Pages

Selasa, 18 Oktober 2011

Allamah Thaba'thabai Kesucian manusia p 11-161

                                                                                                                                                                             طهارة الإنسان، ص: 9
                        مقدّمة

                        طهارة الإنسان، ص: 11
                        بسم الله الرحمن الرحيم

                        الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على أشرف خلقه وسيِّد بريّته محمّد وآله أجمعين ..

تمثِّلُ هذه الرِّسالةُ المَطروحةُ على القرّاءِ المُحترمين، حَصيلةَ ما أوردناه من البحوثِ والدّروسِ حول موضوعِ طَهَارَةِ الإِنْسان، وذلك سَنة ألفٍ وأربَعمائة وعشرين هِجرية، في البلدةِ الطيّبة قم، حوزةِ العِلم والمعرفة وفقهِ آلِ محمّد.
وقعتْ مسألةُ طهارة الإنسان ونجاسته- ولمدَّة مُتمادية- مورداً للبحث والنّقد عند فقهاء الشّيعة العظام؛ فجَمعٌ أفتى بنَجاسة تمام أَفرادِ البَشر مستثنياً المُسلمين، فيما التزم فريق آخر بدخول أهل الكتاب في هذا الاستثناء.
نعم، ذهب نزرٌ منهم إلى القول بأن نَجاسةَ المخالفين باطنيّةٌ- سواءٌ من أيّ فرقةٍ كانوا ومنْ أيّ قوم- نافين كونها ظاهريّة اصطلاحيّة. ولكنّنا وبعد التأمّل، نجد أنّ البحثَ في هذه المسألة لم يكن كافياً، ولم يستوعب التحقيقُ فيها جميعَ جوانبها ومتعلّقاتها بالشَّكل الوافي.
ونظراً لأهميَّة المسألة، وخصوصاً في الزّمن المعاصر حيث تتوالَى فيه هَجَماتُ المُعاندين والمُعارضين على المَبادئ الإسلامية الشّامخة،
                        طهارة الإنسان، ص: 12
وبالأخص فيما يتعلّق بهذا الموضوع البالغِ الأهميّة، كلُّ ذلك دعا الحقير إلى القيام بتحقيق متواضع بقدرِ الاستطاعة واللياقة الفكرية، وذلك مع أخوة من الفُضَلاء وثُلّة من الطّلبة الأَخلّاء، من خلال دراسة موضوعية حرّة لا يتخلّلها أيّ استباق للحكم، تاركين فرصة استصدار نتيجة هذا الفرع الفقهي الهام، للتّحقيق والتفحّص. وبحمد الله ومنّته، فقد أُنجزتْ هذه المهمّة.
وقد تمَّ- بواسطة الألطاف الإلهية- الكشفُ عن أُفقٍ جديدٍ من المعرفة الفقهيّة والدّراية الصّحيحة، حيث توصّلنا إلى نتائج مشرقة كانت تبدو لنا سابقاً ممتنعة، لما كانت المسألة قد طُرِحَتْ علينا من خلال تصوُّرٍ آخر. نعم، لا بدّ وأنْ نُذعنَ بأنّ الاجتهاد في الفقه الشيعيَّ الاجتهادي، قد منحَ الباحثينَ في مذهبِ الإمامة والولاية إجازةَ السيّرِ قُدُماً بتحررٍ دائم، ليتسنّى لهم تحصيلُ الواقع ودركُ حقيقة الأحكام في كلّ موضع ملتبس أو موقف مُشكل، وذلك اعتماداً على نصوص الأدلّة والحجج الشّرعيّة المدوّنة. فيجب أنْ نشكرَ الله تعالى على هذه النّعمة، ونستجيبَ بأرواحنا وأسارير قلوبنا لمِنَّةِ هدايته، أَنْ جَعلَنا على مذهب الحقِّ، ووَضَعَنا في الصراط السّوِي وطريق أوليائِه المستقيم، الذين جعلوا شعارهم وأوامرهم لشيعتهم إتباع الحقِّ ومتابعةَ الواقعِ في جميعِ الموارد والظّروف، وفي سائر المجالات، يعني في جميع أحوال الحياة وأطوارها المختلفة. وهذه المسألة هي سرّ موفقيّة الفقه الشيعي وحركته الدائمة وتفوّقه على سائر المذاهب والأديان.
                        طهارة الإنسان، ص: 13
ومن البديهي أنّ هذه الرسالة لا تمثّل- بأي وجه من الوجوه- نوعاً من الرّفض لكلمات الفقهاء العظام أو فتاواهم، ولا لجهودهم ومساعيهم القيّمة، فهم مأجورون ومحمودون في كلّ تحركٍ لهم ضمن السّبل الموصلة إلى الأحكام الإلهية.
فنرجو من المحقّقين الكرام والفضلاء المحترمين أنْ يتفطَّنوا- بتدبُّر جادّ وتأمّل لائق- إلى مواقع النّقد والنّقص، وأن يمنُّوا على الكاتب باللطف والكرامة، ويذكروا مواقع النقد، ليكون هذا النِّتاج المتواضع مفتاحاً لتقارب الأنظار المختلفة، وتصحيح الآراء الفاسدة، حتّى تتحقّقَ الوَحدةُ المَرجوّة لجميع أفكار المجتمعات وثقافتهم.
ومن الله التوفيق وعليه التّكلان.
المشْهَدُ الرَّضَوِي المُقَدَّس على ثاوِيه آلافُ التَّحِيّة والثِّناء
السّيد محمّد مُحسن الحُسيني الطّهراني
14 مُحرَّم الحَرام 1423 ه- ق.
                        طهارة الإنسان، ص: 15
                        طَهَارَةُ الإِنسَان

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين صلوات الله وسَلامه عليهم أَجمعين ولعنةُ الله على أَعدائهم إلى يومِ الدّين.
يَنبغي قَبل الشّروعِ في بحثِ طَهارةِ الإنسان- بأصنافه المختلفة- ونَجاستِه، أن يُبحث ولو بمقدارٍ، في مسألة تأثير أصلَي الزَّمان والمَكان على كيفيَّة الاجتهاد وحركة استنباط الحُكم الفقهي أو عَدمِه، بوصف ذلك مقدّمة لما نحن في صدده.
يتركّبُ الوجود الإنساني على أُسس عدّة وقوانينَ دقيقة وظواهرَ مختلفة وأمور متنوعة، سواءٌ في ذلك حقيقة الإنسان المتمثِّلة بروحه ونفسه النَّاطقة، أو جسمه وظاهره الّذي يمثّل المرتبة النّازلة للّنفس الإنسانيّة؛ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [1]. ولا فرق في ذلك بين مدرسة التوحيد وسائر المذاهب الإلحاديّة النّافية لوجودِ الصَّانع والمبدأ الأعلى؛ فمدرسة التوحيد تُسند عالمَ الخَلق والظّهور- بجميع مراتبه من الشّهادة والغيب- إلى الفاعل المُبدِع الواحدِ الأحد، يعني إلى الذّاتِ المجرَّدة البسيطة بالإطلاق، وإلى الغنيِّ عن الغير في جميع مراتبه من الفعلِ والصِّفات والذّات، والآية الكريمة: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [2] تدلُّ على إثبات هذا الاستناد بنحوٍ مطلق، وكذلك
__________________________________________________
 [1]- الآية 4 من سورة الّتين.
 [2]- من الآية 54 من سورة الأعراف.
                        طهارة الإنسان، ص: 16
الآية الشّريفة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون [1]، ومثلها أيضاً الآية الشّريفة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [2]، وذلك خلافاً للمذاهب الإلحاديّة، حيث تنفي وجود الصّانع ولا تعتقد بالمبدأ الأعلى. وعلى كلا المسارين، فإنَّ هذا التركيب الخاص لحقيقة النّفس النّاطقة هو الّذي يرفَعُ الإنسانَ من حيثيّة الاستعداد والقوّة إلى مرحلة الكمال و بلوغ الفعلية، وقد عُبِّر عنه في لِسان الشَّرع بالفطرة والسرّ:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونْ [3].
وممّا لا شك فيه أنَّ هذه الأمور الثّابتة واللامتغيّرة هي من اللّوازم الّتي لا تنفك عن الطّبيعة الإنسانيّة والنّفس النّاطقة، بحيث يُعدُّ ثبوتُ موضوعها مقتضياً لثبوتها، ونفيُه كاشفاً عن انتفائِها، وهذا المعنى هو الّذي أُشير إليه في بيان الآية الشّريفة: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. ليكون الدِّين هو ذاك المسير الواسع ضِمنَ الأسُس الفِطريّة الحَقَّة، وعدم إهمالها حتى ولو في مورد واحدٍ من مواردها المودَعةِ فينا، وتعبير الآية الشّريفة: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ حاكٍ عن هذا المعنى.
__________________________________________________
 [1]- الآية 61 من سورة العنكبوت.
 [2]- الآية 9 من سورة الزخرف.
 [3]- الآية 30 من سورة الروم.
                        طهارة الإنسان، ص: 17
وعليه، فإنّ الالتزام بثَبات الفطرة الإنسانيّة وعدم تغيُّرها بحسب أَصلِ الخِلقة، يلازمه ضرورة الالتزام بثبات الدِّين كذلك، بداهة ضرورة ثبات أفعال جميع المكلّفين وحركاتهم وسائر تكاليفهم، وعدم كونها متغيّرة. وهذا يعني أنّ تحقيقَ الأسس الدينية الكلّيّة وفروعها المؤدِّية إلى تحصيل الفعليات الواقعية، لا بدّ وأنْ يكونَ على أساس الحاجات الفطريّة للبشر القائمة على أساس المِلاكات الثَّابتة اللامتغيِّرة.
تصرِّح الآية الشّريفة الواردة في سورة الشّورى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشرِكين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [1] نعم يمكن وقوع اختلافاتٍ في بعض الفروع، ففي سورة المائدة يقول تعالى:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [2].
__________________________________________________
 [1]- الآية 13 من سورة الشورى.
 [2]- الآية 48 من سورة المائدة.
                        طهارة الإنسان، ص: 18
ولذلك يعبِّر أميرُ المؤمنين عليه السلام عن بعثة الأنبياء وحقيقة التّشريع بهذا الشكل الخاص، حيث يقول:
" واصْطَفى سُبحانه من وُلدِه [1] أنبياء، أَخَذَ على الوحيِّ ميثاقَهم وعلى تَبليغِ الرِّسالة أَمانَتَهم لمّا بَدّل أكثرُ خَلقِه عهدَ الله إليهم، فجَهِلوا حقَّه، واتَّخذوا الأندادَ معه، واجْتالتهُم [2] الشَّياطين عن مَعرفتِه، واقتطعتهم عن عبادته فبعثَ فيهم رُسُلَه، وواتَرَ إِليهم أنبياءَه، لِيستَأْدوهم ميثاق فِطرتِه، ويُذكِّروهم مَنسيَّ نِعمتِه، ويَحتَجّوا عليهم بالتَّبليغ، ويُثيروا لهم دفائِن العُقول، الخ .." [3].
فعلى هذا الأساس، لا يُمكن وقوع أيّ نوعٍ من المعارضة بين وجود الحُجج الإلهية وإرسالهم- والّذي عبَّر عنه بالعقل المنفصل- وبين المِلاكات الفطريَّة البشريّة وأسسها. وبتعبير آخر؛ إنّ تطابقَ التّشريع مع الحيثيّة التّكوينية يمثِّل بالنّسبة لتدوين الأحكام أصلًا أوَّلياً وأساساً ثابتاً لا يتغيَّر.
وما يقال: من أن شأنَ الخَلقِ والتّكوين بيد المشيئة والإرادة الإلهية، وكذلك مسألة التّشريع- بما هي اعتبارٌ من المعتبر وجعلٌ منه للتَّكليف- فإنِّها بإرادة الله واختياره أيضاً، فكلُ ما يختارُه هو،
__________________________________________________
 [1]- مرجع الضمير يعود إلى آدم عليه السلام.
 [2]- اجتالتهم: أي صرفتهم عن قصدهم.
 [3]- نهج البلاغة، شرح محمد عبده 23: 1، الخطبة: 1. وكذلك في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 113: 1، دار إحياء الكتب العربية، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، 1378 ه-.
                        طهارة الإنسان، ص: 19
سوف يكون الحقّ، سواء طابق التكوين أم لا، وليس من حق أحدٍ أن يسأل أو يعترض ... فهو كلام عارٍ عن التحقيق والصواب، إذ ما ورد في الآية الشّريفة: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [1] إنما يدلّ على أنّ مسؤولية الإجابة عن الأفعال تقع على عاتق المكلفين، لا في عهدة الحق سبحانه، وذلك لأنّ مقام المكلّف- من جهة التكلّيف- هو مقام الانتخاب والاختيار، وأمّا مقام الإرادة والمشيّة والفعل للحضرة الأحدية، فلا يقتضي اختياراً أو ترجيحاً لأحدِ الطّرفين من الوجود والعدم، ولا يكون ذلك على أساس رجحان المصالح أو المفاسد النّفس الأمريّة ومراعاتها وانطباق الفعل على أساسها، وإنّما نفس إرادة الحق سبحانه ومشيّته، هي الّتي توجب الصلاح وتنشئ الرجحان وتولِّده، فالصَّلاح والفضيلة والخير، ما هي إلا أمورٌ منبعثةٌ من نفسِ فعليّة أفعالِ الحقّ ومنتزعةٌ منها، وعلى العكس من ذلك أفعال المكلّفين وأعمالهم.
وإنما حقُّ الجعل والتشريع منحصر بدائرة الإرادة الإلهية وحريمها، فهو مبدأ عالم الوجود وأصله وفاعله، كما وبناءً على الأساس العقلي القاضي بضرورة تحصيل المطابقة مع الواقع النفس الأمري، من اللازم- حقاً وحقيقةً- أن تنحصر حيثيَّتي المولوية وشأنية التشريع باختيار الله ومشيّته دون غيره.
وعليه فلا مسوِّغ لوجود أيِّ نوعٍ من المخالفة بين عالمي التشريع
__________________________________________________
 [1]- الآية 23 من سورة الأنبياء.
                        طهارة الإنسان، ص: 20
والتكوين، وإنّما الحكمة البالغة للحقِّ تعالى وعليَّته الغائيّة في خلقه للمخلوقات يقتضيان ذاك المعنى الشّريف والبيان النفيس الوارد في الكتاب المبين: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى* قَالَ رَبُّنَا الّذي أَعْطَى كلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [1]، أو الآية الشّريفة: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [2]، أو الآية الشّريفة: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [3].
بناءً عليه، فلا يمكن أن تتخلَّف الأحكام المجعولة عمّا يقتضيه عالم الخَلق والتّكوين، وكذلك الأمر بالنّسبة لحيثيّة جعل الأحكام، فلا بدّ وأنْ تُنتزعَ الأحكامُ الإنشائية- سواءٌ التكلّيفيّة أم الوضعيّة- من واقع التّكوين ونشأته الخارجيّة، حتّى يحصل عالم الخلق على فعليته ويصل إلى غاياته المرجوة. وحينئذٍ فلا يتنافى الطريق الموصل إلى هذه الغايات وذاك الهدف مع نفس الغاية والهدف، فالتكلّيف المُرضي لله تعالى والمُراد له، سوف يَكتسبُ- لا محالة- صِفةَ المُقدميّة، وسوف يستطيعُ إيصال المُكلّفين إليه سبحانه وتعالى.
فما يقال إذاً: من إمكانيّة وجود طريقٍ موصلٍ إلى الواقع النّفس الأمري، ومع ذلك لا يقع مورداً لرضا الشارع وجعله واختياره، فهو
__________________________________________________
 [1]- الآية 49 و 50 من سورة طه.
 [2]- ذيل الآية 56 من سورة هود.
 [3]- الآية 14 من سورة الأنعام.
                        طهارة الإنسان، ص: 21
كلام عارٍ عن التأمّل والتّحقيق. وكذلك ما يُقال: من إمكانيّة تنجيز الحُكم من قِبَل الشَّارع بمجرد اعتبار الشّارع له من دون أيّ تعلقٍ بحيثيةٍ تكوينية، وبدون انطباقه وتوافقه مع الجهة الخَلقيَّة للمكلّفين ضمن الشّرائط المختلفة، وحسب الموضوعات المتنوِّعة، فإن هذا الكلام لا أساس له أيضاً.
ولو صحَّت هاتان الدعويان، بأنْ التزمنا بإمكانيّة تخلُّف الحُكم عن شرائطه وموضوعه الخارجي، لأمكنَ حينئذٍ أنْ يُصدِرَ الشارعُ حُكماً مترتِّباً على موضوعه، ثمّ يتخلّف هذا الحكم عن الموضوع في سائر الظّروف وجميع الحالات، وهو ما يوجب عدم تحقُّق الغرض الغائي لوجود الحكم، وفي النّتيجة سوف يكونُ جمعاً بين المتناقضين.
                        طهارة الإنسان، ص: 23
                        تَأثيرُ

                        الزَّمَان وَالمَكَان علَى حَرَكَةِ الاسْتنِبَاط

تُثارُ في هذه الأيّام مسألةٌ تحمل عنوان" تأثير الزّمان والمكان على كيفيّة الاجتهاد وحركة استنباط الحكم الشّرعي"، ومن الواضح جداً أنّ الفقه الشيعيّ ومنذ أن شرعَ في الاعتماد على منابعه المقرّرة وأخذ يرتكز على أَساسِ" أصْل الاجتهاد"، غدا مُتأثِّراً مباشرةً بكيفيّة تَفكيرِ الشَّخص المُستنبِط وأسلوب تتبُّعِه وسائرِ خُصوصيّاته الروحيّة والأخلاقيّة، والحال أنّ الأفرادَ مختلفون في حِيازة هذه الخصوصيَّات ذاتِ المراتب المختلفة، لذلك يُلاحظ أنّ كبارَ فُقهاءِ الشّيعة طوالَ الأزمنة المتوالية لم تَتَّحد أنظارُهم في استنباطهم الفروعَ الفقهيّةَ، فقد كانت آراؤهم مختلفةً على الدوام، بل قد يصل الأمر إلى حدِّ التناقض، بل هذا جار حتى بالنّسبة للفَقيه نفسه، فكثيراً ما كان يمتلك رأيين مُختلفتين، وذلك خلال فترتين من الزمن. نعم، قد لا يقع الاختلاف بالنسبة لبعض الفروع، وما ذلك إلا لكونها من الضروريات. وهذا الاختلاف شامل حتى للكثير من الإجماعات أيضاً.
إلا أنّه رغم ذلك كلِّه، لا دخالة لهذه الاختلافات بمسألة الزّمان والمكان، يعني حتى وإنْ فرضنا وقوع الاختلاف بين آراء هؤلاء الفُقهاء وأنظارهم ضمن أزمنة متفاوتة، فلا يعني ذلك أنّ اجتماعهم في زمن واحد سوف يوجب انتفاء تعدُّد وجهات النظّر،
                        طهارة الإنسان، ص: 24
فاختلاف الرأي وتباعد الأنظار على حاله، كيف ونحن نشاهدُ هذا الواقع بالنّسبة للفقهاء المتزامنين بشكل أظهر من الشّمس، خاصَّة في مجال القضاء والأمور الحُكوميّة والمسائل الاجتماعية، فإنّ الاختلاف الواسع فيها يظهر بوضوح كبير، ولا ضير، فالكلّ مُثابٌ ومأجور.
أمَّا لو أَرجَعْنا كيفية تعلّقِ الأحكامِ أو الاستنباطِ بالزّمان والمكان، إلى نوعٍ من التعلّق بالعلّة الفاعليّة- لا مجرّد الظّاهرية والإعدادية- فلا مفرّ حينئذٍ من الإقرار بوقوع نَسخٍ عام للشّريعة، بل وتبدُّل الشّريعة الحقّة إلى آراء مبتدَعة، ولازمه الاعتقاد بإرساء دين جديد عوضاً عن الأحكام الأبديّة، وبالتالي نفي خاتميّتها. وعليه فلن يبقى من الشّريعة- بوصفها مبدأً ثابتاً" لا يتغيِّر"- إلا شيءٌ واحد، ألا وهو أصالة (النّسخ والنِّسيان بمُرور الزّمان) ومعناه أنه لن يدوم حجرٌ على حجر، ولن يبقى من الإسلام اسم ولا رسم، وعلى الإسلام السّلام.
ولابد أن يتنبّه المعتقدون بهذه النّظرية إلى أمرٍ وهو: أنّه ما الّذي تغيّر وتبدّل في البناء البشري وطينته، سواء من النّاحية الظّاهرية أم الروحيّة، حتى صِرنا ملزَمين بابتِداع مقولة التحوّل والتّكامل؟ هل ازداد وزنُ الإنسان في هذا الزّمان أكثر مما كان عليه زمن نزول الوحي؟ أو حَصَلَ تبدّل خاص في البناءً الجِسمي له؟! أو أنّ صفاته وغرائزه وخصوصيّاته الروحيّة قد اختلفت!! هل ازدادت القدرةُ الفكريّة البشريّة أو اشتدّت كيفيّة إدراكه للمصالح والمفاسد
                        طهارة الإنسان، ص: 25
النّفس الأمريّة قياساً مع إدراك البشر السّابقين!!
للأسف .. يجب أن نُذعنَ بأنّ المسألة في كثيرٍ من الموارد المذكورة على عكس ذلك تماماً، والآية الشّريفة؛ (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) تُفصحُ بنفسها عن مرادها وتبيّن معناها ومصداقها بشكلّ جلي؛ فالنّفس البشريّة في العصر الراهن منغمسة في مستنقعات الغِواية الشّيطانية والصّفات الحيوانية الرّذيلة، تماماً كما كانَ البشر قديماً. فعفريت الأنانيّةٌ والحِرص والطمع والشهوة وحبِّ النفس يتحفنا في كلّ يومٍ بظهورٍ جديدٍ من السبعيّة والافتراس، والاستيلاء والشّهوة والغضب، مما بيّض وجوه الماضين. فقد استمرت مظاهر الاستيلاء على النّفوس والممتلكات والأعراض تماماً كما كان عليه الحال في الماضي، لكن بشكل حديث ومتطوِّر، وذلك عبر الاستعمار والاستثمار، بل واستحمار الأمم الأخرى وبطريقة مهيبة، قتل وإغارة ونهبٌ وسلبٌ للأموال مما هو أوحش وأخطر من السّابق بآلاف المرات، وذلك بواسطة النّفوس المتسلطة والخشنة الخالية من الوجدان، مما أوجب ضيق الخناق على عقلاء الأمَّة وأصحاب الأهداف النبيلة من البشر ومتمدِّنيهم. فالاستعمار الثقافي غالباً ما يَبرزُ بمظهر التكنولوجيا والرفاهيّة الحياتيّة والثقافيّة والإعلامية المسمومة، والتي لا تبتني على شيء من المعايير والقيم الأخلاقية. وهو ما يلقي في عقلاء الأمة وقلوب مثقفيها الرعبَ والخوفَ، الأمر الذي يفوِّتُ عليهم حتّى مجرد تصوُّر فرصة الإصلاح والتغيير، وإحداث تحولٍ ما في الوضع السائد.
                        طهارة الإنسان، ص: 26

Tidak ada komentar:

Posting Komentar