Pages

Selasa, 18 Oktober 2011


                        معرفة الله، ج‏1، ص: 3
                        معرفة الله (1)

                        المُقَدِّمَةُ الاولَى‏

                        بسم الله الرحمن الرحيم‏

                        الحمد للّه حمداً لا حدّ له، و شكراً لا عدّ له، كما تستحقّه ذاته المقدّسة جلّ و علا، الذي خلق الوجود و عالَم الخلق سبباً لتكامل وجود الإنسان، و خلق الإنسان لعبادة ذاته المقدّسة. [1]

وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الإنسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ. [2]
و لا يمكن معرفة حقيقة العبادة دون معرفة حقيقة العبوديّة. لذا فإنّ معرفة ذاته سبحانه و تعالى و أسمائه الحسنى و صفاته العليا هي من جملة العلل الغائيّة و النهائيّة لوجود عالم التكوين.
و أمّا الغاية القصوى و الهدف الأعلى من تلك المعرفة، فهي الخضوع و الخشوع للحيّ القيّوم و الاصطباغ بصبغة العبوديّة، و ارتداء لباس الذلّ و المسكنة في مقابل عِزّ كبريائه، و رؤية جميع عوالم الوجود كآية و مرآة
__________________________________________________
1- هناك بعض الآيات في القرآن الكريم وردت في سياق هذا المعنى؛ مثل الآية: ألَمْ تَرَوا أن اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا في السَّمَاوَاتِ وَ مَا في الأرْضِ.. (صدر الآية 20، من سورة لقمان) و الآية: وَ سَخَّرَ لَكُم مَّا في السَّمَاوَاتِ وَ مَا في الأرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ. (صدر الآية 13، من سورة الجاثية) و الآية: وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دَآئِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ.. (صدر الآية 33، من سورة إبراهيم) و الآية: هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرْضِ جَمِيعًا.. (صدر الآية 29، من سورة البقرة). و قد جاء في الحديث القدسيّ: عَبْدِي! خَلَقْتُ الأشْيَاءَ لأجْلِكَ؛ وَ خَلَقْتُكَ لأجْلِي.. (كلمة الله، ص 169، عن «مشارق أنوار اليقين» لحافظ رجب البرسيّ).
2- الآية 56، من السورة 51: الذاريات.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 4
لذات الحقّ، و الخروج من قيود الغرور، و الوصول إلى ذروة الإقرار و الاعتراف بالفَناء و الزوال و الاندكاك في ذات الحقّ المقدّسة:
وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا. [1]
و التحيّات الزاكيات و الصلوات المباركات على الأنبياء العظام و ملائكة الملأ الأعلى، الذين أنقذوا بني البشر من سجن السبُعيّة و البهيميّة و الشيطنة، و ذلك من خلال المساهمة في إيصال الوحي إليهم، و الذين عرّفوهم سُبل معرفة العبوديّة، و جعلوهم قابلين و مستعدّين للاستفادة من جميع المواهب الربّانيّة و المُتَع السبحانيّة. و بالخصوص على سيّد الرسل و هادي السبل و عقل الكلّ، بداية البدايات و نهاية النهايات، سيّدنا محمّد ابن عبد الله صلى الله عليه و آله و سلّم، و على صنوه و شقيقه و وصيّه و وزيره و صهره و وليّه و أخيه و خليفته، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين السابق في إيمانه، و المتربّع على كرسيّ مقام عزّ ذي الجلال، و ناشر لواء الحمد بيده، و نائل المقام المحمود للشفاعة الكبرى.
و على ذرّيّتهم الطاهرة، الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، لا سيّما مولانا بقيّة الله في الأرضين الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه، الإمام الحيّ، و الواسطة للفيض الإلهيّ، و مُفيض الرحمة و الوجود من العالَم الأعلى و ناشرها على الماهيّات الإمكانيّة، و باسط نور الرحمة الإلهيّة من مقام غيب الغيوب و الكنز المخفيّ، على النفوس العالميّة، كلٌّ حسب قابليّته و استعداده.
وَ إن مِّن شَيْ‏ءٍ إلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُه إلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ. [2]
__________________________________________________
1- الآية 111، من السورة 20: طه.
2- الآية 21، من السورة 15: الحجر.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 5
و منزل خزائن الجود و الرحمة حسب إرادة الحقّ تبارك و تعالى و مشيئته على كلّ ذرّة من ذرّات ماهيّات عالَم الوجود، و موزِّع ذلك عليها كلّ حسب قوّته و ما قُدّرَ له منها.
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيّ. [1]
نعم، فمنذ عودة هذا الحقير المسكين من النجف الأشرف في شهر شوّال المكرّم سنة 1376 ه- [2] و حتى هذا التأريخ، و هو شهر ربيع الأوّل من عام 1400 ه-، كان محور البحث الذي دار بيني و بين الأشقّاء و الروحانيّين الأعزّاء و سادة الإيمان، على أساس تفسير اي القرآن و البحث و التنقيب في الروايات الواردة عن المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، و كانت في أحايين كثيرة تتّضح مسألة تطابق الآيات القرآنيّة و الأخبار النبويّة مع الحقائق، سواءٌ من ناحية الاستدلال الفكريّ و الذهنيّ، أم من الناحية الوجدانيّة و مشاهدة الضمير، و ذلك باستخدام البحوث الفلسفيّة
__________________________________________________
1- جزء من الآية 35، من السورة 24: النور.
2- في هذا التأريخ، قَدِمَ الحقير إلى طهران بنيّة التوجُّه منها للتشرّف بزيارة الضريح الطاهر للإمام علي بن موسى الرضا عليه آلاف التحيّة و الثناء، و بعد أداء الزيارة و اللقاء بالأساتذة السابقين للحوزة العلميّة في قم و زيارة الأقرباء و الأرحام- و كان فصل الصيف على الأبواب- فرجعتُ مرّة أخرى إلى النجف الأشرف، حيث كنتُ قد خلّفتُ بيتي مع أثاثه و باقي المتعلّقات الخاصّة هناك. و لأنّي كنتُ قد قرّرتُ الإقامة في طهران، فقد جعلتُ عودتي إليها في التأريخ المذكور، و أقمتُ فيها حتى انتهاء فصل الصيف، ثمّ عدتُ ثانية إلى النجف، و مكثتُ فيها حتى بعتُ الدار، فكانت عودتي إلى طهران أواسط شهر جمادي الاولى سنة 1377 هجريّة قمريّة. و منذ ذلك الوقت، ذهبتُ إلى المسجد، و تابعتُ من هناك الدرس و البحث.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 6
و العلميّة من جهة، و المحاورات الذوقيّة و العرفانيّة من جهة أخرى.
و لقد كانت لنا في مرّات عديدة و أوقات مختلفة بحوث خاصّة بمسألة التوحيد و الولاية و المعاد، و تفسير الكثير من الآيات القرآنيّة و العديد من المسائل الفقهيّة و العلميّة.
و مع وجود التفاسير الكثيرة و البالغة أكثر من ثلاثين نوعاً، فقد اعتمدنا أكثر ما اعتمدنا على تفسير «الميزان في تفسير القرآن» تأليف سماحة الاستاذ آية الله العظمى العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ التبريزيّ أمدّ الله في ظلاله السامية، و كان ملاذنا في البحث و التدقيق.
و للتفسير المذكور مكانة سامية و مَعَزَّة غالية في نفس الحقير، و إنّه لذو مَعلَم خاصّ و فريد بين التفاسير الأخرى.
و لذا، فقد استقرّ رأينا على تهيئة سلسلة كاملة من التفسير المشار إليه و ذلك باللغة الفارسيّة و بإنشاء سهل و تحرير مُدرَك و سلس، يحوي جميع المواضيع المذكورة فيه، حتى يتسنّى للإخوة الناطقين باللغة الفارسيّة الاستفادة كما يجب و بأقصى ما يمكن من ينابيع «تفسير الميزان».
ثمّ رسا بنا المقام، و لأسباب معيّنة، إلى تأليف رسالة مستقلّة عن كلّ من المواضيع المتعلّقة بالأبحاث العقائديّة و الأحكام التعبديّة و المسائل الأخلاقيّة و الاجتماعيّة، حتى يتمّ بحث كلّ موضوع من تلك المواضيع بتفصيل أكثر و إطناب أوسع، تُستَوفي فيه متعلّقات ذلك الموضوع كافّة، فتزول بذلك كلّ الإشكالات و الشبهات و الأسئلة، و تتّضح جميع جوانب ذلك الموضوع بشكل كامل و وافٍ.
و كان مجموع ما بلغ من تلك الرسائل حتى الآن حوالي مائة رسالة، كرسالة إعجاز القرآن، و إعجاز الأنبياء، و رسالة الشفاعة، و رسالة الولاية، و رسالة الإمامة و الزعامة، و رسالة النبوّة، و رسائل متفرّقة في أحوال و سيرة
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 7
الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، و رسالة في البرزخ، و رسالة في القيامة، و رسالة في الحشر و قيام الإنسان عند الله، و رسالة الميزان، و رسالة الصراط، و رسالة العبوديّة في الإسلام، و رسالة الصلاة، و رسالة الوجوبَينِ العَينيّ و التعيينيّ لصلاة الجمعة في جميع الأزمنة، و رسالة الصيام، و رسالة الحجّ، و رسالة الجهاد و الحكومة، و رسالة القرض الحَسن و الربا، و رسالة الملكيّة و طرقها المشروعة و غير المشروعة، و رسالة الحقوق العامّة، و رسالة حقوق المرأة، و غير ذلك من البحوث الدينيّة و العلميّة، و التي هي صُلب ما يحتاج إليها شبابنا في العصر الحاضر و أجيالنا في المستقبل.
لكن، و ممّا يُؤسَف له، لم يُنجَز من تلك الرسائل إلّا النزر اليسير و ذلك لكثرة الشواغل العلميّة و الامور الاجتماعيّة التي كانت تاحيط بي، و التي حالت دون وصولي إلى الهدف المنشود.
إلّا أن العناية الإلهيّة شملتني، فتمكّنتُ من جمع المواضيع القرآنيّة و التفاسير الروائيّة و العلميّة و الاجتماعيّة و التأريخيّة و الأخلاقيّة على شكل سلسلة علميّة سمّيتها «دورة علوم و معارف اسلام» (سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة) بحثتُ فيها تلك المواضيع و وضعتها بين يدي الإخوة الأعزّاء، فلم تَقلّ أهمّيّة عن ذلك الهدف المنشود.
و هذه السلسلة من العلوم، هي من قسم العقائد و تنقسم إلى ثلاثة محاور رئيسة هي: معرفة الله، و معرفة الإمام، و معرفة المعاد، و تعالج ثلاثة مواضيع مهمّة: مسألة التوحيد و الولاية و المعاد.
و أمّا في أقسام الأحكام و المسائل فتشمل أبحاثاً حول القرآن و الصلاة و الصوم و الحجّ و المسجد و الدعاء و الربا و رؤية الهلال في شهر رمضان و لزوم اشتراك الآفاق بالنسبة إلى الدخول في الشهر الجديد، و حول‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 8
جهاد و قضاء و حكومة المرأة، و تفسير الآية الكريمة الرِّجَالُ قَوَّامُونَ على النِّسَآءِ و بعضاً من الأحكام الأخرى و التي تمّ تأليف معظمها، و سيتمّ وضعها بين يدي القرّاء لدراستها و مطالعتها إن شاء الله تعالى. و هذا هو القسم الأوّل من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة «معرفة الله».
و أصل هذه الأبحاث مأخوذ من تفسير الآية المباركة اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، حتى آخر الآية الكريمة وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ.
و قد تمّ فيها معالجة مسألة التوحيد الذاتيّ و الأسمائيّ و الأفعاليّ لذات الحقّ المقدّسة، و كيفيّة وجود عالَم الخَلق، و الربط بين الحادث و القديم، و نزول نور الوجود في ظواهر الإمكان، و حقيقة الولاية و ربط الموجودات بذات البارئ تعالى، و لقاء الله و الوصول إلى ذاته المقدّسة بالفَناء و باندكاك الكينونة المجازيّة المُعارة في الوجود المطلق و الكينونة الأصيلة الحقيقيّة.
نسأل الله الربّ الودود و المنّان أن يوفّقنا في إنجاز هذه المهمّة التي نسعى جاهدين في إتمامها، دون أن ندّخر أيّ جهد و وسع في سبيل ذلك، و أن يتقبّل منّا هذا العمل البسيط بكرمه و فضله، و أن يسدّد خطانا بجوده و مَنّه.
إلَهِي... وَ ألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الَّذِينَ هُمْ بِالبِدَارِ إلَيْكَ يُسَارِعُونَ، وَ بَابَكَ على الدَّوَامِ يَطْرُقُونَ، وَ إيَّاكَ في اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ يَعْبُدُونَ، وَ هُمْ مِنْ هَيْبَتِكَ مُشْفِقُونَ؛ الَّذِينَ صَفَّيْتَ لَهُمُ المَشَارِبَ، وَ بَلَّغْتَهُمُ الرَّغَائِبَ، وَ أنْجَحْتَ لَهُمُ المَطَالِبَ، وَ قَضَيْتَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِكَ المَآرِبَ، وَ مَلأتَ لَهُمْ ضَمَائِرَهُمْ مِنْ حُبِّكَ، وَ رَوَّيْتَهُمْ مِنْ صَافِي شِرْبِكَ؛ فَبِكَ إلى لَذِيذِ مُنَاجَاتِكَ وَصَلُوا، وَ مِنْكَ أقْصَى مَقَاصِدِهِمْ حَصَّلُوا. [1]
__________________________________________________
1- بعض الفقرات من مناجاة المريدين، و هي من جملة المناجاة الخمسة عشرة المنسوبة إلى الإمام السجّاد عليه السلام، و قد ذكرها المرحوم الشيخ الحرّ العامليّ في «الصحيفة الثانية السجّاديّة» ص 30 و 31، الطبعة الحجريّة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 9
إلهي! سهّل لنا سبلك حتى لا نرى غيرك و لا نعرف أحداً سواك. و أوصِل ذاتنا و كياننا إلى مقام الفَناء، حتى تنعدم كلّ ذرّة من الأنانيّة و العجب في وجودنا، فنكون عبيداً خالصين مخلصين لك العبوديّة، بمحمّد و آله الطاهرين صلواتك و تسليماتك عليهم أجمعين، و السلام علينا و على عباد الله الصالحين، و الحمد للّه ر بّ العالمين.
في تاريخ ربيع المولود سنة 1400 هجريّة
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 11
                        المُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ

                        معرفة الله، ج‏1، ص: 13
بسم الله الرحمن الرحيم‏
الصلاة و السلام على الرسول الأمين خاتم الأنبياء و المرسلين محمّد، و على الوصيّ غُرّة الدين، و على أولاده الأماجد الأمجاد الطاهرين، و اللعنة و الخزي من ر بّ العالمين على أعدائهم و معانديهم و غاصبي حقّهم من الآن إلى يوم الدين.
كما لا حظتم في المقدّمة الاولى، فقد صمّم الحقير في شهر ربيع الأوّل من سنة 1400 ه- على تأليف و كتابة القسم الأوّل من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة، و هو «معرفة الله»، و نشر أجزائه بالتتابع بحول الله و قوّته، و الشروع في بقيّة أقسام العلوم و المعارف التي ذُكِرت آنفاً، لكنّ الله سبحانه لم يشأ لذلك أن يتمّ.
فوُفِّقْتُ بعد ذلك بشهرين من نفس السنة، اي في يوم السادس و العشرين من شهر جمادي الأولى، بالسفر إلى مدينة مشهد المقدّسة، و تشرّفتُ بتقبيل عتبة الإمام الهُمام، و اكتحَلت عيناي بتراب أقدام زائري ثامن الأئمّة علي بن موسى الرضا عليهما السلام و على آبائهما و أولادهما جميع صلوات الله و ملائكته المقرّبين و أنبيائه المرسلين و عباده الصالحين، من الآن إلى قيام يوم الدين، و ألقيتُ رحال الفاقة على أعتابه المحروسة بالملائكة، متوسّلًا بساحة قدسه و طهارته و علوّ درجاته، معترفاً مذعناً بفقري و عجزي و عدم قدرتي على تحديد صلاحي و فسادي، و عدم معرفتي طريق الحقّ من الباطل، طالباً الشفاعة و العون منه، في أن‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 14
يأخذ الله جلّت عظمته و علت آلاؤه بيدي، و أن يُنجّيني من هزائز آخر الزمان و فتنه، و لا يَكلَني إلى نفسي طرفة عين أبداً، و الله المستعان.
فتقبّل مولاي روحي فداه ذلك منّي، و سكبَ لي بعظمته و كرامته كأس رحمته برعايته الدائمة لي على أتمّ وجه و أكمل نحو، و ليس بمقدار استجدائي منه.
و من جملة ما قُدّر بالقلم أمر تأخير خروج سلسلة «معرفة الله» خمس عشرة سنة، و ها هو ذا غرّة شهر ربيع المولود من سنة ألف و أربعمائة و خمسة عشر للهجرة قد طلعت، حيث وُفّقتُ للبدء بذلك، و لا عِلم لي في مقدار ما قدّرته لي روحي من العون و قلمي من القدرة، الله وحده أعلَم!
يقول مَولى الموحّدين و سيّد قلوب العاشقين أمير المؤمنين عليه السلام:
عَرَفْتُ اللهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ العَزَائِمِ وَ حَلِّ العُقُودِ وَ نَقْضِ الهِمَمِ. [1]
خاطب الحقير يوماً استاذنا سماحة العلّامه الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الزكيّ: كثيراً ما يصمّم الإنسان على فعل الخير، و تتوفّر له الظروف و المسبّبات لإنجاز ذلك، و لم يملك أدنى شكّ في حُسن و خلوص ذلك العمل، فيجدّ في تنفيذ ذلك الفعل، حتى يصل إلى مرحلة الجزم و الإرادة القطعيّة، ثمّ و بدون أيّة علّة و لا سبب، يُثني ذلك الإنسان نفسه عن تنفيذ ذلك العمل و ينصرف‏
__________________________________________________
1- «نهج البلاغة» الحكمة 250؛ و في طبعة صبحي الصالح- بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1387، الصفحة 511؛ و يقول في ص 721 ضمن شرحه لمعاني «النهج»: العزائم: جمع عزيمة، و هي ما يصمّم الإنسان على فعله؛ و فسخ العزائم: نقضها. العقود: جمع عقد بمعنى النيّة، تنعقد على فعل أمرٍ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 15
عن إنجازه! و بعد ذلك يعتريه العَجب و تنتابه الدهشة في حصول كلّ ذلك؟! و يتساءل عن منشأ المانع الذي تسبّب في عدوله عن نيّته؟! فلا يصل إلى حلّ و لا يقترب من شاطئ الأمان.
فأجاب الاستاذ على ذلك بجملة واحدة فقط قائلًا: «نعم، هو ما تقول!».
و رُمتُ أنا الحقير في البدء على تأليف سلسلة «معرفة الله» و تقديمها على جميع البحوث العقائديّة، من مبحث «معرفة الإمام» و مبحث «معرفة المعاد» و سائر الأبحاث الفلسفيّة و العرفانيّة و الأخلاقيّة و العلوم و الفقه و التأريخ و التفسير، ذلك بأنّ الله هو الأوّل، و هو المُقدَّم على عالَم الوجود بالتقدّم التكوينيّ، فاستوجب الأمر أن يكون مُقدَّماً كذلك في التأليف. إلّا أن الله لم يشأ و لم يرغب، فقد تمّ خلال مدّة الخمس عشرة سنة هذه بحمده و مَنّه تأليف القسم الخاصّ ب- «معرفة الإمام» في ثمانية عشر جزءاً، و القسم الخاصّ ب- «معرفة المعاد» في عشرة أجزاء، هذا ما يخصّ سلسلة المعارف. و أمّا ما يخصّ سلسلة العلوم في قسم الأخلاق و الحِكمة و العرفان، فقد تمّ تأليف: «رسالة السير و السلوك المنسوبة إلى بحر العلوم» مع مقدّمة و تعليق من قِبَل الحقير، و «رسالة لُبّ اللُّباب في سير و سلوك اولي الألباب»، و كتاب «التوحيد العلميّ و العَينيّ»، و «الشمس الساطعة»، و «الروح المجرّد»، و ما يخصّ قسم البحوث التفسيريّة: «رسالةٌ بديعةٌ» ترجمة «رسالة جديدة»؛ و ما يخصّ قسم البحوث العلميّة و الفقهية: «رسالةٌ حولَ مَسألة رُؤية الهِلال»، و كتاب «وظيفة الفرد المُسلم في إحياء حكومة الإسلام»، و كتاب «ولاية الفقيه في حكومة الإسلام» في أربعة أجزاء، و كتاب «نور ملكوت القرآن» في أربعة أجزاء من سلسلة أنوار الملكوت، و «رسالة مسوّدة القانون الأساسيّ»، و كتاب «نظرة على مقالة بسط و قبض‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 16
نظريّة الشريعة للدكتور عبد الكريم سروش»، و «الرسالة النكاحيّة: تحديد النسل ضربة قاصمة لكيان المسلمين»؛ و في قسم الأبحاث التأريخيّة: «لمعاتُ الحسين عليه‏السلام»، و «الهديّة الغديريّة: رسالتان قاتمة و مشرقة». و قد تمّ طبع و نشر أغلب هذه المؤلَّفات.
و الآن نشرع، بحول الله و قوّته، في كتاب «معرفة الله»؛ وَ مَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إليه انِيبُ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 17
                        البَحْثَانْ الأوَّلُ وَ الثَّانِي: تفسير آية النور

اللهُ نُورُ السَمَاوَاتِ وَ الأرْضِ مَثَلُ نَورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ
الزُّجَاجَةُ كَأنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ
لَّا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ
نُورٌ على نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ‏
لِلنَّاسِ وَ اللهُ بِكُلِّ شَي‏ءٍ عَلِيمٌ‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 19
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ‏
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم‏
وَ صلى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ‏
وَ لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‏
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ‏
                        تفسير العلّامة الطباطبائيّ لآية النور

قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ (بل هي في وسط الصحراء تظلّها السماء، تكتسب من الشمس و الهواء و الأرض) يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ (إلى منزل قُربه) مَن يَشَآءُ وَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ، (و تلك المشكاة- أو المؤمنون الذين اهتدوا بنور الله تعالى) في بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ الأصَالِ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَ إقَامِ الصَّلَاةِ وَ إيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الأبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَ اللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. [1]
__________________________________________________
1- الآيات 35 إلى 38، من السورة 24: النور.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 20
                        تفسير العلّامة الطباطبائيّ ل-: «الله نُورُ السَّمَاوَ اتِ وَ الأرْضِ»

قال استاذنا الأعظم العلّامه آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في تفسير هذه الآيات و الآيات التي تليها و الخاصّة بوصف الكافرين:
 «تتضمّن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان و الكفّار، تميّز المؤمنين منهم بأنّ المؤمنين مهديّون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربّهم يفيدهم معرفة الله سبحانه و يسلك بهم إلى أحسن الجزاء و الفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم و أبصارهم الغطاء، و الكفّار لا تسلك بهم أعمالهم إلّا إلى سراب لا حقيقة له، و هم في ظلمات بعضها فوق بعض و لم يجعل الله لهم نوراً فما لهم من نور.
و قد بيّن سبحانه هذه الحقيقة بأنّ له تعالى نوراً عامّاً تستنير به السماوات و الأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البيّن أن ظهور شي‏ء بشي‏ء يستدعي كون المُظْهِر ظاهراً بنفسه و (الظَّاهِرُ بِذاتِهِ المُظْهِرُ لِغَيْرِهِ هُوَ النُّورُ)، فهو تعالى نور يظهر السماوات و الأرض بإشراقه عليها، كما أن الأنوار الحسّيّة تُظْهِر الأجسام الكثيفة للحسّ بإشراقها عليها غير أن ظهور الأشياء بالنور الإلهيّ عين وجودها و ظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسّيّة غير أصل وجودها.
و نوراً خاصّاً يستنير به المؤمنون و يهتدون إليه بأعمالهم الصالحة و هو نور المعرفة الذي سيستنير به قلوبهم و أبصارهم يوم تتقلّب فيه القلوب و الأبصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، و مثّل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلألأ الزجاجة كأنّها كوكب د رّيّ فتزيد نوراً على نور، و المصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبّح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربّهم و عبادته تجارة و لا بيع.
فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقّب للسعادة
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 21
الخالدة، و حرّمه على الكافرين و تركهم في ظلمات لا يُبصرون، فخصّ من اشتغل بربّه و أعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، وَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ لَهُ المُلْكُ وَ إليه المَصيرُ.
و قوله تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ- إلى آخر الآية.
المشكاة على ما ذكره الراغب و غيره: كُوَّةٌ غَيْرُ نافِذَةٍ و هي ما يتّخذ في جدار البيت من الكوّة لوضع بعض الأثاث كالمصباح و غيره عليه و هو غير الفانوس.
و الدرّيّ: من الكواكب، العظيم الكثير النور، و هو معدود في السماء. و الإيقاد: الإشعال، و الزيت: الدهن المتّخذ من الزيتون.
و قوله: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ: النور معروف و هو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا، فالأشياء ظاهرة به و هو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته، فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر. هذا أوّل ما وُضع عليه لفظ النور، ثمّ عُمّم لكلٌّ ما ينكشف به شي‏ء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعُدّ كلّ من الحواسّ نوراً أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع أو الشمّ و الذوق و اللمس، ثمّ عُمّم لغير المحسوس فعُدّ العقل نوراً يظهر به المعقولات، كلّ ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المُظْهِر لغيره.
و إذ كان وجود الشي‏ء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقاً تامّاً للنور، ثمّ لمّا كانت الأشياء الممكنة الوجود إنّما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتمّ للنور، فهناك وجود و نور يتّصف به الأشياء، و هو وجودها و نورها المستعار المأخوذ منه تعالى، و وجود و نور قائم بذاته يوجد و يستنير به الأشياء.
فهو سبحانه نور يظهر به السماوات و الأرض، و هذا هو المراد بقوله:
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 22
اللهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَ الأرْضِ، حيث اضيف النور إلى السماوات و الأرض ثمّ حُمل على اسم الجلالة، و على هذا ينبغي أن يُحمل قول من قال: أن المعنى اللهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، و عمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها و هو الوجود الذي يُحمل عليها تعالى اللهُ عَنْ ذَلِك وَ تَقَدَّسَ.
و من ذلك يستفاد أنّه تعالى غير مجهول لشي‏ء من الأشياء، إذ ظهور كلّ شي‏ء لنفسه أو لغيره إنّما هو عن إظهاره تعالى، فهو الظاهر بذاته له قبله، و إلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: ألَمْ تَرَ أن اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ، إذ لا معنى للتسبيح و العلم به و بالصلاة مع الجهل بمن يصلّون له و يسبحونه، فهو نظير قوله:
وَ إن مِّن شَيْ‏ءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (الآية 44، من السورة 17: الإسراء)، و سيوافيك البحث عنه إن شاء الله.
فقد تحصّل أن المراد بالنور في قوله: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العامّ الذي يستنير به كلّ شي‏ء، و هو مساوٍ لوجود كلّ شي‏ء، و ظهوره في نفسه و لغيره و هي الرحمة العامّة.
و قوله: مَثَلُ نُورِهِ يصف تعالى نوره، و إضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى- و ظاهره الإضافة اللاميّة- دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله، بل النور المستعار الذي يفيضه، و ليس هو النور العامّ المستعار الذي يظهر به كلّ شي‏ء و هو الوجود الذي يستفيضه منه الأشياء و تتّصف به، و الدليل على قوله بعد تتميم المثل: يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ، إذ لو كان هو النور العامّ لم يختصّ به شي‏ء دون شي‏ء، بل هو نوره الخاصّ بالمؤمنين بحقيقة الإيمان على ما يفيده الكلام.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 23
و قد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نوراً كما في قوله:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأفْوَاهِهِمْ وَ اللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. (الآية 8، من السورة 61: الصفّ)
و قوله: أوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا. (الآية 122، من السورة 6: الأنعام)
و قوله: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَ يَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ. (الآية 28، من السورة 57: الحديد)
و قوله: أفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبّهِ. (الآية 22، من السورة 39: الزمر)
و هذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربّهم و هو نور الإيمان و المعرفة.
و ليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإنّ الآية تصف حال عامّة المؤمنين قبل نزول القرآن و بعده. على أن هذا النور وصف لهم يتّصفون به كما يشير إليه قوله: لَهُمْ أجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ. (الآية 19، من السورة 57: الحديد)
و قوله: يَقُولُونَ رَبَّنَا أتْمِمْ لَنَا نُورَنَا. (الآية 8، من السورة 66: التحريم)
و القرآن ليس وصفاً لهم و إن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رُجع إلى ما قلناه.
                        تفسير العلّامة الطباطبائيّ لقوله تعالى: كَمِشْكَوةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ‏

و قوله: كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ المُشَبَّه به مجموع ما ذكر من قوله مِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ- إلى آخره، لا مجرد المِشْكَاة و إلّا فسد المعني، و هذا كثير في تمثيلات القرآن.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 24
و قوله: الزُّجَاجَةُ كَأنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ؛ تشبيه الزجاجة بالكوكب الدرّيّ من جهة ازدياد لمعان نور المصباح و شروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكوناً من غير اضطراب بتموّج الأهوية و ضرب الرياح، فهي كالكوكب الدرّيّ في تلألؤ نورها و ثبات شروقها.
و قوله: يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ؛ خبر بعد خبر للمصباح، اي المصباح يشتعل آخذاً اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة، اي أنّه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، و المراد بكون الشجرة لا شرقيّة و لا غربيّة أنّها ليست نابتة في الجانب الشرقيّ و لا في الجانب الغربيّ حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار و يفي‏ء الظلّ عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفو الدهن المأخوذ منها فلا تجود الإضاءة، بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظّها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها.
و الدليل على هذا المعنى قوله: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فإنّ ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن و كمال استعداده للاشتعال و أن ذلك متفرِّع على الوصفين: لا شرقيّة و لا غربيّة.
و أمّا قول بعضهم: من أن المراد بقوله: «لا شرقيّة و لا غربيّة» إنّها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إمّا في شرق أو في غرب، و كذا قول آخرين: أن المراد أنّها ليست من شجر شرق المعمورة و لا من شجر غربها، بل من شجر الشام الواقع بين الشرق و الغرب و زيته أفضل الزيت، فغير مفهوم من السياق.
و قوله: نُورٌ على نُورٍ؛ خبر لمبتدأ محذوف و هو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، و المعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك، اي في كمال التلمّع.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 25
و المراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدّده فليس المراد به أنّه نور معيّن أو غير معيّن فوق نور آخر مثله، و لا أنّه مجموع نورين اثنين فقط، بل إنّه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه، و هذا التعبير شائع في الكلام.
و هذا معنى لا يخلو من جودة، و إن كان إرادة التعدّد أيضاً لا تخلو من لطف و دقّة، فإنّ للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالأصالة و الحقيقة و نسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة و المجاز، و يتغاير النور بتغاير النسبتين و يتعدّد بتعدّدهما و إن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح و الزجاجة صفر الكفّ منه، فللزجاجة بالنظر إلى تعدّد النسب نور غير نور المصباح، و هو قائم به و مُستَمَدّ منه.
و هذا الاعتبار جار بعينه في الممثَّل له، فإنّ نور الإيمان و المعرفة نور مستعار مُشرِق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به و مستمدّ منه.
فقد تحصّل أن الممثّل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين، و المثل هو المشبّه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيّد صاف و هو موضوع في مشكاة، فإنّ نور المصباح المشرق من الزجاجة و المشكاة تجمعه و تعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوّة و الجودة.
فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة و انعكاسه إلى جوّ البيت، و اعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقيّة و لا غربيّة للدلالة على صفاء الدهن وجودته المؤثّر في صفاء النور المُشرِق عن اشتعاله وجودة الضياء على ما يدلّ عليه كون زيته يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، و اعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 26
كون الزجاجة مستمدّة من نور المصباح في إنارتها.
و قوله: يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ؛ استئناف يعلّل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان و المعرفة و حرمان غيرهم.
فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: مَن يَشَآءُ القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ- إلى آخره، فالمراد ب- مَن يَشَآءُ المؤمنون بوصف كمال إيمانهم [1].
                        تفسير العلّامة الطباطبائيّ لقوله تعالى: وَ يَزِيدَهُم مِّن فَضْله‏

و في تفسيره ل- وَ يَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ، قال:
و قوله: وَ يَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ؛ الفضل العطاء، و هذا نصّ في أنّه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، و أوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ (الآية 35، من السورة 50: ق)، حيث أن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلّق به مشيّتهم.
و قد دلّ كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاؤون قال تعالى: اولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ. (الآية 34، من السورة 39: الزمر)
و قال: أ مْ جَنَّةُ الْخُلْدِ التي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَ مَصِيرًا، لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ. (الآيتان 15 و 16، من السورة 25: الفرقان)
و قال: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ. (الآية 31، من السورة 16: النحل)
 (و عليه، فإنّ المؤمنين وحدهم الذين يُثابون على أعمالهم الصالحة التي تقع تحت إرادتهم و في قبضة مشيّتهم.) فهذا المزيد الذي هو وراء
__________________________________________________
1 «الميزان في تفسير القرآن» ج 15، ص 130 إلى 135.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 27
جزاء الأعمال أمر أعلى و أعظم من أن تتعلّق به مشيّة الإنسان أو يوصل إليه سعيه، و هذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين و يبشّرهم به فأجد التدبّر فيه» [1].
و يستطرد الاستاذ العلّامه قدّس الله سرّه في بحث فلسفيّ مستقلّ كاشفاً الحقيقة المطلقة لمشيّة البارئ و المتمثّلة بالآية 45، من هذه السورة: يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَآءُ أن اللهَ على كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ، حيث يقول:
 «إنّا لا نشكّ في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و أن كثيراً منها- و خاصّة في المادّيّات- تتوقّف في وجودها على شروط لا تحقّق لها بدونها كالإنسان الذي هو ابن، فإنّ لوجوده توقّفاً على وجود الوالدين و على شرائط أخرى كثيرة زمانيّة و مكانيّة، و إذ كان من الضروريّ كون كلّ ممّا يتوقّف عليه جزء من علّته التامّة كان الواجب تعالى على هذا جزء علّته التامّة لا علّة تامّة وحدها.
نعم، هو بالنسبة إلى مجموع العالم علّة تامّة، إذ لا يتوقّف على شي‏ء غيره، و كذا الصادر الأوّل الذي تتبعه بقيّة أجزاء المجموع، و أمّا سائر أجزاء العالم فإنّه تعالى جزء علّته التامّة ضرورة توقّفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدّات.
هذا إذا اعتبرنا كلّ واحد من الأجزاء بحياله، ثمّ نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.
و ها هنا نظر آخر أدقّ و هو أن الارتباط الوجوديّ الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كلّ شي‏ء و بين علله الممكنة و شروطه و معدّاته يقضي بنوع من الاتّحاد و الاتّصال بينها، فالواحد من الأجزاء ليس مطلقاً منفصلًا، بل هو
__________________________________________________
1- «الميزان في تفسير القرآن» ج 15، ص 140.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 28
في وجوده المتعيّن مقيّد بجميع ما يرتبط به متّصل الهويّة بغيرها.
فالإنسان الابن الذي كنّا نعتبره في المثال المتقدّم بالنظر السابق موجوداً مستقلًّا مطلقاً فنجده متوقّفاً على علل و شروط كثيرة و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هويّة مقيّدة بجميع ما كان يعتبر توقّفه عليه من العلل و الشرائط غير الواجب تعالى، فحقيقة زيد مثلًا هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولّد في زمان كذا و مكان كذا المتقدّم عليه كذا و كذا المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.
فهذه هي حقيقة زيد مثلًا و من الضروريّ أن ما حقيقته ذلك لا تتوقّف على شي‏ء غير الواجب، فالواجب هو علّته التامّة التي لا توقّف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيّته، و قدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيّدة، و هو قوله تعالى: يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَآءُ أن اللهَ على كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ. [1]
                        بحث روائيّ للعلّامة الطباطبائيّ في تفسير آية النور

و قد ذكر الاستاذ العلّامه قدّس الله ترابه في معرض كلامه عن البحث الروائيّ:
 «و في التوحيد و قد روي عن الصادق عليه السلام أنّه سُئل عن قول الله عزّ و جلّ: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ؛ فقال: هو مثل ضربه الله لنا؛ فَالنَّبِيّ وَ الأئِمَّةُ صَلَوَاتُ الله عليهم مِنْ دِلَالاتِ اللهِ، وَ آيَاتِهِ التي يُهْتَدَي بِهَا إلَى التَّوْحِيدِ وَ مَصَالِحِ الدِّينِ وَ شَرَائِعِ الإسْلَامِ وَ السُّنَنِ وَ الفَرَائِضِ. وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ.
ثمّ قال:
 «أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق و هو من أفضل‏
__________________________________________________
1- «الميزان» ج 15، ص 149 و 150؛ و هذه الآية هي الآية 45، من السورة 24: النور.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 29
المصاديق و هو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم و الطاهرون من أهل بيته عليهم السلام، و إلّا فالآية تعمّ بظاهرها غيرهم من الأنبياء عليهم السلام و الأوصياء و الأولياء.
نعم، ليست الآية بعامّة لجميع المؤمنين، لأخذها في وصفهم صفات لا تعمّ الجميع كقوله: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ- إلى آخره.
و في «الدرّ المنثور» أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم في قوله: ز يْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ؛ قال: قَلْبُ إبْرَاهِيمَ؛ لَا يَهُودِيّ وَ لَا نَصْرَانِيّ.
أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و قد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام كما تقدّم.
و فيه أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم هذه الآية: في بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟
قال: بُيُوتُ الأنْبِيَاءِ.
فقام إليه أبوبكر فقال: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا البَيْتُ مِنْهَا، لِبَيْتُ على وَ فَاطِمَةَ؟! قَالَ: نَعَمْ! مِنْ أفَاضِلِهَا! [1].
نعم، كان ذلك جزءاً من تفسير هذه الآية الشريفة من دُرر كلام سيّدنا الأعظم و سندنا الأقوم سماحة العلّامه الأكرم حشره الله مع المقرّبين و المخلَصين من أنبيائه و أوليائه المُعظَّمين، و الذي تبرّكنا به في هذا الكتاب.
__________________________________________________
1 «الميزان في تفسير القرآن» ج 15، ص 152 و 153.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 30
و أمّا تفصيل و شرح المواضيع التي ذكرها العلّامه، و المستفاد من الآيات المذكورة، فهو على النحو التالي:
 «الله» اسم جامع للكمال و الجمال و الجلال الربّانيّ، و شامل لجميع الأسماء و الصفات الكلّيّة و الجزئيّة. و لأنّ بحثنا يرتكز على معرفة الله، لابدّ لنا من البحث و التمحيص في هذه الكلمة المباركة من جميع جهاتها، حتى تنكشف لنا كلّ الامور و الجوانب المتعلّقة بهذه المسألة: من النور البحت للذات و الوجود الصِّرف، حتى نور الأسماء و الصفات الكلّيّة، و عبر مراتب و درجات متفاوتة و مختلفة؛ ثمّ الوصول إلى نور الأسماء و الصفات الجزئيّة، حتى الهيولي المبهمة، و هي المادّة الكثيفة القابلة لعُروض الأجناس و الفصول و الأنواع.
و علينا أن نرى كيفيّة نزول القديم في الحادث، و الكلّيّة في الجزئيّة، و الأنوار المحضة في الأنوار المشوبة بالظُّلمة، و عموماً، الله في اسم الأحديّة و اسم الوحدانيّة.
و أن نرى كيفيّة نزول النور المطلق في شبكات التعيُّن، الواحدة بعد الأخرى و معنى الولاية الكلّيّة و المطلقة و الذي هو واحد و يُعتبر من مختصّات الله سبحانه؟
و للبحث في هذا المقام لا غِني لنا من استمداد العَون من آية النور المباركة.
نحمد الله عزّ و جلّ على أنّنا أكملنا بحث موضوع الولاية حتى الجزء الخامس من «معرفة الإمام» من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة بجميع تفاصيله، بِدءاً من المعنى اللغويّ، و حتى مواطن استخدام هذه الكلمة، و كذا كيفيّة الولاية و مفاد هذه الكلمة و محتواها في الوجود المقدّس لسيّدنا خاتم الرسل و الأنبياء و المقام المقدّس لمولانا أمير المؤمنين و الأئمّة
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 31
الطاهرين عليهم جميعاً صلوات الله و سلام أنبيائه المرسلين و ملائكته المقرّبين إلى يوم الدين، و قد تمّ بحث كلّ ذلك بالتمام و الكمال. فاتّضح معنى الولاية التكوينيّة و الولاية التشريعيّة.
لعلّ من أهمّ الأبحاث و المواضيع و مسائل الاصول العقائديّة هو البحث في موضوع الولاية. فمعرفة الوليّ (صاحب الولاية) و الآثار المترتّبة على الوليّ و الولاية، و معرفة كيفيّة موضوع مقام الرحمة، و إفاضة الفيض من قِبَل الربّ الفيّاض في الماهيّات الإمكانيّة بوساطة نفس الوليّ، و الآيات الواردة في القرآن الكريم بهذا الصدد، و الروايات المُسَلَّم بها و الموثوقة و الصحيحة المرويّة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم، كلّ ذلك يُعتَبر من أعظم و أكبر المسائل الاصوليّة.
و لقد بحثنا تفسير و معنى و شأن نزول الآية الشريفة: إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ ءَ امَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُوْتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُونَ. [1] و الآثار المترتّبة عليها.
و بحثنا كذلك معنى و محتوى قول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم:
يَا على! أنْتَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ مِنْ بَعْدِي.
                        اعتقاد طوائف المسلمين المختلفة في أن الله هو نور السماو ات و الأرض‏

و يا لها من آية مباركة تلك التي ذُكرت في الجزء الثامن عشر من القرآن الكريم: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، فهي آيةٌ تنشر النورَ في القلوب و تُضفي على الفكر الصفاء و النقاء، و تمنح الروح قوّةً و قدرة.
الله، اسمٌ جامعٌ لصفات الكمال و مُنزّهٌ عن صفات النقص و العَيْب، ينطوي على كلّ صفات الجمال و الجلال، و يمتلك صَرافةً ذاتيّة محضة،
__________________________________________________
1- الآية 55، من السورة 5: المائدة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 32
و هو لا متناهٍ في الحياة و العلم و القدرة. هو نور السماوات و الأرض. ولكن، ما معنى كونه نوراً للسماوات و الأرض؟! هل الله سبحانه نورٌ حسيّ، و السماوات و الأرض شي‏ءٌ آخر؟! و هذا النور المحسوس المُشاهَد في السماوات و الأرض هو الله..؟؟ على هذا، ففي غياب السماوات و الأرض و انعدام وجودهما لا وجود للّه كذلك ليكون نوراً للسماوات و الأرض. و عليه فلا وجود للّه إذاً. فما معنى و مُحَصّلة هذا الافتراض في تلك الآية؟!
أو أن معنى اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ أن اللهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، فلا هو و لا حقيقته نور، بل مُنَوِّر، اي أن النور الموجود في السماوات و الأرض إنّما هو نور الله، فهو مُنَوِّر.
                        الوهّابيّون و الحنابلة يعتقدون بجسمانيّة الله تعالى‏

و قد قال بعض العامّة بالقول الأوّل، في حين ذهب بعض الخاصّة ممّن فتحوا باب التأويل إلى انتخاب المعنى الثاني. فالمجموعة الاولى تعتقد بأنّ الله هو جسم و لا إشكال في كون واقعه نوراً مادّيّاً. و الثانية تعتقد بأنّ الله سبحانه ليس ما دّة و لا مادّيّاً، و على هذا فنور السماوات و الأرض الذي هو نورٌ ما دّيّ لا يمكن أن يكون هو الله. لذا، لا محالة من تأويل الآية الشريفة و اعتبار النور بمعنى المُنَوِّر، حتى نخرج من هذا المأزق و هو القول بجسميّة الله سبحانه، ممّا يستلزم الشِّرك و نسبته تعالى إلى المحدوديّة و الإمكان. و أمّا القول بالمنوِّر فلا إشكال فيه، ذلك بأنّ الله هو الخالق و الموجِد لجميع الموجودات المجرّدة و المادّيّة، و خلقته و تنويره للسماوات و الأرض بالنور المادّ يّ لا يستلزم الإشكال، فينتج عن ذلك معنى معقول و مقبول.
و الحنابلة (أتباع أحمد بن حنبل) هم الطائفة الوحيدة من بين طوائف المسلمين الذين يقولون بالمعنى الأوّل، و يُصرّون على ذلك. و يؤكّد ابن‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 33
تيميّة الحنبليّ أيضاً، على هذا الرأي، و يصرّ عليه بقوله: أن المراد من آيات القرآن في العبارات و الألفاظ المستعملة فيه، هو هذه المعاني المعروفة المادّيّة و الطبيعيّة و الجسمانيّة. و لا يجوز حَمل ألفاظه و كلماته على غير هذه المعاني. و تُصرّ الوهّابيّة (و هم أتباع محمّد بن عبد الوهّاب و يعتقدون بالمذهب الحنبليّ) على المبدأ المذكور و تؤكّد عليه.
يقول الحنابلة: أن المراد من العرش و الكرسيّ و اليد و النور و الاستواء و النزول و مجي‏ء الربّ، و أمثال ذلك ممّا ورد ذِكرهُ في القرآن الكريم و استُخدِمَ في كثير من الآيات، هو هذه المعاني المستعملة و المتعارف عليها، و لا يجوز بأيّ شكل من الاشكال التصرُّف في الآيات المذكورة أو تغييرها، أو حَمل تلك الألفاظ و الكلمات على مَعانٍ أخرى أوسع و أكثر تجرّداً.
و كان ابن تيميّة يقول صراحةً بأنّ المراد من نزول الله هو هذا النزول المُشاهَد و المحسوس. و أن ما رُويَ في الأحاديث النبويّة من نزول الله سبحانه في ليالى الجمعة، يُقصَد به هذا الشكل من النزول.
و قد كان يقول بصريح العبارة حين يعتلي المنبر و يقوم بإلقاء خُطَبِه: أن النزول المراد به هو هذا النزول المعروف، فالله ينزل تماماً كما أنزِل أنا! انظروا، هكذا! فكان ينزل دَرَجةً من على المنبر و يمثّل و يُشَبِّه للناس كيفيّة نزول الله سبحانه بصورة محسوسة.
اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، اي أن الله سبحانه هو هذا النور المحسوس.
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [1]، معناه أن الله جلس و استقرَّ على‏
__________________________________________________
1- الآية 5، من السورة 20: طه.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 34
عرشه.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ [1]، تعني أن حجم كرسيِّه الذي يجلس عليه و اتّساعه هو بقَدر حجم و اتّساع السماوات و الأرض.
وَ جَآءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [2]، معناه أن الله سبحانه يأتي في اليوم الآخِر مع ملائكته على شكل صفوفٍ مُتراصّة أو جماعات منظّمة.
و تقول هذه الطائفة كذلك: أن العرش هو بمعنى كرسيّ و عرش السُّلطان و المُلك؛ و كما أن السُّلطان يجلس على كرسيّه و عرشه أثناء حُكمه، و يتّكئُ عليه و يستقرّ فوقه، فإنّ هذه الآية تُفيد معنى أن الله كذلك يجلس و يستقرُّ على كرسيِّه (المناسب في سعته و عظمته له تعالى).
و أن مجلس الله و كرسيّه الذي يستقرّ عليه يوازيان حجم و وسع السماوات و الأرض.
و أن ربّك، يأتي يوم القيامة في صفوف مع ملائكته صفّاً بعد آخر، تماماً كما يتقدّم الناس رافعين أرجُلَهُم من مكان ليضعوها في مكان آخر.
و في تعليقهم على آية يَدُ اللهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ [3] يقولون: اي أن الله سبحانه يملك يداً أقوى و أكبر و أعظم و أعلى من سائر الأيدي.
و تعتقد هذه الجماعة كذلك: أن الله لا يمكن رؤيته في الدنيا بحاسّة البصر، إلّا أنّه يمكن رؤيته في الآخرة بهذه العين الباصرة الظاهريّة الحسّيّة التي يملكها البصير. و سيأتي الله بجسم و اذُن و يد و أرجل نحو الناس تماماً كمجي‏ء الفرد العاديّ في الدنيا، و سيجلس على عرشه، تماماً
__________________________________________________
1- الآية 255 من السورة 2: البقرة.
2- الآية 22، من السورة 89: الفجر.
3- الآية 10، من السورة 48: الفتح.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 35
كالجلوس المتعارف لدينا نحن البشر، كلّ ما في الأمر، أن الله سيبدو أعظم و أكبر و أقوى، لا غير.
                        معنى النور: الظاهر بذاته، المظهر لغيره‏

و أمّا حُكماء الإسلام و الفلاسفة اللاهوتيّون العِظام فكلّهم متّفقون على أن الألْفَاظَ إنَّمَا وُضِعَتْ لِلْمَعْنَى العَامِّ. و على هذا فإنّ أيّة كلمة وَضعها الإنسان أو يضعها في المستقبل بأيّ لسان و أيّة لغة، فهي إنّما تُوضَع للمعني العامّ، و ليس لخصوصيّة ذلك المعنى المحدود الحسّيّ و الطبيعيّ و المادّيّ و المُقَيَّد بالزمان أو المكان الفلانيّ.
فإذا أخذنا مثلًا كلمة «مصباح» بنظر الاعتبار، فإنّ هذه الكلمة مصداق للمصباح الموجود في غرفتنا في الليلة الفلانيّة، دون أن يكون لغرفتنا دَخلٌ في ذلك أو أن يكون للّيلة الفلانيّة أثرٌ على معنى المصباح. و لذا فإنّنا نري صِدق هذه الكلمة كذلك على مصباح غرفة صديقنا في ليلة أخرى. و من هنا يتبيَّن أن مفهوم و معنى لفظة «مصباح» لم يكن لهما أثر أو دَخل في خصوصيّة هذا الزمان أو ذاك، أو في خصوصيّة هذا المكان أو غيره، بل يَصدُقان على جميع أنواع المصابيح دون استثناء.
و لذلك فلو أعطينا المفهوم السابق بُعداً آخر أوسع، لشاهدنا أنّه لا دَخلَ هنا مثلًا لكون مِزيَتة المصباح مصنوعة من النحاس أو من البلَّور أو الخَزَف و ما إلى ذلك، بل تُطلَق لفظة مصباح على جميع تلك الأنواع من المصابيح. و إذن، فلا أثر لخصوصيّة المِزيَتة في مفهوم المصباح عموماً.
ففي الأزمنة الاولى كانت لفظة مصباح تَصدُق على كلّ إناء يحتوي على زيت و فيه فتيل و عليه زجاجة تُهيمن على شِدّة و تصاعد شعلته. و لمّا استُبدِلَ الزيت الذي كان يُستخدَم في تلك المصابيح- و كان زيت الخِرْوَع في أغلب الأحيان أو زيت الزيتون- بالنفط المعروف لدينا اليوم، لم يكن ذلك مدعاةً لتغيّر دلالة لفظة مصباح عمّا كانت تعنيه في السابق. و كذلك‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 36
الحال مع اختراع المصباح الغازيّ حيث ظلّت تُطلَق عليه لفظة مصباح. و ها نحن اليوم نطلق كلمة مصباح حتى على المصابيح الكهربائيّة المنتشرة في عالمنا الحاضر. و ستظلّ كلمة مصباح تُطلَق على الأشكال الجديدة من المصابيح، و التي قد تُستَحدَث في المستقبل سواء كانت تعمل على الطاقة الكهربائيّة أو كانت قُدْرة الإنارة فيها بشكل لا تُقاس بما نستخدمه في عصرنا الحاضر.
و كلّ ذلك كان و لا يزال دون أدنى تصرُّف أو تدخّل في معنى كلمة مصباح أو المفهوم الموضوع له، فقد استخدمها السابقون و ها هم اللاحقون يستخدمونها كما هي عليه دون تغيّر يُذكَر.
و من هنا يتبيّن لنا أن أيّاً من الخصوصيّات المتفاوتة و الأشكال المختلفة لا دَخل لها و لا أثر على معنى كلمة المصباح و مراده و مفهومه الذي وُضِع له هذا اللفظ منذ بداية وجوده و اختراعه و على اختلاف أشكاله، و لا زال كذلك إلى يومنا هذا.
و المصباح في الحقيقة هو كلّ شي‏ء وُضِعَ في مكان أو حيّز محدود لاستخدامه في إنارة الأشياء و إضاءتها.
و كذا كلمة النور، فهي في أصل لفظتها و وضعها أوّل مرّة لم توضع للإشارة إلى النور الحسّيّ المحسوس بحاسّة الباصرة و حسب. بل أن معنى النور هو ذلك الشي‏ء الذي يكون ظاهراً بنفسه و ذاته، و قادراً على إظهار الأشياء الأخرى.
و أحد مصاديق هذه اللفظة هو النور المحسوس المادّيّ و الظاهريّ، كنور الشمس مثلًا و نور القمر و المصباح، ذلك أن هذه الأنوار لا تحتاج بوجودها و ذاتها إلى مُظهِرٍ لها، فهي ظاهرة بذاتها و نفسها. إنّنا لا نري نور الشمس و لا ضوء القمر بمعيّة أشياء أخرى، بل هي مُنيرة و مُضيئة بذاتها،
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 37
و أمّا بالنسبة إلى الأشياء الأخرى، فإنّنا نراها و نتحسّسها بواسطة نور الشمس و ضوء القمر. إنّنا نلاحظ الصحراء و البحر و الجبال و البراري و البساتين و أشياء كثيرة أخرى و نتعامل معها في أوقات مختلفة و أزمان متباينة، و هي لا تَظهر لنا و لا نتمكّن من إدراكها إلّا بواسطة النور، فتصدق هنا المقولة القائلة النُّورُ هُوَ الظَّاهِرُ بِذاتِهِ، المُظْهِرُ لِغَيْرِهِ، و لهذا فإنّنا نُطلقُ عليه كلمة نور.
ولكنّ كلمة نور لا تقتصر على النور المادّيّ الحسّيّ، فنور الفكر و العقل، و النور النفسيّ و القلبيّ، و نور عالَم الملكوت، و نور الأسماء و الصفات الإلهيّة، و نور الجمال و الجلال، و نور ذات الحقّ تعالى و تقدّس، كلّ ذلك من أمثال النور.
فقد نتكلّم عن فلان قائلين أن له فكراً نورانيّاً، أو عقلًا نورانيّاً، أو نفساً نورانيّة، أو قلباً نورانيّاً، دون أدنى تصرُّف في معنى ما نقصده من إطلاق كلمة النور. و أن أنوار عالَم المثال و عالَم العقل، و نور صفة الجمال أو صفة الجلال للحقّ تعالى هي من الامور المعروفة لدى العرفاء. و أعجب من ذلك كلّه و أوضحه نور ذات الحقّ تعالى.
و عموماً فإنّ أهل العرفان يتعاملون بلفظة النور عند تكلّمهم و تحدّثهم عن الصفات المختلفة للحقّ سبحانه و تعالى، بِدءاً بأوضحها و هو نور القمر و ضوؤه، و انتهاءً بنور الذات السوداء اللون.
و على هذا الأساس و تلك القاعدة فإنّ ذات الله سبحانه نور، لأنّه لا يحتاج في ذاته و نفسه إلى مُنوِّر، و كلّ ما سوى ذلك من العقل الأوّل إلى العقل العاشر، و من أعلى رتبة للاسم و الصفة و حتى أوطئها، كلّها محتاجة إلى نور الله سبحانه.
الله سبحانه هو أصل الوجود، و الموجودات إنّما موجودة بوجوده،
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 38
و على هذا فإنّ هويّته هي النور الذي هو الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ المُظْهِرُ لِغَيْرِهِ.
اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، اي أن الله هو أصل وجود السماوات و الأرض، و أصل حقيقتهما و تكوينهما و هو المُوجِدُ لهما.
الله هو الأوّل، و بعده تأتي الموجودات؛ و هو لا يحتاج إلى مُعرِّف، و كلّ الموجودات محتاجة إليه ليُعرّفها؛ هو أصل الوجود و باقي الموجودات موجودة بوجوده؛ هو الظاهر بهُويّته و بقيّة الأشياء ظاهرة بظهوره؛ هو النور، و بقيّة الموجودات مُنوَّرَةٌ بنوره. هو أصل الحقيقة، و بقيّة الموجودات إنّما هي مجاز و عارية.
إن البحث في عموميّة و شموليّة وضع اللفظ للمعني العامّ هو بحث شيِّق. و بحمد الله و حُسنِ توفيقه قد بحثنا بشكل وافٍ في معنى و حقيقة الصراط في المجالس 51 إلى 53، و في معنى و حقيقة الميزان في المجلسينِ 54 و 55 من الجزء الثامن من كتاب «معرفة المعاد» من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة.
                        الموارد التي اطلق فيها لفظ النور في القرآن و الأخبار على الأنوار

كثيرة هي حالات إطلاق لفظة النور في القرآن و الأخبار على الأنوار المعنويّة، و لبيان بعض تلك الحالات نكتفي هنا بذِكْر بعض الأمثلة. فأمّا في القرآن الكريم فقد وردت الآيات التالية:
اللهُ وَلِيّ الَّذِينَ ءَ امَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَآوُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ اولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. [1]
ففي هذه الآية الشريفة اطلِقت لفظة النور على الهدى و اطلقت الظُّلمة على الكفر.
__________________________________________________
1- الآية 257، من السورة 2: البقرة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 39
يَا أهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. [1] هنا اطلِقَت كلمة النور على القرآن الكريم الذي أنزلَه الله على رسوله.
وَ مَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ. [2]
في هذه الآية شُبِّهت البصيرة بالنور.
أفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلَامِ (كالغافل الذي قسي قلبه عن ذكر الله تعالى) فَهُوَ على نُورٍ مِن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ اولَئِك في ضَلَالٍ مُّبِينٍ. [3]
و اطلِقت هنا لفظة النور على قبول دين الإسلام و تَبنّيه، في مقابل القاسية قلوبهم و الرافضين له.
                        الموارد التي اطلق فيها النور في «نهج البلاغة» و الأخبار على النور المعنويّ‏

و أمّا ما ورد في الأخبار، ففي «نهج البلاغة» قال مولي الموحّدين و أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين:
وَ نَوَّرَ في قَلْبِهِ اليَقِينُ. [4]
__________________________________________________
1- الايتان 15 و 16، من السورة 5: المائدة.
2- الآية 40، من السورة 24: النور.
3- الآية 22، من السورة 39: الزمر.
4- «نهج البلاغة» الحكمة 373، طبعة عيسى البابي الحلبي؛ و في طبعة مصر مع تعليقة للشيخ محمّد عبده: ج 2، ص 225: أيُّهَا المُؤْمِنُونَ! إنَّهُ مَنْ رَأي عُدْوَاناً يُعْمَلُ بِهِ وَ مُنْكَراً يُدْعَي إليه فَأنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَ بَرِئَ، وَ مَنْ أنْكَرَهُ بِلِسانِهِ فَقَدْ اجِرَ وَ هُوَ أفْضَلُ مِنْ صاحِبِهِ، وَ مَنْ أنْكَرَهُ بِالسَّيْفِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيا وَ كَلِمَةُ الظَّالِمِينَ هي السُّفْلَي فَذَلِكَ الذي أصَابَ سَبِيلَ الهدى وَ قَامَ على الطَّرِيقِ وَ نَوَّرَ في قَلْبِهِ اليَقِينُ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 40
أحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ، وَ أمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَ قَوِّهِ بِاليَقِينِ، وَ نَوِّرْهُ بِالحِكْمَةِ، وَ ذَلِّلْهُ بِذِكْرِ المَوْتِ، وَ قَرِّرْهُ بِالفَنَاءِ، وَ بَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَ حَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَ فُحْشَ تَقَلُّبِ اللَيَالِي وَ الأيَّامِ. [1]
وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي. وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ في الإسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَدِيجَةَ؛ وَ أنَا ثَالِثُهُمَا. أرَي نُورَ الوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ، وَ أشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. [2]
                        الأخبار و الروايات الواردة في «أوّل ما خلق الله»

و قد وردت روايات كثيرة عن طريق العامّة و الخاصّة، و كلُّها تؤكِّد على أن أوّل مخلوق خلقه الله سبحانه كان النور. كما ورد أنّه أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الروح و القلم و العقل.
روي العلّامه المجلسيّ رضوان الله عليه، عن ثامن الحُجَج الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال في مجلس للمأمون، في تعليقه على بحث طويل مع عِمران الصابيّ حول بداية الخَلق:
وَ النُّورُ في هَذَا المَوْضِعِ أوَّلُ فِعْلِ اللهِ الذي هُوَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ. [3]
                        أوّل ما خلق الله: الحقيقة المحمّديّة

و رُوي في كتاب «غوالى اللئالي» أن النبيّ صلى الله عليه و آله قال:
__________________________________________________
1- «نهج البلاغة» ج 2، ص 38 و 39، الرسالة 31، طبعة مصر مع تعليقة للشيخ محمّد عبده، وصيّته عليه السلام للإمام الحسن عليه السلام كتبها إليه بحاضرين، عند انصرافه من صفّين.
2- «نهج البلاغة» الخطبة 190؛ و في طبعة مصر مع تعليقة للشيخ محمّد عبده: ج 1، ص 392.
3- «بحار الأنوار» ج 10، ص 314، باب مناظرات الرضا و احتجاجاته، الحديث الأوّل، الطبعة الحديثة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 41
أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي. [1]
و في حديث آخر أن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال:
أوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ. [2]
و روي الصدوق في «الخِصال» بسنده عن سَماعة أنّه قال: كنتُ عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام و عنده جماعة من مواليه فجري ذِكر العقل و الجهل ... حتى قال: فقال أبوعبد الله عليه السلام:
إن اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلَقَ العَقْلَ وَ هُوَ أوَّلُ خَلْقٍ خَلَقَهُ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ مِنْ نُورِهِ- إلى آخره. [3]
و ورد نظير هذا الكلام في حديث الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام خلال حديث طويل له مع هشام بن الحكم، حيث قال:
يَا هِشَامُ! أن اللهَ خَلَقَ العَقْلَ وَ هُوَ أوَّلُ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللهُ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ مِنْ نُورِهِ. [4]
و روي عن عَبادة بن الصامِت قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: أن أوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ. فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ! فَجَرَي بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى الأبَدِ. [5]
__________________________________________________
1- «بحار الأنوار» ج 1، ص 97، باب حقيقة العقل و كيفيّته و بدو خلقه، الحديث السابع.
2- «بحار الأنوار» ج 1، ص 97، باب حقيقة العقل و كيفيّته و بدو خلقه، الحديث الثامن.
3- «بحار الأنوار» ج 1، ص 109، كتاب العقل و الجهل، الحديث السابع.
4- «بحار الأنوار» ج 1، ص 158، كتاب العقل و الجهل، الحديث الثلاثون.
5- «بحار الأنوار» ج 57، ص 374، باب القلم و اللوح المحفوظ و الكتاب المبين، الحديث الرابع و العشرون.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 42
و عن معاوية بن قُرّة عن أبيه أنّه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه و آله: «ن وَ الْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ». قَالَ: لَوْحٌ مِنْ نُورٍ، وَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ، يَجْرِي بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. [1]
قال عزيز الدين النسفيّ: «جاء في الحديث أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ. و جاء في حديث آخر أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ. و في آخر أنّه أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ رُوحِي. و جاء في آخر أيضاً: أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي. و قد وردت أمثال ذلك في كثير من الأحاديث» [2].
و قال في مكان آخر: «جاء في حديث نبويّ أنّ: أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ. و ورد كذلك أنّ: أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ. و في حديث آخر أنّ: أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَرْشُ.
و وردت أحاديث كثيرة بهذا المعني» [3].
و قال الشيخ نجم الدين الرازي: «اعلَم أن مبدأ المخلوقات و الموجودات كان الأرواح الإنسانيّة، و كان مبدأ الأرواح الإنسانيّة الروح المحمّديّة الطاهرة كما قال عليه الصلاة و السلام: أ وَّلُ ما خَلَقَ اللهُ تعالى رُوحِي. و في رواية أخرى نوري. و لأنّه عليه الصلاة و السلام كان زبدة و خلاصة الموجودات و ثمرة شجرة الكائنات، إذ لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الأفْلَاكَ، فإنّه كان كذلك مبدأ الموجودات و لا يمكن أن يكون غير ذلك، و ذلك أن الخَلقَ كان على مثال الشجرة، و المصطفي عليه الصلاة و السلام هو ثمرة تلك الشجرة، و الشجرة في الحقيقة لا تكون إلّا من حَبِ‏
__________________________________________________
1- «بحار الأنوار» ج 57، ص 374، الحديث الخامس و العشرون.
2 و 3- «الإنسان الكامل» لعزيز الدين النسفيّ، ص 220 و 398، طبعة طهران، قسم المعهد الإيرانيّ و الفرنسيّ بتصحيح ماريجان موله.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 43
الثمرة» [1].
و يقول في مكان آخر: «هنالك لطيفة عجيبة تُستَشَفُّ من قوله عليه الصلاة و السلام: أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ، أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ، أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ رُوحِي، و هي أن هذه الأقوال الثلاثة كلّها صحيحة، و هي في الحقيقة قول واحد، و قد احتار خَلقٌ كثير في كيفيّة هذه التركيبة. فقوله: أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ. إنّما هو قلم الله لا قلمنا نحن، فذلك القلم يجب أن يتناسب و عظمة الله و جلاله، و تلك هي روح محمّد الطاهرة و نوره. فلمّا خلق الحقّ تعالى تلك الروح و نظر إليها بالمحبّة، غلبَ عليها الحياء، فانقسمت الروح قسمين حياءً، فكان العقل شعبة من الروح» [2].
و قال أيضاً: «لقد قطعتُ نَسبي من الدنيا و الآخرة و الجنان الثمان في ذلك اليوم، و جعلته أنَا مِنَ اللهِ. لا جَرم أن أيّ نَسبٍ مُتعلّق بالحدوث منقطع، و أمّا نَسبي فباقٍ، إذ كُلُّ حَسَبٍ وَ نَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلَّا حَسَبِي وَ نَسَبِي، و قال للآخرين: فَلآ أنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لَا يَتَسَآءَلُونَ، فقد فُزتُ بالأولويّة و السباق في كلّ ميدان.
فإن كان هناك أوّل في الفطرة، فقد كنتُ أوّل برعم طلع على شجرة الفطرة، إذ أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي.. و إن كان الأمر يتعلّق بساحة يوم القيامة، فأنا أوّل جوهرة تخرج من لآلي‏ء الثري، أنَا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ يَوْمَ القِيَامَةِ. و إن أردتَ البحثَ في مقام الشفاعة، أنَا أوَّلُ شَافِعٍ وَ مُشَفَّعٍ. و إن كنتَ تُريد الحديث عن الصراط و التقدّم عليه، أنَا أوَّلُ مَنْ يجوز الصِّرَاطَ. و إن أردتَ معرفة صاحب مقام الصدّارة في مجلس الجنان،
__________________________________________________
1- «مرصاد العباد» ص 37، طبعة بنگاه ترجمه و نشر كتاب.
2- «مرصاد العباد» ص 51 و 52.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 44
فأنَا أوَّلُ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ. و إذا رُمْتَ النظر إلى سيّد العاشقين و مقتدي المشتاقين، فأنَا أوَّلُ مَنْ يتجلى لَهُ الرَّبُّ. و أوّل عاشق حقيقيّ يفوز بوصال المعشوق.
و ما أطرف أن يكون كلُّ ذلك هو أنا، أمّا أنا فلا أكون أنا، أمَّا أنَا فَلَا أقَولُ أنَا: شعر:
         چو آمد روي مهرويم، كه باشم من كه من باشم             كه آنگه خوش بوم با او، كه من بي خويشتن باشم‏
             مرا گر مايه‏اي بيني، بدان كان مايه او باشد             برو گر سايه‏اي بيني، بدان كان سايه من باشم [1]

إن هذا الذي سَمِعتَهُ من أن محمّداً عليه السلام لا ظلّ له، ناشئ من أن محمّداً كان هو النّور كلّه، إذ يَا أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ نُورٌ مِنْ رَبِّكُمْ [2] و لذا، فلا ظلّ للنور كما تعلم. و لمّا كان عليه السلام قد تخلّص من ظلّه، فقد لاذ جميع الخَلق و العالَم كلّه بنوره، إذ إنّ: آدَمُ وَ مَنْ دُونَهَ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَ لَا فَخْرَ.
لقد غمر النور المحمّديّ العالَم و الوجود و أحاط بهما، إذ إنّ: أ وَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي، فختم الأبدَ بنوره إذ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
__________________________________________________
1- «مرصاد العباد» ص 133 و 134.
يقول «إذا أقبل حبيبي بطلعة كالبدر، فمن الذي سأكونه يا تري، لأكون أنا بذاتي؛ و ساسرُّ به حينئذٍ إذ سأكون بلا «أنا».
وأن شاهدتَ من جوهرٍ في، فاعلم أن ذلك جوهره هو، و أن شاهدتَ فيه من ظلٍّ، فاعلم أن ذلك ظلّي أنا».
2- مقتبس من ذيل الآية 15، من السورة 5: المائدة: قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُّبِينٌ.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 45
و بعد شروق شمس الدولة المحمّديّة و طلوع نورها، أفلتْ كواكب ولاية الأنبياء، فنُسِخَت بذلك آية ليلة الأديان الأخرى، حيث حَلَّت آية مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مَحلّها، إذَا طَلَعَ الصَّبَاحُ اسْتُغْنِيَ عَنِ المِصْبَاحِ.
فالمسكين هو ذلك الأعمي الذي حُرِمَ من كلّ ذلك النور و الضياء. شعر:
         خورشيد بر آمد اي نگارين ديرست             بر بنده اگر نتابد از إدبارست [1]

و أورد الشيخ نجم الدين الرازيّ كذلك: خَلَقْتُ المَلَائِكَةَ مِنْ نُورٍ. [2]
و قال أيضاً: «هذه الطائفة هي أصحاب المَيمَنة، حيث مَشرَبهم من عالَم الأعمال، و مَعادُهم درجات جنّات النعيم. مع هذا فإنّ طريقهم ليس طريقاً بحسب معرفة الذات و الصفات الربّانيّة، إذ إنّهم ما زالوا أسري آفة حُجُب الصفات الروحانيّة و النورانيّة، إذ أن لِلَّهِ [تَعَالَي‏] سَبْعِينَ ألْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَ ظُلْمَةٍ». [3]
__________________________________________________
1- «مرصاد العباد» ص 134؛ و كذلك ص 158 و 159.
 «أشرقت الشمس فالوقت متأخّر أيّها المعشوق، فإذا لم تسطع على فذلك بسبب الإدبار».
2- رسالة «عشق و عقل» ص 40، منشورات بنگاه ترجمه و نشر كتاب، الطبعة الثانية؛ و في تعليقة ص 111 يقول: مقتبس من «صحيح مسلم» كتاب الزهد، و «مسند أحمد بن حنبل» ج 6، ص 158 و 168، نقلًا عن «المعجم المفهرس».
3- ذُكرت هذه الرواية في «مرصاد العباد» ص 101 و 311. و ذكرها كذلك الملّا عبدالرزّاق الكاشانيّ في شرح «منازل السائرين» ص 7 و 290، منشورات بيدار، و ذكرها أيضاً المعلِّق على الكتاب في ص 415. و قال العلّامه محمّد بن محمود الآمليّ في كتاب «نفائس الفنون» ج 2، ص 59 و 60، حيث يقول:
/                        معرفة الله، ج‏1، ص: 46
__________________________________________________
/ «الفصل الثامن: في بيان مشاهدات الأنوار و مراتبها»: قال الله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأي، أفَتُمَارُونَهُ على مَا يَرَي، وَ لَقَدْ رَءَ اهُ نَزْلَةً أخرى. اعلم أنّه بسبب انصقال مرآة القلب تدريجيّاً بمصقلة الذِّكر، و امّحاء أدران الطبيعة و ظلمة البشريّة عنها، يكون ظهور الأنوار الغيبيّة فيها أقوي. و تتوهّج تلك الأنوار على غرار توهُّج الشمعة و المصباح و المشعل و النيران، و ذلك عند ما يكون الخيال لا يزال يشوب تلك الأنوار. و بعد ذلك تتراءي للعيان الأنوار العلويّة، حيث تكون في البداية على صورة كواكب متناثرة، و بعد ذلك على صورة قمر و من ثمّ تظهر بصورة شمس حتى تظهر الأنوار المجرّدة من المحالّ. و عند ما تنسلخ الأنوار من الحُجُب تماماً و لا يكون للخيال مجالًا للتصرّف فيها، تنعدم حينئذٍ الألوان و الأشكال، فيسود انعدام اللون و الشكل و الكيفيّة و الصورة؛ ذلك أن تلوّث الصفات البشريّة هو الذي يجعل الروح تُدرك شكل و لون النور من وراء حجاب الخيال، فعند ما تسود الروحانيّة المحضة و يتمّ الخروج من تلك حُجُب الخيال تنتفي الأشكال و الألوان. لكن على الرغم من أن الله سبحانه و تعالى هو مظهر جميع الأنوار و ذلك حسب ما تصرّح به الآية: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ و أن كثرة هذه الأنوار و قلّتها يكون بحسب صفاء القلب و صقالته من ظلمة البشريّة، إلّا أن ظهورها يكون مختلفاً و متبايناً و ذلك بسبب اختلاف و تباين منشأ مشاهداتها.
ويقال لهذه الأنوار الأنوار الأرضيّة و ذلك عند ما تكون على صورة امور سفليّة مثل البروق و اللوامع و اللوائح و المشاعل و القناديل و المصابيح. أمّا عند ما تكون على صورة أجرام علويّة كالكواكب و الأقمار و الشموس فيقال لها الأنوار السماويّة.
وعلى هذا فإنّها تظهر بصورة برق إذا كانت منشأ مشاهدتها الذِّكر، أو بصورة مشكاة أو قنديل إذا كانت منشأ مشاهدتها المعرفة.
ومن هنا يقول الحقّ تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ اي أنّه تبارك و تعالى مظهر الأنوار السماويّة و الأرضيّة، و أن نور عرفانه يظهر على السالك على صورة مشكاة، فإذا كانت الروحانيّة منشأ مشاهدتها و التي تنعكس على القلب السماويّ تبعاً لمقدار صقالته، يكون ظهورها على مثال الكواكب و الأقمار و الشموس. فعلي سبيل المثال، إذا كان صفاء القلب بمقدار الكوكب، يُري نور الروح بمقدار ذلك الكوكب، و إذا كانت مرآة القلب صافية تماماً، يُري القمر كاملًا، و إذا كانت هناك بقيّة من الكدورة، يُري القمر ناقصاً، و عند ما يكتمل صفاء مرآة القلب و تقبّلها لنور الروح، تصبح المشاهدة بمقدار الشمس؛ و كلّما كان الصفاء أكثر، كان سطوع الشمس أكبر. و إذا وقعت مشاهدة القمر و الشمس في آنٍ واحد، يكون القلب حينئذٍ القمر الذي يعكس النور فيُنير الروح به، و تكون الروح الشمس. و انعكاس إشعاعات الأنوار لصفات الحقّ عزّ و علا من وراء الحُجُب الروحانيّة على مرآة القلب هو بمقدار صفائها».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 47
و قال في مكان آخر: حِجابُهُ النُّورُ؛ لَوْ كُشِفَتْ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما انْتَهَي إليه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ. [1]
لا جَرم أن قيل لهذه الطائفة: احذَروا من أن تخلطوا بين العقل و العِقال في ميدان التفكُّر في ذات الحقّ جلّ و علا الذي لا حدّ له، تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللهِ وَ لَا تَتَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ! [2]
و ذكر في مناسبة أخرى: «و أمّا ما قاله من أنّنا متى ما حصلنا على عقل أكبر، فإنّنا نجد الحبّ فيه أظرف و أشرف و أثبت، كما أن سيّد الكائنات [صلوات الله عليه‏] كان أعقل الموجودات و أعشقها على الإطلاق.
                        الإنسان الكامل هو من تتجلّي فيه تمام شؤون آية النور

و اعلَم حقّاً بأنّ نور العقل في كمال و سموِّ مرتبته، هو بمثابة مشكاة الجسد و زجاجة القلب، و زيت المصباح «الروح» بمثابة صفاء الزيت، إذ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ. و مع أن الملائكة كانت تمتلك زيت الرُّوحانيّة و صفاءه الذي هو
__________________________________________________
1- جاء في تعليقة ص 110: «مأخوذ عن حديث نبويّ، «صحيح مسلم» باب الإيمان، ص 293؛ مقدّمة كتاب ابن ماجة، ص 13؛ «مسند أحمد» ج 4، ص 401 و 405. و أصل الحديث هو: حِجابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ...».
أقول: ذكرها كذلك مُؤلِّف «مرصاد العباد» ص 310؛ كما ذكرها المعلِّق على كتاب «شرح المنازل» ص 7.
2- رسالة «عشق و عقل» ص 53 و 54.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 48
نور العقل، حيث خُلِقَتِ المَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، و كان ذلك الزيت مستعدّاً لاكتساب ناريّة النور الإلهيّ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، إلّا أنّهم لم يحصلوا لا على مشكاة الجسد، و لا زجاجة القلب، و لا مصباح السِّرّ، و لا فتيلَ الخَفيّ، حيث إنّهم لم يستحقّوا اكتساب ناريّة النور الإلهيّ بدون هذه الأسباب.
و أمّا الحيوانات فعلى الرغم من حصولها على مشكاة الجسد و زجاجة القلب، إلّا أن ذلك كان في غياب زيت الروحانيّة و صفاء النور [الذي هو العقل‏] فكانوا في مقام العجز كذلك إذ فَأبَيْنَ أن يَحْمِلْنَهَا وَ أشْفَقْنَ مِنْهَا.
فاعطي الإنسان تمام الاستعداد و كمال التَّهيُّؤ لقبول تلك الأمانة، التي هي في الحقيقة نور الفيض دون واسطة، إذ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، فوُهِبَ جسداً مَثَله كمثل المشكاة، و قلباً على صفة الزجاجة، و زيت روحٍ بصفاء العقل الذي أنار زجاجة قلبه بذلك النور الساطِع، فأصبحت الزُّجَاجَةُ كَأنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيّ، و وضعَ زجاجة القلب و مصباح السِّرّ و فتيلَ الخَفيّ، فتجلّت هذه المجموعة و منها آدمُ بنارِ النور الإلهيّ إذ خُلِقَ آدَمُ فَتَجَلَّي فِيهِ مِصْبَاحٌ، فأصبح فيمن يستحِقُّ [نار] النور الإلهيّ حيث وَ حَمَلَهَا الإنسَانُ.
فكلُّ مصباح كان زيته أصفي، و صفاؤه في النورانيّة أكثر، فهو في النورانيّة نُورٌ على نُورٍ و اكتمل و ظَرُفَ بمجرّد اتّصال نار النور الإلهيّ به. و لمّا لَم يُمنَحْ أيّ مصباحٍ موهبة قبول النورانيّة و كمال الاستعداد لذلك إلّا مصباح سيِّد الكائنات صلى الله عليه و آله، و لمّا كان زيت مصباحه أتمَّ و أكمل و كان صفاء زيته الذي هو العقل لا ألطفَ و لا أظرف منه، فلا جَرَمَ أن يكون قد وصل إلى درجة الكمال لقبول نور الفيض دون واسطة الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، فكان يُردّد و يُكثر من قراءة هذا الدعاء في كلّ صباح و هو:
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 49
                        الأدعية التي اطلق فيها لفظ النور على الله تعالى‏

اللهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُوراً وَ في سَمْعِي نُوراً وَ في بَصَرِي نُوراً وَ في لِسَانِي نُوراً، وَ عَنْ يَمِينِي نُوراً وَ عَنْ يَسَارِي نُوراً [وَ مِنْ فَوْقِي نُوراً] وَ مِنْ تَحْتِي نُوراً [وَ أمَامِي نُوراً وَ خَلْفِي نوُراً] وَ اجْعَلْنِي نُوراً وَ أعْظِمْ لي نُوراً.
و لمّا كان كلّ وجوده هو ذلك النور، حينئذٍ دعاه الحقّ تعالى نوراً، حيث قال: [قَدْ] جَآءَكُمْ مِّنَ اللهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُّبِينٌ. [1]
و بالجملة فقد اطلِقَت كلمة النور في كثير من أدعيتنا على الحقّ المتعال، ففي دعاء الجوشن الكبير وردت الجمل التالية:
يَا نُورَ النُّورِ، يَا مُنَوِّرَ النُّورِ، يَا خَالِقَ النُّورِ، يَا مُدَبِّرَ النُّورِ، يَا مُقَدِّرَ النُّورِ، يَا نُورَ كُلِّ نُورٍ، يَا نُوراً قَبْلَ كُلِّ نُورٍ، يَا نُوراً بَعْدَ كُلِّ نُورٍ، يَا نُوراً فَوْقَ كُلِّ نُورٍ، يَا نُوراً لَيْسَ كَمِثْلِهِ نُورٌ. [2]
و في المناجاة الشعبانيّة:
إلَهِي هَبْ لي كَمَالَ الانقِطَاعِ إلَيْكَ، وَ أنِرْ أبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إلَيْكَ، حتى تَخْرِقَ أبْصَارُ القُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ، وَ تَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. [3]
حتّي قوله:
إلَهِي وَ ألْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ، فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً وَ عَنْ سِوَاكَ‏
__________________________________________________
1- رسالة «عشق و عقل»، ص 76 إلى 78.
2- «مفاتيح الجنان» ص 93، طبعة الإسلاميّة، سنة 1379 ه-، نقلًا عن «البلد الأمين» و «المصباح» للكفعميّ، و هو مرويّ عن الإمام سيّد الساجدين، عن أبيه، عن جَدّه رسول الله صلى الله عليه و آله.
3- «مفاتيح الجنان» ص 158، نقلًا عن ابن خالويه، قال: «إنّها مناجاة أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده عليهم السلام، كانوا يدعون بها في شهر شعبان».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 50
مُنْحَرِفاً وَ مِنْكَ خَائِفاً مُرَاقِباً، يَا ذَا الجَلَالِ وَ الإكْرَامِ. [1]
__________________________________________________
1- «مفاتيح الجنان» ص 159.
إن تشبيه آية النور المباركة لحالات نفس السالك إلى الله هي من أروع التشبيهات في هذا المقام. و ليس أجدر من أن ننقل هنا نصّ عبارات استاذ السلوك و العرفان آية الحقّ و الإيقان السيّد مهدي بحر العلوم في الرسالة المنسوبة إليه.
يقول السيّد بحر العلوم:
 «و أمّا السالك فإنّه يري آثار و فيوضات ذلك. و من جملة الآثار حصول الأنوار في القلب حيث يكون في البدء على شكل مصباح ثمّ على شكل شعلة ثمّ كوكب ثمّ قمر ثمّ بعد ذلك على شكل شمس، ثمّ تنخمد و تزول ألوانها. و الكثير منها يكون على شكل برق و أحياناً تكون بصورة مشكاة و قنديل، و هذان الاثنان يحصلان أكثر ما يحصلان بفعل المعرفة و السبق من الذِّكر. و قد أشار الإمام أبي جعفر عليه السلام إلى المرتبة الاولى كما روي ذلك ثقة الإسلام في «الكافي» أن الإمام عليه السلام قال في بيان أقسام القلوب: وَ قَلْبٌ أزْهَرُ أجْرَدُ. فَقُلْتُ: وَ مَا الأزْهَرُ؟ فَقالَ: فيهِ كَهَيْئَةِ السِّراجِ- إلى أن قالَ: وَ أمَّا القَلْبُ الأزْهَرُ فَقَلْبُ المُؤْمِنِ. و قد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى بعض هذه المراتب قائلًا: قَدْ أحْيَا قَلْبَهُ وَ أمَاتَ نَفْسَهُ حتى دَقَّ جَليلُهُ وَ لَطُفَ غَليظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ البَرْقِ.
إن إحدى المعاني الباطنية للآية الشريفة: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ هي شرح لهذه المراحل حيث يستحيل شخص الإنسان في هذه الأحوال إلى مشكاة فيها مصباح و الذي يمثّل القلب، و في تلك الزجاجة مصباح و المذكور بالنور، و يتحوّل القلب بعد نشر ذلك إلى ما يُشبه الكَوْكَبٌ الدُّرِّيّ فيكون ساطعاً نيّراً مثلُهُ كمثل نور الشجرة المباركة الكثير النفع و هو ما يمثّل النورانيّة و الروحانيّة لذكر الله حيث ليس بشرقيّ و لا غربيّ، بل نابع عن الطريق الباطن و الذي هو كذلك ليس بشرقيّ و لا غربيّ. وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ اي إذا لم يغفل عن ذكر الله و الذي يؤدّي إلى مقارنة الشيطان المخلوق من النار بنصّ الآية الشريفة وَ مَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، و يزيد نُورٌ على نُورٍ نوراً على نوره حتى يغدو جميع ذلك نوراً. وَ هَذِهِ الزُّجاجَةُ في بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. و في بيان مَثَلُ نورِهِ قال عليه السلام: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ الأصَالِ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ.* ( «رسالة السير و السلوك المنسوبة إلى بحر العلوم» ص 194 إلى 197 مع مقدّمة و شرح للسيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ، منشورات حكمت).
، اي في بيان تحقّق هذا النور و مصداقيّته فإنّه يقول أن رجالًا يُسبّحون الله في الصباح و المساء في تلك البيوت.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 51
و ورد أيضاً في دعاء ليلة عرفة ما يلي:
وَ بِاسْمِكَ السُّبُّوحِ القُدُّوسِ البُرْهَانِ الذي هُوَ نُورٌ عَلَى كُلِّ نُورٍ، وَ نُورٌ مِنْ نُورٍ يَضِي‏ءُ مِنْهُ كُلُّ نُورٍ؛ إذَا بَلَغَ الأرْضَ انْشَقَّتْ، وَ إذَا بَلَغَ السَّمَاوَاتِ فُتِحَتْ، وَ إذَا بَلَغَ العَرْشَ اهْتَزَّ. [1]
و بعد الجمل السابقة، تأتي هذه الجمل:
أسْألُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ الذي تَجَلَّيْتَ بِهِ لِلْجَبَلِ فَجَعَلْتَهُ دَكَّاً وَ خَرَّ موسى صَعِقاً. [2]
و جاء في آخر الدعاء المذكور (دعاء ليلة عَرَفة) ما يلي:
أنْتَ الذي أشْرَقْتَ الأنْوَارَ في قُلُوبِ أوْلِيَائِكَ حتى عَرَفُوكَ وَ وَحَّدُوكَ. [3]
هذا و قد أفرد محمّد بن يعقوب الكلينيّ باباً خاصّاً في «اصول الكافي» و ذكر فيه أن الأئمّة عليهم السلام هم نور الله عزّ و جلّ، و قد أورد ستّ روايات بهذا الصدد نورِدُ منها اثنتينِ هنا على سبيل المثال:
الاولي: روي بسنده المتّصل عن أبي خالد الكابلي أنّه قال: سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ و جلّ: «فَأمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ
__________________________________________________
1- «مفاتيح الجنان» ص 253، حيث ذُكِرَ أن في الرواية أنّه يُدعي به في ليلة عَرَفة و ليالي الجُمَع.
2- «مفاتيح الجنان» ص 253.
3- «مفاتيح الجنان» ص 273.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 52
الَّذِي أنزَلْنَا». [1] فَقَالَ: يَا أبَا خَالِدٍ! النُّورُ وَ اللهِ نُورُ الأئِمَّةِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؛ وَ هُمْ وَ اللهِ نُورُ اللهِ الذي أنْزَلَ، وَ هُمْ وَ اللهِ نُورُ اللهِ في السَّمَاوَاتِ وَ في الأرْضِ. وَ اللهِ يَا أبَا خَالِدٍ! لَنُورُ الإمَامِ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ أنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ المُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ.
وَ هُمْ وَ اللهِ يُنَوِّرُونَ قُلُوبَ المُؤْمِنينَ، وَ يَحْجُبُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ فَتَظْلِمُ قُلُوبُهُمْ. وَ اللهِ يَا أبَا خَالِدٍ! لَا يُحِبُّنَا عَبْدٌ وَ يَتَوَلَّانَا حتى يُطَهِّرَ اللهُ قَلْبَهُ، وَ لَا يُطَهِّرُ اللهُ قَلْبَ عَبْدٍ حتى يُسَلِّمَ لَنَا وَ يَكُونَ سِلْماً لَنَا، فَإذَا كَانَ سِلْماً لَنَا سَلَّمَهُ اللهُ مِنْ شَدِيدِ الحِسَابِ وَ آمَنَهُ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ القِيَامَةِ الأكْبَرِ. [2]
الثانية: روي بسند متّصل آخر منه عن صالح بن سهل الهَمَدانيّ أنّه قال: قال أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام في قول الله تعالى: «اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ»: فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ «فِيهَا مِصْبَاحٌ». الحَسَنُ «الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ». الحُسَيْنُ «الزُّجَاجَةُ كَأنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ». فَاطِمَةُ كَوْكَبٌ دُرِّيّ بَيْنَ نِسَاءِ أهْلِ الدُّنْيَا.
 «تُوقَدُ مِن شَجَرةٍ مُّبَارَكَةٍ» إبْرَاهِيمُ عليه السلام. «زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ» لَا يَهُودِيَّةٍ وَ لَا نَصْرَانِيَّةٍ. «يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ» يَكَادُ العِلْمُ يَنْفَجِرُ بِهَا. «وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ» إمَامٌ مِنهَا بَعْدَ إمَامٍ.
 «يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ» يَهْدِي اللهُ لِلأئمَّةِ مَنْ يَشَاءُ؛ «وَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ».
__________________________________________________
1- صدر الآية 8، من السورة 64: التغابن.
2- «اصول الكافي» ج 1، ص 194، كتاب الحجّة، باب أن الأئمّة عليهم السلام نور الله عزّ و جلّ، الحديث الأوّل.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 53
قُلْتُ: «أوْ كَظُلُمَاتٍ»؟ قَالَ: الأوَّلُ وَ صَاحِبُهُ. «يَغْشَاهُ مَوْجٌ» الثَّالِثُ. «مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ، ظُلُمَاتٌ» الثَّانِي. «بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ» مُعَاوِيَةُ لَعَنَهُ اللهُ وَ فِتَنُ بَنِي امَيَّةَ؛ «إذَآ أخْرَجَ يَدَهُ» المُؤْمِنُ في ظُلْمَةِ فِتْنَتِهِمْ «لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا». «وَ مَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا» إمَاماً مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، «فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ» إمَامٍ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَ قَالَ في قَوْلِهِ: «يسعى نُورُهُم بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَ بِأيْمَانِهِمْ» [1]: أئِمَّةُ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، تَسْعَي بَيْنَ يَدَيِ المُؤْمِنِينَ وَ بِأيْمَانِهِمْ حتى يُنَزِّلُوهُمْ مَنَازِلَ أهْلِ الجَنَّةِ. [2]
و روي الكلينيّ بهذا المضمون بسند آخر عن علي بن جعفر عليه السلام، عن أخيه موسى عليه‏السلام [3].
                        أصل طينة الأئمّة عليهم السلام من النور

و ذكر الكلينيّ في باب خَلق الأبدان و الأرواح و القلوب للأئمّة عليهم السلام أربع روايات، نكتفي هنا بذكر واحدة منها فقط:
روي بسنده المتّصل عن محمّد بن مروان عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال سمعته يقول: أن اللهَ خَلَقَنَا مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ، ثُمَّ صَوَّرَ خَلْقَنَا مِنْ طِينَةٍ مَخْزُونَةٍ مَكْنُونَةٍ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ، فَأسْكَنَ ذَلِكَ النُّورَ فِيهِ، فَكُنَّا نحن خَلْقاً وَ بَشَراً نُورَانِيِّينَ لَمْ يَجْعَلْ لأحَدٍ في مِثْلِ الذي خُلِقْنَا مِنْهُ نَصِيباً. وَ خَلَقَ أرْوَاحَ شِيعَتِنَا مِنْ طِينَتِنَا، وَ أبْدَانَهُمْ مِنْ طِينَةٍ مَخْزُونَةٍ مَكْنُونَةٍ أسْفَلَ في ذَلِكَ الطِّينَةِ، وَ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لأحَدٍ في مِثْلِ الذي خَلَقَهُمْ مِنْهُ‏
__________________________________________________
1- مقطع من الآية 12، من السورة 57: الحديد.
2- «اصول الكافي» ج 1، ص 195، الحديث الخامس.
3- «اصول الكافي» ج 1، ص 195، كتاب الحجّة، باب أن الأئمّة عليهم السلام نور الله عزّ و جلّ؛ و رواها البحرانيّ في تفسير «البرهان» ج 2، ص 735، الطبعة الحجريّة، عن طريق العامّة عن ابن المغازليّ الشافعيّ في كتاب «المناقب» مرسلًا عن علي بن جعفر.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 54
نَصِيباً إلَّا لِلأنْبِيَاءِ. وَ لِذَلِكَ صِرْنَا نَحْنُ وَ هُمْ: النَّاسَ، وَ صَارَ سَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لِلنَّارِ وَ إلَى النَّارِ. [1]
و أورد الكلينيّ كذلك في باب ولادة النبيّ صلى الله عليه و آله و وفاته أربعين رواية نورد منها في هذا المقام ثلاثة:
1- روي بسند متّصل عن جابر بن يزيد قال: قال لي أبوجعفر (الباقر) عليه السلام: يَا جَابِرُ! أن اللهَ أوَّلُ مَا خَلَقَ، خَلَقَ مُحَمَّداً صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ عِتْرَتَهُ الهُدَاةَ المُهْتَدِينَ. فَكَانُوا أشْبَاحَ نُورٍ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ!
قُلْتُ: وَ مَا الأشْبَاحُ؟!
قَالَ: ظِلُّ النُّورِ، أبْدَانٌ نُورَانِيَّةٌ بِلَا أرْوَاحٍ. وَ كَانَ مُؤَيَّداً بِرُوحٍ وَاحِدَةٍ وَ هي رُوحُ القُدُسِ. فَبِهِ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ وَ عِتْرَتُهُ.
وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ حُلَمَاءَ، عُلَمَاءَ، بَرَرَةً، أصْفِيَاءَ؛ يَعْبُدُونَ اللهَ بِالصَّلَاةِ وَ الصَّوْمِ، وَ السُّجُودِ، وَ التَّسْبِيحِ، وَ التَّهْلِيلِ؛ وَ يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ، وَ يَحُجُّونَ، وَ يَصُومُونَ. [2]
2- روي بسند متّصل عن أحمد بن على بن محمّد بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام أنّه قال:
إن اللهَ كَانَ إذْ لَا كَانَ. فَخَلَقَ الكَانَ وَ المَكَانَ. وَ خَلَقَ نُورَ الأنْوَارِ الذي نُوِّرَتْ مِنْهُ الأنْوَارُ. وَ أجْرَي فِيهِ مِنْ نُورِهِ الذي نُوِّرَتْ مِنْهُ الأنْوَارُ.
__________________________________________________
1- «اصول الكافي» ج 1، ص 389، باب خلق أبدان الأئمّة و أرواحهم و قلوبهم عليهم السلام، الحديث الثاني.
2- «اصول الكافي» ج 1، ص 442، كتاب الحجّة، باب مولد النبيّ صلى الله عليه و آله و وفاته، الحديث العاشر.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 55
وَ هُوَ النُّورُ الذي خَلَقَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَ عَلِيَّاً. فَلَمْ يَزَالا نُورَيْنِ أوَّلَيْنِ، إذْ لَا شَيْ‏ءَ كُوِّنَ قَبْلَهُمَا. فَلَمْ يَزَالا يَجْرِيَانِ طَاهِرَيْنِ مُطَهَّرَيْنِ في الأصْلَابِ الطَّاهِرَةِ حتى افْتَرَقَا في أطْهَرِ طَاهِرَيْنِ: في عبد الله وَ أبِي طَالِبٍ عليهم السَّلَامُ. [1]
                        الزهراء عليها السلام من رجال آية النور و في بيوتها

3- و روي كذلك بسند متّصل أيضاً عن مُرازِم عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَ تعالى: يَا مُحَمَّدُ! إنِّي خَلَقْتُكَ وَ عَلِيَّاً نُوراً، يَعْنِي رُوحاً بِلَا بَدَنٍ، قَبْلَ أن أخْلُقَ سَمَاوَاتِي وَ أرْضِي وَ عَرْشِي وَ بَحْرِي، فَلَمْ تَزَلْ تُهَلِّلُنِي وَ تُمَجِّدُنِي.
ثُمَّ جَمَعْتُ رُوحَيْكُمَا فَجَعَلْتُهُمَا وَاحِدَةً، فَكَانَتْ تُمَجِّدُنِي وَ تُقَدِّسُنِي وَ تُهَلِّلُنِي. ثُمَّ قَسَّمْتُهَا ثِنْتَيْنِ وَ قَسَّمْتُ الثِّنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَصَارَتْ أرْبَعَةً: مُحَمَّدٌ وَاحِدٌ، وَ على وَاحِدٌ، وَ الحَسَنُ وَ الحُسَيْنُ ثِنْتَانِ.
ثُمَّ خَلَقَ اللهُ فَاطِمَةَ مِنْ نُورٍ ابْتَدَأهَا رُوحاً بِلَا بَدَنٍ. ثُمَّ مَسَحَنَا بِيَمِينِهِ فَأفْضَي [2] نُورَهُ فِينَا. [3]
أما و إنّنا لنقرا في زيارة الجامعة الكبيرة: خَلَقَكُمُ اللهُ أنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ حتى مَنَّ عَلَيْنَا بِكُمْ فَجَعَلَكُمْ «في بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ». [4]
و روي في تفسير «نور الثَّقلَيْن» [5] بسند متّصل منه عن جابر، عن الإمام‏
__________________________________________________
1- «اصول الكافي» ج 1، ص 441 و 442، الرواية التاسعة.
2- جاء في بعض النسخ فَأضَاءَ. (التعليقة).
3- «اصول الكافي» ج 1، ص 440، الحديث الثالث.
4- «مفاتيح الجنان» ص 547، عن الشيخ الصدوق في «الفقيه» و «العيون»، عن موسى بن عبد الله النخعيّ، عن الإمام عليّ النقيّ عليه السلام.
5- تأليف الشيخ عبد علي بن جمعة العروسيّ الحويزيّ، ج 3، ص 607.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 56
أبي جعفَر (الباقر) عليه السلام في قوله عزَّ و جلّ: في بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أنّه قال:
هِيَ بُيُوتُ الأنْبِيَاءِ، وَ بَيْتُ على مِنْهَا.
و روي في تفسير «البرهان» [1] عن الشيخ الحافظ رجب البرسيّ قال: روي ابن عبّاس أنّه قال: كنتُ في مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله و قد قرأ القارئ:
فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ الأصَالِ.
فقلتُ: يا رسول الله! ما البيوت؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: بُيُوتُ الأنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ، وَ أوْمَي بِيَدِهِ إلَى بَيْتِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهَا ابْنَتِهِ.
نعم، لقد تبيّن من هذه الأبحاث بصورة لا تقبل الشكّ معنى نور الله و أحقّيّة الوِلاية و عظمتها التي هي عين التوحيد، و كذلك طريق إفاضة النور من مقام وحدة الربوبيّة عزَّ و جلّ الذي هو عين النور و أصل الجود و الوجود، و طلوعه في المصباح، و استمداد المصباح من زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ، و تلألئه في الزجاجة، و انعكاسه في المشكاة،، و حفظ و صيانة المشكاة للنور، و إفاضة النور و نشره في فضاء الغرفة، و انتفاع الناس بوساطة ذلك في فضائه النيِّر و المتلألئ كلٌّ بحسب رتبته.
و عَلِمنا كذلك سرّ الولاية و الإمامة اللتين هما معدن النور و منبعه. و كذا كيفيّة اتّحاد الأنوار الخمسة الطيِّبة و وحدتها، و التي من جملتها المقام الأقدس للسيّدة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها، و كيفيّة نشوء نورها
__________________________________________________
1- تأليف السيّد هاشم البحرانيّ، ج 2، ص 737، الطبعة الحجريّة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 57
المقدّس و إيجاده من نَش‏ء و مبدأ عالَم الإيجاد و نشأة الحياة في سلسلتَي التكوين و التشريع. و مع عدم وجود صفة الذكورة و الانوثة في عوالم التجرُّد، و أن الولاية الحقّة هي ولاية الله، و هي واحدة، فإنّه و مع الأخذ بنظر الاعتبار مسألة نشأة الكثرة فقد دُعيتْ بالرجال و وُضِعَت في بيوت أنوار الوحي و الإلهام و ذِكْر الله تعالى.
و على أيّة حال فقد يكون سبب ذِكر نور جلال تلك السيّدة الكبرى في الأخبار و الآثار بلحاظ صفة الانوثة في عالَم الكثرات، ممّا يجعل كلّ ناظر يغضّ النظر عن ذلك و يُمنَع من الاطّلاع على جمالها الذي هو جمال الله. أن نور ذلك الجمال الربّانيّ الأزليّ الأبديّ السرمديّ يَبرُقُ و يتلألأ بشكل يُعمي بصر كلّ عين عاجزة؛ و لهذا صار نور الجلال حجاباً لنور الجمال. و سيملأ دويّ ملائكة القدس: غُضُّوا أبْصَارَكُمْ، أسماع الخَلق و أركان ساحة المحشر الكبرى عند عبور سيّدة نساء العالمين، و تعبر تلك السيّدة معدن الولاية و منجم الإمامة يُغَطّيها حجاب تتدلّي منه آلاف الحُجُزات [1]، و يربط كلّ واحد من شيعتها نفسه بواحدة من تلك الحُجُز و يتمسّك بها. فتتقدّم صلوات الله عليها حتى تمثل بين يدي الله سبحانه في موقف عظيم و مشهد رهيب، واضعة في كفّها اليمني رأس ولدها الحسين بينما وضعت في كفّها اليسري قميصه الملطَّخ بالدماء، فتقول: ربّاه! لقد ضحّي ولدي الحسين بكلّ ما لديه في سبيلك، فهذا رأسه و هذا قميصه! فما جزاؤه عندك يا ر بّ؟!
فيتقدّم رِضوان خازن الجنّة و مالِك خازن جهنّم في الحال و يسلّمانها مفتاحي الجنّة و النار، و يضعانه في كفّيّ السيّدة الكبرى قائلينِ: أن الله‏
__________________________________________________
1- الحُجزة ج حُجَز و حُجُزات و حُجَزات و حُجْزات: مَعقَد الإزار. [المنجد]. (م)
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 58
يقول: لقد أعطانا ولدك الحسين كلّ ما لديه، فسنعطيه نحن كلّ ما لدينا؛ فخذي مفتاحي الجنّة و النار و أدخلي مَن شئتِ من أحبّائكِ إلى الجنّة، و ألقي بمن شئتِ من أعدائكِ إلى النار، فهذا الموقف موقف العدل لديّ.
         وَ لَها جَلَالٌ لَيْسَ فَوْقَ جَلَالِهَا             إلَّا جَلَالُ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ‏
             وَ لَهَا نَوَالٌ لَيْسَ فَوْقَ نَوَالِهَا             إلَّا نَوَالُ اللهِ عَمَّ نَوَالُهُ‏

***
          مِشْكَاةُ نورِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ             زَيْتونَةٌ عَمَّ الوَرَي بَرَكاتُها
             هي قُطْبُ دائِرَةِ الوُجودِ وَ نُقْطَةٌ             لَمَّا تَنَزَّلَتْ أكْثَرَتْ كَثَرَاتُها
             هي أحْمَدُ الثَّانِي وَ أحْمَدُ عَصْرِها             هي عُنْصُرُ التَّوْحِيدِ في عَرَصاتِها

                        معرفة الله، ج‏1، ص: 59
                        البَحْثَانْ الثَّالِثُ وَ الرَّابِعُ: اسْتِطَاعَةُ رُؤْيَةِ اللهِ و تفسير الآية المباركة

سَنُرِيهِمْ ءَاياتِنَا في الأفَاقِ وَ في أنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ‏
أنَّهُ الحَقُّ أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ على كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ
ألَا إنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ ألَا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُّحِيطٌ
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 61
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ‏
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم‏
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ‏
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‏
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ‏
                        آية: سَنُرِيهِمْ ءَ ايَاتِنَا في الأفَاقِ وَ في أنفُسِهِمْ‏

                        ضمير «أنَّهُ الْحَقُّ» عائد إلى مُقَدَّر منتزع من «سَنُرِيهِمْ ءَ ايَاتِنَا»

قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
سَنُرِيهِمْ ءَ ايَاتِنَا في الأفَاقِ وَ في أنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ (أي آياتنا) الْحَقُّ أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ، ألآ إنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ ألآ إنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُّحِيطٌ.
 (الآيتان 53 و 54، من السورة 41: فصّلت)
لشرح الآيتينِ الشريفتينِ الآنفتَي الذِّكر، يتحتّم علينا البحث عن صاحب الضمير في الآية الشريفة «أنَّهُ الْحَقُّ».
في اعتقاد الحقير أن هذا الضمير يعود إلى المُقدّر و المستفاد من الفعل «نُرِي» و هو «مُرَي» (أي الآية و المرأة بلحاظ كونها آية و مرآة إلى الضمير «نا». فما هو المُرَى [1] إذن؟ إنّها في الحقيقة آيات الحقّ المُبيِّنَة
__________________________________________________
1- مُرَي اسم مفعول من باب أرى يُري من باب إفعال. لأنّ اسم الفاعل منه مُرْئي و اسم المفعول منه هو مُرْأي. و قد حُذِفت الهمزة للتخفيف بعد نقل حركتها إلى ما قبلها، مُرِي و مُرَي. و أمّا مرئيّ فهو اسم مفعول من باب رأي يري، و اسم الفاعل منه راءٍ و اسم المفعول مَرئيّ. و قد كان اسم المفعول من ذلك في الأصل هو مَرْءُويٌ، فطرأ عليه إعلال مَرميّ فأصبح مرئيّ. ف- «رأي يري» متعدٍّ إلى مفعول واحد و «أرى يُرِي» متعدٍّ إلى مفعولين.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 62
للحقّ. إذ لا يمكن أن يكون غير ذلك بحسب البلاغة القرآنيّة، و كذا انسجام تتمّة الآية المذكورة و الآية التي تليها. فلا يمكن أن يكون عَوْدُها إلى «ءَ ايَاتِنَا»، ذلك أن «آيات» هي جمع مؤنّث مجازي، فلا يجوز أن يعود ضمير المفرد المذكّر الغائب إليها بحال من الأحوال. و أيضاً لا يُعقَل أن تكون مضافاً إليه بالنسبة إلى «نا»، إذ يجب أن يكون مرجع ضمير المذكّر الغائب إلى اسم الجنس للمذكّر الغائب، في حين أن الضمير «نا» هو ضمير جمع المتكلّم مع الغير.
و كذلك لا يمكن أن يعود إلى القرآن كما قال به البعض، و أوردوا دليلًا على ذلك، و هو الآية التي تسبق هذه الآية مباشرة:
قُلْ أرَءَيْتُمْ إن كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أضَلُّ مِمَّنْ هُوَ في شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
و ذلك أن هذه الآية، و إن تلاءمت مع الآيات الآفاقيّة الأخرى و انسجمت معها، إلّا أنّه لابدّ من تفسيرها و تأويلها فيما يتعلّق بالآيات الأنفسيّة. و مضافاً إلى ما قيل، فإنّ هذه الآية لا تنسجم مع تتمّة الآية المذكورة و الآية التي تليها و لا تتلاءم معها.
و كذلك الحال في مسألة عَود الضمير إلى «رسول الله» إذ أن رسول الله ليس مذكوراً في سياق الكلام، اللهمّ إلّا باعتبار التوجيه، حيث يمكن أن يقال: لأنّ إنكار القرآن مُساوق مع إنكار نبوّة رسول الله، فقد اشير إليه هنا باعتباره «حقّ»، و هو مُساوقٌ مع ذِكر القرآن، فلا يخلو هكذا توجيه حتماً من التكلُّف.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 63
و لا ريب في أن الضمير المذكور لا يرجع لا إلى «الله» و لا إلى «التوحيد»، باعتبار أن نتيجة ما حصل من إنكار المشركين لرسول الله و للقرآن، هو إنكارهم وجود الله أو وحدانيّته، لأنّ هذا النوع من العَوْد يستلزم كذلك الاستعانة بالتأويل، و لا شكّ في أن تأويلًا كهذا يُخرجُ القرآن من حياض سلاسته و عذوبة بيانه.
إن ما ذكرناه هنا من تأويل الضمير و عَوده هو ما ارتكز عليه و أيّده إلى حدّ ما صاحب تفسير «مجمع البيان»: الشيخ الطبرسيّ و القاضي البيضاويّ و استاذنا الأكرم العلّامه الطباطبائيّ قدّس الله أسرارهم جميعاً. مع أن العلّامه أورد وجهاً آخر أيضاً في هذا الصدد، و باعتقاد الحقير أنّه أقرب إلى الحقيقة، هذا في حين لفتتْ نظري مطالب في كثير من التفاسير الأخرى تدعو إلى الدهشة و الإعجاب.
فأمّا إرجاع الضمير إلى اللفظ المقدّر «مُرَي» فهو أقرب لسببينِ اثنين:
أ وّلهما: أن إرجاع الضمير في مثل هذه الحالات شائع الاستعمال كثيراً عند العرب، و قد ورد مَثَلُهُ في القرآن الكريم كذلك: اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ للتقوى. [1]
فهنا نلاحظ أن الضمير «هُوَ» ليس له مرجع لفظيّ في الآية الشريفة، و لذا لزم إرجاعه حتماً إلى لفظٍ تقديريّ مُستَفاد من «اعْدِلُوا»، و هو فعل أمر للجمع المذكّر، و هذا اللفظ التقديريّ هو ال- «عدل».
و هنا وجب إرجاع الضمير إلى كلمة «عَدْل» و ذلك كما يتبيّن من جهة سياق و مفهوم الآية، لأنّنا حين نقول «اعْدِلوا» ثم نُتبِعها بقولنا: «هو أقربُ‏
__________________________________________________
1- الآية 8، من السورة 5: المائدة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 64
للتقوي»، ففي الحال يُفهَم من سياق الكلام و يتبادر إلى الأذهان أن «العَدلَ» المُشتَقّ من المصدر «اعْدِلُوا» هو الأقرب للتقوى من غيره.
ثانيهما: في الآية الشريفة التي هي مدار بحثنا هنا «سنريهم ءَ اياتنا في الأفاق و في أنفسهم حتى يَتَبيّنَ لهم أنّه الحقّ» يتبادر إلى ذهننا مباشرة من أن الشي‏ء «المُري» هو الحقّ. و هو عبارة عن لفظة «مُري»، اسم المفعول من الفعل «نُرِي»، بمعنى «ءَ ايَاتِنَا».
و يتوجّب علينا أن نعلم أن ها هنا تكمن مسألة عظيمة و شاهد أعظم على توحيد الله تعالى، و هي: أن الحقّ عبارة عن ءَ ايَاتِنَا (الآيات مضافة إلى الضمير «نا»)، و يُقصَدُ بها الآيات و الدلائل التي أقرّها الله في الآفاق و النفوس للدلالة على توحيده.
لا جَرَمَ أن جميع الموجودات، سوى الله سبحانه، هي آياته تعالى؛ سواء أكانت تلك الآيات واقعة في العالَم الخارج عن نفوس بني آدم، أم تلك الحادثة في داخلها. لذا، فليس هناك أيّ وجود مستقلّ لأيّ من المخلوقات، بل هي في مجموعها آيات و مرايا و شواهد على سطوع جمال الذات المقدّسة للحقّ تعالى. و لأنّ هذه الآيات و المرايا لا تمتلك صفة الظهور بنفسها، بل هي كلّها مظاهر للّه سبحانه، لذا صار بالإمكان رؤية الله تعالى في كلّ واحدة من تلك الآيات. لأنّ الآية- بما هي آية- إنّما هي وسيلة لإظهار صاحبها (أي صاحب الآية)، و لا تُبدي أو تُظهر نفسها هي على الإطلاق. إنّها مرآة صافية خالية من أيّ لون أو صدأ، و عارية عن كلّ أنواع التموّج أو الخدوش. مرآةٌ تُري صورة الإنسان كما هي دون أيّة مغالطة أو تحريف. فإن تغيّر فيها أيّ شي‏ء أو تبدّل، فذلك لأنّها غير صافية و لا يمكنها أن تحاكي الواقع أو أن تكون ذات قيمة تُذكَر.
و على هذا فإنّ المرأة الصافية و الماء الرقراق الزلال و الهواء النقيّ في‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 65
فضاء مُضاء تبدو الآيتيّة واضحة كلّ الوضوح خلالها لا يشوبها شي‏ء، و كأنّه لا وجود لا للمرآة و لا للماء و لا للهواء، بل أن كلّ ما هو موجود إنّما هو موجودات ماثلة أمام تلك المرأة و داخل ذلك الماء و مُشاهَد في ما وراء النور و الهواء.
كلّ ما موجود هو الله و لا وجود لشي‏ء غير الحقّ. جميع الآفاق و كلّ الأنفُس إنّما هي آيات، و لا وجود لشي‏ء أو موجود غير «نا» و «الله» و «الحقّ» في ما وراءها مطلقاً.
لا وجود لغير «الله» في عالَم الوجود. و كلّ ما سواه إنّما هو آية له لا أكثر. و هو وحده ذو الآية و صاحب العلامه، هو كلُّ شي‏ء و لا شي‏ء سواه. و ذو الآية الذي هو الحقّ في هذه العبارة، هو نفسه الآفاق و الأنفس. فالآفاق و الأنفس هما حقّ إذن.
إن هذه الآية تُدَلِّل على أن حقيقة الآفاق و الأنفس هي وجود الحقّ تعالى، و أنّها لا تملك شيئيّة ما في حدّ ذاتها، لأنّها إنّما وُصِفتْ على أنّها آية و علامه، لا غير. و بالتالى فإنّ الحقّ تعالى عبارة عن واقع الآفاق و الأنفس و حقيقتها. أينما تُوَلِّ وجهك فثمَّ وجود الله، و إلى أيّ شي‏ء أرجعت بصرك ترى فيه الله. فما أكثر الأشياء، لكنّ الله واحد فرد صمد. فلا موجود في عالَم الوجود سوى الله. فالتعيُّنات و الإنّيّات و معها الماهيّات كلّ تلك امور عدميّة و باطلة، و الوجود المقدّس للحقّ تعالى واحد، حيث يتجلى في الآفاق و الأنفس و يظهر في كلّ جنبة من جنباتها.
إن كلمة لَا إلَهَ إلَّا اللهُ المباركة التي هي كلمة التوحيد و معنى التوحُّد و الوحدة، إنّما أصلها راجع إلى كلمة لَا مَوْجودَ سوى اللهِ التي تنفي كلّ نوع من أنواع التعيُّن عن ذات الحقّ تعالى، و تُجرّده منه.
و خير دليل و شاهد على هذا الكلام هو تتمّة الآية الشريفة:
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 66
أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ.
أي أن الله سبحانه حاضر و ناظر و شاهد بوجوده في وجود جميع الموجودات الآفاقيّة و الأنفسيّة و كذلك في كلّ شي‏ءٍ يمكن أن تُطلَق عليه كلمة شي‏ء، لا بكونه موجوداً آخراً أو في مكانٍ آخر، و أن مُجَرّد عِلمه هو المحيط بالموجودات للتقدير فيها أو التحكُّم بها.
                        الله تعالى ظاهر في آيات الآفاق و الأنفس، لكنّ الناس يشكّون في لقائه‏

و أعجب من هذه التتمة هي الآية التي تليها:
ألآ إنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ ألآ إنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُّحِيطٌ.
فما السبب في كون هذه الآية أعجب و أغرب؟ السبب في ذلك هو أن الله سبحانه يقول: أن الناس ليشكّون في لقاء الله ربّهم في حين أنّه موجود في الآفاق و الأنفس، و أن واقع الآفاق و الأنفس هو الله الذي برز من خلال الآيات و العلامات، و تجلّى فيها بوضوح. فلمّا كان الله سبحانه موجوداً في الآفاق و الأنفس و مشهوداً في كلّ جزء منها، و لمّا كان الله أوّل شي‏ء ينظر إليه الناس من خلال رؤيتهم لأيّ شي‏ء حولهم و لكلّ نفس من نفوسهم، فلِمَ، و الحال كذلك، يشكُّ الناس بوجود الله وير تابون في أمره و لقائه، مع وضوح تلك الآيات و جلاء تلك الصور و العلامات؟!
ثمّ يقول سبحانه «إنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُّحِيطٌ»، و هذا لا يعني الإحاطة العِلميّة الحضوريّة أو الحصوليّة، بل أن ما يعنيه هو الإحاطة الوجوديّة و إحاطة المَعيّة التي يتجلى فيها أوّلًا عبر وجوده مع كلّ آية و أيّة علامه في الآفاق و الأنفس و إحاطته بها، ثمّ تعيُّن تلك الآية و تشخُّصها ثانياً و بالعَرض و المجاز.
الله أوّلًا و من ثَمّ باقي الموجودات. هو السابق و ما دونه مسبوق مغلوب. هو القائم و ما دونه إنّما هو يتقوّم به. هو الظاهر و به تظهر الأشياء و تتجلّي.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 67
الله نور و ما دونه فهو مُنوَّرٌ بنوره. و لو كانت الأشياء قادرة على إظهار الله، لاستَبدلتْ مكانها بمكانه، و لأصبحت هي الإله، و لأصبح الله هو المخلوق، و لأصبحت الأشياء في سلسلة أعلى مراتب العلل، و لكان الله هو المعلول. لا يمكن للّه أن يتّكل على غيره، لا في أصل الخِلقة و لا في الظهور و الآيتيّة. لذا، فتعبير هو الحقّ يعني أنّه هو الموجود الأصيل عبر جميع مراتب الوجود، من أصل الوجود و من الظهور خلال مراتب الوجود.
و حيث علمنا أن الله سبحانه هو أصل النور و مبدأ الظهور و أصالة التحقُّق و الوجود في الآفاق و في الأنفس، لذا وجب أن نعلم: كيف يتسنّي للإنسان معرفة هكذا ر بّ؟! فلو أراد الوصول إليه عن طريق معرفة غيره، لم يصحّ ذلك، لأنّ ما دون الله متعلِّق ظهوره بالله سبحانه، إذ الله هو المانح لظهوره فظهر كما يظهر، فكيف يكون بالإمكان إذن الوصول إلى الله، مع علمنا بأنّ الذي نروم معرفة الله عن طريقه إنّما هو ظاهر بظهور الله المُظهِر لذلك الشي‏ء؟!
                        إمكان معرفة الله تعالى بالله، لا بسواه‏

إن المصباح المضي‏ء في مسجد، مضي‏ء في نفسه و ذاته، و أمّا بقيّة الأشياء المضاءة في ذلك المسجد، فهي مضيئة بنور ذلك المصباح، لا بنورها هي بالذات. فنور المصباح ينتشر في ظُلمة المسجد، و الأشياء الموجودة في غياهب ذلك المكان تُضي‏ءُ و تُنير بضياء المصباح و نوره. فَلِكَيْ نري ذلك المصباح و نتعرّف عليه، يتوجّب علينا رؤيته هو بذاته و ليس نوره الساقط على الأشياء. لا يمكننا بحال من الأحوال رؤية المصباح نفسه من خلال نوره الساقط على الأرض و المنعكِس عن هذا الشي‏ء أو ذاك. يجب رؤية المصباح بنفسه، لا بالأشياء المظلمة المعتمة و المُنارَة بنوره و المستضيئة بضيائه.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 68
إن لهذه المسألة شأناً من الشؤون، إذ يجب معرفة الله عن طريق الله لا غير الله ممّن أساس وجوده و خِلقته و تسويته و حقيقته و ظهوره مأخوذ من الله و مبنيّ على وجوده.
و هنا تبرز مسألة أخرى إلى حيّز الوجود، و هي أنّه كيف يمكن معرفة الله بواسطة الله نفسه سبحانه؟ و ما العمل بشأن كلّ تلك الأخبار الدالّة على استحالة معرفة الإنسان للّه تعالى أو الوقوف على كُنه ذاته المقدّسة؟
لا سبيل إلى معرفة الله إلّا عن طريق آثار الله الدالّة عليه. و مع ذلك فإنّ تلك المعرفة لا يمكن أن تكون تفصيليّة، بل إجماليّة. الحقّ أن الأرض و السماء و الخُضرة و الماء و الموجودات من الذرّة حتى المجرّة، مروراً بالبرغوث و البقّة حتى الفيل، أقول كلّ تلك المخلوقات هي مشاهد تدلّ على وجود الله سبحانه. هي آيات و علامات تدلّ كلّ واحدة منها على وجود الله، كلٌّ حسب سعته الوجوديّة. القرآن نفسه يدعونا إلى تتبُّع تلك الآثار و الرجوع إليها كأصدق بيّنة على وجود الله.
و من هنا تتجلّي مصداقيّة الحِكمة القائلة تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللهِ؛ وَ لَا تَتَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ [1].
__________________________________________________
1- يقول الشيخ نجم الدين الرازي في رسالة «عشق و عقل» ص 53 و 54، بعد بحثه حول الصالحين المحجوبين عن نور الله: «هذه الطائفة هي أصحاب الميمنة، و مشربهم يكون من عالم الأعمال، و يكون معادهم درجات جنّات النعيم؛ و مع ذلك فلا سبيل لهذه الطائفة إلى معرفة ذات الله و صفاته في الحقيقة، لأنّهم ما زالوا مقيّدين بآفة حُجُب الصفات الروحانيّة و النورانيّة؛ إذ أن لِلَّهِ [تَعالَي‏] سَبْعينَ ألْفَ حِجابٍ مِنْ نورٍ وَ ظُلْمَةٍ. و قال في مكان آخر: حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كُشِفَتْ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَي إليه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ. و لذا قيل لهذه الطائفة: احذروا من خلط العقل بالعقال في مجال التفكّر في ذات الحقّ جلّ و عَلا، لأنّه ليس له حدّ؛ تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللهِ وَ لا تَتَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 69
و من جهة أخرى علمنا أنّه لا يمكن معرفة الله سبحانه عن طريق الموجودات، إذ كما قلنا لا يمكن معرفة الله إلّا عن طريق الله نفسه. و قد وردت روايات كثيرة في هذا الباب في أن الإنسان باستطاعته معرفة الله بذاته.
كانَ أمير المؤمنين عليه السلام يخطب يوماً فسأله أحد الحاضرين قائلًا: يَا أمِيرَ المُؤْمِنينَ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟!
فأجاب عليه السلام: كَيْفَ أعْبُدُ رَبَّاً لَمْ أرَهُ؟!
ثمّ أوضح عليه السلام ذلك بقوله:
لَا تَرَاهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ؛ وَ لَكِنْ تَرَاهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ.
و لدينا من الآيات القرآنيّة الشريفة ما يناهز العشرين آية أو أكثر و كلّها تدلّ على أن الناس سينالون شرف لقاء الله في يوم ما، دون ريب.
و بين هذه المجموعة من الأخبار و تلك وقع العلماء في أشدّ حيرة من أمرهم، قائلين: كيف يمكن حلّ مثل هذه المعضلة؟!
فنهج البعض منهجاً يقول بأنّ الأخبار التي دلّت على عدم إمكانيّة
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 70
رؤية الله عزّ و جلّ و إدراكه و معرفته كلّها صحيحة؛ فإنّه لا سبيل لبني آدم إلى معرفة الله بأيّ شكل من الأشكال، سواء كانت تلك المعرفة إجماليّة أم تفصيليّة. فأين الخالق من المخلوق؟ أيْنَ التُّرابُ وَ رَبُّ الأرْبابِ!؟
                        أبيات الشبستريّ الرفيعة في عدم إمكان معرفة الله بغير الله عزّ و جلّ‏

سأل أمير حسين الهَرَويّ، عارف خراسان الكبير سنة 717 للهجرة العالِمَ المعروف في شَبَستَر آنئذٍ و هو الشيخ محمود الشبستريّ، قائلًا:
         كدامين فكر، ما را شرط راه است؟             چرا گه طاعت و گاهي گناه است؟ [1]

فأجابه الشيخ قائلًا:
         در آلا فكر كردن شرط راهست             ولي در ذات حقّ محض گناه است‏
             بود در ذات حقّ انديشه باطل             محال محض دان تحصيل حاصل‏
             چو آيات است روشن گشته از ذات             نگردد ذات او روشن ز آيات‏
             همه عالم ز نور اوست پيدا             كجا او گردد از عالم هويدا [2]

__________________________________________________
1- يقول:
          «أيّ رأيٍ ألتَزِمْ أو مَنهَجٍ             أفَأعصي مَرّةً ثُمَّ أتوب؟»


2- يقول: «أن التفكير في الآلاء شرط للوصول إليها، لكنّ التفكير في ذات الحقّ إثم محض.
إن التفكير في ذات الحقّ أمر باطل و هو أمر محال فاعلم ذلك.
إن الآيات ظاهرة و جليّة بذاته و ليست ذاته جليّة بالآيات.
فالعالم كلّه ظاهر بنوره، ولكن أنّي أن يظهر هو بواسطة هذا العالم».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 71
         نگنجد نور ذات اندر مظاهر             كه سبحات جلالش هست قاهر
             رها كن عقل را با عشق مي‏باش             كه تاب خور ندارد چشم خفّاش‏
             در آن موضع كه نور حقّ دليل است             چه جاي گفتگوي جبرئيل است‏
             فرشته گرچه دارد قرب درگاه             نگنجد در مقام لي مَعَ الله‏
             چو نور او ملك را پر بسوزد             خرد را جمله پا و سر بسوزد
             بود نور خرد در ذات انور             بسان چشم سر در چشمة خور
             چو مُبصَر با بصر نزديك گردد             بصر از درك او تاريك گردد
             سياهي گر ببيني نور ذات است             به تاريكي درون آب حيات است [1]

__________________________________________________
1- يقول: «لا يمكن أن تُحدّ نور ذاته بالمظاهر، لأنّ سُبُحات جلاله هي القاهرة.
اهجر العقل و ذُب في العشق، فإنّ عيون الخفّاش لا طاقة لها برؤية نور الشمس.
في ذلك الموضع الذي يكون نور الحقّ فيه هو الدليل لا مكان لحديث جبرئيل.
فالمَلَك لا يمكنه أن يكون في مقام «لي مع الله» و إن كان قريباً من ساحته عزّ و جلّ.
ذلك أن نوره يُحرق جناح المَلَك، و يُحرق العقل بتمامه.
مَثَلُ بصيص النور في ذاته النيّرة كمَثَل العين الباصرة بالمقارنة مع المصبّ.
فلو اقترب المُبصَر من البَصَر، لْاظْلَمَ البَصَر و عجز عن دركه.
فإن تحسب نور ذاته سواداً، فهذا السواد و تلك الظلمة يحويان ماء الحياة».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 72
         سيه جز قابض نور بصر نيست             نظر بگذار كاين جاي نظر نيست‏
             چه نسبت خاك را با عالم پاك             كه ادراك است عجز از درك ادراك‏
             سيه روئي ز ممكن در دو عالم             جدا هرگز نشد و اللهُ أعلم‏
             سوادُ الوجه في الدّارَين درويش             سواد اعظم آمد بي كم و بيش‏
             چه مي‏گويم كه هست اين نكته باريك             شب روشن ميان روز تاريك [1]

__________________________________________________
1- يقول: «ليس السواد سوى قابض و خاطف لنور البصر، فافهم أن هذا ليس مكاناً للنظر.
أين التراب من عالم الطهارة، فإنّ الإدراك هو العجز عن درك الإدراك.
سواد الوجه ليس منفصلًا عن الممكن في كلا العالمَينِ، و الله اعلم.
إن سواد الوجه في الدارين درويش، و قد جاء السواد الأعظم من غير زيادة أو نقصان.
فماذا نقول في مسألة دقيقة كهذه، فهي كالليل المُضي‏ء في نهار مُظلم».
 «گلشن راز» لنجم الدين محمود بن عبدالكريم الشبستريّ، ص 11 إلى 13، بخطّ عماد الأردبيليّ، منشورات مكتبة الأحمديّ، شيراز، 1333 ه-؛ و قد أورد آية الله العلّامه الكبير الحاجّ الشيخ آقا بزرگ الطهرانيّ قدّس الله سرّه في «الذريعة» ج 18، ص 226 و 227 ما يلي:
 «130: «گلشن راز»:
قصيدة بالفارسيّة للشيخ العارف سعد الدين محمود الشبستريّ صاحب «مرآة المحقّقين» و الذي ذُكِر في «كشف الظنون» أن هذا الكتاب هو من كتب الشيعة، و قد ذكر له أربع شروحات. و هذه القصيدة هي جواب على سبعة عشر سؤالًا على شكل أبيات شعريّة و الذي بعث بها إليه من خراسان السيّد أمير حسين الهروي: خليفة بهاء الدين زكريّا-
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 73
__________________________________________________
- المَلتانيّ: خليفة شهاب الدين السهرورديّ. فأمّا السؤال الأوّل:
         ز اهل دانش و ارباب معنى             سؤالي دارم اندر باب معني‏


يقول: «عندي سؤال لأهل العلم و أرباب المعنى في باب المعني».
أوّلُ «گلشن راز»:
         بنام آنكه جانرا فكرت آموخت             چراغ دل به نور جان برافروخت‏


يقول: «باسم من علّم الروح التفكير، و أنار سراج القلب بنور الروح».
وفي ذلك قوله:
         نشان ناشناسي ناسپاسي است             شناسائيّ حقّ در خود شناسي است‏


يقول: «أن الجحود علامه اللامعرفة (الجهل) و معرفة الحقّ هي في معرفة الذات».
وفي النهاية يذكر وجه تسمية ذلك إذ يقول:
         از آن گلشن گرفتم شمّه‏اي باز             نهادم نام او را «گلشن راز»


يقول: «أخذتُ من الرياض قطفة و أسميتُها «گلشن راز» (
/ رياض الأسرار)».
وذكر تأريخه بقوله:
         گذشته هيفده از هفتصد سال             ز هجرت ناگهان در ماه شوّال‏


يقول: «في شهر شوّال، سبعمائة و سبع عشرة مضين من الهجرة».
وآخر بيت منه هو:
         بنام خويش كردم ختم پايان             الهي عاقبت «محمود» گردان‏


يقول: «ختمتُ الكتاب باسمي، فاجعل اللهمّ عاقبتنا محمودة».
وقد طُبع مع شرحه في «مفاتيح الإعجاز». و له شروح أخرى كذلك تزيد على أحد عشر شرحاً؛ منها تعليقات الخواجة عبدالرحيم الخلوتيّ. (علماء آذربايجان: 142) و قد ذكر الميرزا حسن شفيع زاده الشبستريّ تلك الشروح في كتابه الكبير الذي ألّفه في ترجمة الشبستريّ.
وقد تُرجِم «گلشن راز» إلى اللغة الألمانيّة سنة 1254 ه- (الموافق لسنة 1838 م). و كذلك تُرجِم شعراً إلى اللغة التركيّة، و نُظّم بالفارسيّة على شكل تخميسات. و قد شرح محمّد ابن محمود الدهدار بيتاً واحداً سمّاه «مرآة الحقائق»، و له شروحات أخرى لأبياته منفردة. و جدير بالذكر أن نُسَخ الكتاب الخطّيّة متوفّرة في الأسواق؛ و أمّا أقدم تلك النسخ، حسب علمي، فتوجد عند مهدي البيانيّ في طهران و يرجع تأريخها إلى سنة 754 ه-، و (أدبيّات: 109 د) بتأريخ النصف من رجب سنة 830 ه- و (دانشگاه: 1930) ربيع الأوّل 835 ه- و (مجلس: 966) و الذي كُتب في سنة 858 ه-».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 74
                        اعتقاد العلماء عائد إلى طائفتين من أخبار رؤية الله تعالى‏

فلو قضي الإنسان سنيّ حياته بالجهدِ و الاجتهاد و التفكُّر و الاسترشاد، لما وصل إلى نتيجة ترضيه أو حِلٍّ يُغنيه، و دليل ذلك الأخبار المرويّة هنا. و أمّا الأخبار القائلة بأنّ الإنسان يري الله و تحصل لديه المعرفة به، فيجب حملها على المعنى المجازيّ. أيّ أن معنى رؤية الإنسان للّه تعالى هو أن يري نِعَمَهُ و مخلوقاته العينيّة و ملائكته و رضوانه و منازل الجنّة و الحُور و القصور في الجنّة، ليس إلّا.
في حين يعتقد البعض الآخر أن بالإمكان رؤية الله عزّ و جلّ، و يؤوِّلون الروايات القائلة بعدم القدرة على رؤية الله سبحانه على أنّها تريد بذلك عدم إمكانيّة رؤيته تعالى بالعين الإنسانيّة الموجودة في رأس الإنسان، و لم تقل بعدم إمكانيّة ذلك بعين القلب؛ و تريد بذلك عدم إمكانيّة رؤيته تعالى بالباصرة و لم تُصرّح أن ذلك غير ممكن بالبصيرة، و على هذا فتلك الأخبار مفهومة القصد.
إن الإنسان يري الله بحقائق الإيمان، و هذا ممّا تدلّ عليه الآيات القرآنيّة، بل الحقّ أنّها تُصَرِّح بذلك دون لبس و لا مجال للاعتقاد بكونها مجازيّة. و لِمَ يتكلّم الله بالمجاز؟ هل اغلِقَتْ طرق الصراحة و الحقيقة أمامه حتى يذكر في أكثر من عشرين مكاناً في القرآن الكريم لقاءه و التأكيد على ذلك؟ و هل هدفه من كلّ تلك الآيات هو التقاء أنواع مختلفة
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 75
من التفاح و الكُمّثري و العنب و الرُّطَب و الحوُر العين و الغلمان جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُّ؟!
إذن، و الحال هذه، علينا أن نُؤوِّلَ الأخبار التي تؤكّد على عدم إمكانيّة رؤية الله عزّ و جلّ على أنّها نتيجة لدرجات المعرفة غير التامّة، مقارنة بإمكانيّة رؤيته تعالى، بل إمكانيّة حدوث ذلك و تحقُّقه في الخارج. تلك المعرفة أو المعارف الجزئيّة التي تحدث للناس كالمعرفة الحاصلة بالذات و الحقيقة عن طريق شبح أو صورة حسب تصوّرهم، فيريدون بذلك التوصّل إلى كيفيّة و كمّيّة الله عزّ و جلّ و شكله و صفاته، حيث يجعلون كلّ ذلك بمثابة آية للّه ذي الآية.
إنّنا نجد أنفسنا مضطرّين لبيان مقدّمة هنا إذا شئنا الفصل بين هاتين المجموعتين، مستعينين بحول الله و قوّته. و مع كون هذه المقدّمة بمثابة قانون علميّ و قاعدة حِكَميّة و فلسفيّة، إلّا أنّنا سنسعي جاهدين في بيانها بصورة مبسّطة حتى يكون بالإمكان فهمها:
حتّي يكون بإمكان أيّ موجود الحصول على معرفة كافية و عِلم شامل عن موجود آخر، يتوجّب وجود شي‏ء من ذلك الموجود (الثاني) في هذا الموجود (الأوّل). إنّنا نري الكثير من الموجودات في العالَم من حولنا، منها الإنسان، و الحيوان على مختلف صوره و أشكاله و آثاره و خواصّه، فالبقر و الغنم و الإبل و الطير و البطّ، كلّ هذه تختلف عن بعضها البعض.
و هناك الشجر و الحجر و الماء. و هي كلّها موجودات كثيرة مختلفة، و الكثرة تستلزم ذلك الإختلاف و التنوع الموجود فيما بينها.
فالشجرة كيان منفصل عن الحيوان، لأنّها تختلف و تتميّز عنه، و إلّا لكانَ الاثنان شيئاً واحداً. و زيد غير عمرو، و الوالد ليس بالولد. فلو كانا
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 76
متشابهين تماماً في جميع الجهات لما كانا اثنين بل كانا واحداً. و هذه المقدّمة مفهومة و لا تحتاج إلى نقاش.
و الآن، و بعد أن علمنا أن في هذا العالَم و هذه الدنيا كلّ تلك الكثرات، كيف يمكن لشي‏ء ما أن يتوصّل إلى معرفة شي‏ء آخر و العلم به؟! فمثلًا، كيف يعلم الخروف بوجود بقرة ها هنا، و يتوصّل الجَمَل إلى العلم بأنّ الحصان حيوان لا عداوة له معه؟ و يفهم الثعلب أن الأسد عدوّ لدود له، و يدرك الخروف أيضاً أن الذئب عدوّه و قاتله، و هكذا الحال مع جميع أصناف الحيوانات؟

Tidak ada komentar:

Posting Komentar