فيكفي في ذلك الاعتراف بالشهادتين المعربتين عن التصديق بهما قلبا. وأمّا الثاني فهو بصدد بيان ما ينجي الإنسان من عذاب الآخرة وهو رهن العمل بالأحكام وقد ذكرنا نماذج منه، لتكون إشارة إلى‏ غيرها.
الثاني: انّ ما جاء به النبي ينقسم إلى‏ ضروري يعلم من غير نظر واستدلال ويعرفه كل من ورد حظيرته كوجوب الصلاة والزكاة وصوم رمضان، وإلى‏ غير ضروري يقف به من عمّر في الإسلام وعاش بين المسلمين وتخالط مع العلماء والوعاظ، أو نظر في الكتاب والسنّة، فإنّ إنكار القسم الأوّل إنكار لنفس الرسالة، بحيث لا يمكن الجمع- في نظر العرف- بين الشهادة على‏ الرسالة وإنكار وجوب الصلاة والزكاة، ولأجل ذلك لا يعذر فيه ادّعاء الجهل عند الإنكار إلّاإذا دلّت القرائن على‏ جهل المنكر بأنّه ضروريّ كما إذا كان جديد العهد بالإسلام، وسيوافيك حكم منكر الضروريّ في الفصل القادم. وعلى‏ هذا لا منافاة بين الصنفين فلعلّ عدم ذكرها في الصنف الأوّل للاستغناء عنه بالاعتراف بالرسالة غير المنفكة عن الاعتراف بها.
وبذلك يظهر: أنّ المسائل الفرعية والأُصولية الكلامية وإن كانت من صميم الإسلام لكن لا يجب الإذعان القلبي بها تفصيلًا، بل يكفي الإيمان بها إجمالًا حسب ما جاء به النبي فيكفى في الإيمان، الإذعان بإن القرآن نزل من اللَّه، من دون لزوم عقد القلب بقدمه أو حدوثه، وأنّ اللَّه عالم وقادر من دون لزوم تبيين موقع الصفات وأنّها عين الذات أو زائدة عليها، وقس على‏ ذلك جميع المسائل الكلامية والفقهية إلّاما خرج.
                        الايمان والكفر، ص: 49
الجهة الخامسة: في حد الكفر وأسبابه وأقسامه‏
إذا تبيّن مفهوم الإيمان وحدّه فيعلم منه مفهوم الكفر وحدّه بالضرورة، سواء قلنا إنّ بينهما تقابل التضاد أو تقابل العدم والملكة، وإليك توضيح ذلك:
1- حد الكفر:
الكفر: لغة هو الستر والتغطية، و سمّي الزارع كافراً لأنّه يستر الحبة بالتراب، قال سبحانه: «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعجَبَ الكفّار نَباتُهُ» (الحديد- 20).
وأمّا اصطلاحاً، فهو عدم الإيمان بما من شأنه الإيمان به، فيدخل ما من شأنه الإيمان به تفصيلًا كتوحيده سبحانه ورسالة نبيه ويوم قيامته أو من شأنه الإيمان به إجمالًا، كالإيمان بالضروريات أي ما لا يجتمع الإنكار بها مع التسليم للرسالة، ويعد الفصل بينهما أمراً محالًا في مقام التصديق، فلو كفر بوجوب الصلاة والزكاة فقد كفر بما من شأنّه الإيمان به، فالإيمان بالرسالة إيمان بهما ويعدّ إنكارهما أنكاراً لها، بل الإيمان بكل ما جاء به ضروريّاً كان أو غير ضروريّ. لكن على وجه الإجمال لأنّه لازم الإيمان برسالته.
قال الإيجي: الكفر وهو خلاف الإيمان فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه به ضرورة «1».
__________________________________________________
 (1). الإيجي، المواقف: 388.
                        الايمان والكفر، ص: 50
وقال ابن ميثم البحرانى: «الكفر هو إنكار صدق الرسول- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- وإنكار شى‏ءٍ ممّا علم مجيئه به بالضرورة» «1».
وقال الفاضل المقداد: «الكفر اصطلاحاً هو إنكار ما علم ضرورة مجيئ الرسول به» «2».
والميزان عند هؤلاء الأقطاب الثلاثة هو إنكار ما علم مجيئ الرسول به من دون أن يشيروا إلى‏ ما هو المعلوم مجيئه به، ولكن السيد الطباطبائي اليزدي أشار إلى‏ رؤوس ما جاء به وقال: «الكافر من كان منكراً للإلوهية أو التوحيد أو الرسالة أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى‏ كونه ضرورياً بحيث يرجع إنكاره إلى‏ إنكار الرسالة» «3». والأولى‏ بل المتعين ذكر المعاد كما مرَّ.
2- أسباب الكفر:
قد تعرّفت على مفهوم الكفر وحدّه، فيقع الكلام في أسبابه، أعني: موجبات الكفر، ابتداءً أو بقاءً (تقابل الارتداد) فنقول: إنّ أسبابه ثلاثة:
الأوّل: إنكار ما وجب الإيمان به تفصيلًا، على‏ ما مر في الفصل، كإنكار الصانع، أو توحيده ذاتاً وفعلًا وعبادة. وإنكار رسالة النبي الأكرم بالمباشرة، أو يوم المعاد والجزاء وقد علمت أنّ الإيمان بها، على‏ وجه التفصيل قد أخذ موضوعاً للحكم بالإسلام فلو أنكرها أو جهلها يكون محكوماً بالكفر وربّما يكون معذوراً في بعض الصور كما إذا كان جاهلًا قاصراً أو إنساناً مستضعفاً.
الثاني: جهد ما علم الجاهد أنّه من الإسلام، سواء كان ضرورياً أم غير
__________________________________________________
 (1). ابن ميثم البحراني: قواعد المرام: 171.
 (2). الفاضل المقداد: إرشاد الطالبين: 443.
 (3). السيد الطباطبائي اليزدي: العروة الوثقى‏، كتاب الطهارة، مبحث النجاسات.
                        الايمان والكفر، ص: 51
ضروري سواء كان أصلًا عقيدياً أو حكماً شرعياً، لأنّ مرجعه إلى‏ إنكار رسالته في بعض النواحي.
وربما يستغرب الإنسان من الجمع بين العلم بكونه ممّا جاء به النبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- ومع ذلك يجحد به ولكنّه سرعان ما يزول تعجبه إذا تلى‏ قوله سبحانه: «وَجَحَدُوا بِها واستَيْقَنَتها أَنفُسُهُمْ» (النمل- 14).
وقوله سبحانه: «الَّذِينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبناءَهُم» (البقرة- 146) فنرى‏ أنّهم أنكروا ما أيقنوه، ونفوا ما عرفوه. هذا إذا لم يتجاوز الجحد حد اللسان، وإمّا إذا سرى‏ إلى‏ الباطن فمرجع الجحد عندئذ مع العلم بأنّه ممّا جاء به النبي إلى‏ نسبة الخطأ والاشتباه إلى‏ صاحب الرسالة وتصوير علمه قاصراً في مجال المجحود.
وقد كان رجال من المنتمين إلى الإسلام، يخطّئون التشريع الإسلامي، بتحريمه الفائز، والربا في القرض الرائج في الأنظمة الاقتصادية الغربية، قائلين، بأنّه مدار الاقتصاد النامي وأُسُّه، و مرجع ذلك- مع تضافر الآيات والروايات على‏ تحريمه- إلى‏ نسبة الجهل والقصور لصاحب الشريعة وما فوقه.
وحصيلة الكلام أنّ جحد ما علم الجاحد أنّه من الإسلام، يورث الكفر سواء كان المجحود ضرورياً من ضروريات الإسلام، أو كان حكماً شرعياً غير ضروري. ولكن كان ثابتاً عند الجاحد، وسواء كان الجحد باللسان غير سائر إلى‏ مراكز الفكر والإدراك أو سارياً إليه.
وهذا القسم من الجحد، لا صلة له بما هو المعنون في كلامهم من أنّ إنكار ما علم أنّه من الإسلام بالضرورة موجب للكفر، فإنّ الموضوع هناك، خصوص ما علم أنّه ضروري وسيوافيك البحث فيه في السبب الثالث.
وقد وردت روايات عن أئمة أهل البيت- عليهم السلام- تركز على‏ جحد ما علم‏
                        الايمان والكفر، ص: 52
أنّه من الدين، من غير تخصيص المجحود بما علم أنّه من الإسلام بالضرورة. ونأتى ببعض أثر من أئمة أهل البيت حتى‏ تُدعَم بالنص:
روى عبد اللَّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللَّه- عليه السلام- عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر، فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام، وإن عذب، كان عذابه كعذاب المشركين، أم له مدة انقطاع؟
فقال- عليه السلام-: «من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال، أخرجه ذلك من الإسلام، وعذّب أشدّ العذاب، وإن كان معترفاً أنّه أذنب، ومات عليه أخرجه من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام، وكان عذابه أهون من عذاب الأوّل» «1».
وحاصله أنّ ارتكاب الكبيرة مع الاعتقاد بأنّها حلال يوجب الكفر، وأمّا ارتكابها مع الاعتراف بكونها ذنباً فيخرج عن الإيمان دون الإسلام.
2- قال الصادق- عليه السلام-: «الكفر في كتاب اللَّه عز وجل على‏ خمسة أوجه- إلى‏ أن قال:- فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية والجحود على‏ معرفته، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حق قد استقر عنده وقال اللَّه تعالى‏: «وَجَحَدُوا بِها واستَيْقَنَتها أنفسهم»» «2».
3- وقال الإمام الباقر- عليه السلام-: «قيل لأمير المؤمنين- عليه السلام- من شهد أنْ لا إله إلا اللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه كان مؤمناً. (قال أمير المؤمنين ردّاً له): فأين فرائض اللَّه، وما بال من جحد الفرائض كان كافراً» «3».
وليس المقصود، خصوص الصلوات، بل مطلق ما أوجبه سبحانه على‏ الناس وحاصل الرواية لو كانت الشهادتان سبباً تاماً للإيمان يلزم أمران:
1- أن لا يكون لفرائض اللَّه مكان في الإيمان.
__________________________________________________
 (1). الكليني: الكافي: 2/ 285 ح 23.
 (2). الوسائل: 1، الباب 2 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 9 و 13.
 (3). الوسائل: 1، الباب 2 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 9 و 13.
                        الايمان والكفر، ص: 53
2- أن لا يحكم بكفر من أنكرها وجحدها.
والموضوع في الروايتين وغيرهما للحكم بالكفر، وهو جحد ما علِم من غير اختصاص بالضروريات و في هذا، لا يفرق بين جديد العهد بالإسلام وقديمه. بل الميزان، هو جحد ما علمه أنّه من الإسلام بأحد الوجهين على‏ ما عرفت.
الثالث: إنكار ما علم أنّه من ضروريات الإسلام.
هذا هو السبب الثالث للحكم بالكفر والارتداد عن الإسلام وبيانه:
قد تعرّفت فيما سبق على‏ ما يجب الإيمان به تفصيلًا، وما يجب الإيمان به إجمالًا، وأنّ ما سوى‏ الأُصول الثلاثة (التوحيد بأصنافه، ورسالة النبي الأكرم صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- ويوم الجزاء) لايجب الإيمان به تفصيلًا، بل يكفي الإيمان به إجمالًا وهو يعم الضروري وغيره وعلى‏ ذلك، فلم يؤخذ الإيمان بوجوب الصلاة والصوم تفصيلًا في موضوع تحقّق الإسلام، بخلاف الأُصول الثلاثة المتقدمة.
ومع ذلك لو التفت إلى‏ حكم الضروريّ التفاتاً تفصيلياً وأنكر كونه ممّا جاء به النبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- فبما أنّه يلازم إنكار الرسالة في نظر المخاطبين المسلمين، بحيث لا يمكن الجمع بين الإيمان برسالة الرسول، وإنكار ما علم بالبداهة أنّه ممّا جاء به النبي وقع الكلام في كونه موجباً للارتداد، مطلقاً سواء كانت هناك ملازمة عند المنكر أو لا. أو فيه تفصيل وهو الحق ويعلم من الكلام التالي:
إنّ هناك فرقاً واضحاً بين إنكار الرسالة بالمباشرة وإنكار ما يلازم إنكارها فلو وقعت الرسالة بشخصها في مجال الإنكار، فالمنكر يكون محكوماً بالكفر، قاصراً كان أو مقصراً، معذوراً كان أو غير معذور للنصوص المركّزة على‏ كون الإيمان برسالة الرسول من أُصول الإسلام ومقوّماته.
وأمّا إنكار الضروري فبما أنّه ليس الإيمان به تفصيلًا أصلًا من الأُصول، لا يكون إنكاره عند الالتفات سبباً مستقلًا، بل سببيته لأجل كونه سبباً لإنكار
                        الايمان والكفر، ص: 54
الأصل، وعند ذلك لا يكون الإنكاران متماثلين في الحكم في جميع الجهات، بل يقتصر في الثاني على‏ حد خاص وهو تحقّق الملازمة عند المنكر. غاية الأمر يكون إنكار الضروري طريقاً إلى‏ إنكار الرسالة، ما لم يُعلم عدم الملازمة عند المنكر فيحكم بكفر المنكر إلّاإذا ثبت بالقرائن أنّه لم يكن بصدد إنكار الرسالة، وإنّما أنكرها لجهله وضعفه الفكري، كما إذا كان جديد العهد بالإسلام وأنكر حرمة الفائز مثلًا فيقبل منه ولا يقبل ممّا نشأ بين المسلمين منذ نعومة أظفاره إلى‏ أن شبَّ وشاب.
وحاصل الكلام: أنّ إنكار الضروري طريق عقلائي وكاشف عن إنكار الرسالة ورفض الشريعة في مورد الإنكار فيحكم بالكفر والارتداد، إلّاإذا ثبت عذره وجهله.
والفرق بين إنكار الأصل، وإنكار ما يلازم إنكاره، هو أنّ الأوّل أصل برأسه وأُخذ في موضوع الإسلام ودلّت الروايات على‏ كونه جزء منه بخلاف التالى فإنّ سببّيته عقلية، وطريقيّته عقلائية فيؤخذ بالطريق إلّاإذا ثبت تخلّفه.
ثم الفرق بين السبب الثاني (جحد ما علم أنّه من الدين) وهذا السبب واضح، فإنّ الملاك في السبب المتقدم هو كون جحد الجاحد عن علم بأنّه من الدين بأحد النوعين، من غير فرق بين الأُصول والفروع، وبين الضروري وعدمه، وأنّما نعلم فقط أنّ جحده عن علم. وهذا بخلاف الملاك في السبب الثالث فمتعلّق الإنكار، هو ما علم أنّه من الدين بالضرورة من دون أن نعلم أنّه أنكر عن علم أو لا. ولأجل ذاك الفرق حكم بالارتداد في السبب الثاني بلا استثناء لعدم قابليته له، بخلاف الأخيرة فحكم بكفر المنكر مطلقاً سواء علم حاله- وأنّه أنكره عن علم بأنّه من الدين- أو جهل حاله، إلّاإذا علم أنّه أنكر لا عن علم، فلاحظ.
                        الايمان والكفر، ص: 55
أقسام الكفر:
إنّ للكفر أقساماً ذكرها المتكلّمون وأصحاب المعاجم نشير إليها:
1- كفر إنكار: وهو أن يكفر بقلبه ولسانه، فلا يعرف اللَّه ولا رسوله، أو لا يعرف الرسول فقط.
2- كفر جحود: وهو أن يذعن بقلبه ولا يقر بلسانه بل يجحده، كما في قوله سبحانه: «وَجَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتها أَنفُسُهُم» (النمل- 14).
3- كفر عناد: وهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به، عناداً وحسداً. ويمثل له ببعض كفار قريش كالوليد بن المغيرة، حيث عرف بقلبه واعترف بلسانه بأعجاز القرآن لكنه لم يَدُنْ به ونسبه إلى‏ السحر «1».
4- كفر نفاق: وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه كالمنافق «2».
وقسمه الإيجي بصورة أُخرى‏ وقال: الإنسان إمّا معترف بنبوة محمد- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- أو لا، والثاني إمّا معترف بالنبوة في الجملة وهم اليهود والنصارى وغيرهم، وإمّا غير معترف بها، وهو إمّا معترف بالقادر المختار وهم البراهمة، أو لا، وهم الدهرية. ثم إنكارهم لنبوته- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- إمّا عن عناد وإمّا عن اجتهاد «3».
وللتفتازاني تقسيم آخر للكفر حيث قال: الكافر إن أظهر الإيمان خص باسم المنافق، وإن كفر بعد الإسلام فبالمرتد. وإن قال بتعدد الآلهة فبالمشرك، وإن تدّين ببعض الأديان فبالكتابى، وإن أسند الحوادث إلى‏ الزمان واعتقد قدمه فبالدهرى، وإن نفى‏ الصانع فبالمعطّل، وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-
__________________________________________________
 (1). اقرأ كلماته في كتب التفاسير في تفسير قوله سبحانه: «ذرنى ومن خلقت وحيداً» (المدثر: 11- 25).
 (2). الزبيدي: تاج العروس: 3/ 254، وابن منظور: لسان العرب: 5/ 144.
 (3). القاضي: المواقف: 389.
                        الايمان والكفر، ص: 56
وإظهاره شعائر الإسلام يبطن عقائد هي كفر بالاتفاق، فبالزنديق «1».
وتقسّمُ الاباضية الكفرَ إلى‏ كفر الملة وكفر النعمة، وبالثانى يفسّرون قوله سبحانه: «وللَّهِ على‏ الناسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استَطاعَ إليهِ سَبيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإنّ اللَّهَ غنِىّ عنِ العالَمِين» (آل عمران- 97).
هذه التقسيمات للكفر والكافر ربما تزيد بصيرة في المقام. هذا وفي بعض الروايات المنقولة عن أمير المؤمنين تقسيم الكفر المذكور في كتاب اللَّه على‏ الوجه التالى وهو في الحقيقة تبيين لموارد استعماله في القرآن وإليك خلاصته:
1- كفر الجحود: وله وجهان:
ألف- جحود الوحدانية: وهو قول من يقول «لاربّ ولا جنة ولا نارَ ولا بعثَ ولا نشورَ» وهؤلاء صنف من الزنادقة وصنف من الدهرية الذين يقولون: «ما يهلكنا إلّاالدهر» وذلك رأي وضعوه لأنفسهم استحسنوه بغير حجة فقال اللَّه تعالى‏: «إن هُمْ إلّايَظُنّون» (البقرة- 78).
وقال: «إنّ الّذينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِم أأَنذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون» (البقرة- 6) أي لا يؤمنون بتوحيد اللَّه.
ب- الجحود مع المعرفة بحقيقته: قال تعالى‏: «وَجَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أنفُسُهُمْ ظُلماً وعُلُواً» (النمل- 14) وقال سبحانه: «وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على‏ الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جَاءَهُم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعنَةُ اللَّهِ على‏ الكافِرِين» (البقرة- 89) أي جحدوه بعد أن عرفوه.
2- كفر الترك لما أمر اللَّه به:
كفر الترك لما أمر اللَّه به من المعاصي كما قال اللَّه تعالى‏: «وَإذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ‏
__________________________________________________
 (1). التفتازاني: شرح المقاصد: 5/ 227.
                        الايمان والكفر، ص: 57
لا تَسْفِكُونَ دماءَكُمْ ولا تُخْرِجُونَ أنفُسَكُم مِنْ دِيارِكُم ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وأنتُمْ تَشْهَدُون- إلى‏ أن قال- أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعضِ الكِتابِ وَتَكْفُروُنَ بِبَعض» (البقرة: 84- 85) فكانوا كفّاراً لتركهم ما أمر اللَّه تعالى‏ به.
3- كفر البراءة:
والمقصود منه هو ما حكاه تعالى‏ عن قول إبراهيم: «كَفَرنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والبَغْضَاءُ أبداً حتّى‏ تُؤمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه» (الممتحنة- 4) فقوله: «كَفَرنا بِكُمْ» أي تبرّأنا منكم. وقال سبحانه في قصة إبليس وتبرّيه من أوليائه من الإنس إلى‏ يوم القيامة: «إنّى كَفَرتُ بما أشْرَكْتُمُون مِنْ قَبْل» (إبراهيم- 22) أي تبرّأت منكم.
وقوله تعالى‏: «إنّما اتّخَذْتُم من دُونِ اللَّهِ أوْثاناً مَودّةَ بَيْنِكُمْ في الحياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعضاً» (العنكبوت- 25).
4- كفر النعم:
وهو ما حكاه سبحانه عن قول سليمان: «هذا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَي أأشكُرُ أَمْ أكْفُر» (النمل- 40).
وقال تعالى‏: «لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنّ عَذَابِى لَشَدِيد» (إبراهيم- 7) وقال تعالى‏: «فاذكرونى أذكركم واشكرو لى ولا تكفرون» (البقرة- 152).
5- مطلق الكفر:
وهو ما جاءت فيه كلمة الكفر من غير تقييد بشي‏ء من القيود المتقدّمة «1».
__________________________________________________
 (1). المجلسي: نقلًا عن تفسير النعمانى: البحار: 72/ 100، وقد جاء في كلام الإمام. مطلق الكفر، بلا شرح والعبارة الواردة بعد العنوان منّا.
                        الايمان والكفر، ص: 58
الجهة السادسة: في تكفير أهل القبلة
إذا تعرفت على‏ ما يخرج الإنسان من الإيمان ويدخله في الكفر يعلم أنّه لا يصح تكفير فرقة من الفرق الإسلامية ما دامت تعترف بالشهادتين ولا تنكر ما يعد من ضروريات الدين التي يعرفها كل من له أدنى‏ إلمام بالشريعة وإن لم تكن له مخالطة كثيرة مع المسلمين. وعلى‏ ذلك فالبلاء الذي حاق بالمسلمين في القرون الماضية وامتد إلى‏ عصرنا الحاضر بلاء مبدّد لشمل المسلمين أوّلًا، ومحرّم في نفس الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين ثانياً، ومن الأسف أنّ التعصّبات المذهبيّة الكلامية صارت أساساً لتكفير المعتزلة أصحاب الحديث والأشاعرة وبالعكس، وربما عمّ البلاء شيعة أئمة أهل البيت فترى‏ أنّ بعض المتعصبين أخذوا يكفّرون الشيعة بأُمور لو ثبتت لا تكون سبباً للتكفير، فضلًا عن كون أكثرها تهماً باطلة كالقول بتحريف القرآن ونظيره وأنّ الثابت منها، مدعم بالكتاب والسنّة كما سيوافيك في آخر هذا الفصل، ولأجل أن يقف القارئ على مدى‏ البلاء في العصور السابقة نذكر كلمة الإيجي، قال:
قال جمهور المتكلّمين والفقهاء على‏ أنّه لا يكفر أحد من أهل القبلة، والمعتزلة الذين قبل أبي الحسين، تحامقوا فكفّروا الأصحاب- يريد الأشاعرة- فعارضه بعضنا بالمثل، وقال الأُستاذ وكل مخالف يكفّرنا فنحن نكفّره وإلّا فلا «1».
__________________________________________________
 (1). الإيجي: المواقف: 392.
                        الايمان والكفر، ص: 59
وكأنَّ الأُستاذ أبا إسحاق الاسفرائيني صوّر الموقف موقف حرب فعمل بقوله سبحانه: «فَا عْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ» (البقرة- 194) مع أنّ الموقف موقف حزم واحتياط، فلو كفّرت إحدى‏ الطائفتين الطائفة الأُخرى‏ عن حمق وجهالة، فيجب علينا إرشاد المكفّرين وهدايتهم وإقامة الدلائل على‏ إيمانهم لاتكفيرهم عملًا بالاعتداء بالمثل.
والعجب أنّ أكثر المسائل التي ربما بها تكفر طائفةٌ، طائفةً أُخرى‏، مسائل كلامية لم يكن بها عهد في عصر النبي الأكرم، ولم يكن النبي يستفسر عن عقيدة المعترِف بالشهادتين، فيها نظير:
1- كون صفاته عين ذاته أو زائدة عليها.
2- كون القرآن محدثاً أو قديماً.
3- أفعال العباد هل هي مخلوقة للَّه‏تعالى‏ أم لا؟
4- هل الصفات الخبرية في القرآن كاليد والوجه تحمل على‏ المعنى‏ اللغوي أو تؤوّل؟
5- رؤية اللَّه سبحانه في الآخرة هل هي ممكنة أم ممتنعة؟
6- عصمة الأنبياء قبل البعثة وبعدها.
إلى‏ غير ذلك من عشرات المسائل الكلامية التي يستدلّ فيها كل من الطائفتين بلفيف من الآيات والأحاديث، فكلّ يرى‏ نفسه متمسكاً بالمصدرين الرئيسيّين وفي الوقت نفسه معترفاً بتوحيده ورسالة نبيه.
فعلى‏ ذلك يجب علينا الأخذ بالضابطة، فما دام الخلاف ليس في صلب التوحيد وما جاء به الرسول بالضرورة على‏ نحو تعد المفارقة عنه، مفارقة عن الاعتراف بالرسالة لا يكون الاختلاف موجباً للكفر، وخروجاً عن الإسلام وارتداداً
                        الايمان والكفر، ص: 60
عن الدين، ويعد خلافاً مذهبياً، وكون شي‏ء ضرورياً في مذهب الأشاعرة ليس دليلًا على‏ كونه كذلك بين عامة المسلمين وبالعكس فيما يقوله المعتزلة وحتى‏ مايقوله الشيعة في ضروريات مذهبهم.
ولأجل أن يقف القارئ على‏ أنّ جمهور العلماء لا يجوز تكفير أهل القبلة نورد كلمات للعلماء في ذلك ثم نذكر مصادر آرائهم في الروايات:
1- قال ابن حزم عندما تكلم فيمن يُكفّر ولا يكفّر: وذهبت طائفة إلى‏ أنّه لا يُكفّر ولايُفسَّق مسلم بقول قاله في اعتقاد، أو فتيا، وإنّ كلّ من اجتهد في شى‏ء من ذلك فدان بما رأى‏ أنّه الحق فإنّه مأجور على‏ كل حال إن أصاب فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد.
قال وهذا قول ابن أبي ليلى‏ وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي وهو قول كل من عرفنا له قولًا في هذه المسألة من الصحابة (رضى اللَّه عنهم) لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلًا «1».
2- وقال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي: إنّ الإقدام على‏ تكفير المؤمنين عسر جداً، وكل من كان في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلّااللَّه، محمد رسول اللَّه، فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر (إلى آخر كلامه وقد أطال في تعظيم التكفير وتعظيم خطره) «2».
3- وكان أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري يقول: لمّا حضرت الشيخ أبا الحسن الأشعرىّ الوفاة بدارى في بغداد أمرنى بجمع أصحابه فجمعتهم له، فقال: اشهدوا على‏ أنّنى لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّى رأيتهم كلّهم يشيرون إلى‏ معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم «3».
__________________________________________________
 (1). ابن حزم: الفصل: 3/ 247.
 (2). الشعراني: اليواقيت والجواهر: 58.
 (3). الشعراني: اليواقيت والجواهر: 58.
                        الايمان والكفر، ص: 61
4- وقال القاضي الإيجي: جمهور المتكلّمين والفقهاء على‏ أنّه لا يكفّر أحد من أهل القبلة واستدل على‏ مختاره بقوله: إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون اللَّه تعالى‏ عالماً بعلم أو موجداً لفعل العبد، أو غير متحيز ولا في جهة ونحوها لم يبحث النبي عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون، فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الإسلام.
ثم قال: فإن قيل لعلّه- عليه السلام- عرف منهم ذلك فلم يبحث عنها كما لم يبحث عن علمهم بعلمه وقدرته مع وجوب اعتقادهما.
ثم أجاب بقوله: قلنا: مكابرة والعلم والقدرة ممّا يتوقف عليه ثبوت نبوته فكان الاعتراف بها دليلًا للعلم بهما.
ثم إنّ الإيجي ذكر الأسباب الستة التي بها كفّرت الأشاعرةُ المعتزلةَ، ثم ناقش في جميع تلك الأسباب وأنّها لا تكون دليلا للكفر.
ثم ذكر الأسباب الأربعة التي بها كفّرت الأشاعرةُ المعتزلةَ وناقش فيها وأنّها لا تكون سبباً للتكفير.
ثم ذكر الأسباب الثلاثة التي بها تكفّر الروافض وناقش فيها وأنّها لاتكون سبباً للكفر «1».
والحقّ أنّ القاضي قد نظر إلى‏ المسألة بعين التحقيق وأصاب الحقّ إلّافي بعض المسائل. فقد ناقش في أسباب تكفير المجسمة وهو في غير محلّه والتفصيل لايناسب المقام.
5- وقال التفتازاني: إنّ مخالف الحق من أهل القبلة ليس بكافر مالم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد، واستدلّ بقوله: إنّ‏
__________________________________________________
 (1). الإيجي: المواقف: 392- 394.
                        الايمان والكفر، ص: 62
النبي ومن بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد وينبّهون على‏ ما هو الحق.
فإن قيل: فكذا في الأُصول المتفق عليها.
قلنا: لاشتهارها وظهور أدلّتها على‏ ما يليق بأصحاب الجمل.
ثم أجاب بجواب آخر وقال:
قد يقال ترك البيان إنّما كان اكتفاءً بالتصديق الإجمالي إذ التفصيل إنّما يجب عند ملاحظة التفاصيل، وإلّا فكم مؤمن لا يعرف معنى‏ القديم والحادث.
فقد ذهب الشيخ الأشعري إلى‏ أنّ المخالف في غير ما ثبت كونه من ضروريات الدين ليس بكافر، وبه يشعر ما قاله الشافعي- رحمه اللَّه-: لا أرد شهادة أهل الأهواء إلّاالخطّابية لاستحلالهم الكذب.
وفي المنتقى‏ عن أبي حنيفة أنّه لم يكفّر واحداً من أهل القبلة وعليه أكثر الفقهاء، ثم ذكر بعض الأقوال من الأشاعرة والمعتزلة الذين كانوا يكفّرون مخالفيهم في المسألة «1».
قال ابن عابدين: نعم يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير، لكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا «2».
ولعل بعض البسطاء يتصوّر أنّ العاطفة والمرونة الخارجة عن إطار الإسلام صارت مصدراً لهذه الفتيا، ولكنّه سرعان ما يرجع عن قضائه إذا وقف على‏ الأحاديث المتوفرة الواردة في المقام الناهية عن تكفير أهل القبلة، وإليك سردها:
__________________________________________________
 (1). التفتازاني، شرح المقاصد: 5/ 227- 228.
 (2). ابن عابدين: رد المختار: 4/ 237.
                        الايمان والكفر، ص: 63
السنّة النبوية وتكفير المسلم:
قد وردت أحاديث كثيرة تنهي عن تكفير المسلم الذي أقرّ بالشهادتين فضلًا عمّن يمارس الفرائض الدينية وإليك طائفة من هذه الأحاديث:
1- «بُني الإسلام على‏ خصال: شهادة أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ محمداً رسول اللَّه، والإقرار بما جاء من عند اللَّه، والجهاد ماض منذ بعث رسله إلى‏ آخر عصابة تكون من المسلمين ... فلا تكفّروهم بذنب ولاتشهدوا عليهم بشرك».
2- «لاتكفّروا أهل ملّتكم وإن عملوا الكبائر» «1».
3- «لا تكفّروا أحداً من أهل القبلة بذنب وإن عملوا الكبائر».
4- «بُني الإسلام على‏ ثلاث: ... أهل لا إله إلّااللَّه لا تكفّروهم بذنب ولا تشهدوا لهم بشرك».
5- عن أبي ذر: أنّه سمع رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- يقول: «لا يرمى رجل رجلًا بالفسق أو بالكفر إلّاارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك».
6- عن ابن عمر: أنّ رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- قال: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما».
7- «من قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله، ومن قتل نفسه بشي‏ء عذّبه اللَّه بما قتل».
8- «من كفّر أخاه فقد باء بها أحدهما».
9- «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فهو كقتله، ولعن المؤمن كقتله».
10- «أيّما رجل مسلم كفّر رجلًا مسلماً فإنْ كان كافراً وإلّا كان هو الكافر».
__________________________________________________
 (1). نعم الكبائر توجب العقاب لا الكفر.
                        الايمان والكفر، ص: 64
11- «كفّوا عن أهل لا إله إلّااللَّه لا تكفّروهم بذنب، فمن أكفر أهل لا إله إلّااللَّه فهو إلى‏ الكفر أقرب».
12- «أيّما امرئ قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلّا رجعت عليه».
13- «ما أكفر رجل رجلًا قط إلّاباء بها أحدهما».
14- «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما إن كان الذي قيل له كافراً فهو كافر، وإلّا رجع إلى‏ من قال».
15- «ما شهد رجل على‏ رجل بكفر إلّاباء بها أحدهما، إن كان كافراً فهو كما قال، وإن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إيّاه».
16- عن علي- عليه السلام-: في الرجل يقول للرجل: يا كافر ياخبيث يافاسق ياحمار؟ قال: «ليس عليه حد معلوم، يعزّر الوالي بما رأى‏» «1».
17- حدثنا أُسامة بن زيد قال: بعثنا رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- سرية إلى‏ الحرُّقات، فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلًا فلما غشيناه قال: لا إله إلّااللَّه، فضربناه حتى‏ قتلناه فعرض في نفسى من ذلك شى‏ء فذكرته لرسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- فقال: «مَنْ لَكَ بِلا إله إلّا اللَّه يوم القيامة؟» قال: قلت: يارسول اللَّه، إنّما قالها مخافة السلاح والقتل، فقال: «ألا شققت عن قلبه حتى‏ تعلم من أجل ذلك أم لا؟ مَنْ لَكَ بِلا إله إلّااللَّه يوم القيامة؟» قال: فما زال يقول ذلك حتى‏ وددت أنّى لم أُسلم إلّايومئذ «2».
__________________________________________________
 (1). هذه الأحاديث مبثوثة في جامع الأُصول: 1، و 10، 11 كما أنّها مجموعة بأسرها في كنز العمال للمتقى الهندى: ج 1.
 (2). أخرجه أحمد في مسنده: 187- 188 ح 21861، والبخاري في صحيحه: 64، باب 45، ح 4269. وكتاب الديات: 87 باب 2، ح 6872. ومسلم في صحيحه: 96- 97، كتاب الإيمان، باب 41، ح 96، وأبو داود في سننه: 44- 45 ح 2643. والنسائي في السنن الكبرى‏: 176- 177، ح 8594، كتاب السير، باب 12. وابن ماجة في سننه: 5/ 1296، ح 3930، كتاب الفتن، باب 1.
                        الايمان والكفر، ص: 65
18- لما خاطب ذو الخويصرة الرسول الأعظم- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- بقوله اعدل، ثارت ثورة من كان في المجلس منهم خالد بن الوليد قال: يارسول اللَّه! ألا أضرب عنقه؟ فقال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: «فلعله يكون يصلّي» فقال: إنّه رُبَّ مصلّ يقول بلسانه ماليس في قلبه، فقال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: «إنّي لم أُؤمر أن أنقِّب عن قلوب الناس ولا أشقَّ بطونهم» «1».
القدح في عقائد الشيعة:
إنّ الشيعة تشكّل ثلث المسلمين أو ربعهم فقد رماهم المغفّلون بتهم باطلة، فحبسوهم في قفص الاتهام. ولم يصدروا في ذلك إلّاعن الهوى، نظير:
1- تأليه الشيعة لعلي وأولاده، وأنّهم يعبدونهم ويعتقدون بإلوهيتهم.
2- إنكارهم ختم النبوة برحيل سيدنا محمد- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- وأنّ الوحي لم يزل ينزل على‏ على وأولاده.
3- بغض أصحاب النبي وسبّهم ولعنهم وأنّهم أعداء الصحابة من أوّلهم إلى‏ آخرهم.
4- تحريف القرآن الكريم وأنّه حذف منه أكثر ممّا هو الموجود.
5- نسبة الخيانة لأمين الوحي فقد بعث إلى‏ على- عليه السلام- فخان فجاء إلى‏ محمد- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-.
__________________________________________________
 (1). أخرجه مسلم في صحيحة 7/ 171 ح 1064 و أحمد في مسنده: 4/ 10 ح 11008، والبخاري كتاب الزكاة: 47، أبو يعلي في مسنده: 390- 391 ح 1163.
                        الايمان والكفر، ص: 66
المسائل الاجتهادية:
وهناك ما نسبوه إلى‏ الشيعة من العقائد، والنسبة صحيحة وهي بين تفسير خاطئ واجتهاد صحيح مدعم بالدليل نظير:
1- خلافة الخلفاء الأربعة.
2- عدالة الصحابة كلّهم بلا استثناء.
3- القول بالبداء.
4- عصمة أئمة أهل البيت.
5- التقية من المسلم المخالف.
6- كون الأئمة عالمين بالغيب.
فهذه نماذج من كلا القسمين، وهي تدور بين التهم الباطلة والمسائل الاجتهادية التي يعذر المجتهد في اجتهاده إذا أخطأ، فكيف إذا أصاب؟! فلنأخذ بدراسة القسم الأوّل:
أمّا تأليه الشيعة لعلي وأولاده: فالشيعة براء من هذه التهمة منذ بكرة أبيهم وهم يشهدون كل يوم في صلواتهم وخطبهم بأنّه لا إله إلّااللَّه وإنّ كل من سواه عبداً للَّه‏تالين قوله سبحانه: «إن كلُّ مَن في السّمَواتِ والأرْضِ إلّاآتى الرَّحمنِ عَبْدا» (مريم- 93) وقوله سبحانه: «يا أيّها الناسُ أنتُمُ الفُقَراءُ إلى‏ اللَّهِ واللَّهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَمِيد» (فاطر- 15) وأمّا التوسّل بهم فلا صلة له بالتأليه على‏ أنّهم يتوسّلون بالنبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- كما يتوسّلون بأئمتهم كما يتوسّل أهل السنّة به- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-.
وأمّا الثاني: أعنى إنكارهم ختم النبوة بمحمّد- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-: فهو أيضاً مثل الأوّل، وهذا هو إمامهم الأوّل علي- عليه السلام- يقول عندما تولى‏ غسل نبيه: «بأبي أنت وأُمي‏
                        الايمان والكفر، ص: 67
يارسول اللَّه لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء» «1».
وقد ألّف غير واحد من أصحابنا الإمامية كتباً ورسائل في الرد على‏ البابية والبهائية والقاديانية الذين أنكروا ختم النبوة بألوان الانكار، وقد خصصنا بحثاً مفصلًا من كتابنا «مفاهيم القرآن» لهذا الموضوع وبلغنا الغاية ونقلنا هناك 130 نصاً من الأحاديث المروية عن النبي وأئمة أهل البيت- عليهم السلام- على‏ ختم الرسالة والنبوة بالنبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- أرى‏ أنّ إفاضة القول في رد هذه التهمة إضاعة للوقت.
وأمّا الثالث: وهو بغض أصحاب النبي فياللَّه ولهذه التهمة، كيف يمكن أن يقال إنّ الشيعة تبغض الصحابة مع أنّ أُمّة كبيرة من أصحاب النبي من بنى هاشم بدءاً من عمه أبي طالب ومروراً بصفية عمته، وفاطمة بنت أسد، وبحمزة والعباس وجعفر وعقيل وطالب وعبيدة بن الحارث «شهيد بدر» وأبي سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وجعدة بن أبي هبيرة وأولادهم وزوجاتهم، وانتهاء بعلي- عليه السلام- وأولاده وبناته وزوجته سيدة نساء العالمين.
أمّا الذين استشهدوا في عهد النبي الأكرم فهم يتجاوزون المئات ولا يشك أي مسلم في أنّهم كانوا من المؤمنين الصادقين الذين حوّلهم الإسلام وأثّر فيهم، وضربوا في حياتهم أروع الأمثلة في الإيمان والتوحيد والتضحية، بالغالى والرخيص، خدمة للمبدأ والعقيدة. ابتداء من ياسر وزوجته سمية أوّل شهيد وشهيدة في الإسلام وكان الرسول يقول لهم وهو يسمع أنينهم تحت سياط التعذيب: «صبراً آل ياسر إنّ موعدكم الجنة» «2». مروراً بمن توفي في مهجر الحبشة إلى‏ شهداء بدر وأُحد، وقد استشهد في معركة أُحد سبعون صحابياً دفنهم النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-
__________________________________________________
 (1). نهج البلاغة: الخطبة رقم 235.
 (2). السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 320، طبعة الحلبي.
                        الايمان والكفر، ص: 68
وصلّى عليهم وكان يزورهم ويسلّم عليهم، ثمّ شهداء سائر المعارك والغزوات حتى قال النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- في حق سعد بن معاذ شهيد غزوة الخندق: اهتز العرش لموته، وشهداء بئر معونة ويتراوح عدد الشهداء بين 40 حسب رواية أنس بن مالك، أو 70 حسب رواية غيره، إلى‏ غير ذلك من الأصحاب الصادقين الأجلّاء الذين: «صَدَقُوا ما عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمِ مَن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلًا» (الأحزاب- 23) «الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَا خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيماناً وَقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكيل» (آل عمران- 173) «للفُقَرَاءِ المُهاجِرِينَ الّذِينَ أُخرِجُوا من دِيارِهِمْ وأَمْوَالِهمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْوَاناً ويَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...* والّذِينَ تَبَوَّءُو الدارَ والإيمانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِمّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الُمفْلِحُون» (الحشر: 8- 9).
فهل يصح لمسلم أن يبغض هؤلاء مع أنّ إمام الشيعة يصفهم بقوله:
 «أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على‏ الحق؟ أين عمّار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على‏ المنيّة وأُبرِدَ بِرؤوسهم إلى‏ الفجرة؟ أوّه على‏ إخوانى الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه. أحيوا السنّة وأماتوا البدعة، دُعوا للجهاد فأجابوا، ووثِقُوا بالقائد فاتّبعوه» «1».
وليس ما جاء في هذه الخطبة فريداً في كلامه، فقد وصف أصحاب رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- يوم صفين، يوم فرض عليه الصلح بقوله:
 «ولقد كنّا مع رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلّاإيماناً وتسليماً، ومضيّاً على‏ اللَّقّم، وصبراً على‏ مضض الألم، وجِدّاً في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين،
__________________________________________________
 (1). نهج البلاغة: الخطبة 182.
                        الايمان والكفر، ص: 69
يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدونا، ومرّة لعدونا منّا. فلمّا رأى‏ اللَّه صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى‏ استقر الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه، ولعمري لو كنّا نأتى ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عود» «1».
هذه كلمة قائد الشيعة وإمامهم، أفهل يجوز لمن يؤمن بإمامته أن يكفّر جميع صحابة النبي- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-، أو يفسّقهم، أو ينسبهم إلى‏ الزندقة والإلحاد، أو الارتداد، من دون أن يقسمهم إلى‏ أقسام ويصنّفهم أصنافاً ويذكر تقاسيم القرآن والسنّة في حقّهم؟! كلّا ولا، وهذا هو الإمام على بن الحسين يذكر في بعض أدعيته صحابة النبي ويقول: «اللّهم وأصحاب محمد- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره وكانفوه وأسرعوا إلى‏ وفادته، وسابقوا إلى‏ دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على‏ محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا، الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على‏ هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى‏ ضيقه، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم، اللهم وأوصل التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا ...» «2».
فإذا كان الحال كذلك، واتفق الشيعي والسني على‏ إطراء الذكر الحكيم للصحابة والثناءعليهم فما هو موضع الخلاف بين الطائفتين كي يعد ذلك من أعظم الخلاف بينهما؟
__________________________________________________
 (1). نهج البلاغة، الخطبة 56.
 (2). الصحيفة السجادية: الدعاء 4.
                        الايمان والكفر، ص: 70
وهذا ما سيوافيك في الأمر الثاني من المسائل الاجتهادية فتربص حتى‏ حين.
وأمّا الأمر الرابع أعني تحريف القرآن الكريم: فالرأي السائد بينهم من عصر أئمة أهل البيت- عليهم السلام- إلى‏ يومنا هذا هو القول بعدم التحريف، وقد ذكرنا نصوص علمائنا الإمامية في هذا المضمار في كتاب خصصناه لبيان عقائد الشيعة أخذنا بنصوصهم من منتصف القرن الثالث إلى‏ يومنا هذا. نعم يوجد بينهم من قال بالتحريف، ولكنّه نظرية شخصية لا تؤخذ بها الأُمّة، ووجود الروايات في كتاب الكافي للكلينى وغيره لايكون دليلًا على كونه عقيدة للشيعة، فانّ الكافي كسائر كتب الحديث يتضمن أحاديث صحيحة وغير صحيحة، وليس الكافي عندنا كصحيح البخاري عند أهل السنّة الذي لا يتطرق إليه قلم النقاش والجرح.
ولو صحّت المؤاخذة- ولن تصح- فقد قال بالتحريف جماعة من أهل السنة ووردت رواياته في الصحاح غير أنّ القوم فسّروها بنسخ التلاوة. فإذا صح هذا العذر- ولم يصح- فليصح في الروايات الموجودة في كتب حديث الشيعة، وهذا هو القرطبي ينقل في تفسيره عن أُم المؤمنين أنّ سورة الأحزاب كانت مائتي آية، فحرّفت، أعاذنا اللَّه من هذه التسويلات الباطلة، وبما أنّ علماءنا قد بلغوا الغاية في نفى هذه التهمة اقتصرنا بالإشارة وهي كافية لمن ألقى‏ السمع وهو شهيد.
وأمّا الخامس: أعني نسبة الخيانة إلى‏ أمين الوحى: فهو أُكذوبة ورثه المفترى من اليهود حيث عادوا جبرئيل لأجل أنّه خان ونقل النبوة من ذرية إسحاق إلى‏ ذرية إسماعيل «1». فأخذه المفترى منهم وطبّقها على‏ الشيعة.
__________________________________________________
 (1). الرازي في تفسير قوله: «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى».
                        الايمان والكفر، ص: 71
وإليك الكلام في القسم الثاني.
المسائل الاجتهادية:
وهذه المسائل تدور بين ما هم خاطئون في تفسيرها- مثل البداء- وبين ما هي مسائل نظرية قابلة للاجتهاد مدعمة بالدليل الصحيح والاختلاف في مثلها.
إنّ الاختلاف في هذه المسائل لا يكون ملاكاً للتكفير حتى‏ ولو كانوا خاطئين، فكيف وأنّهم مصيبون فيها يعرفها من رجع إلى‏ كتبهم، وإليك دراستها على‏ وجه موجز.
1- خلافة الخلفاء:
إنّ خلافة الخلفاء ليست من الأُصول بل من الأحكام الفرعية.
قال التفتازاني: لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق، لرجوعها إلى‏ أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، وهي أُمور كلية تتعلّق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلّابحصولها فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كل أحد، ولا خفاء في أنّ ذلك، الأحكام العملية دون الاعتقادية «1».
وقال الإيجي: المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها عندنا من الفروع وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا «2».
وقال الجرجاني: الإمامة ليست من أُصول الديانات والعقائد، بل هي عندنا
__________________________________________________
 (1). التفتازاني: شرح العقائد: 5/ 232.
 (2). الإيجي: المواقف: 395.
                        الايمان والكفر، ص: 72
من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين، إذ نصب الإمام عندنا واجب على‏ الأُمة سمعاً «1».
فإذا كانت الإمامة من الفروع فما أكثر الاختلاف في الفروع فكيف يكون الاختلاف موجباً للكفر؟
وبعبارة أُخرى‏: أنّ السمع أو هو منضماً إلى‏ العقل دلّا على‏ وجوب نصب الإمام، لأنّ مقاصد الشرع لا يحصل إلّابذلك النصب، فاجتمع المسلمون فاختاروا شخصاً للقيادة فعلى‏ فرض صحة الاختيار وكونها جامعاً للشرائط فلا يتجاوز عن كون عملهم كان تجسيداً لحكم فرعي فلا يصير رفض عملهم سبباً للكفر وليس الاعتقاد بخلافة شخص من ضروريات الإسلام، لأنّ المفروض أنّها حدثت بعد رحيل النبي وانقطاع الوحى، فكيف يكون خلافة فرد خاص أمراً ضرورياً؟
بل يمكن أن يقال إنّ وجوب نصب الإمام من الفروع، وأمّا الاعتقاد بأنّ المنصوب خليفة فليس من الواجبات الشرعية بدليل أنّهم اتّفقوا على‏ عدم وجوبه في غير الخلفاء الراشدين، فإنّ عمر بن عبد العزيز في سيرته وسلوكه لم يكن أقل من بعض الخلفاء ولم يقل أحد بلزوم الإيمان بكونه خليفة الرسول، فكيف يكون الخلاف موجباً للكفر؟
على‏ أنّ الشيعة قد أقامت أدلّة متواترة على‏ أنّ النبي نصب الإمام في عصره ولم يفوّضه إلى‏ الأُمّة.
2- عدالة الصحابة كلّهم أو بعضهم:
إنّ مثار الخلاف بين الطائفتين هو عدالة الصحابة كلّهم أو بعضهم،
__________________________________________________
 (1). الجرجاني: شرح المواقف: 8/ 344.
                        الايمان والكفر، ص: 73
فذهب أهل السنّة إلى‏ الأوّل، والشيعة إلى‏ الثاني، وأنّه لا يمكن الحكم بعدالة كل واحد واحد منهم ولكلّ من الطرفين أدلّة وحجج، وقد ارتحل النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- ولم يكن الاعتقاد بعدالتهم أجمعين من صميم الإسلام، ولم يكن النبي يستفسر عمّن يسلم، عن اعتقاده بعدالة أصحابه عامة، فإذا كانت المسألة بهذه المثابة فكيف يمكن أن يكون القول بعدالة بعض دون بعض موجباً للكفر، كيف والقرآن الكريم قد قسّم أصحاب النبي إلى‏ أقسام عشرة.
1- إنّ القرآن الكريم يصنّف الصحابة إلى‏ أصناف مختلفة، فهو يتكلّم عن السابقين الأوّلين، والمبايعين تحت الشجرة، والمهاجرين المهجّرين عن ديارهم وأموالهم، وأصحاب الفتح، إلى‏ غير ذلك من الأصناف المثالية، الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافاً أُخرى‏ يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية:
1- «المنافقون المعروفون» (المنافقون- 1).
2- «المنافقون المتسترون الذين لا يعرفهم النبي» (التوبة- 101).
3- «ضعفاء الإيمان ومرضى‏ القلوب» (الأحزاب- 11).
4- «السمّاعون لأهل الفتنة» (التوبة: 45- 47).
5- «المجموعة الذين خلطوا عملًا صالحاً وآخر سيئاً» (التوبة- 102).
6- «المشرفون على‏ الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر» (آل عمران- 154).
7- «الفاسق أو الفسّاق الذين لا يصدق قولهم ولا فعلهم» (الحجرات- 6، السجدة- 18).
8- «المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم» (الحجرات- 14).
9- «المؤلّفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويُتألفون بدفع سهم من‏
                        الايمان والكفر، ص: 74
الصدقة إليهم لضعف يقينهم» (التوبة- 60).
10- «المولّون أمام الكفّار» (الأنفال- 15- 16) «1».
هذه الأصناف إذا انضمت إلى‏ الأصناف المتقدّمة، تعرب عن أنّ صحابة النبي الأكرم لم يكونوا على‏ نمط واحد، بل كانوا مختلفين من حيث قوة الإيمان وضعفه، والقيام بالوظائف والتخلّي عنها، فيجب إخضاعهم لميزان العدالة الذي توزن به أفعال جميع الناس، وعندئذ يتحقّق أنّ الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلّاإذا كان أهلًا لها، ومع ذلك فكيف يمكن رمي الجميع بسهم واحد وإعطاء الدرجة الواحدة للجميع، وهذا هو رأي الشيعة فيهم، وهو نفس النتيجة التي يخرج بها الإنسان المتدبّر للقران الكريم.
3- التقية من المخالف المسلم:
اتّفق المسلمون على‏ جواز التقية من الكافر بكلمة واحدة أخذاً بقوله سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ إلّامَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإيمان» (النحل- 106) وقوله سبحانه: «لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أَوْلياءَ مِن دُون المُؤْمِنينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَىْ‏ء إلّاأنّ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة» (آل عمران- 28)
إنّما الكلام في التقية من المخالف المسلم، وهذا ليس شيئاً بديعاً، فإنّ السبب الذي جوّز التقية من المخالف الكافر، هو المجوّز للتقية من المخالف المسلم فإنّها سلاح الضعيف، فلو كانت الشيعة آمنة لما إتّقت لا من الكافر ولا من المسلم المخالف.
على‏ أنّ هذا ليس فكراً بديعاً فقد صرّح بجوازه لفيف من علماء السنّة،
__________________________________________________
 (1). سيوافيك نصّ الآيات في الفصل التاسع فانتظر.
                        الايمان والكفر، ص: 75
فلاحظ المصادر «1». والتقية تغاير النفاق مغايرة جوهرية فالمنافق يُظهر الإيمان ويبطن الكفر والمتّقي يبطن الإسلام ويظهر الخلاف، فواللَّه العظيم «وإنّه لقسمٌ لو تعلمون عظيم» لو كان الشيعي آمن على‏ دمه ونفسه وماله وأهله لما اتّقى‏ في ظرف من الظروف كما هو لا يتقي الآن في ظرف من الظروف للحرية السائدة على‏ أكثر الأجواء.
4- البداء:
إنّ الاختلاف في البداء اختلاف لفظى جداً عند التدبّر وليس هناك خلاف جوهري بين الطائفتين، والمهم هو تفسيره، فأهل السنّة يفسّرونه بظهور ما خفى‏ على‏ اللَّه سبحانه، ولو كان هذا معنى‏ البداء فالشيعة تردّه مثل أهل السنّة.
والتفسير الصحيح لها هو: أنّ اللَّه يظهر للناس ما كان قد أخفاه عنهم سابقاً.
وبتعبير آخر أنّ المراد من البداء هو تغيير المصير في ظل الدعاء والأعمال الصالحة كالصدقة والاستغفار وصلة الرحم كما اتّفق لقوم يونس، فأظهر اللَّه ما خفي عليهم من الفرج والتحرّر من الشدّة حيث غيّروا مصيرهم بالأعمال الصالحة قال سبحانه: «فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلّاقَوْمَ يُونُسَ لمّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الِخْزي فِي الَحياةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعناهُم إلى‏ حِين» (يونس- 98) فظهرت لهم ما أخفى‏ اللَّه عنهم حيث كانوا مذعنين بالعذاب والهلاك، فظهرت لهم النجاة.
وأمّا وجه التعبير عن تلك الحقيقة الناصعة بما يتبادر إلى‏ الذهن في بدء الأمر من ظهور ما خفى‏ على‏ اللَّه فإنّما لأجل الاقتداء بالنبى الأكرم فإنّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- أوّل من قال هذه الكلمة، وبما أنّ القرينة كانت موجودة لا يضر التبادر البدئي.
__________________________________________________
 (1)
. الطبري: جامع البيان: 3/ 153، الزمخشري: الكشاف: 1/ 422، الرازي: مفاتيح الغيب: 8/ 13، النسفي: التفسير، بهامش تفسير الخازن: 1/ 277، الآلوسي: روح المعاني: 3/ 121، جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل: 4/ 84.
                        الايمان والكفر، ص: 76
روى‏ البخاري عن أبي هريرة أنّه سمع رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- يقول: إنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى‏ بدا للَّه أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى‏ الأبرص فقال: أي شي‏ء أحب إليك؟ قال: لَون حسنٌ وجلدٌ حسنٌ، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو قال البقر هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر، فأُعطي ناقة عُشراء، فقال: يبارك لك فيها؛ وأتى‏ الأقرعَ فقال: أي شي‏ء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب وأُعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملًا، وقال: يبارك لك فيها؛ وأتى‏ الأعمى‏ فقال: أي شي‏ء أحب إليك؟ قال: يرد اللَّه إلىَّ بصرى فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد اللَّه إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال:
الغنم، فأعطاه شاة والداً، فأُنتج هذان وولّد هذا، فكان لهذا وادٍ من إبل، ولهذا وادٍ من بقر، ولهذا وادٍ من الغنم.

Tidak ada komentar:

Posting Komentar