Pages

Rabu, 30 November 2011

sambungan Syiah Dalam Islam menurut Allamah Thaba'thabai.p 44


                        الشيعة فى الإسلام، ص: 44
و أمر أن تعطى الهدايا و الجوائز لكل من يأتي بحديث في مناقب سائر الصحابة و الخلفاء، و كانت النتيجة أن توضع أخبار كثيرة في مناقب الصحابة [1]، و أمر أن يسبّ الإمام علي عليه السّلام في جميع الأقطار الإسلامية من على المنابر (و هذا الأمر كان ساريا حتى زمن عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي سنة 99- 110 ه).
و قتل جماعة من خاصة شيعة علي عليه السّلام بواسطة عماله، و كان بعضهم من الصحابة، و رفعت رؤوسهم على الرماح، تنقل من بلد لآخر، و أمر عامة الشيعة بسبّ علي عليه السّلام، و التبري منه، فكان القتل حليف من خالف و أبى [2].
الأيام العصيبة التي مرّت على الشيعة
كان زمن حكومة معاوية بن أبي سفيان، من أشدّ الأيام التي مرت على الشيعة و التي استمرت زهاء عشرين عاما، و لم يكن الشيعة فيها بمأمن، و كان أغلب رجال الشيعة يشار إليهم بالبنان.
و لم تكن لدى الحسن و الحسين عليهما السلام، اللذان عاصرا معاوية، أدنى الوسائل تمكنهم من القيام، و إنهاء الأوضاع المؤلمة.
و الإمام الحسين عليه السّلام عندما نهض في الأشهر الأولى من حكومة يزيد، استشهد هو و من كان معه من الأولاد و الأصحاب.
و بعض إخواننا أهل السنة يذهبون إلى التبرير و التأويل في سفك هذه الدماء الطاهرة، و ما شابهها من أعمال إجرامية،
__________________________________________________
 [1] النصائح الكافية ص 72- 73.
 [2] النصائح الكافية ص 58، 64، 77، 78.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 45
معللين ذلك، بأنهم من صحابة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم و وفقا للأحاديث المروية عنه صلى اللّه عليه و آله و سلم، أن الصحابة مجتهدون و معذورون، و أن الله جلّ و علا راض عنهم، لكن الشيعة ترفض هذا بأدلة:
أولا: يستحيل على قائد كالنبي صلى اللّه عليه و آله و سلم الذي نهض لإحياء الحقّ و الحرية و العدالة الاجتماعية، و اتّبعه جمع من الناس، فضحّوا بما لديهم في سبيل تحقيق هذه الأهداف، و عند تحققها، يترك لهم العنان، و تمنح لهم الحرية المطلقة، أمام الأحكام المقدسة، كي يقوموا بما شاؤوا، و هذا يعني أن ينهار البناء الشامخ الذي ساهمت في إقامته و تشييده تلك الأيادي الطاهرة.
ثانيا: إن الروايات التي تقدس الصحابة و تنزههم، و تبرر أعمالهم غير المشروعة، و تعتبرهم من الذين قد كفّر الله عنهم سيئاتهم، و أنهم مصونون و ما إلى ذلك، هذه الروايات قد وضعت من قبل هؤلاء الصحابة أنفسهم، و التاريخ يشهد أن بعض الصحابة، لم يكن أحدهم ليحترم الآخر، و لم يكن الواحد منهم يغض النظر عن أعمال الآخرين القبيحة، و إنما كان يشهّر به و يعرّفه للملأ. فقد قام بعضهم بالقتل الجماعي و اللعن و السب و فضح الآخرين، و لم تكن هناك أية مسامحة أو صفح فيما بينهم.
و وفقا لما ذكرنا فإن الصحابة يشهدون أن هذه الروايات غير صحيحة، و إذا ما علم صحت البعض منها، فإن المراد منها معنى آخر، غير التنزيه و التقديس الشرعي للصحابة.
و لو قدر أن الله سبحانه و تعالى قد مدحهم و رفع شأنهم في‏
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 46
بعض آياته [1]، فإن هذا يدلّ على ما قدموه من خدمات في سابق حياتهم، و تنفيذهم لأوامر الله تعالى، فطبيعي يرضى الله تعالى عنهم في هذه الحال، و لكن لا يكون المراد من أنهم يستطيعون أن يقوموا بكل ما تراودهم أنفسهم في المستقبل، و إن كان خلافا لأحكام الله تعالى.
استقرار ملوكية بني أمية
توفي معاوية (سنة 60 للهجرة)، و استولى على عرش الخلافة ابنه يزيد وفقا للبيعة التي أخذها أبوه من الناس، و أصبح زعيما للحكومة الإسلامية.
و التأريخ يشهد بأن يزيد لم يكن يتصف بأية شخصية إسلامية، فقد كان شابا لا يبالي بأحكام الإسلام حتى في زمن أبيه، كان فاسقا فاجرا، لا يتناهى عن شرب الخمر، متّبعا لإهوائه و شهواته، قام بأعمال إجرامية طوال السنوات الثلاث التي حكم فيها، لم يسبق لها مثيل منذ ظهور الإسلام، مع ما انطوت عليه من أحدث و فتن.
ففي السنة الأولى، قتل الحسين بن علي عليه السّلام سبط النبي المرسل صلى اللّه عليه و آله و سلم، و من كان معه من أولاده و أقربائه و أصحابه، بشكل مفجع، و طاف بالنساء و الأطفال من أهل بيت العصمة و الطهارة مع رؤوس الشهداء في البلدان [2].
__________________________________________________
 [1] سورة التوبة الآية 100.
 [2] تاريخ اليعقوبي ج 2: 216/ أبي الفداء ج 1: 190/ مروج الذهب ج 3: 64 و كتب التاريخ الأخرى.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 47
و في السنة الثانية، أمر جيشه بالإبادة الجماعية للناس في مدينة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم، و أباح دماءهم و أموالهم و أعراضهم لثلاثة أيام [1].
و في السنة الثالثة؛ أمر بهدم الكعبة المقدّسة و إحراقها [2]، و بعد وفاة يزيد، تسلّط على رقاب الناس، آل مروان من بني أمية، و هذا ما تناقلته كتب التاريخ، و كانت لحكومة هذه الزمرة و التي شملت أحد عشر شخصا، و استمرت مدة سبعين عاما، أيام عصيبة على الإسلام و المسلمين، فلم تكن سوى أمبراطورية عربية مستبدة في مجتمع إسلامي، و كانت تدعى الخلافة الإسلامية، حتى آل الأمر بالخليفة آنذاك، و الذي يعتبر المدافع الوحيد عن الدين، أن يقرر بناء غرفة على الكعبة، كي يتسنّى له الجلوس فيها للتنزه، خاصة في أيام الحجّ [3].
و الخليفة آنذاك قد رمى القرآن بالسهام، و قال في شعر له مخاطبا القرآن:
         أتوعد كل جبار عنيد             فها أنا ذاك جبار عنيد
          إذا ما جئت ربك يوم حشر             فقل يا ربّ مزّقني الوليد [4]

__________________________________________________
 [1] اليعقوبي ج 2: 243/ أبي الفداء ج 1: 192/ مروج الذهب ج 3: 78.
 [2] اليعقوبي ج 2: 224/ أبي الفداء ج 1: 192/ مروج الذهب ج 3: 81.
 [3] الوليد بن يزيد، اليعقوبي ج 3: 73.
 [4] الوليد بن يزيد، مروج الذهب ج 3: 228.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 48
من الطبيعي أن الشيعة كانوا يختلفون اختلافا أساسيا مع أكثرية أهل السنة حول مسألتين، الخلافة الإسلامية، و المرجعيّة الدينية، و هم عانوا أياما قاسية في تلك المرحلة المظلمة. فكان الظلم و الجور من قبل الحكام، و المظلومية و التقوى و الورع الذي كان يتصف به أئمة أهل البيت عليه السّلام يجعلهم أكثر رسوخا في عقائدهم، و خاصة بعد استشهاد الحسين عليه السّلام الإمام الثالث للشيعة، مما ساعد على انتشار الفكر الشيعي في المناطق البعيدة عن مركز الخلافة مثل العراق و اليمن و إيران.
و مما يشهد على صحة هذا الادعاء، ما حدث في زمن الإمام الخامس للشيعة، و القرن الأول الهجري لمّا يكتمل بعد، حيث توجّه الشيعة من جميع الأقطار الإسلامية إلى الإمام الخامس و اهتموا بأخذ الحديث و المعارف الإسلامية منه [1].
و في أواخر القرن الأول الهجري، قام جماعة من الأمراء، بإنشاء مدينة قم في إيران [2]، و أسكنوا فيها الشيعة، و لكن الشيعة حسب أوامر أئمتهم لم يظهروا عقيدتهم، التزاما بمبدأ التقيّة، و لطالما نهض رجال من السادة العلويين إثر كثرة الضغوط التي كانت تظهر من قبل الحكام الجائرين، و لكن قيامهم هذا كان عاقبته الفشل و القتل. و قدموا في سبيل عقيدتهم و نهضتهم هذه المزيد من النفوس و لم تبال الحكومة بإبادتهم و القضاء عليهم.
__________________________________________________
 [1] يراجع مبحث معرفة الإمام في هذا الكتاب.
 [2] معجم البلدان كلمة (قم).
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 49
فهم أخرجوا جثمان «زيد» زعيم الشيعة الزيدية من قبره، و صلبوه لمدة ثلاث سنين، و من ثم أحرقوه، و ذرّوا رماده في الهواء [1]، حتى أن أكثرية الشيعة تعتقد أن مقتل الإمام الرابع و الخامس قد تمّ على أيدي بني أميّة [2]، و ذلك بدسّ السمّ إليهما، و كذا شهادة الإمام الثاني و الثالث كانت على أيديهم.
إن الفجائع التي ارتكبها الأمويون كانت إلى حد جعلت أكثرية أهل السنةمع اعتقادها بالخلفاء عامة و أنهم مفروضو الطاعة- يقسموا الخلفاء إلى قسمين: الخلفاء الراشدين، و هم الخلفاء الأربعة الأوائل بعد وفاة الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و هم (أبو بكر و عمر و عثمان و علي عليه السّلام و الخلفاء غير الراشدين أولهم معاوية.
و الأمويون طوال حكومتهم، و على أثر ظلمهم و جورهم، أثاروا سخط الأمة و غضبها إلى أبعد الحدود، و بعد سقوط دولتهم و مقتل آخر خليفة لهم، فرّ ولدا الخليفة مع جمع من العائلة الأموية من دار الخلافة و لم يجدوا في أي مكان ملجأ يتجهون إليه، فتاهوا في صحاري «النوبة» و «الحبشة» و «بجاوة» و مات الكثير منهم من جراء الظمأ و الجوع، توجهوا إلى جنوب (اليمن) فمكثوا هناك زمنا، كانوا يحصلون على المال من الناس عن طريق الاستجداء و الصدقة و العطف عليهم. و من ثم انتقلوا إلى مكة مرتدين زيّ الحمّالين و انصهروا في ذلك المجتمع [3].
__________________________________________________
 [1] مروج الذهب ج 3: 217- 219/ اليعقوبي ج 3: 66.
 [2] كتاب البحار ج 12 و سائر المصادر الشيعية.
 [3] تاريخ اليعقوبي ج 3: 84.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 50
الشيعة في القرن الثاني للهجرة
ظهرت دعوة باسم أهل بيت النبوة في خراسان، يتزعمها «أبو مسلم المروزي» و ذلك في أواخر الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة، اثر النهضات و الحروب الدامية التي ظهرت في جميع البلدان الإسلامية، كرد فعل للظلم و الجور و المعاملة السيئة التي كان يقوم بها بنو أمية، و أبو مسلم هذا قائد فارسي، قام ضد الحكومة الأموية، و حاز على دعم حتى أطاح بالدولة الأموية [1].
هذه الثورة و إن كانت تستلهم من الدعايات الشيعية، و كانت تتصف أيضاإلى حد مابثار شهداء أهل البيت! إلّا أنها لم تكن بإيعاز من أئمة الشيعة، و الدليل على ذلك أن أبا مسلم لما عرض البيعة للخلافة على الإمام السادس في المدينة، كان ردّ الإمام عنيفا إذ أحرق الكتاب المرسل إليه، و قال للرسول «عرّف صاحبك بما رأيت» [2].
و كانت النتيجة أن قبض «بنو العباس» على الخلافة باسم أهل البيت [3]، و في البداية أبدوا عنايتهم و رعايتهم للعلويين. و قضوا على الأمويين و أبادوهم إبادة كاملة، و ذلك انتقاما لشهداء العلويين، و نبشوا قبور خلفاء بني أمية، و أخرجوا منها الأجساد، و أحرقوها
__________________________________________________
 [1] اليعقوبي ج 3: 79/ أبي الفداء ج 1: 208 و كتب التاريخ الأخرى.
 [2] اليعقوبي ج 3: 86/ مروج الذهب ج 3: 268.
 [3] اليعقوبي ج 3: 86/ مروج الذهب ج 3: 270.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 51
بالنيران [1]، و لم تمض فترة حتى اتخذوا سيرة بني أمية نهجا لهم، فلم يتوانوا عن القيام بالأعمال المشينة و المنافية للشريعة، فظلموا و جاروا على الناس.
سجن «أبو حنيفة» و هو أحد رؤساء المذاهب الأربعة، في زمن المنصور [2]، و لاقى أنواع التعذيب، و ضرب «ابن حنبل» أحد رؤساء المذاهب الأربعة، بالسياط [3]، و قضي على الإمام السادس للشيعة الإمامية بالسم [4]، بعد الأذى و التعذيب. و كان يقدم العلويون جماعات لضرب أعناقهم، أو يدفنوا و هم أحياء، أو يوضعوا أحياء في الجدران، و أسس الأبنية الحكومية.
و أما هارون الرشيد الخليفة العباسي، فقد توسعت في زمنه الإمبراطورية الإسلامية، و كان ينظر أحيانا الشمس مخاطبا إياها بقوله: أشرقي في أيّ مكان شئت فإنك لن تشرقي خارج ملكي.
فمن جهة كان جيش الخليفة يحارب و يتقدم في أقصى الشرق و الغرب في العالم، و من جهة أخرى يشاهد على جسر بغداد و الذي لا يبعد عن قصره سوى خطوات، الجباة يأخذون من المارّة حق العبور دون علم الخليفة و إذنه، و يذكر أن الخليفة نفسه، عندما أراد عبور الجسر ذات يوم، طولب بحقّ العبور [5].
__________________________________________________
 [1] اليعقوبي ج 3: 91- 96/ أبي الفداء ج 1: 212.
 [2] تاريخ أبي الفداء ج 2: 6.
 [3] اليعقوبي ج 3: 198/ أبي الفداء ج 2: 33.
 [4] كتاب البحار ج 212 حياة الإمام الصادق (ع).
 [5] قصة جسر بغداد.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 52
و مما يذكر عن الأمين الخليفة العباسي، أنه وهب إلى مطرب ثلاثة ملايين درهم فضة إزاء ما غناه لبيتين غزل، فرمى المطرب نفسه على قدمي الخليفة قائلا: تمنحني هذه الأموال الطائلة يا أمير المؤمنين؟! فأجابه الخليفة ليس الأمر بمهم نستعيضها من ناحية من نواحي البلاد [1].
كانت الأموال الطائلة تتدفق إلى بيت مال المسلمين من جميع الأقطار الإسلامية، و تصرف للهو الخليفة و لعبه، و كانت الجواري و الفتيات الحسناوات و الغلمان في بلاط الخلفاء تعد بالآلاف.
لم يتغيّر وضع الشيعة بعد زوال حكومة بني أمية، و مجي‏ء دولة بني العباس، سوى تغيير اسم الأعداء الظلمة و الجائرين.
الشيعة في القرن الثالث للهجرة
استطاع الشيعة أن يتنفسوا الصعداء، في أوائل القرن الثالث الهجري، و السبب في ذلك يعود إلى:
أولا: ترجمة الكثير من الكتب الفلسفية و العلمية من اليونانية و السريانية و غيرهما إلى العربية، فتسابق الناس على تحصيل العلوم العقلية و الاستدلالية، علما بأن المأمون الخليفة العباسي (195- 218) المعتزلي كان يرغب في الاستدلال العقلي، و يبدي اهتمامه له، و كانت النتيجة أن انتشر البحث الاستدلالي في الأديان، و تعطى الحرية الكاملة لأصحاب المذاهب، فانتهز علماء
__________________________________________________
 [1] كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (قصة الأمين).
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 53
الشيعة و متكلموهم هذه الحرية الفكرية، فلم يتوانوا في النشاط العلمي، و نشر مذهب أهل البيت عليهم السّلام.
ثانيا: منح المأمون الإمام الثامن ولاية عهده بمقتضى سياسته، فأصبح الشيعة و محبو أهل البيت، بعيدين عن التعرض إلى حدّ ما من قبل الولاةو أصحاب المناصب، و أصبحوا يتمتعون بشي‏ء من الحرية، إلا أن الفترة هذه لم تدم كثيرا، فتعرّض الشيعة بعدها للملاحقة الشديدة، و القتل و التشريد، و عادت السنّة التي كانت سائدة، و خاصة في زمن المتوكّل العباسي (232- 247 للهجرة)، إذ كان يعادي عليا و شيعته عداء خاصا، و هو الذي أمر بهدم مرقد الإمام الحسين عليه السّلام ثالث أئمة الشيعة في كربلاء [1].
الشيعة في القرن الرابع للهجرة
ظهرت عوامل في القرن الرابع الهجري، ساعدت على انتشار مذهب التشيع و تقويته، منها ضعف الخلافة العباسية، و ظهور ملوك آل بويه.
كان لملوك آل بويه، و هم شيعة، التأثير البالغ في مركز الخلافة ببغداد، و كذا في الخليفة [2]، و هذه القدرة جعلت الشيعة يقفون أمام المخالفين، الذين طالما حاربوا الشيعة، و تمكن الشيعة أن ينشروا عقائدهم بكل حرية.
و المؤرخون متفقون على أن الجزيرة العربية، أو معظمها، كانت‏
__________________________________________________
 [1] تاريخ أبي الفداء، و كتب التاريخ الأخرى.
 [2] يراجع كتب التاريخ.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 54
تعتنق مذهب الشيعة في ذلك الوقت، سوى المدن الكبيرة منها، علما بأن بعض المدن مثل، هجر و عمان و صعدة، كانت شيعية، و مدينة البصرة كانت تعتبر مركزا لأهل السنة، و كانت في صراع ديني مع الكوفة مركز التشيع و كان يسكن فيها بعض الشيعة، و كذا في كل من مدينة طرابلس و نابلس و طبرية و حلب و هرات، كان فيها من الشيعة، و كذلك في مدينة الأهواز و سواحل الخليج الفارسي من إيران [1].
و في أوائل هذا القرن، استولى ناصر الأطروش على شمال إيران، بعد كفاح دام سنوات، فاستقر في ناحية طبرستان و أسس دولته، و استمرت لأولاده من بعده، و كان الحسن بن زيد العلوي قد حكم هذه المنطقة قبل الأطروش [2].
و في هذا القرن استولى الفاطميون و هم من الفرقة الإسماعيلية على مصر، و أسسوا حكومتهم و استمرت أكثر من قرنين (296- 527).
الشيعة في القرن الخامس و حتى القرن التاسع الهجري‏
توسعت الشيعة خلال القرن الخامس حتى أواخر القرن التاسع بتلك النسبة التي كانت عليها في القرن الرابع و ظهر ملوك اعتنقوا مذهب التشيع، فصاروا يدعون له.
ترسخت الدعوة الإسماعيلية في «قلاع الموت»، و استقلت في‏
__________________________________________________
 [1] الحضارة الإسلامية ج 1: 97.
 [2] مروج الذهب ج 4: 373/ الملل و النحل ج 1: 254.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 55
دعوتها قرنا و نصف قرن وسط إيران [1]. و حكم السادة المرعشيون سنين متمادية في مازندران [2].
اختار الملك «خدا بنده» و هو أحد ملوك المغول مذهب الشيعة، و خلّفه في الحكم ملوك من هذه الطائفة لأعوام متعاقبة، و ساهموا في نشر و ترويج هذه العقيدة، و كذا سلاطين «آق‏قويونلو» و «قره قوينلو»، إذ كانت مدينة تبريز [3] مركز حكومتهم، و كانت تنبسط سيطرتهم حتى فارس و كرمان، و حكمت الدولة الفاطمية في مصر لسنوات متعاقبة.
من الطبيعي أن القدرة الدينية لأهل السنة مع الملوك كانت متغيرة و متفاوتة، و بعد سقوط الدولة الفاطمية و مجي‏ء دولة الأيوبيين، تغيرت الظروف، و فقد الشيعة في مصر و الشام الحرية الفكرية على الإطلاق، و قتل الكثير منهم [4].
من بينهم الشهيد الأول «محمد بن محمد المكي» أحد نوابغ الفقه الشيعي الذي قتل سنة 786 للهجرة في دمشق بتهمة التشيّع [5].
و قتل أيضا الشيخ «شهاب الدين السهروردي» في حلب بتهمة الفلسفة [6].
__________________________________________________
 [1] يراجع كتاب الكامل و روضة الصفا و حبيب السير.
 [2] الكامل و أبي الفداء ج 3.
 [3] تاريخ حبيب السير.
 [4] تاريخ حبيب السير و أبي الفداء و غيرهما.
 [5] روضات الجنات و رياض العلماء نقلا عن ريحانة الأدب ج 2: 365.
 [6] الروضات و كتاب المجالس و وفيات الأعيان.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 56
فالشيعة خلال هذه القرون الخمسة، كانوا في ازدياد من حيث النفوس و العدد، و كانت الزيادة تابعة لموافقة و مخالفة السلاطين من حيث القدرة و الحرية الفكرية. و لم يعلن في هذه الفترة في أية دولة إسلامية مذهب التشيّع، مذهبا رسميا لها.
الشيعة في القرن العاشر و الحادي عشر للهجرة
نهض شاب في سنة 906 للهجرة، و هو في الثالثة عشرة من عمره، من عائلة «الشيخ صفي الدين الأردبيلي» المتوفي سنة 735 ه. و كان من أحد مشايخ الطريقة في الشيعة، نهض مع ثلاثمائة من الدراويش الذين كانوا من مريدي آبائه، و ذلك لإيجاد دولة شيعية مستقلة و مقتدرة، فسار من مدينة «أردبيل» و شرع بفتح البقاع و إزالة نظام ملوك الطوائف في إيران، و بعد حروب دامية مع الملوك المحليّين و خاصة مع ملوك «آل عثمان» الذين كانوا ينوبون عن الإمبراطورية العثمانية، استطاع أن يجعل من إيران دولة موحّدة بعد أن كانت ممزقة، يحكم كل بقعة منها فئة خاصة، و جعل المذهب الشيعي، مذهبا رسميا لها [1].
و بعد وفاة الملك «إسماعيل الصفوي» أعقبه ملوك آخرون من السلالة ذاتها، حتى منتصف القرن الثاني عشر الهجري، و كل من هؤلاء الملوك كان يؤيد المذهب الشيعي، ففي زمن «الشاه عباس الكبير» و الذي يعتبر ذروة القدرة لهذه السلالة، استطاع أن يوسّع‏
__________________________________________________
 [1] روضة الصفا و حبيب السير و غيرهما.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 57
بقعتهم، فازداد عدد السكان، فبلغ ضعف [1] ما هو عليه الآن في إيران (سنة 1384 ه). و الطائفة الشيعية، في القرنين و نصف القرن الأخير تقريبا، بقيت على حالتها في سائر البقاع الإسلامية مع بقاء الازدياد الطبيعي لها.
الشيعة في القرن الثاني عشر و حتى القرن الرابع عشر للهجرة
إن التقدم في المذهب الشيعي خلال القرون الثلاثة الأخيرة كان بشكله الطبيعي كما في السابق، و في وقتنا الحاضر، يعتبر التشيع مذهبا رسميا في إيران، و معظم شعوب اليمن و العراق من الشيعة، و تتواجد الشيعة في كل الدول الإسلامية في العالم، قلت أم كثرت، و يعد الشيعة في مختلف الأقطار في العالم، بما يقارب المائة مليون.
انقسام بعض الفرق و انقراضها
يشتمل كل مذهب على مسائل و أمور تعتبر الأسس الأولية لذلك المذهب، و هناك مسائل ثانوية. و أما اختلاف أهل المذاهب في كيفية المسائل الأصلية و نوعيتها مع الاحتفاظ بالأصول المشتركة بينها، يسمى انشعابا.
توجد الانشعابات في جميع الأديان، و خاصة في الأديان السماوية، اليهودية و المسيحية و الإسلام. أما المذهب الشيعي فلم يطرأ عليه، و لم يظهر فيه أيّ انشعاب في زمن أئمته الثلاثة (الإمام‏
__________________________________________________
 [1] روضة الصفا و حبيب السير.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 58
علي و الحسن و الحسين عليهم السّلام)، و لكن بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السّلام، اعترفت أكثرية الشيعة بإمامة عليّ بن الحسين السجاد عليه السّلام، و ذهب الأقلية منهم و الذين عرفوا بالكيسانيّة، إلى الاعتقاد بإمامة محمد بن الحنفية إماما رابعا لهم، و هو المهدي الموعود عندهم، و أنه غاب في جبل رضوى، و سيظهر يوما.
و بعد وفاة الإمام السجاد عليه السّلام اعتقد أكثرية الشيعة بإمامة ابنه محمد الباقر عليه السّلام، و ذهب الأقلية منهم إلى التمسك بمذهب زيد الشهيد و هو الولد الآخر للإمام السجاد عليه السّلام، و اشتهروا بالزيدية.
و بعد وفاة محمد الباقر عليه السّلام آمن شيعته بولده الإمام جعفر الصادق عليه السّلام و بعد وفاته، ذهب الأكثرية إلى أن الإمام السابع هو ولده الإمام موسى الكاظم عليه السّلام، و اعتقد فريق أن اسماعيل ابن الإمام الأكبر هو الإمام السابع، و الذي وافاه الأجل في زمن أبيه الصادق، و انفصل هؤلاء عن الأكثرية الشيعية، و عرفوا بالاسماعيلية، و ذهب البعض إلى إمامة عبد الله الأفطح ابنه الآخر، و ذهب آخرون إلى إمامة محمد و توقف بعض في إمامته، و اعتبروه آخر الأئمة.
و بعد استشهاد الإمام موسى الكاظم عليه السّلام، ذهبت الأكثرية إلى إمامة ابنه الرضا عليه السّلام، إماما ثامنا، و توقف جماعة في إمامة الإمام السابع، و اشتهروا ب (الواقفية).
و لم يظهر انشعاب بعد الإمام الثامن و حتى الإمام الثاني عشر، و هو المهدي الموعود، و إذا ما كانت هناك حوادث أو وقائع فإنها لم تكن سوى أيام معدودة و لم يحدث انشعابا، و على فرض حدوث‏
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 59
انشعاب، لم يدم كثيرا، و انتهى إلى الانصهار، كما حدث بعد وفاة الإمام العاشر، إذا ادّعى ولده جعفر الإمامة و تبعه جمع، إلا أنهم تفرّقوا و تشتتوا بعد فترة قصيرة، و لم يتابع جعفر دعوته هذه، و هناك بعض اختلاف في الآراء بين رجال الشيعة في المسائل العلمية و الكلامية و الفقهية، إلا أن ذلك لا يعتبر انشعابا في المذهب.
انقرضت الفرق المذكورة التي انشعبت أمام الأكثرية الشيعية، في زمن قصير، عدا الفرقة «الزيدية» و «الإسماعيلية» اللتان استمرتا، و لا يزال معتنقو هذين المذهبين يعيشون في مناطق مختلفة من العالم، كاليمن و الهند و لبنان و مناطق أخرى، فعلى هذا نكتفي بذكر هاتين الطائفتين مع الأكثرية الشيعية و هم الاثنا عشرية.
الزيديّة
تعتبر «الزيدية» من تابعي زيد الشهيد ابن الإمام السجاد عليه السّلام.
ثار زيد سنة 121 للهجرة بوجه الخليفة الأموي «هشام بن عبد الملك» و بايعه جماعة و قتل في حرب وقعت في مدينة الكوفة بينه و بين مؤيدي الخليفة.
يعدّ زيد لدى أصحابه، الإمام الخامس من أئمة أهل البيت عليه السّلام، و خلفه بعده ابنه «يحيى بن زيد» الذي ثار على الخليفة الأموي «الوليد بن يزيد» و جاء بعده «محمد بن عبد الله» و «إبراهيم بن عبد الله» اللذان قاما و ثارا على الخليفة العباسي «منصور الدوانيقي» و قتلا، فهؤلاء هم من أئمة الزيديّة.
و منذ ذلك الوقت، كانت أمور «الزيديّة» غير منتظمة، حتى ظهور
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 60
 «ناصر الأطروش» و هو من نسل أخي زيد، في خراسان، و على أثر المطاردات التي قامت بها الدولة آنذاك، اضطرّ أن يفرّ إلى مازندران، و لم يكن أهالي هذه المنطقة قد اعتنقوا الإسلام، و بعد دعوة دامت ثلاث عشرة سنة، استطاع أن يدخل جمعا كثيرا في الإسلام، فاعتنقوا مذهب «الزيديّة»، و استطاع بعدها و بمساعدة هؤلاء أن يسيطر على ناحية طبرستان و صار فيهم إماما و قائدا، و استخلفه من بعده أولاده، يسوسون الناس في تلك الديار.
و تعتقد «الزيديّة» أن كل فاطمي، و عالم، و زاهد، و شجاع، و سخيّ، يثور لإحقاق الحقّ يستطيع أن يكون إماما.
كانت الزيديّة في الابتداء مثل زيد، تعتبر الخليفتين الأولين «أبو بكر و عمر» من الأئمة، و لكن بعدها أسقط جماعة منهم اسم هذين الخليفتين من أسماء أئمتهم، و ابتدءوا بالإمام عليّ عليه السّلام.
و حسب ما يقال أن «الزيديّة» تتبع المعتزلة في الأصول، و توافق فقه «أبي حنيفة» في الفروع. و هناك اختلاف يسير بينهم في بعض المسائل.
الإسماعيلية و انشعاباتها
الباطنية: كان للإمام جعفر الصادق عليه السلام و هو الإمام السادس للشيعة ولد يدعى «اسماعيل» و هو أكبر ولده، توفي في زمن أبيه، و شهد الأب وفاة ابنه، و طلب الشهادة من حاكم المدينة أيضا على وفاة ولده، إلا أن هناك فريق يعتقد بعدم وفاة اسماعيل، و أنه اختار الغيبة، و سوف يظهر ثانية و هو المهدي الموعود، و يتضح‏
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 61
أن إشهاد الإمام السادس على وفاة ولده كان على علم و عمد، و ذلك خوفا من المنصور الخليفة العباسي. و اعتقدت جماعة أن الإمامة الحقّة هي لاسماعيل، و مع موته، انتقلت إلى محمد، و اعتقد آخرون أن إسماعيل و إن أدركه الموت في زمن أبيه، إلا أنه إمام، و محمد بن اسماعيل و من جاء بعده من هذه السلالة أئمة أيضا.
انقرضت الفرقتان الأولتان بعد زمن و جيز، و بقيت الفرقة الثالثة حتى وقتنا الحاضر، و قد تفرعت لفرق عديدة.
لدى «الإسماعيلية» فلسفة تشبه فلسفة عبدة النجوم، و فيها شي‏ء من التصوّف الهندي، و يذهبون إلى أن المعارف و الأحكام الإسلامية، لها ظاهر و باطن، فلكل ظاهر باطن و لكل تنزيل تأويل، و تعتقد أن الأرض لا تخلو من حجة، و حجة الله عندهم على نوعين: ناطق و صامت فالناطق هو النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم. و الصامت هو الولي أو الإمام، و هو وصيّ النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم. و على أيّة حال، فإن الحجّة هي المظهر الكامل للربوبيّة.
أساس الحجة عندهم يدور دائما على العدد (7)، و بهذا الترتيب، أن كل نبي عند ما يبعث يختصّ بالنبوّةأي الشريعةو الولاية، و يأتي بعده سبعة أوصياء، لكل منهم الوصاية، و كلهم يعتبرون في نفس المنزلة و الشأن، سوى الوصي السابع الذي يختص بالنبوّة أيضا، و يتصف بثلاثة مناصب، النبوّة و الوصاية و الولاية، و بعده سبعة أوصياء، و للسابع منهم ثلاثة مناصب و هكذا.
فهم يقولون، أن آدم عليه السلام بعث بالنبوّة و الولاية، و كان له سبعة أوصياء، و سابعهم نوح النبي، و كان يختصّ بالنبوة الوصاية
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 62
و الولاية، و النبي إبراهيم هو الوصيّ السابع لنوح، و النبي موسى سابع الأوصياء لإبراهيم، و النبي عيسى سابع الأوصياء لموسى، و محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم سابع الأوصياء لعيسى، و محمد بن اسماعيل الوصي السابع لمحمد صلى اللّه عليه و آله و سلم، بهذا الترتيب: محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم و علي و الحسين و علي بن الحسين و السجاد و محمد الباقر و جعفر الصادق و اسماعيل و محمد بن اسماعيل (الإمام الثاني الحسن بن علي لا يعدونه من الأئمة)، و بعد محمد بن اسماعيل سبعة من نسله و ولده، أسماؤهم مخفيّة مستورة و بعدهم سبعة من ملوك الفاطميين لمصر، أولهم عبيد الله المهدي مؤسس حكومة الفاطميين بمصر.
تعتقد الإسماعيليّة، بأن هناك اثني عشر نقيبا موجودين دائما على الأرض، فضلا عن وجود حجة الله، فهم حواريو الحجة و خاصته، و لكن البعض منهم و هي فرقة الدروز الباطنية، تعتبر ستة من الأئمة نقباء، و الستة الآخرين من غيرهم.
و قد ظهر شخص مجهول الهوية سنة 278 ه، في مدينة الكوفة، (قبل ظهور عبيد الله المهدي بسنوات) خوزستاني الأصل، و كان يقضي نهاره صائما، و ليله قائما عابدا، و يسدّ رمقه من كسبه و عمله، كان يدعو لمذهب «الإسماعيلية». فاستطاع أن يكسب جماعة، ليكونوا له أنصارا و أعوانا، فانتخب منهم اثني عشر شخصا، على أنهم النقباء، ثم خرج من الكوفة متجها إلى الشام، و ما عرف عنه شي‏ء بعدها.
استخلف هذا الرجل المجهول في العراق، رجلا كان يدعى أحمد و يعرف ب «القرمط»، فبثّ تعاليم الباطنيّة، و كما يشير
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 63
المؤرخون بأنه ابتدع صلاة جديدة، بدلا من الصلوات الخمس في الإسلام، و ألغى غسل الجنابة، و أباح شرب الخمر. و في نفس العصر، ظهر زعماء آخرون يدعون إلى الباطنية، جذبوا جماعة من الناس من حولهم.
كان هؤلاء يتعرضون لأنفس و أموال من لا يعتنق مذهب الباطنية، و استمروا في حركتهم هذه في العراق و البحرين و اليمن و الشام، قتلوا الأبرياء، و نهبوا الأموال، و سلبوا قوافل الحجيج، سفكوا دماء الآلاف منهم، و نهبوا أمتعتهم و راحلتهم.
استولى «أبو طاهر القرمطي» أحد زعماء الباطنية على البصرة سنة 331 ه فقتل الناس، و نهب الأموال، ثم اتجه إلى مكة مع جمع من الباطنية سنة 317 ه، و بعد صراع مع أفراد الشرطة، دخل مكة، فقتل أهلها، و الحجاج الواردين إليها، فسالت الدماء في بيت الله الحرام و الكعبة، فقسّم ستار الكعبة بين أنصاره، و قلع باب الكعبة، و اقتلع الحجر الأسود من مكانه، ثم نقله إلى اليمن و بقي عندهم مدة اثنين و عشرين عاما.
على أثر هذه الأعمال، أبدى عامة المسلمين تذمرهم و تنفرهم من «الباطنية»، و اعتبروهم خارجين عن دين الإسلام، حتى أن «عبيد الله المهدي» و هو أحد ملوك الفاطميين، الذي ظهر في إفريقيّة، و ادّعى لنفسه المهدويّة، و أنه المهدي الموعود، و إمام الإسماعيلية، قد تبرأ أيضا من القرامطة آنذاك.
و حسب ما يقرّه المؤرخون أن المعيار الديني للباطنية هو تأويل الأحكام الظاهرة للإسلام إلى مراحل باطنية صوفية، و يعتبرون‏
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 64
ظاهر الشريعة خاصا للأميين من الناس، الذين لم يتدرجوا في طريق الكمال، و مع هذا كله، فقد كانت تصدر قوانين و أحكام معيّنة من أئمتهم و زعمائهم بين حين و آخر.
النزارية و المستعلية و الدروزية و المقنعة
ظهر «عبيد الله المهدي» سنة 296 للهجرة في إفريقيا، و ادّعى الإمامة على طريقة الإسماعيلية، و أسس الدولة الفاطمية، و اختار خلفاؤه مصر دار خلافتهم، فحكم سبعة منهم على التوالي طبق مذهب «الإسماعيلية» دون أن يحدث خلاف أو انقسام بينهم.
و بعد الخليفة السابع و هو (المستنصر بالله سعد بن علي) تنازع ولداه «نزار» و «المستعلي» على الخلافة و الإمامة، و بعد صراع و حروب دامية، كانت الغلبة للمستعلي، فألقى القبض على أخيه نزار، و سجنه و بقي في السجن حتى توفي فيه.
و على أثر هذه المنازعة، انقسم اتباع الفاطميين إلى قسمين:
نزارية و مستعلية.
النزاريّة: هم من أتباع الحسن بن الصبّاح، و كان من المقربين للمستنصر، و بعد المستنصر، أخرج من مصر بأمر من المستعلي، بسبب دفاعه عن نزار، فجاء إلى إيران و بعد فترة ظهر في قلعة الموت من نواحي قزوين. فاستولى على هذه القلعة و قلاع أخرى مجاورة، فصار سلطانا عليها، و دعا إلى نزار في البداية، و بعد وفاة «حسن» سنة 518 ه. جاء «بزرك أميد رودباري»، و بعده ابنه «كيا محمد» حكما على طريقة «الحسن الصبّاح»، و جاء بعده ابنه‏
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 65
 «حسن على ذكره السلام» رابع ملوك قلعة الموت، فغيّر طريقة الحسن الصبّاح و كانت نزاريّة، و انتمى إلى الباطنية.
فتح هولاكو خان بعد حملته على إيران قلاع الإسماعيلية و قتل جميع الإسماعيليين، و هدم قلاعهم، و بعد سنة 1255 ه. ثار آقا خان المحلاتي و كان من النزاريّة على محمد شاه القاجار، و فشل في نهضته التي قام بها في مدينة كرمان و هرب إلى بمباي، فنشر الدعوة الباطنية النزارية بإمامته و زعامته هناك، و لا تزال دعوتهم باقية حتى الآن، و تدعى النزارية الآن بال (آقا خانية).
المستعلية: استقرت الإمامة لأتباع المستعلي الفاطمي من خلفاء الفاطميين بمصر إلى أن انقرضت سنة 557 ه. و ظهرت بعد فترة فرقة (البهرة) في الهند على الطريقة نفسها، و لا تزال موجودة.
الدروزية: الطائفة الدروزية التي تقطن الآن جبل الدروز في الشام، كانت في بداية الأمر تابعة للخلفاء الفاطميين، حتى أيام الخليفة السادس الفاطمي، بدأت تدعو إلى «نشتجين الدروزي» و التحقت بالباطنية.
تقف الدروزية عند الخليفة «الحاكم بالله» و تدّعي أنه غاب عن الأنظار، و عرج إلى السماء، و سوف يعود ثانية بين الناس.
المقنّعة: كانت من أتباع «عطاء المروي» المعروف بالمقنّع في بادئ الأمر، و حسب ما يذكر المؤرخون أنه كان من أتباع أبي مسلم الخراساني، و بعد وفاة أبي مسلم، ادّعى أن روح أبي مسلم قد حلّت فيه، و ادّعى النبوّة بعد ذلك، و بعدها ادّعى الألوهية، و حوصر سنة 162 في قلعة كيش في بلاد ما وراء النهر، و عند ما تيقّن أنه‏
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 66
مقتول لا محالة، أشعل نارا، و رمى بنفسه فيها مع عدة من أصحابه و احترق، بعد فترة اختار أصحاب عطاء مذهب الإسماعيلية، و التحقوا بالفرقة الباطنية.
الشيعة الاثنا عشرية و اختلافها مع الزيدية و الإسماعيلية
إن الأقلية الشيعية التي مرّ ذكرها تنشعب عن الأكثريّة الشيعية الإمامية، و تسمى بالاثنى عشرية أيضا، و كما ذكرنا آنفا، كان بداية نشوئهم هو الاعتراض و الانتقاد لمسألتين أساسيتين من المسائل الإسلامية، علما بأنهم لم يعارضوا القوانين التي كانت موجودة وفقا لتعاليم الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و منتشرة بين المسلمين.
و المسألتان هما: «الحكومة الإسلامية و المرجعية العلميّة». و تعتقد الشيعة بأن تلك المسألتين من حق أهل البيت عليهم السّلام خاصة.
تؤمن الشيعة الاثنا عشرية، إن الخلافة الإسلامية بما فيها من ولاية باطنية و قيادة معنويةو هما جزءان لا ينفكان عنهامن حقّ عليّ و أولاده عليهم السلام، بموجب تصريح النبي الكريم صلى اللّه عليه و آله و سلم و سائر أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و هم اثنا عشر إماما، و تؤمن أيضا أن التعاليم الظاهرية للقرآن و التي تعتبر من أحكام الشريعة، تشتمل على الحياة المعنوية الكاملة و لها أصالتها و اعتبارها، و لا يعتريها أيّ نسخ حتى قيام الساعة و يجب أن تؤخذ هذه الأحكام و القوانين عن طريق أهل البيت، لا غير، و من هنا يتضح:
إن الاختلاف الأصلي بين الشيعة الإمامية و الشيعة الزيدية، هو أن الشيعة الزيدية لا تحصر الإمامة في أهل البيت عليهم السّلام، و لا
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 67
تقتصر في عدد الأئمة على الاثني عشر، و لا تتبع فقه أهل البيت، على خلاف الشيعة الإمامية. و الفارق الأساسي بين الشيعة الإمامية و الشيعة الإسماعيلية هو أن الإسماعيلية تعتقد بأن الإمامة تدور على (سبع) و لم تختم النبوة بمحمد صلى اللّه عليه و آله و سلم، و لا مانع لديهم من تبديل أحكام الشريعة، و حتى ارتفاع أصل التكليف عنهم، خاصة على قول الباطنية. على خلاف مذهب الشيعة الإماميّة الذي يعتقد بخاتمية النبوة في محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم و أنه خاتم الأنبياء، و له اثنا عشر وصيا، و تعتبر ظاهر الشريعة غير قابل للنسخ، و يثبتون للقرآن ظاهرا و باطنا.
أما طائفتا الشيخية و الكريمخانية، اللتان ظهرتا بين الشيعة الإمامية في القرنين الأخيرين، فلم نعدهما انشعابا، لأن اختلافهما معا يدور حول توجيه و تفسير بعض المسائل النظرية، و ليس في إثبات أو نفي أصل المسائل.
و كذا فرقة «علي‏اللهيّة» بالنسبة للشيعة الإمامية، و يسمّون ب «الغلاة» أيضا، فهم يعتقدون بالباطن فقط مثل الباطنية للشيعة الإسماعيلية، و بما أنهم يفتقرون إلى منطق دقيق، فلم نحسبهم من عداد الشيعة.
موجز عن تاريخ الشيعة الاثني عشرية
كما أشرنا في الفصول المتقدمة، أن أكثرية الشيعة هم الاثنا عشرية، و هم أصحاب علي و أنصاره، الذين رفعوا راية المعارضة و الانتقاد في ما يخص الخلافة و المرجعية العلمية بعد وفاة
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 68
الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و ذلك لإحياء حقوق أهل البيت عليهم السّلام، و بهذا انفصلوا عن أكثرية الناس.
كانت الشيعة مضطهدة في زمن الخلفاء الراشدين (سنة 11.
35 ه)، و لم يكن عندهم احترام أو حماية لأنفسهم و أموالهم طوال حكومة بني أمية و خلافتهم (40- 132 ه)، و كلما كان يزداد عليهم الضغط و الاضطهاد، كانوا يشتدون عزما، و رسوخا في عقيدتهم، و كانوا يستفيدون من مظلوميتهم في سبيل المحافظة على عقيدتهم و تقدمها و نشرها.
و في الفترة ما بين الدولتين الأموية و العباسية، حيث تسلّم خلفاء بني العباس الحكم، و التي كانت فترة ضعف و انهيار، استطاع الشيعة أن يتنفسوا الصعداء، و ذلك في أواسط القرن الثاني للهجرة، و لكن سرعان ما عاد التضييق و الاضطهاد عليهم، و ازداد شيئا فشيئا حتى أواخر القرن الثالث الهجري.
و في أوائل القرن الرابع الهجري، استعاد الشيعة قوّتهم بمجي‏ء سلاطين آل بويه، و كانوا من الشيعة، فحصلوا على حريّة فكريّة، و شرعوا بنضالهم، و استمرت حتى نهاية القرن الخامس الهجري، و في أوائل القرن السادس الهجري، الذي يقترن مع حملة المغول، و على أثر المشاكل العامة، و استمرار الحروب الصليبية، رفعت الحكومات الإسلامية الاضطهاد و الضغوط عن الشيعة، و خاصة بعد اعتناق بعض سلاطين المغول في إيران دين الإسلام، و ساهمت حكومة سلاطين مرعش في مازندران في دعم الشيعة و تقويتهم، مما جعل عددهم يزداد في كل بقعة من بقاع الممالك الإسلامية
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 69
و خاصة في إيران، حيث كان الشيعة بالملايين. و استمرت هذه الحالة حتى أواخر القرن التاسع الهجري، و في بداية القرن العاشر الهجري، إثر ظهور الدولة الصفوية في إيران المتسعة الأرجاء آنذاك، اعترف رسميا بمذهب الشيعة، و لا يزال حتى الآن، يعتبر مذهبا رسميا للبلاد و فضلا عن هذا كله فإن عشرات الملايين من الشيعة تعيش حاليا في جميع بقاع العالم.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 71
الفصل الثاني: الفكر الديني لدى الشيعة
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 72
معنى الفكر الديني‏
يطلق هذا الاصطلاح على التحقيق و البحث في موضوع من المواضيع الدينية للحصول على نتيجة معينة.
كما أن المراد من الفكر الرياضي مثلا، هو الفكر الذي يعطي النتيجة لنظرية رياضية معينة، أو يحلّ مسألة رياضية.
المصادر الرئيسية للفكر الديني في الإسلام‏
من الطبيعي أن الفكر الديني كسائر الأفكار، يعتمد على مصادر، كي يستلهم منها مواده و أسسه، كما هو الحال في الفكر الرياضي لحل مسألة ما، فإنه لا بدّ من الاستعانة بمجموعة من النظريات و الفرضيات، و بالنتيجة ينتهي إلى المعلومات الخاصة به، و المصدر الوحيد الذي يعتمد عليه الإسلام، (من جهة ارتباطه بالوحي السماوي) هو القرآن الكريم، فهو المصدر الرئيسي للنبوة الشاملة للنبي الأكرم، و ما يحتويه من الدعوة إلى الإسلام،
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 73
و القرآن لا ينفي المصادر الأخرى للفكر الصحيح و الحجج الواضحة كما سنبين.
الطرق التي يعرضها الإسلام للفكر الديني‏
يضع القرآن الكريم ثلاثة طرق أمام أتباعه للوصول إلى المفاهيم الدينيّة و المعارف الإسلامية، و يوضّح لهم، أن الظواهر الدينية و الحجج العقلية، و الإدراك المعنوي لا يتأتّى إلّا من الخلوص في العبادة.
إن الله سبحانه يخاطب الناس عامة في القرآن، و يعرض أمورا دون إقامة حجة أو دليل، انطلاقا من قدرة هيمنته كخالق، و يطالب بقبول الأصول و الأسس الاعتقادية، كالتوحيد و النبوة و المعاد، و الأحكام العملية، كالصلاة و الصوم و غيرها، كما يأمر بالنهي و الامتناع أحيانا. و إذا لم تكن الآيات لتعطي الحجيّة، لم يكن ليطالب الناس بقبولها و اتّباعها، إذن لا بدّ من القول بأن هذه الآيات الواضحة الدلالة طريق لفهم المفاهيم الدينية و المعارف الإسلامية و إدراكها، و نسمي هذا البيان اللفظي بالظواهر الدينية مثل «آمنوا بالله و رسوله» و «و أقيموا الصلاة» ...
و نرى القرآن من جهة أخرى في كثير من الآيات يدعو إلى الحجيّة العقلية، و ذلك بدعوة الناس إلى التفكر و التدبّر في الآفاق و الأنفس، و هو يسلك الاستدلال العقلي في بيان الحقائق.
و حقا أن القرآن هو الوحيد من بين الكتب السماوية الذي يعرّف للإنسان العلم و المعرفة بطريقة استدلالية. و يعتبر أن الحجة العقلية
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 74
و الاستدلال المنطقي من الأمور المسلّمة. فهو يطالب أولا بتقبل المعارف الإسلامية ثم الانتقال إلى الاحتجاج العقلي، و استنتاج المعارف الإسلامية منها، انطلاقا من الاعتماد الكامل على واقعيته بل يقول، محصّوا في الاحتجاج العقلي، و استنبطوا منه صحة المعارف، و من ثم يكون القبول و الرضا.
و ما يسمع من كلام عن الدعوة الإسلامية، يمكن التأمل فيه، و الاستفسار عنه، و الإصغاء إلى قول الخالق. و بالتالي، فإن التصديق و الإيمان يجب أن يحصل عليه الإنسان بدليل أو حجة، لا أن يكون الإيمان مسبقا، ثم إقامة الأدلّة وفقا له. فالفكر الفلسفي طريق يدعمه القرآن الكريم و يصادق عليه، و من جهة أخرى نرى القرآن الكريم و بأسلوبه الرائع، يوضّح لنا أن جميع المعارف الحقيقة تنبع من التوحيد و معرفة الله حقيقة، و ما كمال معرفة الله جلّ و علا، إلّا لأولئك الذين جعلهم الله من خيرة عباده، و خصصهم لنفسه، و هم الذين قد قطعوا تعلقهم القلبي بهذه الدنيا، و إثر الإخلاص و العبوديّة، وجّهوا قواهم إلى العالم العلوي، و نوّروا قلوبهم بنور الله سبحانه، و نظروا ببصيرتهم إلى حقائق الأشياء، و ملكوت السماوات و الأرض، و هم قد وصلوا إلى مرحلة اليقين، إثر إخلاصهم و عبوديتهم، و بوصولهم هذه المنزلة (اليقين) انكشف لهم ملكوت السماوات و الأرض، و الحياة الخالدة في العالم الخالد.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 75
و يتضح هذا الادعاء مع الالتفات إلى الآيات الكريمة التالية:
قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [1].
و قوله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [2].
و يقول الله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [3].
و يقول سبحانه: وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [4].
و قوله: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [5].
و قوله: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [6].
__________________________________________________
 [1] سورة الأنبياء الآية 25. و يفهم من الآية أن العبادة في الدين، فرح للتوحيد، و عليه يبنى.
 [2] سورة الصافات الآيتان (159- 160) إن الوصف فرع من المعرفة و الإدراك، و يفهم من الآية أن المخلصين فحسب يعرفون الله حق معرفته، و الله منزه عن وصف الآخرين له.
 [3] سورة الكهف الآية 110. يستنبط من الآية أن الطريق للقاء الله هو التوحيد و العمل الصالح، و لا طريق سواه.
 [4] سورة الحجر الآية 99. و يستفاد من الآية أن عبادة الله تؤدي إلى اليقين.
 [5] سورة الأنعام الآية 75. يفهم من الآية إن إحدى لوازم اليقين مشاهدة ملكوت السماوات و الأرض.
 [6] سورة المطففين الآيات (18- 21). يستفاد من الآيات أن عاقبة (الأبرار) في كتاب يدعى (علّيين) المرتفع جدا، و يشاهده المقربون لله تعالى، علما أن لفظ (يشهده) صريح بأن المراد ليس الكتاب المخطوط، بل عالم تقرب و ارتقاء.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 76
و قوله تعالى أيضا: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [1].
إذا إحدى طرق استيعاب المعارف الإلهية و إدراكها هي تهذيب النفس و الإخلاص في العبودية.
الاختلاف بين هذه الطرق الثلاثة
اتّضح مما سبق، إن القرآن الكريم يعرض ثلاثة طرق لفهم المعارف الدينيّة: الظواهر الدينية و العقل. و الإخلاص في العبودية، و الذي مؤدّاه انكشاف الحقائق. و المشاهدة الباطنية لها، و لكن يجب أن نعلم أن هذه الطرق الثلاثة، تتفاوت فيما بينها من جهات عدة:
الأولى: إن الظواهر الدينية بيانات لفظية، تستفاد من أبسط الألفاظ، و هي في متناول أيدي الناس، و كلّ يستفيد [2] منها حسب قدرته و فهمه و استيعابه، على خلاف الطريقين الآخرين، إذ يختصان بجماعة خاصة، و لم يكونا لعامة الناس.
الثانية: إن العقل هو الطريق الموصل إلى أصول المعارف الإسلامية و فروعها، و منه يمكن الحصول على المسائل الاعتقادية و الأخلاقية، و كذا الكليّات للمسائل العملية (فروع الدين)، و لكن جزئيات الأحكام و مصالحها الخاصة بها لم تكن في متناول‏
__________________________________________________
 [1] سورة التكاثر الآيتان (5- 6) يستفاد من الآية أن علم اليقين موروث لمشاهدة عاقبة حالة الأشقياء و هو الجحيم (جهنم).
 [2] و من هنا يتضح لنا قول النبي الأكرم (ص) في رواية ينقلها العامة و الخاصة: «إنّا معاشر الأنبياء نكلّم الناس على قدر عقولهم» البحار ج 1: 36.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 77
العقل، و خارجة عن نطاقه، و هكذا طريق تهذيب النفس، لأن نتيجتها انكشاف الحقائق، و هو علم لدني (من قبل الله تعالى)، و لا يسعنا هنا أن نحدّد نتائجها و الحقائق التي تنكشف عن هذه الموهبة و العطية الإلهية، و هؤلاء لما انفصلوا عن كل شي‏ء سوى الله تعالى و أعرضوا عنه، كانوا تحت رعاية الله بصورة مباشرة، فانكشف لهم كل ما يريده الله تعالى لا كل ما يريدونه.
الطريق الأول: الظواهر الدينية و أقسامها
و كما سبقت الإشارة، فإن القرآن الكريم و الذي يعتبر مصدرا أساسيا للفكر الديني الإسلامي، قد أعطى للسامعين حجية و اعتبار ظواهر الألفاظ، و هذه الظواهر للآيات قد جعلت أقوال النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم في المرحلة الثانية بعد القرآن مباشرة، و تعتبر حجة كالآيات القرآنية، و يؤيده قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [1].
و قوله جلّ شأنه: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» [2].
__________________________________________________
 [1] سورة النحل، الآية 44.
 [2] سورة الجمعة الآية 2.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 78
و قوله تعالى أيضا: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [1].
فإذا لم تكن أقوال النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و أفعاله و حتى صمته و إقراره، حجة كالقرآن الكريم، لم نجد مفهوما صحيحا للآيات المذكورة، لذا فإن أقواله صلى اللّه عليه و آله و سلم حجة لازمة الاتّباع، للذين قد سمعوه صلى اللّه عليه و آله و سلم، أو قد نقل إليهم عن طريق رواة ثقات، و كذلك ينقل عنه صلى اللّه عليه و آله و سلم عن طرق متواترة قطعية أن أقوال أهل بيته عليهم السّلام كأقواله، و بموجب هذا الحديث و الأحاديث النبوية القطعية الأخرى، تصبح أقوال أهل البيت تالية لأقوال النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم، و واجبة الاتّباع، و أن أهل البيت لهم المرجعية العلمية في الإسلام و لم يخطئوا في تبيان المعارف و الأحكام الإسلامية فأقوالهم حجة يعتمد عليها سواء كان مشافهة أو نقلا.
يتضح من هذا التفصيل أن الظواهر الدينيّة و التي تعتبر مصدرا من مصادر الفكر الإسلامي على قسمين: الكتاب و السنّة، و المراد بالكتاب، ظواهر الآيات القرآنية الكريمة، و المقصود بالسنة، الأحاديث المرويّة عن النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و أهل البيت عليهم السّلام.
حديث الصحابة
أما الأحاديث التي تنقل عن الصحابة، فإذا كانت متضمنة أقوال الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم أو أفعاله، و لم تخالف أحاديث أهل البيت، تؤخذ بنظر الاعتبار، و إذا كانت متضمنة لرأي الصحابي‏
__________________________________________________
 [1] سورة الأحزاب الآية 21.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 79
فحسب فليست لها حجيّة، و يعتبر الصحابي كسائر المسلمين، علما بأن الصحابة أنفسهم كانوا يعتبرون الصحابي كبقية المسلمين، و يعاملونه معاملتهم.
بحث آخر في الكتاب و السنة
يعتبر كتاب الله (القرآن الكريم) هو المصدر الأساسي للفكر الإسلامي، و هو الذي يعطي الاعتبار و الحجيّة للمصادر الدينية الأخرى، لذا يجب أن يكون قابلا للفهم لعامة الناس.
و فضلا عن هذا فإن القرآن الكريم يعلن أنه نور موضّح لكل شي‏ء، و في مقام التحدي، يطالب بتدبّر آياته، إذ ليس فيه أي اختلاف أو تناقض، و إذا كان بامكانهم معارضته، و الإتيان بمثله فليفعلوا ذلك إن استطاعوا.
و من الواضح أن القرآن لو لم يكن مفهوما لدى العامة فإن مثل هذه الآيات لا اعتبار لها.
و ليس هناك مجال للظن في أن هذا الموضوع (القرآن يفهمه عامة الناس) يتنافى مع الموضوع السابق (إن النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و أهل بيته، هم مراجع علمية للمعارف الإسلامية، و التي هي حقيقة يدل عليها القرآن الكريم).
يشير القرآن الكريم إلى كليات بعض المعارف الإسلامية و هي الأحكام و القوانين التشريعية، كالصلاة و الصوم و المعاملات و سائر العبادات، و يتوقّف تفصيلها بالرجوع إلى السنة (حديث الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و أهل البيت عليهم السّلام).
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 80
و البعض الآخر كالاعتقادات و الأخلاق، و إن كانت مضامينها و تفاصيلها يفهمها العامة، لكن إدراك و فهم معانيها، يستلزم اتخاذ نهج أهل البيت عليهم السّلام مع الاستعانة بالآيات، فإنها تفسّر بعضها بعضا، و لا يمكن الاستعانة برأي خاص، و الذي أصبح من العادات و التقاليد، و باتت النفس تستأنس به.
يقول الإمام علي عليه السّلام: «كتاب الله تبصرون به، و تنطقون به، و تسمعون به و ينطق بعضه ببعضه، و يشهد بعضه على بعض» [1].
يقول النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم: «القرآن يصدق بعضه بعضا» [2] و كذا قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» [3].
هناك أمثلة بسيطة لتفسير القرآن بعضه ببعض، و ذلك في قوله تعالى في قصة لوط «وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» [4].
و في آية أخرى جاءت كلمة «ساء» بكلمة «حجارة» كما في الآية الكريمة «... وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» [5].
يتّضح من الآية الثانية أن المراد من الآية الأولى «فساء مطر» هو «حجارة سجّيل»، و الذي يتابع أحاديث أهل البيت بدقة و كذا الروايات المنقولة عن مفسّري الصحابة و التابعين، لا يتردّد بأن طريقة تفسير القرآن بالقرآن تنحصر في طريقة أئمة أهل البيت عليهم السّلام.
__________________________________________________
 [1] نهج البلاغة خطبة رقم 133.
 [2] الدرّ المنثور: ج 2: 6.
 [3] تفسير الصافي ص 8/ البحار ج 19: 28.
 [4] سورة الشعراء الآية 173.
 [5] سورة الحجر الآية 74.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 81
ظاهر القرآن و باطنه‏
اتّضح أن القرآن الكريم بألفاظه و بيانه، يوضّح الأغراض الدينية، و يعطي الأحكام اللازمة للناس في الاعتقادات و العمل بها، و لكن لا تنحصر أغراض القرآن بهذه المرحلة، فإن في كنه هذه الألفاظ و هذه الأغراض، تستقرّ مرحلة معنوية، و أغراض أكثر عمقا، و الذي يدركه الخواص بقلوبهم الطاهرة المنزّهة.
فالنبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله و سلم، و هو المعلّم الإلهي للقرآن يقول: «ظاهره أنيق و باطنه عميق» [1] و يقول أيضا «للقرآن بطن و ظهر و لبطنه بطن، إلى سبعة بطون» [2]، و قد ورد الكثير عن باطن القرآن، في أقوال أهل البيت عليهم السّلام [3].
فالأصل في هذه الروايات، هو التشبيه الذي قد ذكره الله تعالى في سورة الرعد الآية 17. و الذي يشبّه فيه الإفاضات السماوية بالمطر الذي يهطل من السماء يقول سبحانه و تعالى:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ* كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ* فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [4].
__________________________________________________
 [1] تفسير الصافي ص 4.
 [2] سفينة البحار/ تفسير الصافي ص 15/ الكافي/ تفسير العياشي/ معاني الأخبار/ و روايات أخرى.
 [3] البحار ج 1: 117.
 [4] سورة الرعد الآية 17.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 82
و تشير هذه الآية إلى أن استيعاب الناس و قدرتهم على اكتساب المعارف السماوية و التي تنير النفوس، و تمنحها الحياة متفاوتة.
فهناك من لا يعطي الأصالة لهذا العالم‏الذي سرعان ما يزول‏إلّا للمادة و الحياة الماديّة، و لا يرجو سوى ما تشتهيه نفسه من الحياة الماديّة، و لا يخشى إلا الحرمان منها، و هؤلاء على اختلاف في مراتبهم.
و الحد الأدنى الذي يمكن قبوله من المعارف السماوية، هو الاعتقاد بشكل مجمل و أداء أحكام الإسلام العلمية ظاهرا، و عبادة الله جلّ شأنه أملا في الثواب و خوفا من العقاب.
و هناك أناس اثر صفاء فطرتهم لا يرون السعادة بالركون إلى لذائذ هذه الحياة بأيامها القليلة الزائلة، و ما الفائدة و الضرر، و البهجة و البؤس في هذه الحياة إلّا ظن مغر، و ما أولئك الذين كانوا بالأمس سعداء، و أصبحوا اليوم قصصا تروى، سوى دروس و عبر لهم، تلقى في أذهانهم باستمرار و على الدوام.
و هؤلاء بالطبع يتجهون بقلوبهم المنزهة إلى العالم الأبدي و ينظرون إلى هذا العالم بما فيه من مظاهر مختلفة، بأنها دلالات و إشارات لا غير، و ليست فيها أية أصالة أو استقلال.
و عندما تفتح لهم أبواب من المعرفة و الإدراك المعنوي للآيات و الظواهر الأرضية و السماوية، و تشرق في نفوسهم أنوار غير متناهية من عظمة و جلال الخالق سبحانه، و تعجب نفوسهم و قلوبهم الطاهرة برموز الخليقة إعجابا، فتعرج أرواحهم في الفضاء غير المتناهي للعالم الأبدي بدلا من انغماسها في مصالحها المادية الخاصة.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 83
و عندما يستمعون عن طريق الوحي الإلهي، أن الله تعالى قد نهى عن عبادة الأوثان، و ظاهر الآية مثلا تجنب تقديس الأصنام، فإنهم يدركون أن العبادة تختص بالله سبحانه، و ليست لأحد سواه، لأن حقيقة العبادة هي العبودية المطلقة، و أكثر من هذا فهم يدركون أن الخوف و الرجاء لا يكون إلّا من الله و لله وحده، و يجب ألّا يستسلموا لأهواء النفس، و لا يجوز التوجه إلّا لله تعالى.
و عندما يتلى عليهم حكم وجوب الصلاة، و ظاهر الحكم إقامة هذه العبادة الخاصة، لكن بحسب الباطن يدركون أن هذه الصلاة يجب أن تتحقق بقلوبهم و بكلّ وجودهم، و أكثر من هذا يجب عليهم أن ينسوا أنفسهم و يتفانوا في عبادة الله وحده، فهم لا شي‏ء تجاه الخالق.
و كما هو واضح أن المعنى الباطني المستفاد من المثالين السابقين، لم يكن مدلولا لفظيا للأمر أو النهي بذاته بل‏للذي جعل مجال فكره متسعايرجّع النظر إلى العالم و الكون على النظر في نفسه، و ما تنطوي عليه من أنانية و حب للذات.
و مع هذا البيان، يتبين معنى ظاهر القرآن و باطنه، و كذلك يتضح أن باطن القرآن لا يلغي و لا يبطل ظاهره، بل إنه بمنزلة الروح التي تمنح الجسم الحياة، و بما أن الإسلام دين عام، شامل و أبدي، فهو يهتم أولا و قبل كل شي‏ء بإصلاح المجتمع البشري، و لا يتخلّى عن الأحكام الظاهرية و التي مؤدّاها إصلاح المجتمع، و كذا لا يتخلّى عن الاعتقادات البسيطة و التي تعتبر حارسة للأحكام المشار إليها.
فكيف يمكن لمجتمع أن ينال السعادة بالاقتناع أن الإنسان يكفيه‏
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 84
أن يكون منزها، و ليس هناك ثمة اعتبار للعمل، فيعيش في حياة محاطة بعدم التنظيم و الاستقرار؟
و كيف يمكن لفكر سقيم و أقوال سقيمة أن تخلق قلوبا طاهرة زكية، أو أن يظهر من قلب زكي، أقوالا سقيمة؟
و يقول تعالى في كتابه العزيز: الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [1].
و يقول أيضا: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ... [2].
و يستفاد مما ذكرنا أن للقرآن الكريم ظاهرا و باطنا، و باطنه أيضا ذو مراتب مختلفة، و أما الحديث فهو المبين لمفاهيم القرآن الكريم.
تأويل القرآن‏
و مما كان مشهورا عند إخواننا أهل السنة في صدر الإسلام، إمكان الرجوع عن ظاهر القرآن الكريم، إذا وجد دليل، و أن تحمل الآية على خلاف الظاهر، هذا ما يسمّى ب «التأويل» فكلمة التأويل في القرآن الكريم، كانت تفسّر بهذا المعنى.
و مما يشاهد في كتب أهل السنة، أن المناظرات الدينية المختلفة، كانت تؤيّد بإجماع علماء المذاهب، أو بدليل آخر، فإذا ما خالفت‏أدلتهم‏ظاهر آية من آيات القرآنية، كانوا يلجئون إلى‏
__________________________________________________
 [1] سورة النور، 26.
 [2] سورة الأعراف الآية 58.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 85
تأويل الآية، حملا لخلاف ظاهرها، و أحيانا كان يلجأ كل من الطرفين المتخاصمين، إلى الآيات القرآنية، و الاحتجاج بها، و كل منها كان يؤوّل آية الطرف المتخاصم.
و قلما تسرّب هذا النوع من الاحتجاج إلى الشيعة، و قد ذكر في بعض كتبهم في علم الكلام ... و مما يستفاد من الآيات القرآنية و أحاديث أهل البيت بعد تدبّرها أن القرآن الكريم مع صراحته و وضوح بيانه، لا يريد أن تكون الآيات مبهمة و تبقى لغزا دون حل، و كل ما جاء إلى الناس من أحكام و مسائل، فهي بألفاظ تناسب ذلك الموضوع.
و ما يذكره القرآن بكلمة «تأويل» لم يكن مدلولا للفظ بل حقائق و واقعيات أعلى شأنا من فهم عامة الناس، و هي الأساس للمسائل الاعتقادية و الأحكام العلمية للقرآن.
نعم أن لكل آيات القرآن تأويلا، و لا يدرك تأويله عن طريق التفكّر مباشرة، و لا يتّضح ذلك من ألفاظه، و ينحصر فهمه و إدراكه بالأنبياء و الصالحين من عباد الله، الذين نزّهوا أنفسهم من كل رجس، فإنهم يستطيعون إدراكه عن طريق المشاهدة، نعم إن تأويل القرآن سوف ينكشف يوم تقوم الساعة.
نحن نعلم جيدا أن تلبية حاجات المجتمع المادي، دفعت الإنسان إلى الكلام، و وضع الكلمات و كذا كيفية الاستفادة من الألفاظ.
فالإنسان مضطر في حياته الاجتماعية لكي يفصح عما في ضميره من مفاهيم إلى أبناء نوعه، أن يستمدّ العون عن طريق الصوت و الأذن، و قلما استفاد من الإشارة أو حركة العين، و من هنا نجد أنّ‏
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 86
التفاهم لا يحصل بين أفراد صمّ و عمي، لأن ما يقوله الأعمى لا يسمعه الأصم، و ما يقوم به الأصمّ من الإشارات لا يراها الأعمى.
فعلى هذا فإن وضع الكلمات، و تسمية الأشياء ما هو إلّا لرفع الاحتياجات المادية، و قد اصطنعت الكلمات للأشياء و الأوضاع و الأحوال المادية التي تقع في متناول الحسّ، أو على مقربة من المحسوس.
و كما نشاهد ففي بعض الموارد، التي يكون فيها المخاطب فاقدا لإحدى الحواسّ، و أردنا التكلّم معه عن طريق ذلك الحسّ المفقود، نلجأ إلى نوع من التمثيل و التشبيه، إذا أردنا أن نصف لشخص أعمى منذ الولادة، النور و الضياء، أو أن نصف لطفل لم يبلغ سن البلوغ، لذة العمل الجنسي، فإننا نقوم بنوع من المقارنة و التشبيه المناسب.
و عليه إذا افترضنا أن هناك في الكون واقعيات ليست بمادة (و واقع الأمر هكذا)، فهناك من البشرلا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدفي كل عصر، من لهم القدرة على إدراكها و مشاهدتها، و هذه الأمور لا يمكن توضيحها للآخرين عن طريق البيان اللفظي و الفكر الاعتيادي، و لا يسعنا الإشارة إليه إلا بالتمثيل و التشبيه.
فالله تعالى يقول في كتابه العزيز إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [1] أي لا يتوصل إليه الفهم الاعتيادي، و لا يبلغه.
__________________________________________________
 [1] سورة الزخرف الآية 3- 4.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 87
و يقول أيضا: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [1].
و يقول أيضا في شأن النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و أهل بيته عليهم السّلام: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [2].
وفقا لدلالات هذه الآيات، فإن القرآن الكريم يصدر من ناحية تعجز أفهام الناس عن الوصول إليها، و التوغّل فيها، فلا يدركها إلّا من كان من المخلصين و عباده المقربين، و أوليائه الصالحين، و أهل بيت النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم خير مصداق لذلك.
و يقول عزّ من قائل: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [3]. أي ترى الأشياء بالعيان يوم القيامة.
و يقول أيضا في آية أخرى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [4].
تتمة البحث عن الحديث‏
إن اعتبار أصالة الحديث، و الذي يؤيده القرآن الكريم، تقرّه‏
__________________________________________________
 [1] سورة الواقعة الآية 77- 79.
 [2] سورة الأحزاب الآية 33.
 [3] سورة يونس الآية 39.
 [4] سورة الأعراف الآية 53.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 88
الشيعة و سائر المذاهب الإسلامية، و لكن أثر التفريط في حفظه و الذي حصل من قبل الولاة و الحكام في صدر الإسلام و أثر الإفراط الذي حدث من الصحابة و التابعين في نشر الأحاديث، كانت عاقبة الحديث مؤسفة مؤلمة.
فمن جهة منع خلفاء ذلك الزمان من كتابة الحديث و تدوينه، فكانوا يحرقون الأوراق التي دونت عليها الأحاديث، ما وسعهم ذلك، و أحيانا كانوا يمنعون من نقل الأحاديث، فأدى هذا إلى أن الكثير من الأحاديث أصابها التغيير و التحريف و النسيان و نقلت الأحاديث بمضامينها.
و من جهة أخرى، قام صحابة النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم الذين حضروا مجلسه، و استمعوا إلى حديثه، و كانوا مورد احترام هؤلاء الخلفاء و عامة المسلمين، بنشر الأحاديث حتى آل الأمر إلى أن يصبح الحديث ذا أهمية أكثر من القرآن، و أحيانا كان الحديث ينسخ الآية [1].
و كان يتفق أن نقلة الأحاديث، كانوا يتحمّلون مصاعب الطريق و السفر لاستماع حديث واحد.
و قد تزيّ البعض من غير المسلمين بزيّ الإسلام، و تلبّس به، و بدؤوا بوضع الأحاديث و تغييرها، فأسقطوا الحديث من الاعتبار، و من الوثوق به [2].
__________________________________________________
 [1] موضوع نسخ القرآن بالحديث أحد مواضيع علم الأصول، و يؤيده جمع من علماء أهل السنة، و يتضح من قضية (فدك) أن الخليفة الأول يؤيد ذلك أيضا.
 [2] ما يؤيد هذا القول مصنفات كثيرة وضعها العلماء في الأحاديث الموضوعة، و كذا في كتب الرجال اشتهر جماعة من الرواة بأنهم كذابون و ضاعون.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 89
و لهذا السبب فكّر علماء الإسلام و مفكروه بوضع حلّ لهذه المعضلة، فوضعوا علمين: علم الرجال و علم الدراية، ليميّزوا الحديث الصحيح من السقيم.
و الشيعة فضلا عن أنهم يسعون لتنقيح سند الحديث، يرون وجوب مطابقة الحديث للقرآن الكريم في صحة اعتباره.
و قد ورد في أخبار كثيرة [1] و بأسانيد قطعية عن طريق الشيعة عن النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم، و أئمة أهل البيت عليهم السّلام، إن الحديث الذي يخالف القرآن لا اعتبار له، و الحديث المعتبر هو ما وافق القرآن.
لذا، لا يعمل الشيعة بالأحاديث التي تخالف القرآن، أما الأخبار التي [2] لا يعلم مدى مخالفتها أو موافقتها، فإنها توضع جانبا، دون ردّ أو قبول، و يعتبر مسكوتا عنه، و يستدل على هذا الأمر بأحاديث أخرى لأئمة أهل البيت عليهم السّلام، و لا يخفى أن هناك فئة من الشيعة، مثل ما هو موجود عند أهل السنة، يعملون بأيّ حديث يقع في متناول أيديهم.
الشيعة و العمل بالحديث‏
الأحاديث التي سمعت من النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم أو أئمة أهل البيت عليهم السّلام دون واسطة، حكمها حكم القرآن الكريم، أما الأحاديث التي وصلت إلينا بواسطة، فإن الشيعة تعمل بها كالآتي:
فيما يتعلق بالمسائل الاعتقادية، و الذي يصرّح به القرآن،
__________________________________________________
 [1] البحار ج 1: 139.
 [2] البحار ج 1: 171.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 90
يستلزم العلم و القطع بالخبر المتواتر، أو الخبر الذي تتوفر في صحته الشواهد القطعية، فإنه يعمل به، وعدا هذين النوعين و الذي يسمى الخبر الواحد، فلا اعتبار له.
و لكن في استنباط [1] الأحكام الشرعية، نظرا للأدلة القائمة، فضلا عن الخبر المتواتر و الخبر القطعي، فإنه يعمل أيضا بالخبر الواحد الذي يكون موثّقا.
إذن فالخبر المتواتر و الخبر القطعي مطلقا عند الشيعة، يكون حجة و لازم الاتّباع، أما الخبر غير القطعي كالخبر الواحد فإنه حجة بشرط أن يكون موثّقا في نوعه، و ينحصر ذلك في الأحكام الشرعية.
التعلّم و التعليم العام في الإسلام‏
إن تحصيل العلم من الوظائف الدينية في الإسلام، و خير دليل على ذلك، قول النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة» و وفقا للأخبار التي تؤيّد بالشواهد القطعية، يكون المراد من العلم، هو معرفة أصول الدين الثلاثة: «التوحيد، النبوّةالمعاد» مع ما يلازمها، من معرفة الأحكام و القوانين الإسلامية بصورة مفصلة، كل حسب احتياجه.
و من الواضح أن تحصيل العلم في أصول الدين، و إن كان مع دليل مجمل، فهو ميسور للجميع، و لكن تحصيل العلم مع تفاصيل‏
__________________________________________________
 [1] مبحث حجية الخبر الواحد في علم الأصول.
                        الشيعة فى الإسلام، ص: 91
الأحكام و القوانين الدينية، لا يتحقق إلّا بالاستنباط الفقهي من المصادر الأصليّة، و هي الكتاب و السنة (الفقه الاستدلالي) و هذا ما لا يتيسر للجميع.

Tidak ada komentar:

Posting Komentar