Pages

Selasa, 18 Oktober 2011

Allamah Thaba'thabai "RAHASIA-RAHASIA MALAKUT" jilid 2 p 3-137


                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 3
                        اسرار الملكوت (2)

                        المجلس التاسع: عدم كفاية الاشتغال بالعلوم الظاهرية والمتداولة في تحصيل مراتب اليقين والكمال‏

                        بسم الله الرحمن الرحيم‏

                        الحمد للَه ربِّ العالمين، وصلّى الله على محمَّدٍ وآلِهِ الطاهِرِين‏

                        ولعنةُ الله على أعدائِهِم أجمعين‏

يقول عنوان البصري:
كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلمّا قدم جعفر الصادق عليه السلام المدينة، اختلفت إليه وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك.
فقال لي يوماً: إني رجل مطلوب (وقد جعلت الحكومة عليّ العيون والجواسيس، لذا فلا أقدر على إقامة علاقة مستقلّة مع أي شخص) ومع ذلك لي أوراد في كل ساعة من آناء الليل والنهار، فلا تشغلني عن وردي وخذ عن مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه.
في هذا العبارة نكات مهمة يجدر التوقف عندها والتدقيق بها، سواء في كلام عنوان أو في كلام الإمام الصادق عليه السلام، وأهم هذه النكات:
                        سبب رجوع عنوان من مالك إلى الإمام الصادق عليه السلام هو الاتصال بمركز العلم والحياة

إن عنوان كان يأخذ العلم عن مالك بن أنس سنين متعددة، لكن هذا الأمر لم يكن ليقنعه أبداً، ولم تكن تلك الروايات التي كان يرويها له مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- مع كثرتها- لتروي ظمأه، كما أن الخلاء الوجودي الذي كان يشعر به عنوان والنقصان في ضميره كانا يدغدغان مشاعره ويحثّانه على الرجوع إلى الأعلم والأبصر والأعرف في جميع المسائل والقضايا. وهذه النكتة حائزة على أهمية عالية، وذلك لأن الروايات التي كان مالك يرويها طوال تلك الفترة كانت جميعها منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لا أقل كان القسم الأكبر منها منقولًا عن الرسول.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 4
إذن لماذا كان ينتاب عنوان، والحال هذه، الإحساس بالحاجة إلى الإمام عليه السلام وعدم الاكتفاء بالعلوم التي كان يتلقّاها من مالك؟
السبب في ذلك واضح؛ لأن العلوم التي كان عنوان يسعى إليها مختلفة عن العلوم التي كانت شائعة ومتعارفة في ذاك الزمان. فالمقصود من العلوم المتعارفة في ذاك الزمان والغاية منها هي اكتناز بعض المسائل وحفظ مجموعة من المطالب وجعلها في مكان خاص به. فإذا أراد شخص مثلًا أن يسعى للحصول على البلاغة وحفظ النكات الأدبية والاهتمام بها، يمكنه الوصول إلى ما يريده من خلال مطالعة قواعد الأدب وقراءة الأشعار البليغة والاهتمام بالمقالات المعروفة والدرس لسنين طويلة. وكذلك من يريد الوصول إلى اختصاص من الاختصاصات الطبيّة فعليه أن يصرف سنوات من عمره في التعلّم والتجربة حتى يصل إلى مرحلة الاستغناء ويصير من أهل التخصّص والنظر في هذا المجال. وكذا الحال في تعلّم العلوم المعروفة والمتداولة من الفقه والأصول والتفسير وغيرها، فلا بد أن يخضع طالبها إلى سنين من التعلم والبحث حتى يصير من أهل النظر فيها، بحيث يستغني عن التقاط آراء الآخرين وأخذ مبانيهم، ومع ذلك من الممكن أن يكون مخطئاً ومشتبهاً في هذه المسألة، وأن يكون وصوله إلى هذه النتيجة بسبب الجهل المركب.
لكن ما كان عنوان بصدد البحث عنه كان شيئاً آخر، لقد كان عبارة عن العلم الذي يمكنه أن يروي عطش روحه، ويقوّم فكره التائه، ويشفي ضميره المضطرب بدواء المعرفة والبصيرة، ويحيي روحه المنهكة بحياة العلم ويسقيها من معين عين الحياة. وهذه المسألة لم تكن لتتحقّق من خلال هذا النوع من العلاقات والمحادثات والمجالس، بل تتطلّب هذه المسألة وسائل وأدوات وراء التدريس والدرس الظاهري واكتساب العلوم‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 5
المدوّنة والمتعارفة. فمن الممكن أن يكون شخص قد حفظ مقداراً كبيراً من هذه العلوم، ويمكنه ترديدها دون اشتباه كشريط المسجل تماماً، ويحافظ على شرح المطالب وتفسيرها ويكون لديه المهارة اللازمة في سبيل ذلك، لكنه مع ذلك لا يمكنه أن يداوي وجعاً في الإنسان، أو أن يبعث الحياة في روحه والنشاط في ضميره وسرّه، كما لا يمكنه أن يبدّل الآلام الباطنيّة إلى حالة من الصحّة والكمال. وبالتالي سوف يكون الكلام مؤثّراً عندما تكون نفس المتكلّم قد وصلت إلى إدراك حقيقة ومحتوى هذا الكلام الذي يتفوّه به، لا أن تكون مجرّد كلمات صادرة من باب القراءة عن حفظ، بل من باب الشهود وإدراك الحقيقة الواقعيّة. وببيان آخر: سيكون نفس المتكلّم متعيّناً بتعيّن ذاك الكلام ومصداقاً خارجيّاً له.
وعندها ستختلف هذه العبارة الصادرة عن هذا الإنسان عن العبارات المشابهة لها، فكيفيّة هذه العبارات وبيانها تختلف عن كلمات الآخرين وعباراتهم، فإن المتكلّم سيطرح الكلام المناسب في مكانه اللائق به، لأنه في هذه الحالة محيط بحقيقة الموضوع ولديه إشراف كامل على شرائطه الخاصّة، فلا يطلق حكماً واحداً على الجميع كما لا يتحدّث بمطلب واحد في كل مكان، بل يتحدّث ضمن الظروف المناسبة التي تناسب الشخص المخاطب وتراعي خصوصيّاته الخاصّة به، ولعله يتحاشى طرح نفس الموضوع على سائر الأشخاص، لأن ظرفيّاتهم لا تتحمّل هذا الكلام.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في الخطبة 104، عند بيان خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                        قول أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله: طبيب دوّار بطبّه‏

" اختاره من شجرة الأنبياء ومشكاة الضياء وذؤابة العلياء وسُرّة البطحاء
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 6
ومصابيح الظلمة وينابيع الحكمة، طبيب دوّار بطبّه قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوبٍ عُميٍ وآذان صُم وألسنة بُكم، متّبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة" [1].
يعني أن الله تعالى اختار نبيه من الشجرة المباركة لسلسلة الأنبياء، فهو كالمشعل المضي‏ء في مكان رفيع وقد سطع نوره في وسط الصحراء، وأضاء به المصابيح المظلمة وفجّر به ينابيع الحكمة.
لقد كان رسول الله طبيباً حاذقاً ومتبحّراً في مهنته، فقد ركّب دواءه بإتقان ووصفه في مكانه الخاص الذي ينبغي أن يوصف فيه، وكان ينتخب الطرق المثلى في موضع الحاجة؛ حيث كان يداوي القلوب العمياء والآذان الصمّاء والألسن البكماء فتصح بتلك المداواة. كما أنّه كان يستخدم دواءه الفعال ويعطي وصفته المؤثّرة في أماكن الغفلة والجهالة، فيرفع بها مواطن الشك والترديد والحيرة.
نعم لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك، يشخّص المرض بأفضل الطرق الممكنة ويصف الدواء الخاص الذي لا بديل عنه. وكذلك كان سائر المعصومين عليهم السلام والأولياء الإلهيين العظام؛ حيث كانوا يطّلعون على أمراض النفوس ونقائصها وزلّاتها بواسطة نور الولاية والإشراف على ضمائر النفوس وأسرار القلوب وخفايا الصدور، فقد كان بوسعهم أن يصفوا الدواء الشافي للأمراض الروحيّة، ويضعوا لكل مورد بخصوصه طريقاً ومساراً خاصّاً به. ومن الطبيعي أنه لا يمكن لغير هؤلاء أن يطلع على هذه الأمور أبداً، حتى ولو كان علّامة دهره في العلوم الظاهرية، ولديه إشراف كامل وتسلّط واسع على العلوم العادية.
__________________________________________________
 [1]- نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 1، ص 206.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 7
                        إشراف أولياء الله على ضمائر الناس‏

أذكر أنه في أواخر سلطة الشاه پهلوي، وفي الفترة الساخنة من أحداث الثورة والأعمال الجهادية للشعب الإيراني، في إحدى الليالي عدنا نحن والمرحوم الوالد أعلى الله تعالى مقامه من مسجد القائم إلى المنزل سيراً على الأقدام. وفي الطريق وقع نظره على صورة في دكان يبيع الصحف لأحد الأشخاص الموجودين في الخارج والمقرّبين جداً من المرحوم آية الله الخميني رحمة الله عليه، وكان هذا الشخص يعتبر من القلائل المعتمدين عنده والموثوقين لديه، فتوقّف وسألني عن صاحب هذه الصورة التي وضعت في الصحف؟ فقلت له هذا فلان [1] الذي يعدّ من المقربين من آية الله الخميني، وبعد نظرة عميقة جداً للصورة نظر إليّ وقال: في القريب العاجل سوف تبتلى إيران بسبب هذا الشخص ببلاءات لا تنجبر أبداً!
هل يمكن أن تدرك هذه المطالب وأمثالها من خلال العلوم الظاهرية والمعارف المتعارفة عند الناس؟ لهذا السبب نشاهد أن الكثير من العلماء والعظماء من أهل العلم والمعرفة بعد إتمامهم فترة الدراسة والتدريس ووصولهم إلى المراتب العالية في الفقه والاجتهاد وحصولهم على سائر العلوم والفنون .. يجدون نفوسهم ظمأى لماء المعرفة ويرون أرواحهم تائهة وحيرى في ميادين التحقيق والطلب، ويعلمون أن ما حصلوا عليه في هذه المدّة المتمادية من البحث والتحقيق لم يغنهم عن التربية والتعليم والتزكية عند أستاذ خبير بالمصالح والمفاسد ومطلّع على الأسرار والرموز، فيشرعون بعدها بالبحث عن نبع ماء الحياة- كالعطشان الواله- فينتقلون من مدينة إلى أخرى ومن دار إلى آخر طلباً لها.
__________________________________________________
 [1]- وهو السيد أبو الحسن بني صدر.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 8
                        كلام المرحوم العلّامة في رسالة لبّ اللباب ناظر إلى ضرورة تعلّم العلوم الباطنيّة

يقول المرحوم آية الله الوالد قدس الله رمسه في مقدمة كتابه القيّم" رسالة لب اللباب" حول هذا الموضوع:
" ومن هنا يتّضح أنه من أجل إكمال النفس وطيّ مدارج ومعارج الكمال الإنساني لا يصح الاقتصار على العلوم الإلهيّة الذهنية والفكرية- كتعلم الفلسفة وتعليمها- بوجه من الوجوه.
فترتيب القياس والبرهان على أساس المنطق الصحيح والمقدّمات السليمة يُعطي الذهن نتيجة مقنعة، ولكنه لا يُشبع الروح والقلب، ولا يروي النفس من عطش الوصول إلى الحقائق وشهود دقائق السير.
فالفلسفة والحكمة وان كانت تتمتّع بالأصالة والمتانة، وتقوم على إثبات أشرف العلوم الذهنيّة والفكريّة- ألا وهو التوحيد- على أساس البرهان، وتسدّ طرق الشكوك والشبهات، وبذلك أمر القرآن الكريم وجاءت به الروايات الواردة عن الراسخين في العلم والحافظين للوحي وللنبوّة، حيث حثّت على التعقّل والتفكّر وترتيب القياس والبرهان والمقدّمات الاستدلاليّة، إلا أن الاكتفاء بالتوحيد الفلسفي والبرهاني في مدرسة الاستدلال دون انقياد القلب ووجدان الضمير وشهود الباطن هو أمر ناقص.
فتجويع القلب والباطن من الأغذية الروحيّة والمعنوية لعالم الغيب والأنوار الملكوتية؛ الجمالية والجلالية، والاكتفاء بالسير في بواطن الكتب والمكتبات، والاقتصار على الدرس والتدريس حتى وإن بلغ أعلى درجاته، لكنه ليس إلّا إشباع لعضوٍ من الأعضاء وتجويع لعضو أعلى وأرفع.
فالدين القويم والصراط المستقيم يُراعي كلا الجانبين، ويُكمل القوى والقابليّات الكامنة في الإنسان في الحالين.
فهو- من جانب- يحثّ ويُرَغِّبُ بالتعقل والتفكر، ومن جانب آخر يأمر بالإخلاص وتطهير القلب من صدأ الرواسب الشهوانية، وتهدئة القلب وطمأنة الخاطر وتسكينه. فبعد أحد عشر قَسَماً عظيماً وجليلًا يقول تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس: 9- 10)" [1].
وجاء في الدعاء المنسوب لأمير المؤمنين عليه السلام:
اللهم نوّر ظاهري بطاعتك، وباطني بمحبّتك، وقلبي بمعرفتك، وروحي بمشاهدتك، وسرّي باستقلال اتصال حضرتك، يا ذا الجلال والإكرام [2].
__________________________________________________
 [1]- رسالة لب اللباب، ص 9.
 [2]- المصدر السابق، والرسائل المجذوبية، الرسالة الخامسة، وشرح الرسالة القنوتية، ص 204، وأيضاً بحر المعارف، الطبعة الحجرية، ص 309.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 9
يطلب الإمام من الله تعالى في هذه العبارة وهذا الدعاء؛ أن يمنحه النور الحقيقي من خلال المعرفة القلبية الواقعية ومن خلال المشاهدة الروحيّة، والأفضل من ذلك والأهم هو طلب اتّصال سرّه في ذات الله الأحديّة، واندكاكه بها. وأين هذه المراتب من الاكتفاء بالعلوم الظاهرية؛ الأعم من العقلية والنقلية؟!
                        المرحوم مطهّري يعتبر من النماذج البارزة لطلّاب المعرفة الحقيقيّة

وفي مقدمة" رسالة لب اللباب" صفحة 15، يشير المرحوم الوالد إلى نماذج بارزة لهذه الحاجة وهذا الإدراك والمعرفة الحقيقية من خلال نقل قضيّة عن المرحوم آية الله الشيخ مرتضى المطهري رضوان الله عليه، فيقول:
وهذا صديقي المكرّم الذي أعزّه أكثر من أخي المرحوم آية الله الشيخ مرتضى المطهري رضوان الله عليه، والذي تمتدّ معرفتي به إلى أكثر من خمس وثلاثين سنة، فقد اكتشف بعد سنوات من البحث والدرس والتدريس والكتابة والخطابة والموعظة والتحقيق والتدقيق في الأمور الفلسفية وإعمال ذهنه الوقاد وروحه الشفافة .. اكتشف في أواخر عمره بشكل واضح وانجلى له بالعيان: أن الإنسان لا يمكنه أن يحصل على اطمئنان الخاطر وهدوء السرّ من دون الاتصال بالباطن والارتباط بالله المنان وإرواء القلب من منبع الفيوضات الربانية، وبدونه لا يمكنه أبداً أن يدخل حرم الله المطهّر أو يطوف حوله ويصل إلى كعبة المقصود.
فتقدّم إلى هذا الميدان كالشمعة المحترقة، والفراشة الهائمة حول السراج، كمؤمن عاشق ولهان قد فني في البحر اللامتناهي لذات المعبود وصفاته وأسمائه، ليتسع وجوده بسعة وجود الله تعالى.
فقيام الليالي الحالكة والمناجات والآهات في الأسحار، والتوغّل في الذكر والفكر ودراسة القرآن والابتعاد عن أهل الدنيا والهوى، والاتصال بأهل الله وأوليائه، كل هذا كان مشهوداً في سيره وسلوكه رحمة الله عليه‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 10
رحمة واسعة. لمثل هذا فليعمل العاملون ( [1])، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ( [2]).
وهنا نكتة مهمة جداً يجب التوجه إليها، وهي أن المرحوم الوالد رضوان الله عليه يذكر هذه العبارة بحق شخصية كانت معروفة لدى الجميع بمراتب الإخلاص وصفاء الباطن، ومشهورة بالاشتغال بالأمور العلميّة والمعرفية، والاهتمام بالمسائل العلميّة وأمور الوعظ والإرشاد والتحقيق والتدريس، والمحافظة على صلاة الليل منذ فترة شبابه. لكن الذي جعل الشهيد المطهري رضوان الله عليه في أواخر عمره متمايزاً عن الآخرين، والذي أضفى عليه شخصية جديدة- بحيث صار واضحاً حصوله على هذا التحوّل لجميع من يعرفه، ويظهر ذلك أيضاً من خلال خطبه وكيفيّة كلامه التي تغيّرت بين وقت وآخر- هو ارتباطه بالمرحوم آية الله الوالد السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني أعلى الله درجته، وأخذه الدستورات السلوكية منه، واتباع ممشاه ومرامه والسير وفق برامجه من الاشتغال بالأذكار والأوراد وسائر الأمور الشخصيّة والاجتماعية. ويشاهد في بعض الكتب التي طبعت وتناولت شخصيته الإشارة إلى هذه الحقيقة.
                        الحاجة إلى تحصيل المراتب العينيّة والشهوديّة هي التي أوصلت المرحوم مطهرّي إلى العلّامة

لقد كان المرحوم المطهري رضوان الله عليه عالماً خطيباً فقيهاً، وكان يشار إليه بالبنان في مجال التحقيق والتدقيق في المسائل الإسلاميّة في أبعادها المختلفة وفي بيان مواطن ضعف الآراء
__________________________________________________
 [1]- سورة الصافات (37)، الآية 61.
 [2]- سورة النحل (16)، الآية 128.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 11
وقوّتها كما كان دقيقاً في عرض عقائد الآخرين وآرائهم، وقد تتلمذ الكاتب على يديه ودرس عنده جزءً من كتاب (الأسفار) لصدر المتألهين، واستفاد جداً من تحقيقاته العلميّة والفلسفية وخصوصاً في دروس الفلسفة، ويجب القول في هذا المقام بأن له فضلًا كبيراً عليّ، فجزاه الله عن الإسلام وعنّا خير جزاء المعلّمين. لكن مع كل هذا الوصف، نسأل: ما هو العامل الذي أوجب عليه أن يسلّم زمام أموره الشخصية واشتغالاته العلميّة والاجتماعية ويضعها في يد عارف رباني وفقيه صمداني ومربٍّ للنفوس؛ المرحوم آية الله الوالد قدس الله نفسه الزكية، ويشاهد منه هذا التحوّل العظيم في أخلاقه وروحيّاته وطريقة تفكيره! أليس السبب في هذا هو إحساسه بالعطش والخلاء الوجودي في مراتبه العينية والشهودية وفي مدركاته ومعلوماته الذهنية؟ فلو كان يشعر بالغنى والاستقلال والاستقامة بشؤونه الخاصّة من خلال سعة معلوماته ومدركاته، لما تتلمذ على يد أستاذٍ سلوكيٍّ ومربٍّ أخلاقي كالمرحوم الوالد، وجعل نفسه تحت تصرّفه بوصفه تلميذاً يتربّى على يديه ويتعلّم منه ويستعين به، ولما روى نفسه وروحه من عين ماء الحياة تلك، وبعبارة أخرى لماذا لم تنعكس الأمور، ويذهب المرحوم الوالد رضوان الله عليه بخدمته ويتربّى على يديه ويأخذ منه دستوراته وبرامجه السلوكيّة بعنوان أنه تلميذ لأستاذ سلوكي؟
هنا نقترب من ذاك المطلب المهم والحياتي، وهو أن مجرّد الاطلاع على العلوم الحوزوية المتعارفة واكتساب المعلومات والمحفوظات، من دون الوصول إلى نبع اليقين وتجلّي الأنوار الإلهيّة الباهرة، وتبدّل الآراء النفسانية وتغيير النفس الأمّارة إلى نفس مطمئنة، والاستقاء مباشرة من النفس الملكوتية لمقام الولاية الكبرى عليه السلام .. سيكون أمراً لا يسمن ولا يغني من جوع. نعم يجب‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 12
التوجّه إلى أن رجوع العالم إلى مربّي النفوس ومهذب الأخلاق ليس من باب نقصه وجهالته ووجود عيب فيه، بل هذه المسألة هي عين الكمال والرشد واللطف الإلهي الذي سيكون من نصيبه، وما حصل بالنسبة للمرحوم آية الله الوالد قدس الله نفسه عند لجوئه إلى أساتذته الأخلاقيين كان من هذا الباب. وهنيئاً للشخص الذي يخطو بقدم راسخة وإيمان عميق ويضع قدمه في هذا الطريق، بعيداً عن الالتفات إلى كلام الخلق الحيارى ونقدهم وإبرامهم، ودون اكتراث بما يستصوبه الجاهلون ويستحسنوه، وبعيداً عن وساوس الإنس الخناس وغوغاء من لا خبر لديه عن عالم القدس، بل يوكل زمام أموره إلى وليّ كامل ومرشد واصل ويحرّر نفسه من كل قيد وغلال، ويرجّح الفلاح الأخروي على الحطام الدنيوي، ويفضّل الشرب من عين ماء الحياة على أماني الأوهام الواهية وسراب الاعتبارات الخاوية والتخيّلات الباطلة، ولا يتوجّه إلى الكلام الفارغ والحديث الزائف الذي يصدر من أشخاص بطّالين، بل يعمل على الاهتمام بنفسه ورفع نقائصه وعيوبه، ولا يكترث أبداً بأي لوم أو تأنيب من أحد، ولا تأخذه رهبة من كلامهم.
                        بعض أسباب اعتقاد المرحوم مطهّري بالعلّامة الطهراني‏

وهنا لا أرى استطراداً أن نشير إلى بعض الأسباب التي لفتت توجّه المرحوم المطهري رحمة الله عليه وانتباهه إلى بعض المسائل السلوكية وميله إلى المرحوم الوالد رضوان الله عليه:
القضيّة الأولى ترجع إلى سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة وأربعين هجري شمسي، أي بعد سنة من شروع حركة الثورة الإسلاميّة في إيران (الثورة الأولى التي لم يكتب لها النجاح). في صيف ذاك العام تشرّفت بالذهاب مع المرحوم الوالد رحمة الله عليه- وكنت طفلًا بحدود ثماني سنوات- إلى مشهد المقدّسة
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 13
للزيارة.
وفي ليلة من الليالي كانت هناك دعوة إلى منزل أحد علماء مشهد، للتداول في الحوادث التي وقعت بعد سنة اثنين وأربعين، والبحث في السبل الموصلة إلى طريقة مناسبة تتوافق مع مستلزمات ذلك الوقت. وكان من جملة المدعوّين في تلك الجلسة المرحوم الشهيد المطهري وشخص آخر باسم محمد تقي شريعتي، وفي تلك الجلسة التي طالت ثلاث ساعات، جرى بحث بين المرحوم الوالد رضوان الله عليه وبين الشخص المذكور حول كيفيّة نزول الوحي وحقيقة استقراره في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلاقة الآيات القرآنية بحقائق عالم الوجود، وبرأيي أن ذلك الشخص كان مخالفاً لكثير من المباني المتقنة والقويمة والحقيقية للمرحوم الوالد، ولم يكن على استعداد للقبول بها أبداً. والحاصل أن المجلس انفضّ بعد ذلك بحالةٍ من التعب وضمن جوٍّ محموم وفضاء معكّر. وبعد الرجوع إلى المنزل، قال المرحوم الوالد رضوان الله عليه لأحد الأصدقاء: لم أرتح أبداً لهذا الشخص!
وبعد مضي أشهر على هذه الحادثة، ذهب المرحوم الوالد في أحد الأيام إلى مسجد أرك للمشاركة في مجلس عزاء عن روح عالم من علماء طهران، ومن باب الصدفة كان المرحوم المطهري رحمة الله عليه حاضراً في ذاك المجلس أيضاً. وبعد انتهاء المجلس جاء المرحوم المطهري إلى المرحوم الوالد وبعد السلام والسؤال عن الأحوال قال له: لقد جاء محمد تقي شريعتي إلى طهران منذ أيام، وإذا لم يكن لديك مانع من اللقاء به نحدّد موعداً لذلك، لكن المرحوم الوالد لم يقبل، فقال له المرحوم المطهري: ائذن لي أن آتي به إلى منزلك، أيضاً قام المرحوم الوالد بردّ هذا الطلب، وقال ليس لديّ مجال لملاقاة هذا الشخص. فانزعج المرحوم المطهري بعض الشي‏ء من هذه المسألة
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 14
وتكدّر صفوه، وكلّما كان يصرّ على المرحوم الوالد بنحوٍ من الأنحاء لم يكن يصل إلى نتيجة أو يوفّق لذلك. والحاصل أنهما افترقا بعد أن يئس من إقناعه وذهب كل منهما بحال سبيله. وبعد مضي اثني عشر عاماً عن هذه القضية، التقى أحد معارف المرحوم الوالد رضوان الله عليه بالمرحوم المطهري ونقل عنه أنه قال: منذ اثني عشر عاماً وأنا أفكر في فعل السيد محمد حسين الحسيني الطهراني وتصرّفه المحيّر، وكثيراً ما كنت أرى أن رأيي في هذه المسألة أرجح من رأيه ونظري أصوب، وكنت أخطّئه في ذلك الموقف. حتى اتضحت لي بعض القضايا وعرفت بعض الأمور من خلال وقوفي على حقائق هامّة، ومنذ ذاك الحين علمت أن الحق كان مع السيد محمد حسين، وأنه كان مطّلعاً على أسرار نفسه وواقفاً على خفايا ضميره قبل اطلاعي على حقيقة الأمر باثني عشر عاماً، حيث كان منذ ذاك الزمان قد وصل إلى النتيجة التي وصلنا إليها مؤخراً وبعد مضي مدة طويلة. وهذا إن دلّ على شي‏ء، فإنما يدلّ على أنه كان ينظر في ذلك الوقت إلى هذه المسألة من أفق مختلف عن الأفق الذي كنا نحن وأمثالنا ننظر من خلاله، وكان يتلقّى المسائل من وادٍ غير عادي ولا ظاهري، ذاك الوادي الذي لا علم لنا به ولا خبر.
نعم! هذا هو الفرق بين اختلاف الآراء واختلاف الأنظار في القضايا المختلفة وفي المسائل التي لا يستطيع الإنسان وفق النظر العادي والميزان الظاهري أن يصل إلى محتواها أو أن يفهم كنهها، بل تتطلّب نظراً وراء النظر الظاهري، هذا النظر موجود فقط في النفوس المنيرة والضمائر النورانيّة لأولياء الحقّ، ولأولئك الأشخاص الذين كُشف عن أنظارهم حجاب الغيب وحجاب الجهل.
القضيّة الثانية ترجع إلى فترة نشاطه في حسينيّة
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 15
الإرشاد:
                        دعوة المرحوم مطهّري لشريعتي من أجل المحاضرة في حسينيّة الإرشاد وما استتبعها من أحداث‏

في ذاك الزمان، كان يدعو شخصاً باسم الدكتور علي شريعتي إلى حسينيّة الإرشاد للتحدّث وإلقاء بعض الخطب. وكان لدى هذا الشخص يد بيضاء في فن الخطابة وتبيين المراد وإيصال الأفكار والسيطرة على أذهان المخاطبين، وكان يسحر المستمعين بكلامه الجذّاب إلى حدّ أن كلامه كان يظهر أنه أقرب إلى السحر والتسخير منه إلى الخطابة والكلام المتعارف، وكأنّ المرحوم المطهري كان قلقاً أيضاً من هذه الطريقة ومتوجّساً منها. وعلى كل حال فقد كان هذا العالم البليغ والنقّاد يشعر بأمان من خلال بيانه الساحر، وكان رأيه فيه في بداية الأمر إيجابياً، ومنسجماً ومتعاوناً معه في سبيل تحسين العمل وتطويره، هذا إن لم نقل أن الأمر كان أبعد من ذلك.
وقد كتب المرحوم المطهري في إحدى رسائله إلى ذاك الشخص، وكانت هذه الرسالة قد كتبت في سنة 1346 هجري شمسي:
أخي العزيز العالم السيد علي شريعتي! إن قلبك يشهد على مدى حبي لك، وكلّي أمل في مستقبلك المشرق ودورك في أن تعرّف جيل الشباب على الحقائق الإسلاميّة، نسأل الله أن يزيد من أمثالك ... [1].
يمكن أن يظن البعض بأن تمجيد المرحوم المطهري لهذا الشخص ودعوته إياه كانت على أساس بعض المصالح التي اقتضتها ظروف ذلك الزمان والشروط التي فرضتها في ذلك الوقت. لكن هذا الظن ليس في محله، لأنه أولًا: لهجة هذه الرسالة تحكي عن حقيقة غير قابلة للإنكار، وثانياً: إن نفس الكاتب كان حاضراً وشاهداً على بعض اللقاءات التي كان المرحوم المطهري يجريها مع المرحوم‏
__________________________________________________
 [1]- صفحات من حياة الأستاذ المطهري، ص 211.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 16
الوالد رضوان الله عليه والتي كان يدافع فيها عن آراء ذاك الشخص وأفكاره وعقائده، وإذا كان هذا الأمر مخفياً عن البعض فهو واضحٌ وجليٌّ للكاتب تماماً.
وبعد قيام مؤسسة حسينيّة الإرشاد بنشر كتاب" محمد خاتم الأنبياء"، قال المرحوم الوالد رضوان الله عليه حينئذٍ لأحد علماء طهران وإمام أحد المساجد فيها:" يجب أن يغير اسم حسينيّة الإرشاد إلى عُمَريّة الإضلال"!.
فقام ذاك العالم المحترم بإيصال هذا المطلب إلى مسامع المرحوم المطهري، فما كان من الأخير إلا أن قام بالاتصال مباشرة بالمرحوم الوالد، وأخذ منه موعداً للقاء به للسبب ذاته. وحصلت هذه الجلسة في إحدى الليالي الشتائية الباردة في منزل المرحوم الوالد رضوان الله عليه، وطالت من الساعة التاسعة مساء حتى الساعة الثانية عشر.
في البداية قال المرحوم المطهري رحمة الله عليه: عندما سمعت هذا الكلام من جانبكم تألّم قلبي وتأثّرت كثيراً. إني وإن كنت منذ بداية النشاطات التي أقمتها في حسينية الإرشاد، قد سمعت الكثير من الانتقاد والاعتراض بل والطعن عليّ- وحتى في هذه الأيام الأخيرة حيث ذهبت إلى مسجد أرك في طهران لحضور مجلس عزاء هناك، فحينما دخلت المجلس قام الخطيب فوراً بتغيير كلامه ووجه خطابه إلي واتهمني بالتسنّن ضمن عبارات نابية وقبيحة، ووصف المرحوم الوالد (والد الشيخ المطهري) صريحاً بأنه سني ومخالف ومن المعاندين لأهل البيت عليهم السلام، حتى علم جميع أهل ذاك المجلس أن كلام الخطيب كان موجّهاً إليّ، فظهر أثر كلامه في نظرات القوم اتجاهي- لكني مع ذلك كلّه تجاوزت عن هذه الأمور ولم تؤثر فيّ شيئاً. أما كلامكم هذا فقد أثّر فيّ كثيراً وأقلقني بحيث سلب مني نومي وطعامي، فماذا
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 17
رأيت من الأمور المخالفة لمدرسة أهل البيت وعقيدتهم في هذه المؤسسة حتى تعبّر عنها بهذا التعبير؟!
                        ذكر بعض إشكالات المرحوم العلّامة على شريعتي وتأليفاته‏

فأشار إلى بعض الأمور التي جرت وبعض المسائل التي حصلت في حسينية الإرشاد، وذكر من جملة تلك الأمور المقالة التي أدرجها علي شريعتي في كتاب" محمد خاتم الأنبياء" [1]، والتي صرّح فيها بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أيّد إمامة أبي بكر للصلاة جماعة بالمسلمين، وأنه أظهر رضاه باجتماعهم على الاقتداء به.
فشرع المرحوم المطهري بالدفاع عن محتوى المقالة المذكورة، وقال: هذا المطلب منقول عن كتاب" تاريخ الطبري"، وما الإشكال في النقل عن مصدر غير شيعي!!
فأجابه المرحوم الوالد رضوان الله عليه: كيف تتفوّه بهذا الكلام؟ فأنت تنشر هذا الكتاب باسم التشيّع وباسم حسينية الإرشاد وتحت عنوان الترويج لمباني مدرسة التشيع، وتقوم بنشره في جميع المدن وتوصله لجميع القرّاء وترسله إلى كافة المجامع العلميّة، وسوف يعتبر جميع المطّلعين على هذا الكتاب أنه متطابق مع مدرسة التشيع، وسيعتقدون بأن مطالبه قد أخذت من مباني التشيع الأصيلة، فكيف تقول: ما المشكلة في الأخذ من مصدر غير شيعي والاستفادة منه! هل أنت في بلد يسكنه أهل العامّة! أليس تبيين وتوضيح المباني الأصيلة للتشيّع بعهدتك وعهدة أمثالك؟ وهل يمكن للإنسان أن يضع الحق تحت قدمه ويتنازل عن أصوله اليقينية ومسائله المتقنة تحت أي ذريعة وبأي سبب؟! فإذا أخرجت هذا
__________________________________________________
 [1]- محمد خاتم الأنبياء (فارسي)، ج 1، ص 369.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 18
الكتاب الذي يحتوي على مطالب مخالفة للواقع ومخالفة للحق من وسط مجتمع شيعي ونشرته وأوصلته إلى كل مكان، فماذا سيكون جوابك عندما تنحرف أذهان بعض الأشخاص الذين يطّلعون على مضامين هذا الكتاب، ويبنون إيمانهم واعتقاداتهم على أسسه المخالفة؟!
عندها طأطأ رأسه، ثم رفعه بعد لحظات وقال: نعم الحقّ معك، لقد كان انتشار هذه المطالب اشتباهاً فادحاً.
وبعد ذلك بدأ الحديث عن سائر أفكار ذاك الشخص وعقائده وطريقه، وقال المرحوم الوالد رضوان الله عليه للمرحوم المطهري بصراحة: إن هذا الشخص لا يعتقد أصلًا لا بالوحي ولا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ويعتبر أن ظهور الأنبياء الإلهيين هو مجرّد حركة ثوريّة عاديّة متولّدة في ذاك الزمان الخاص بهم، تهدف إلى الوقوف في وجه حالات الظلم والجور، والحاصل أنه يرى أن ظهور الأنبياء عبارة عن نهضة اجتماعية قامت من باطن مجتمع مظلوم، وأيّدها أشخاص عانوا من ظلم السلطة لطرد الحكام والقضاء على ظلمهم، وجميع أفكاره قائمة على أساس نظرة مادّية للمجتمع وترجع إلى أصول اجتماعية. وأما ما يراه بعضهم من أنه سني المذهب فهو أمر غير صحيح، لأنه غير معتقد أصلًا بأبي بكر وعمر كي يكون معتقداً بآرائهما، بل لا يقبل بالوحي من أساسه وينكر الاتصال بالغيب، ويرى نزول الملائكة وجبرائيل على أنه هباء. وبشكل عام مثله كمثل مؤسسي مذهب البروتستانت مقابل مذهب الكاثوليك، فقد كان في صدد إنشاء مذهب بروتستانتي إسلامي بحيث يفرغ الدين الواقعي المستقى من الوحي عن مضمونه الجوهري ويخرجه عن بعده الغيبي ويجرّده عن حقائق عوالم الغيب، ويكتفى فقط بالاهتمام بالظواهر المريبة والعقائد المتكوّنة في نفسه والمطابقة للأفكار
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 19
الجوفاء والمفاهيم الخالية التي تجذب العوام، ويقدّم الدين على أساس القوانين الدنيوية والأنظمة الحديثة. ولا شكّ أنّ خطر هذا الشخص أشدّ من خطر أهل السنة وضلالتهم بآلاف المرات.
                        معارضة المرحوم مطهّري لأفكار وعقائد شريعتي بعد لقائه بالمرحوم العلّامة

هنا اعترف المرحوم المطهري رحمة الله عليه بجميع هذه المطالب وأقرّ بجميع الإشكالات، ومنذ تلك الليلة قرّر أن يواجه عقائد علي شريعتي ويعارض طريقته وممشاه، وتعهّد للمرحوم الوالد رضوان الله عليه أن يبدأ بمواجهة هذه الحالة بتمام قدراته من اليوم التالي، وللإنصاف فقد وفى بتعهّده ولم يفوّت على نفسه منذ ذاك الوقت أيّ فرصة في سبيل فضح المباني الفاسدة وبيان مواضع الانحراف والاعوجاج في أفكار هذا الرجل. وقد كتب للمرحوم آية الله الخميني رسالة يوضح فيها هذا الاختلاف الفاحش والتبدّل الكبير في موقفه من عقائده المنحرفة والذي بلغ مائة وثمانين درجة، وقد كتب هذه الرسالة سنة ألف وثلاثمائة وستة وخمسين هجري شمسي، وجاء فيها:
الرابعة مسألة شريعتي ... لكن أرى في هذه الأوقات أن هناك فرقة ليست على علاقة صحيحة بعقيدة الإسلام، ولديها ميول نحو الانحراف، وهي تسعى لإنشاء كيان خاص بها تجعل منه صنماً، بحيث لا تجرؤ أي جهة روحية في أن تظهر رأيها مقابل هذه الفرقة ... عجباً! يريدون أن يبنوا مجتمعاً إسلامياً جديداً معارضاً للدين والتديّن بواسطة خلاصة أفكار ماسينيون- مستشار وزارة المستعمرات الفرنسي في شمال أفريقيا ورئيس المبشرين المسيحيين في مصر- والأفكار المادّية لغوريوش اليهودي، وأفكار جان بول سارتر الوجوديّة، المعروفة بأنها ضد الله، مضافاً إلى عقائد دوركهايم. إذا كان كذلك فعلى الإسلام السلام. قسماً بالله إذا اقتضت المصلحة يوماً ما في أن نتابع أفكار هذا الشخص وندرسها دراسة تفصيليّة، ونقايس أساسها بالأفكار الإسلاميّة الأصيلة، فسوف نجد أنها تتخالف مع الإسلام وأصوله بشكل فاضح، فضلًا عن‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 20
أنّنا سنكتشف بأنها لا ترتكز على أساس أصلًا ... [1]
والحاصل، أن المرحوم المطهري بعد تلك الليلة التي جلس فيها مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه اتخذ مساراً آخر في علاقته معه، فقد اكتشف أن هناك أموراً أخرى كامنة وراء ما كان قد شاهده المرحوم الوالد أو سمعه، وعليه أن يبحث ويستكشف مسائل أخرى في شخصية هذا الرجل.
ومن المهم جداً الإشارة إلى المسألة التالية، وهي أن المرحوم الوالد رضوان الله عليه يبين بالتفصيل في كتاب" الروح المجرد" [2]، قصّة تشرّف المرحوم الشهيد آية الله المطهري بالحضور عند الحاج السيد هاشم الحدّاد أعلى الله درجاته، حيث ينقل أيضاً عن المرحوم المطهري أنه قال بعد لقائه السيد الحداد: إن هذا الرجل- السيد الحداد- يبعث الحياة والروح في الإنسان. لكن حتى ذلك الوقت لم تكن العلاقة بين المرحوم المطهري والمرحوم الوالد قد توطّدت بعد، وإن كان هناك لقاءات بينهما من فترة إلى أخرى، سواء في منزله أو في المسجد أو في مكان آخر، ولم تكن هذه العلاقة لتتعدّى الحدّ الطبيعي، والظاهر أن تلك الأرضيّة لم تكن قد تهيأت بعد، والأجل لم يحن والاستعداد اللازم لحصول تبدل في الأفكار وشروق البارقة الإلهيّة في قلبه وانكشاف أفق جديد في مدركاته ونظرته للعالم .. لم يكن قد وصل إلى أوجه.
                        تبدّل الحالات الروحيّة للمرحوم مطهّري وجلساته الأسبوعيّة مع المرحوم العلّامة

ومنذ تلك الليلة صار لديه جلسة أسبوعياً مع المرحوم الوالد في منزله، ولم يكن أحد على علم بهذه المسألة سوى سائقه وبعض الخواص المنتسبين‏
__________________________________________________
 [1]- سيرى در زندگاني استاد مطهري (فارسي)، الطبعة الأولى، ص 82
 [2]- الروح المجرد، من صفحة 166 إلى 171.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 21
إليه. وشيئاً فشيئاً ظهرت آثار هذه الجلسات وهذه العلاقة على كلماته وفي خطبه، ويذكر المقرّبون منه وكلّ الذين كانوا على علاقة به هذا التحوّل والتبدّل في خطابه. فقد أثّر جلوسه مع الأولياء الإلهيين في مسار حياته وأدّى إلى تغييرها بشكل كلّي، كما تغيّرت علاقته بأصدقائه السابقين ومعاشريه، حيث انجرّت الأمور إلى معارضته لهم ومواجهتهم، ومن ثم إلى تركهم ومحاربتهم.
وكان هذا التبدّل تبدّلًا تكوينياً في حياته، بحيث أن الكثير من الأشخاص يتذكّرون ذلك، ويعلمون أن سبب هذا التحول هو ارتباطه بالمرحوم الوالد رضوان الله عليه، وهذا ما كان واضحاً وجليّاً في نفس شخصيّة المرحوم المطهري؛ فقد كان سهلًا على الأشخاص الذين يعرفونه أن يشاهدوا تبدّلًا في حالاته الروحيّة وتفاوتاً في خطاباته عما كانت عليه في السابق، وبشكل عام كانوا يرون في أخلاقه وملكاته تبدّلًا كبيراً. ويحدثنا هو بنفسه عن هذا التحوّل والاختلاف من خلال ما كتبه في هذه الرسالة:
مضافاً إلى أني أعيش في وضع روحي مختلف عن ذاك الذي كنت أعيشه من قبل، وأصبح لدي تجارب خاصّة لم تكن عندي سابقاً. وأما الأسباب الروحيّة التي لا أرغب أن أبوح بها لأحدٍ، فهي أني أشعر برغبة شديدة في الحال الحاضر إلى التفرّغ لتربية روحي وإصلاح نفسي، وقد وضعت نفسي بتصرف بعض الأشخاص الذين أعتقد بهم لغرض التربية الروحيّة، ولهذا السبب فأنا بأمسّ الحاجة إلى الراحة والهدوء كي أطبق مثل هذا البرنامج ولا أرغب في المشاركة بأعمال لا طائل منها ولا فائدة لي فيها، باستثناء المواجهة المنطقية التي لها اعتبار خاص [1].
لقد كان شوقه كبيراً جداً في علاقته بالمرحوم الوالد رضوان الله عليه وأخذ الدستورات منه، وكان يأخذ منه الإجازة حتى في مسائله الاجتماعية وأموره التبليغية. وفي أحد الأيام‏
__________________________________________________
 [1]- سيرى در زندگانى استاد مطهرى (فارسي)، 86 و 87.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 22
كنت حاضراً عندما طلب من المرحوم الوالد إجازة للمشاركة في نشاطات مسجد الجواد والتصدّي لأموره، كما كان يضع رأي المرحوم الوالد نصب عينيه دائماً في جميع برامجه الأخرى. ومن جهة أخرى، كان المرحوم المطهري يفعل ذلك في وقت كان على علاقة مميّزة بالكثير من العلماء وأساتذة الحوزة ومراجع التقليد الذين كانوا يُعرفون عند الناس بالعظمة وعلو المنزلة.
وأذكر جيداً عندما سافر إلى العتبات العالية في أواخر سلطة الشاه پهلوي، حيث ذهبت مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه لزيارته بعد عودته من السفر، وقد ذكر مفصّلًا مجريات سفره ولقائه بالعلماء الكبار وخصوصاً لقائه بآية الله السيد الخميني رحمة الله عليه، ثم قال: لكن الشي‏ء الذي بقي في خاطري من هذا السفر، والزاد الذي اكتسبته فيه هو لقائي بالحاج السيد هاشم الحداد أعلى الله تعالى درجاته، وكان يصف لقاءه به بشغف كبير وشوق عجيب، وكأنه تغاضى عن سائر اللقاءات الأخرى، ولا زال يتنعم بآثار لقائه به ويتلذّذ من فيض حضوره أمام تلك النعم والفيوضات التي لاقاها هناك.
وهنا لا يلوم الحقير (الكاتب) نفسه إذا أشار إلى بعض الحقائق والمسائل الضرورية التي يجب على السالك أن يلتفت إليها في ارتباطه بموضوع التهذيب والتربية والسير إلى الله، مستمداً العون في ذلك من الروح الطاهرة لهذا المرحوم الذي أقطع بأنه يؤيّد ويرغّب الكاتب من عالمه القدسي ويشجّعه كي يوضح تلك المسائل ويبيّنها. وذلك لأني أعلم حقاً وأرى عياناً أن نفس هذا المرحوم كان همّه وغمّه طوال حياته منصبّاً على هداية الناس وإرشادهم وإصلاح النفوس ورفع مهالك الجهل والغواية، ومن الطبيعي أن يقدّم يد العون بأنفاسه القدسية إلى ذاك القلم‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 23
الذي يتحرّك ضمن هذا الإطار ويكتب للوصول إلى هذا الهدف.
                        الشرط الأساسي في مسألة التربية والتهذيب هو الانقياد الكامل للأستاذ

ولا شك أن سرّ الموفّقية في هداية وإرشاد الحكيم الإلهي ومربي النفوس هو تسليم السالك وانقياده الكامل وتفويض إرادته واختياره إلى أستاذه الكامل، وأن يستبدل إرادته واختياره بإرادة أستاذه واختياره. وتعدّ هذه المسألة من المسلّمات ومن الأصول غير القابلة للترديد في موضوع التربية والإرشاد، ومع عدم التوجه إلى هذه النكتة لا شك أن السالك سينحرف عن مساره، ولن يحصل على أي فائدة من ارتباطه بالأستاذ الكامل، بل سوف يضيع عمره ويتسبّب في أذيّة أستاذه. وبناء عليه، فبمقدار ما يضع الإنسان نفسه تحت تصرّف وتربية الوليّ الكامل والأستاذ الواصل، فإنّه سيحصل بنفس ذاك المقدار على المواهب الإلهيّة والعنايات الربانية، وكذلك سوف تسمو نفسه وتحقّق فعليتها بالمقدار ذاته. وكلّما تساهل الإنسان بالاهتمام بهذه المسألة فسوف يُحرم من الفوز بهذه النعمة، وهذا مما لا مجال للشك والترديد فيه. وطبعاً سوف نتحدّث عن هذا الموضوع في القريب العاجل بشكلٍ وافٍ ونوضح ذلك تفصيلًا إن شاء الله.
لقد قضى المرحوم الوالد رضوان الله عليه سبع سنوات من التعلم والتربية على يد العلامة الطباطبائي قدّس الله رمسه بشكل مباشر، وسبع سنوات أخرى بشكل غير مباشر، واستفاد من محضر علماء الأخلاق، لكنه عندما التقى بالسيد الحداد رضوان الله عليه قام بتسليم تمام وجوده إليه وإلى إرادته واختياره، ولم يترك لنفسه أي اختيار في جميع أموره الشخصية والاجتماعية والتربوية. وجميع الأشخاص الذين كانوا على‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 24
اطلاع بعلاقته بالمرحوم السيد الحداد والذين كانوا قريبين من مجريات هذه العلاقة والمعاشرة، يشهدون بهذه الحقيقة المهمّة وهذا التقدير المفصلي، ومن هنا كانوا ينظرون إليه بهذا اللحاظ بأنه في أقصى رتبة من مراتب التسليم ومنتهى منزلة من منازل التفويض.
وعندما كنا بخدمته وتشرّفنا معه بالذهاب إلى العتبات العالية بعد عودتنا من حج بيت الله الحرام، ذهبنا يوماً إلى منزل السيد الحداد وقال له في حضورنا: لو كان هذا الكوب مملوءاً دماً وأمرتني أن أشربه، لامتثلت الأمر دون أن أتردد لحظة في ذلك.
وبعد أن خرج الوالد من الغرفة، نظر إلينا المرحوم السيد الحداد وقال: انظروا إلى هذا الرجل كم هو متواضع، وكم هو متخلٍّ عن نفسه في مقابل الحق، بحيث يقول أنا مستعد للقيام بأي أمر تأمرني به دون استثناء، حتى لو كان الطاعة واصلة إلى هذا الحد.
ومن الضروري أن نلتفت إلى النكتة التالية: وهي أن المرحوم الوالد رضوان الله عليه عندما طرح هذه المسألة على السيد الحداد كان عمره قد تجاوز سن الخمسين، وكان بنظري- من جهة اطلاعه على المباني العلميّة والفقهية- يعتبر أعلم علماء عصره، وبتعبير السيد الحداد كان" سيد الطائفتين" (أي سيد العلوم الظاهرية والعلوم الباطنية والكشفية)، بل كان نفس المرحوم السيد الحداد يقلّده في الأمور الفقهية. وعليه فإن هذه المسألة من المسائل المهمة التي يجب التوجه إليها وأخذها بعين الاعتبار، ويجب أن تقاس الأمور وتدرس من خلال خصوصياتها وشرائطها.
لقد كان المرحوم الوالد يأخذ تكليفه من أستاذه في جميع أموره الشخصية والاجتماعية، وإنشاء الله سنشير إلى بعض هذه الأمور لاحقاً. نعم‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 25
لقد صار العلامة الطهراني هكذا حيث فعل هذه الأمور!
وفي أحد الأيام قال المرحوم السيد الحداد رضوان الله عليه للحقير:
اعلم أنه لن يوجد مثل والدك على الكرة الأرضية، وكل ما هو موجود عندي فقد سلّمته لوالدك.
والحاصل أن المرحوم المطهري رحمة الله عليه كان ينظر إلى المرحوم الوالد رضوان الله عليه بعنوان أنه مرآة تعكس جلوة السيد الحداد قدّس سره، وإن كان نفس المرحوم الوالد يقول كراراً ومراراً: أنا صفر مقابل السيد الحداد، وليس لدي أي وجود من نفسي. وقال يوماً لأحد الأرحام: كل ما أتفوّه به وما أقوله فهو كلام الحاج السيد هاشم، ولست أطرح شيئاً من تلقاء نفسي.
                        عدم تحفّظ المرحوم العلّامة في تبيين المسائل المتعلّقة بالتكامل المعنويّ‏

وبما أن المرحوم المطهري كان يعتبر أن السيد الحداد هو شخص يختلف عن الأشخاص الآخرين- مهما بلغوا من العلوّ والرفعة- وأن حقيقته مختلفة عن حقيقة المظاهر الأخرى، لذا فقد حاول الاستفادة مهما أمكن وبقدر التوفيق الإلهي من المرآة التي تعكس وجود السيد الحداد بتمامه؛ فنهل من محضر المرحوم الوالد رضوان الله عليه. وقام المرحوم الوالد من جهته بالاهتمام به في مجالات تربية نفسه وتنوير ذهنه وتصحيح فكره ورشده المعنوي وعبوره عن عقبات النفس والكثرات الدنيوية، ولم يبد أي تذمّر أو ضيق صدر في سبيل ذلك، ولم يكن يخفي عليه أي أمر للوصول إلى هذا الهدف، كما أنه لم يترك فرصة في مجال تعريفه على الحقائق وإطلاعه على خصوصيات بعض الشخصيات إلا واستغلّها.
والحاصل: بما أن المرحوم الوالد رضوان الله عليه كان يشعر بأن عدم معرفة المرحوم الشهيد
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 26
المطهري رحمة الله عليه لبعض الأمور والأحداث والشخصيات معرفة صحيحة وواقعية، من الممكن أن تسبب بعض المشاكل والمصاعب في سيره وسلوكه، ولن يستطيع أن يستفيد من هذه الفرصة الإلهيّة الكبيرة- التي أنعم الله بها عليه والتي لا تحصل لأي إنسان- بالشكل المطلوب .. قام بتوضيح منازل الطريق ولوازم العبور وحركة السالك توضيحاً لطيفاً وعمل على تبيينها بشكل ظريف، مستغلًا في ذلك المجالات المختلفة والظروف المناسبة، كما عمل على بيان العقبات التي يصعب عبورها ومخاطر الطريق الموبقة، ونبّه على دسائس قاطعي السبيل، ووساوس المتربّصين على الطريق الموصل للمطلوب وشباك إبليس، وحذّر من تغلّب الهوى والإحساس على قوى العقل وجنود الرحمان.
                        تقلّص ارتباط المرحوم مطهّري بالعلّامة مع دخوله في مسائل الثورة

وقد أخذت علاقة المرحوم المطهري في أواخر حياته بالمرحوم الوالد رضوان الله عليه شكلًا آخر، خصوصاً بعد ظهور مجريات الثورة وأحداثها، وكأن دخوله في مسائل الثورة وتواصله مع أشخاص آخرين وصرفه الوقت في حلّ المشاكل والأمور المختلفة والاشتغال غير المسبوق بمسائل الثورة ... قلّلت من شدّة ذاك الهوى وتلك العلاقة، مما أدى إلى صرف توجهه التام الذي كان نحو الأستاذ إلى جهات أخرى، وانعطف ذاك التعلّق الذي كان موجباً للارتباط الوثيق بين ضمير السالك وأستاذه إلى التعلّق بأمور مغايرة. فكانت الأفكار والميول تصرف في اتجاه آخر وصارت استشارته لأستاذه وكسب إجازته أقل مما كانت عليه، فقد وضع أستاذه الإلهي جانباً في أهم المسائل المصيرية في الحياة والموت وفي الأمور الموجبة للسعادة والفلاح الأبدي والصلاح الأخروي، وسيطرت عليه أحداث الثورة وأغرقته‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 27
في شؤونها. وبطبيعة الحال لم يعد لدى الأستاذ ذاك الارتباط السابق به، فقام بخفض لقائه به من مرة في الأسبوع إلى مرة في الأسبوعين، وبرزت بعض الفوارق في كيفيّة كلامه معه عما كانت عليه في السابق؛ حيث كان في أول أمره يأخذ إجازة أستاذه في مثل الحضور في مسجد الجواد، أما في آخر أمره فلم يعد يسأل أستاذه في مسائل أهم بكثير وأشد حساسية من تلك، بل كان يخبر المرحوم الوالد فقط- بعنوان خبر لا أكثر- ببعض هذه الأمور ويطلعه عليها.
وفي أحد الأيام قلت للمرحوم الوالد رضوان الله عليه: رأيت في المنام الليلة السابقة أنّنا كنّا جالسين في غرفة، وكان المرحوم المطهري جالساً مقابلك، وكنت تتحدث وتبين بعض المطالب التي لا أذكرها الآن، وكان المرحوم المطهري مطأطئاً رأسه إلى الأرض، والحال أنه لم يكن يقبل بالكلام الذي تذكره وتتحدث به، لكنه لم يتفوّه بكلمة من باب الاحترام والأدب، وبقي صامتاً مصغياً لكلامك إلى أن انتهيت من بيانه. فقال المرحوم السيد رضوان الله عليه: نعم الأمر كذلك، فهو لم يسلّم من وجوده لنا إلا بمقدار العشر، والآن أعماله ليست كالسابق، فلم يعد يسأل عن شي‏ء؛ فحتى سفره إلى فرنسا للقاء قائد الثورة هناك قام به دون أن يسألني أو يستشيرني في ذلك، بل جاءني قبل سفره بقليل فقط وقال لي: إني عازم على السفر إلى فرنسا، فهل لديكم شي‏ء أقوله للسيد الخميني؟ فذكرت له بعض المسائل:
                        بعض اقتراحات المرحوم العلّامة لقائد الثورة الفقيد عن طريق المرحوم مطهّري‏

الأولى: إنه يتحدث كثيراً، وكثرة الحديث والتصريح تقلل من أهمّية كلامه وأثره، وأرى من الأفضل أن يتحدث في الأسبوع مرة أو مرتين لا أكثر.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 28
والثانية: قل له أن يجعل ميزان حركته وسكونه وعزمه على الأمور وإقدامه على اتخاذ المواقف في الأحداث الجارية، على أساس تحصيل الرضا الإلهي فقط، لا على أساس ما يرضى به الناس. ويجب أن يرى أين هو رضا الله ويعمل به، وإن كان بنظر الناس أمراً غير لائق، أو أنهم ينظرون إليه بأنه أمر متخلّف أو قديم أو أنه بعيد عن متطلّبات الدنيا ومجرياتها المعاصرة. وبعبارة أخرى: الواجب على الناس أن يجروا خلفك، لا أن تنظر أنت إلى مطلوبهم وتبحث عن ميولهم وما يتوافق معهم، فكثيراً ما تكون رغبة الناس وميولهم على خلاف الرضا الإلهي والمصالح الأخروية (1)، وقل له: إن هؤلاء الناس الذين يُقبلون عليك اليوم، من الممكن أن يدبروا عنك في يوم من الأيام.
الثالث: قل له: لماذا أضفت في رسائلك كتابة التاريخ الهجري الشمسي على الهجري القمري (حيث كان في السابق يكتب التاريخ الهجري القمري فقط)؟
فقال المرحوم المطهري: أنا كنت السبب في هذا الأمر، فقد اقترحت عليه أن يضيف التقويم الشمسي إلى القمري!
أضاف المرحوم الوالد رضوان الله عليه، عندها قلت له: بأيّ دليل شرعي قدّمت هذا الاقتراح؟ فطأطأ المرحوم المطهري رأسه، وبعد أن سكت فترة طويلة قال: نعم الحقّ كما تقول، لقد اشتبهت في ذلك.
وعلى كل حال، فكما ذكرنا سابقاً لقد أدى ميله وتعلّقه بأشخاص آخرين إلى تبدّل حاله، وهذه المسألة كانت مشهودة في كلامه وعباراته وخطاباته بشكل واضح، مما أدى إلى أن يتعامل معه أستاذه بالطريقة ذاتها ويتعرض لهذه التغييرات والتبدل في العلاقة معه. وهنا أسرار ومعان ذات مضامين عالية سوف نشير إليها لاحقاً
__________________________________________________
1- يقول الحقير هنا: غير خفيّ على أهل العلم والمعرفة أهميّة هذا المطلب، وأهميّة العمل به وأنه من الأمور الراقية والعالية جداً.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 29
إذا وفقنا الله تعالى لذلك، وبشكل مجمل نقول: إنّ أول نتيجة لهذه التحوّلات والتغييرات هي عدم التوجّه الباطني والولائي‏
وعدم الالتفات إلى أعمال وتصرّفات المرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه، التي تركت الباب مفتوحاً أمام الأيادي الشيطانيّة للقيام بالعمل الخائن والجبان لاغتيال المرحوم الشهيد المطهري رحمة الله عليه، فرمته الأيادي المجرمة بسهام إبليس، وحرمته العصابات المنحرفة من نعمة الحياة، فرحمة الله عليه رحمة واسعة، اللهم أدخله في أعلى علّيين واخلف على عقبه في الغابرين واحشره مع أوليائك الصالحين، بمحمد وآله الطاهرين.
وإذا كان هذا المرحوم لم يستطع أن يوصل استعداداته في هذه الدنيا إلى مرحلة الفعلية بالشكل المطلوب والمتوقّع من شخص مثله؛ يتمتع بهذا الإيمان والإخلاص والإنصاف ويمتلك هذه الحمية الدينية، وذلك لكثرة انشغاله وتراكم أعماله واشتغاله بالكثرات، فنسأل الله تعالى أن يقدّر له التوفيق ليتم طريق تكامله، ببركة نفوس الأولياء وبالاستمداد من أئمّة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأن يمن الله عليه بجعل مكانه مع أوليائه المقربين فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [1].
                        بيان علاقة المرحوم مطهّري بالعلّامة هو لتوضيح دقّة الطريق‏

__________________________________________________
 [1]- سورة القمر (54)، الآية 55.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 30
وهنا ألفت انتباه القرّاء الأعزّاء إلى مسألة وهي- كما أشرنا سابقاً- أن ذكر العلاقة التي كانت قائمة بين المرحوم الشهيد المطهري رضوان الله عليه وبين السيد الوالد قدس الله رمسه وما كان قد جرى بينهما، إنما هو لأجل تنوير الأفكار فقط وتبيين الطريق وبيان دقّة المسير، والإشارة إلى الأهميّة القصوى التي تتّصف بها هذه المسألة وضرورة الالتزام بها. ولا ينبغي التشكيك أبداً في علوّ درجات هذا المرحوم أو التردّد في حسن سلوكه، والله يعلم كم من البركات التي اكتسبها من خلال المحبّة والمودّة التي كان يكنّها للمرحوم الوالد رضوان الله عليه ومن خلال الالتزام معه، بحيث لم ينل من هذه البركات أحد من رفقاء سلوكه، بل بقوا محرومين منها بشكل كلّي. وهناك الكثير من الأشخاص المعروفين الذين كانوا في زمن المرحوم الوالد يكنّون له الاحترام ويميلون إليه ويحبّونه، انقلبوا بعد مدة من الزمن نتيجة بعض الأحداث التي جرت وغلبة النفس الأمارة، ولم يكتفوا فقط بالوقوف جانباً والابتعاد عن مسلكه وطريقه، بل وقفوا في الجهة المقابلة وشرعوا بالافتراء عليه والطعن‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 31
به ومخاصمته بشدة، فبدّلوا التوفيق لمصاحبة هذا الرجل الإلهي ومرافقته إلى النقمة والخسران والهلاك، اللهم اجعل عاقبة أمرنا خيراً، ولا تجعلنا من زمرة؛ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [1].
وهنا يعترف الكاتب واقعاً بأنّه لم يعرف قدر نعمة هذا الرجل العظيم، كما أنّه لم يدرك أهمّية هذا المربي الإلهي والأب النادر الوجود. وسوف تبقى الحسرة تلازمنا إلى آخر عمرنا من تضييع فرصة الاغتنام منه وهدر الأوقات في الاستفادة منه.
__________________________________________________
 [1]- سورة الكهف (18)، الآيتان 103 و 104.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 33
                        المجلس العاشر: وجوب الرجوع إلى الإمام عليه السلام أو الإنسان الكامل والعارف الواصل بدليل العقل والشرع‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏
الحمد للَه ربِّ العالمين، وصلّى الله على محمَّدٍ وآلِهِ الطاهِرِين‏
ولعنةُ الله على أعدائِهِم أجمعين‏
نعود الآن إلى أصل المطلب وضرورة الانقياد والإطاعة المحضة والتسليم التام مقابل الأستاذ العارف والواصل الكامل، وهنا سوف نبحث هذا الكلام ونقسمه إلى الجهتين الثبوتيّة والإثباتيّة، أو جهتي الوجود والمعرفة.
القسم الأول هو أن نعرف على من يطلق لفظ الأستاذ الكامل والعارف الواصل؟ وما هي الشروط التي يجب توفرها في شخصٍ معيّن حتى يكون قد تحقّق بحقيقة العرفان والتوحيد، وبالتالي يصح أن يطلق عليه عنوان العارف بالله ويصدق عليه ذلك؟ وكيف يتم تمييزه عن سائر الأشخاص الآخرين مهما كانوا وإلى أي فرقة ونحلة انتسبوا، وإلى أي مرتبة كمالية وصلوا؟ وكيف يمكن التفريق بينه وبين مدعي مراتب التوحيد والولاية، بل بينه وبين الأشخاص البارزين والصالحين والمتخلّقين بالأخلاق الحميدة والملكات الفاضلة؟ وما هي نقاط ضعف المدّعين مقابل نقاط القوّة التي يتمتّع بها؟ وكيف يمكن أن تكون صورة الحيثيّات الاستعداديّة لهم مقابل الحيثيّات الفعليّة لأهل التوحيد؟ ومن الطبيعي أن نبحث أيضاً في نقاط كماله وتربية نفسه وتزكيتها وتهذيبها، مقابل الخطرات والمهالك وإضاعة الفرص وإتلاف العمر والوقت، وتضييع الاستعدادات والجهات الكماليّة بالنسبة للآخرين، وكيفيّة الأخذ بأيديهم في ذلك.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 34
يقول تعالى في الآية الشريفة:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( [1]).
والمعنى" لم يُمنح أحد من الناس الحقّ بأن يعطيه الله تعالى الكتاب والحكم- إدراك الحق والباطل والتمييز بينهما- والنبوة، ثم يدعو الناس إلى نفسه ويجعلهم عباداً له مقابل الله تعالى، ويقدّم إطاعته على إطاعة الله والانقياد له ويرجح مشيئته على المشيئة الإلهيّة. لكن الطريق الصحيح وسبيل الحق هو أن يكون هؤلاء الأشخاص ربّانيين، أي منتسبين إلى الرب بحيث يكون الرب هو الذي يشبع حقيقة وجودهم، وليس لهم أي تعلق أو ميل إلى ما سوى الرب تعالى، بل لا يحصل في أنفسهم خطور سواه. وذلك لأنهم يدرّسون الناس الكتاب الإلهي ويعلّمونهم قوانينه. كما لا يمكن أن يأمر الله بأن تجعلوا الملائكة والأنبياء بعنوان أرباب وتضعوهم في مقام الأمر والنهي مقابل ربوبية الله ومقام أمره ونهيه. فهل يعقل أن يأمركم بالكفر بعد أن هداكم للإسلام؟".
                        عدم قبول الله تعالى لأيّ دعوة في مجال الهداية سوى الدعوة إليه.

في هذه الآية الشريفة يبيّن الله تعالى أنه ليس هناك أي تكليف من أحد سوى التكليف المنتسب إليه، ولا دعوة إلى أحد سوى الدعوة إليه، وتأبى عليه غيرته وقاهريّته أن يقبل أي غير في مقابله، ويبطل كل حكم مخالف لإرادته ومشيئته، بل إنما يرضى فقط بالحكم الصحيح الذي لا تشوبه أدنى شائبة من الكثرات، ولا دخل فيه للنفس والتعلّقات الشخصيّة. بمعنى أن لا تعود الدعوة
__________________________________________________
 [1]- سورة آل عمران (3)، الآيتين 79 و 80.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 35
ناشئة من النفس، ولا يبقى أي انحراف عن جادة الصواب وعن الخط المستقيم في الأمور التي يمكن أن تتدخّل فيها المصالح الشخصيّة والمنافع النفسيّة وتؤثر على صدور الأحكام ووضع القوانين أو رفعها.
وفي هذه الصورة يمكن لنا أن نعتمد على هذا الشخص باعتبار أنه شخص أمين وموثوق في صدور الأحكام والدعوة إلى سبيل الله، ويمكن أن تفوّض إليه مهمة تربية النفوس وأن يسلّم زمام الأمور. أما في غير هذه الصورة، فمن الممكن أن يحصل في مسألة الهداية والإرشاد وإجراء الأحكام والإلزام بالتكاليف خلط بين الأحكام الواقعية والتكاليف الإلهيّة من جهة وبين تصرّف النفس الأمّارة وتدخّلها وسيطرة نفوذها وإعمال السليقة القائمة على أساس الأهواء الباطلة واختلاطها بعالم الكثرات والاعتباريّات ورعاية المصالح والمفاسد الدنيويّة من جهة أخرى، وبناء عليه فليس من البعيد أن تكون هذه الأمور موجبة لغواية الأشخاص وضلالهم وهلاكهم، فبدلًا من أن تسوقهم نحو عالم النور ورفع الحجب الظلمانية لعالم الشهوات والآراء الباطلة والتقرّب إلى حريم القدس الإلهي والتجرّد والغفران، تكون سبباً لوقوعهم في مستنقع التخيّلات وعالم الصور والمجاز والوقوف في المراتب الدنيا لعالم النفس والركود في عالم الكثرات والأوهام. بل إن احتمال هذا الأمر قوي جداً وهو أمر خطير حقاً، لأن الانقياد للأحكام الإلهيّة لا يوجب المفسدة والانحراف أبداً، فهي موجبة دائماً للقرب من الحق تعالى والبعد عن الباطل، بل الذي يوجب الانحراف هو الآراء الباطلة والأهواء الشخصيّة وطغيان النفس الأمارة، والشاهد على صحّة هذه المسألة هي الأحداث الجارية على مدار التاريخ فهي تثبت هذا الأمر، وسوف نتعرض للإشارة إلى هذا المطلب إن‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 36
شاء الله.
وقد ورد في الآية الشريفة من سورة يونس:
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( [1]).
" قل لهم أيها النبي: يا أيها الكافرون والمنحرفون! هل تعرفون أحداً من ساداتكم وشركائكم يهدي فقط إلى الحق؟ قل لهم: الله تعالى فقط هو الذي يهدي للحقّ، وإذا كان الأمر كذلك فهل يكون الشخص الهادي إلى الحقّ أولى بالطّاعة والانقياد له ومتابعته، أو الشخص الذي ما زال في مرتبة التربية والاستعانة والتطور ولم يصل بعد إلى مرحلة اليقين والشهود والفعلية ولم ينل البصيرة حتى الآن؟ فلماذا تحكمون هكذا إذاً؟"
                        الهداية مختصّة بالله ولا تجوز الطاعة إلا للذين وصلوا إلى الكمال المطلق‏

هذه الآية الشريفة عجيبة جداً؛ لأنها:
أولًا: تعتبر أن الهداية منحصرة بالله فقط قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ، وأما سائر الأشخاص من أمثال بني آدم فترى أنّهم يفتقدون هذه المرتبة من الكمال والرقي، وتعتبرهم ساقطين عن هذه الدرجة، فكلامهم وعملهم لا يوجب رشداً ورقياً، واتباعهم باطل لا يفيد شيئاً.
وثانياً: إنّها ترى أن طاعة إنسان لإنسان إنما تكون جائزة وممضاة في تبعية من يكون- بلحاظ الجهات الاستعداديّة والحيثيّات الكماليّة- قد وصل إلى مرتبة الفعلية التامة والكمال المطلق، وخرج من دائرة تربية النفس الأمّارة وتزكيتها ومجاهدتها ومراقبتها، وتخلّى عن عالم الكثرات ووضع نفسه في حريم القرب وحرم الأمن الإلهي وأمانه، وصار وجوده متحقّقاً بوجود الحقّ‏
__________________________________________________
 [1]- سورة يونس (10)، الآية 35.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 37
تعالى ومتأثّراً بآثاره، وعبر جميع الحجب الظلمانية والنورانية بقدم ثابتة وعزم متين وهمّة عالية ويقين راسخ، وصارت ذاته بمعيّة الذات الأحدية بل صارت متّحدة بها. وبعبارة أخرى: أن يكونوا قد خرجوا من أنفسهم وصاروا متّحدين به تعالى.
وبما أن هذه الآية الشريفة تحصر الهداية بذات الأقدس الأحديّة، ومن جهة أخرى، توجب اتّباع الأشخاص الذين تخطّوا مرتبة الاهتداء- وهي مرحلة المتابعة والمجاهدة والمراقبة- ووصلوا إلى مرحلة الهداية، فهي تبرز هذه الواقعية: وهي أنه يجب أن تكون مرتبة هؤلاء الأشخاص ودرجتهم أعلى وأرقى من مراتب الآخرين ودرجاتهم- في أيّ مرتبة من مراتب الكمال كانوا- بأن تكون سنخيّة وجودهم وخصائصهم النفسانيّة مختلفة عن خصائص الآخرين، بحيث يصير كلامهم كلام حضرة الحق تعالى وأعمالهم وتصرفاتهم أعمال وتصرفات الله وآثارهم الوجوديّة مترشّحة عن آثار أسماء الذات المقدّسة وصفاتها. وفي هذه الحالة يمكن القول: إن هداية هؤلاء الأشخاص هي عين هداية الله، وأمرهم ونهيهم عين أمر ذات الحقّ ونهيه دون أي اختلاف بينهما أو تباين. أو فقل كأن الله تعالى قد تمثل بصورة بشر وأخذ يتكلّم معك ويأمرك وينهاك ويرشدك ويعرّفك خصوصيّات الطريق، ويبيّن لك العلل الموجبة للقرب ببيان فصيح وعبارات واضحة، وينذرك من المهالك ويعدّد لك الأمور المبعدة عن الوصول ويحذّرك من المسائل الموجبة للوقوع في المهالك والورود في عالم الكثرات.
وفي هذه الآية تصريح واضح بأنّ كلام الشخص الذي لا يكون ضميره منشرحاً بنور البصيرة وحقيقة الإيمان، فهو كلامٌ مغايرٌ لكلام الله تعالى، وإن كان معتمداً على الكلام الإلهي ومستنداً إليه، لأن هناك تفاوتاً فاحشاً وفرقاً كبيراً بين هذا
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 38
الشخص وبين ذاك الذي ينبعث قوله من صدق الضمير وصفاء الباطن والبصيرة الإلهيّة، والذي ينزل من عين ماء الوحي ويرتوي به ويستقر في نفسه الصافية والبصيرة. فذاك يرى بينما هذا يتخيّل، وذاك في حالة شهود ولمس للوقائع بينما هذا غارق في مستنقع العبارات وعالم الألفاظ، وذاك ينظر بعين اليقين وحقّ اليقين بينما هذا يتخلّل الصدق إلى تفكيره من خلال مسموعاته ومطالعاته المبهمة، وذاك على اطلاع تام بحقائق عالم الوجود ولديه خبر عنه بكل معنى الكلمة بينما هذا يدور حول توهّمه وظنّه وجهله الذي تقوم على أساسها حياته الدنيويّة والأخرويّة، وذاك يعمل على تربية النفوس وترتيب الأمور من خلال أخذ رشحات الفيض مباشرة من الذات المقدّسة للحقّ تعالى؛ باعتبار أنه وصل إلى عالم التدبير والأمر، بينما هذا يريد أن يفتح طريقاً نحو مقصوده من خلال الفكر البسيط والعقليّة المبنيّة على أساس قراءة الكتب والمقالات، ويريد أن يرشد الناس إلى هذا الطريق المتأثّر بالأحاسيس والأوهام والمعتمد على التعقّل الناقص والإشاعات. والله يعلم كم هي الأخطار والعواقب التي يبتلى بها هذا الشخص، وكم هي التبعات التي تصيب الناس الحيارى التابعين له! التي تنشأ من أوامره ونواهيه، كما أنه سيتحمّل مسؤوليّة إضلال هؤلاء الناس وهدر استعداداتهم وقواهم المعَدّة الكمالية وإضاعته لفرصة ترقيهم، وعليه أن يعد جواباً يوم القيامة عن كل هذه الأعمال والتصرفات التي لم تكن مصيبة.
                        فقط المخلَصون هم الآمنون من إغواء الشيطان‏

ومن جملة الآيات التي تدل على ثبوت ملكة الإيمان واليقين ورسوخ حالة الصواب والعصمة عن الخطأ؛ الآية الشريفة من السورة المباركة (ص)، حيث قال في الآيتين الثانية والثمانين والثالثة
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 39
والثمانين:
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ يُقسم الشيطان في هذه الآية بأن إغواءه سيطال جميع أفراد بين آدم في جميع طبقاتهم وأصنافهم، ولا يوجد أي شخص مستثنى من هذه القاعدة إلا العباد الذين وصلوا في مسيرهم التكاملي وتقربهم إلى الله إلى مقام الخلوص؛ أي أن يصير الخلوص لديهم ملكة.
وتوضيح هذه المسألة: إن نفس الإنسان مهيأة لنفوذ الشيطان وأرضيّتها مساعدة لورود جنوده، وذلك بسبب تعلّقها بعالم الكثرات والأهواء وأخذها بالآراء الباطلة والاعتباريّات. وبما أن الشيطان يمتلك علماً وشعوراً وإدراكاً وإحاطة بجميع خصوصيات الإنسان وآثاره وشوائب وجوده، وأن علمه بمدركات الإنسان وصفاته وملكاته ليس علماً اكتسابيّاً وتحصيليّاً ومقيّداً ومحدوداً، بل يمتلك علمه بالإنسان جهة إحاطة وإشراف ولديه بصيرة ونفوذ، لذا فلا يستطيع الإنسان- في أي مرحلة من مراحل كماله وسيره وعلمه واكتساب المعارف وتحصيل الحقائق- أن يأمن شرّه ومكائده وطرق نفوذه وسبل إغفاله وإضلاله، وفي النهاية خسران هذا الإنسان وهلاكه. وبشكل عام يكون الشيطان قريناً للإنسان في كل مرحلة من مراحله وفي كل آن ولحظة وسكون، وفي كل قيام وقعود وكل تكلّم وتخيّل ونيّة، ويكون ملازماً له كملازمة العشيق لعشيقه، ومصاحباً له كمثل الصديق العزيز، منهكاً بمراقبة هذا الإنسان ورصد أعماله وكلامه، دون أن يتوانى أبداً أو يغفل عن تنفيذ مهمّته على أحسن وجه، فهو كالحيوان الكامن لفريسته مستجمعاً قواه ومركزاً فكره وحواسّه على تحرّك فريسته للانقضاض عليها عند أقرب فرصة متاحة؛ وهي لحظة غفلة الفريسة وعدم انتباهها لما يجري حولها، فينقضّ عليها
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 40
ويأخذها من رجليها ويلتهمها. والعجيب في المقام هو أن علم الشيطان وإدراكه وشعوره ليس مختصّاً بالعلوم البشريّة ومدركاتها، بل هو راسخ في نفس الإنسان وذاته وصفاته وضميره بحيث لا ينفصل عن الإنسان في أي مرحلة من مراحله، ويعلن وجوده رسمياً في كل مجلس ومحفل، حتى أنه يسبق الإنسان في المشاركة في هذا المحفل ويترك آثاره عليه ويهيئ أسباب نفوذه ويثبّت وسائل إغوائه. بل إنه يثبت حضوره بشكل مميّز حتى حينما يتمّ الإتيان بعمل صحيح وعند الإقدام على فعل حقّ والتكلم بكلام صدق، لكن حضوره هذا يكون بشكل مخفيّ وغير علني بحيث لا يمكن تشخيص ذلك للناس بسهولة، إلا بعض الأشخاص الخاصّين الذين شملهم اللطف الإلهي وأحاطت بهم العناية الربّانيّة فعرّفتهم بوجود هذا الشيطان ونبّهتهم لحضور هذا الموجود الغاوي، وسوف يأتي ذكر هذه الأمور لاحقاً إنشاء الله.
في هذه الآية الشريفة يُقسم الشيطان أنّه سيُضل جميع عباد الله ويغويهم، لماذا؟ لأن تعلّق النفس الإنسانيّة بالكثرات قد فتح الطريق وهيّأه أمام نفوذ الشيطان إلى حريم قلب الإنسان وضميره، إذن علينا أن نتوجه إلى هاتين المقدمتين:
                        الأرضيّة الملائمة والإحاطة الوجوديّة للشيطان يؤدّيان إلى هلاك الإنسان‏

الأولى: يوجد بعض الأمور التي تهيّئ الجوّ المناسب والأرضيّة الخصبة لنفوذ الشيطان وسيطرته على الإنسان، وهي: تعلّق النفس بالدنيا وزخارفها الأعم من الرئاسة والمصالح الشخصية، وحبّ الذات واكتساب المنافع دون حدّ أو حصر، والتعدّي على حريم الآخرين للوصول إلى الآمال الدنيويّة، وسلب حقوقهم لتفرده بآرائه الباطلة وأهوائه الفاسدة، واستعباد الناس وتسخيرهم في خدمة المنافع والميول الشخصيّة، ويمكن اختصارها في‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 41
جملة واحدة: هي تحميل إرادته ونظرته وآرائه وهواه وهوسه وتغليبها على حقوق سائر الناس وإرادتهم وآرائهم ونظراتهم و ...
الثانية: الإشراف الكلّي للشيطان على الإنسان، وإحاطته الوجوديّة بصفاته واطلاعه الواسع على ملكاته وجميع شراشر وجوده، ممّا يجعله أقدر على التدبير ومعرفة طرق إغواء الإنسان وإضلاله وإبعاده عن مراحل استكماله ومراتب وجوده. ولا يوجد أحد أبداً خارج عن هذه القاعدة ومستثنى من هذا الحكم؛ سواء في ذلك العالم والجاهل والفقيه والمجتهد والمقلّد والعامي والسالك وغيره، وسواء كان رجلًا أو امرأة، أو كان كبيراً أو شاباً، كما لا يمكن لأي شخص أن يعتبر نفسه مغايراً للآخرين من هذه الجهة ويعتبر نفسه محفوظاً من قدرة الشيطان ومصوناً عن سيطرة جنوده، ويتصوّر أن يده قاصرة عن الوصول إليه، فهذا التصوّر والاعتبار هو بذاته عين الجهل، وفي هذه الوضعيّة سيكون نفوذ الشيطان في الحقيقة أكثر تأثيراً، ووروده إلى حريم ذاك الشخص أسهل بكثير وأسرع وأقل مؤنة من غيره.
ونتيجة هاتين المقدمتين هي الحكم بالهلاك والخسران والبوار على جميع أبناء البشر في جميع طبقاتهم وعلى اختلاف درجاتهم.
ومن البديهي أنه إذا فقدت إحدى هاتين المقدمتين، فلن يعود هناك إغواء وإضلال للشيطان بالنسبة للإنسان.
أما بالنسبة للجهة الثانية التي تعود إلى نفس الشيطان؛ وهي مسألة علمه الكلّي وإحاطته الوجوديّة بجميع خصوصيّات الإنسان وضميره وصفاته وملكاته النفسيّة، فيجب الاعتراف بأن هذه المسألة ناشئة من قدرته الوجوديّة التي لن تسلب منه. والله تعالى هو الذي منحه هذه القدرة، كما هو الحال في كل قدرة في عالم‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 42
الوجود سواء كانت ممنوحة للصالحين أو لغير الصالحين أو كانت لسائر الموجودات الأخرى، فقدرتهم هذه هي من الله تعالى. وبعبارة أخرى إن القدرة مختصّة بذاته المقدسة، وكذلك العلم والشعور والإدراك فهي جميعها إفاضات من جانب حضرة الحق تعالى على جميع الموجودات، ومن جملة هذه الموجودات الشيطان وجنوده.
وبناء على هذا، فيجب أن ندع توهّمنا جانباً ونتخلّى عن خيالنا في إمكان أن يأتي يوم يفقد الشيطان فيه قدرته ووسائله ومعدّاته الوجوديّة التي يستخدمها في عمليّة إضلال الناس وإغوائهم، ويكون كالطائر المكسور الجناح يجلس جانباً ويراقب أعمال الإنسان الصحيحة من بعيد، هيهات!
                        الطريق الوحيد للتخلّص من كيد الشيطان هو الانقياد المحض للأوامر الإلهيّة

وأما بالنسبة للجهة الأولى وهي وجود الأرضيّة المناسبة والظرف المواتي لدخول الشيطان ووروده إلى نفس الإنسان، فيجب القول: من حسن الحظّ في هذا البعد من هذه المسألة أنه يمكن أن تقصر يد الشيطان ويقل نفوذه على النفس من خلال إزالة الأرضيّة المناسبة لها. والسبيل إلى ذلك والوسيلة إليه هو إطاعة الأوامر الإلهيّة والانقياد التام للباري تعالى ومراقبة الأعمال والتصرّفات والأفكار في أكمل مراتب المراقبة والانقياد. وفي هذه الصورة ستتلاشى الأجواء المناسبة لتعلّق النفس بالدنيا وبالكثرات شيئاً فشيئاً، وسوف يتضاءل ذاك الشغف وتقلّ جاذبيّة سحر تلك الأمور، وسوف ينقلب ذاك العطش والوله لنيل الأهواء الباطلة والجاذبيات الأخّاذة للنفوس البشرية إلى حالة من عدم الاعتناء والانصراف عن هذه الأمور كلياً والاشمئزاز منها والابتعاد عنها. وشيئاً فشيئاً ستصل النفس البشريّة من خلال حركتها نحو عالم‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 43
القرب إلى مرتبة تتخلّى معها حتى عن التعلّق بذاتها، وعندها يندكّ وجود هذا الإنسان بوجود الحق، ولا تبقى له نفس وذات مستقلّة عن ذات حضرة الحق كي تكون مورداً لحصول الميل نحو الكثرات والعوالم الموبقة والمهلكة أو عدم حصوله.
وعندها- بعد أن يفقد الشيطان الأرضيّة المناسبة للغواية والإضلال- سيقيم مأتماً على فقدانه القدرة على إضلال هذا العبد الصالح والمطيع لله وإضاعته، وسيندب حظّه على هذه الخسارة الفادحة وعلى عدم التوفيق في القيام بمهمّته في إضلاله وإغوائه، وبالتالي سيرفع يده عنه ويكل أمره إلى الله، لأنه لم يعد لديه أمل في الدخول إلى حريم هذا الإنسان، فحريم هذا الإنسان غدا حريم الله وقلبه قلب الله وسرّه سرّ الله، والشيطان لا يستطيع أن يتعدّى أو يتطاول على حريم الله وسرّه وذاته بالإضلال والغواية.
وهنا نفهم هذه المسألة المهمة وهي كيف يمكن أن يحصل الإنسان على الهداية الخاصّة والمساعدة الصحيحة والمناسبة له، وكيف يسوقه الله تعالى نحو هذه التربية وهذا الإرشاد الخاص، ويعمل على تحكيم هذا القانون ضمن أسس المنطق السليم وحكم العقل، بحيث يجب أن تكون الهداية من خلال شخص بعيد عن متناول الشيطان ومنزّه عن وسوسته وإغوائه بحيث لا تأثير لها أبداً في أعمال هذا الشخص وتصرّفاته وكلامه ونواياه. وهذا مطلب طبيعيّ جداً وبديهي؛ لأنه لم يعد لهذا الشخص نفس حتى نتساءل هل أن كلامه ومطالبه صدرت عن هوى نفسه وهوسها أم لا؟ وبناء عليه، فجميع الأمور التي يلقيها بعنوان تكليف ودستور هي أمور منبعثة من مشرب الوحي وعالم الأمر ولا طريق أبداً لأي شائبة من شوائب الكثرات والتنزّل إليه، ولن تكون أوامره ونواهيه مختلطة بالحيثيّتين الربانيّة
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 44
والنفسانيّة، ومن المسلّم أن فعله في هذه الحالة الفعل الحق وكلامه عين الواقع والصدق، وفكره فكر إلهيّ بعيد عن التلوّن بألوان عالم الكثرات. هذا هو الشخص اللائق بالقيام بعملية الهداية ومساعدة الناس وإرشادهم وسوقهم نحو عالم القدس، لا غيره.
ونظير هذه الآية، الآية الموجودة في سورة الصافات:
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبَادَ الْمُخْلَصِينَ ( [1]). الله‏
في هذه الآية يبيّن الله تعالى حقيقة حال المخلصين وكيفيّة أفعالهم وأوضاعهم ببيان ظريف.
                        الجزاء والأجر هما فقط على الأعمال التي تصدر عن إخلاص.

ولا شك في أن مسألة الجزاء والثواب مترتّبة على عمل الإنسان في عالم الدنيا، فيجب أن يكون العمل صادراً من الإنسان على وجه الإخلاص ومصحوباً بالمراقبة والمجاهدة والتجاوز عن الإحساسات والأهواء النفسانيّة، وقائماً على أساس القرب من الله. وإلا فلن يقع في مورد قبول حضرة الحق تعالى، بل سوف يعاد ذاك العمل كما هو إلى الإنسان، وهذه مسألة طبيعيّة وفطريّة، فالإنسان يعطي مقابل كلّ فعل خير يصدر من أي شخص أجراً ويثيبه عليه حتى يشجّعه على فعله الحسن هذا، وكي لا يتصوّر أنه لا أجر ولا ثواب على هذا الفعل.
وكذلك الأمر بالنسبة لأعمال الإنسان في يوم القيامة فإنها تزان وتقوّم؛ فتفرز تلك الأعمال التي صدرت على وجه الإخلاص وحسن النية وقام بها صاحبها لأجل التقرب إلى الله، ويعطيه الله الأجر والثواب على قيامه بهذا الفعل ويجزيه خيراً بذلك، وأما تلك الأعمال التي صدرت على وجه‏
__________________________________________________
 [1]- سورة الصافات (37)، الآيتين 39 و 40.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 45
الخيال واتّباع الهوى والاستكبار وقامت على أساس الأنانية والفردية والجهالة فسوف يحاسب عليها ويطالب بها ويسأل عنها. فكلا الفريقين سيحاسب ويجازى على أعماله وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فالحساب والجزاء سيكون على أساس نفس العمل الذي صدر منك في دار الدنيا، وكيفيّة هذا العمل هو الذي يعيّن الأجر ويحدّد الثواب.
وبناء على ذلك فأولئك الأشخاص- ومن خلال المراقبة والمجاهدة في طريق الحق والانقياد الكامل للأوامر الإلهيّة وطلب درجات القرب- قد وصلوا إلى مراتب عالية بحيث لم يعد لديهم شي‏ء من الشوائب النفسانية وملكات النفس وصفاتها الرذيلة، والحاصل أنهم قد رحلوا عن عالم الدنيا والنظر إليها من خلال رفضهم لجميع الحيثيّات وجهات عالم الكثرة والتعلّقات، ونصبوا خيامهم في حرم حضرة المعبود وحطّوا رحالهم في ساحته، فخرجت نفوسهم من عالم الجزئيّة وتعلّقت بالكلّية، ولم يعد لديهم نفس أصلًا حتى يقاس عملهم ويزان من خلالها، كما أن فعلهم في هذه الدنيا لم يعد فعل بشر عادي وإنسان طبيعي. وبما أن نفس هؤلاء قد صارت مندكّة وفانية في ذات الله، فقد أصبحت جميع صفاتهم وملكاتهم صفات منبعثة من عالم القدس وملكات مترشّحة من أسماء وصفات حضرة الحقّ تعالى. وبذلك سيكون عملهم خارجاً عن دائرة الوزن والقياس ومنتسباً إلى ذات الله تعالى، فالله لا يعطي أجراً على الفعل الصادر منه ولا يجازي عليه، بل الأجر والثواب إنما يتعلّقان بالأشخاص الذين يعملون بشكل مستقل وبعنوان منفرد ومتمايز في مقام الطاعة والانقياد، لا بذاك الشخص الذي يكون فعله فعل الله وعمله عمل الخالق وحركاته وسكناته كلّها نزول لمقام المشيئة الإلهيّة وإرادة الحق واختياره، دون أن يشاب ذلك بأي‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 46
لون من ألوان الكثرة، ودون أن يختلط بأي شأن من شؤون عالم الدنيا أو يرتهن بالميول والتمنيات.
                        يمكن للإنسان من خلال المجاهدة أن يصير مصداقاً للحديث: عبدي أطعني حتى أجعلك مثلي‏

هؤلاء الأشخاص الذين فرغوا من مقام المجاهدة والمراقبة والرياضات الشرعيّة والأعمال الخالصة والنيّات الصالحة في أعمالهم وأفعالهم، وتحقّقوا بحقيقة الإخلاص وهي الخلوص، فصارت ذاتهم عين ذات الخلوص والصفاء والطهارة وصار سرهم مطهّراً وأضحت نفوسهم عين الحقيقة والواقعية والبهاء والنور، وصاروا مصداقاً للحديث القدسي الشريف:
" عبدي أطعني (واعبدني وحدي) حتى أجعلك مثلي (أو مَثَلي)؛ أقول للشي‏ء كن فيكون وتقول للشي‏ء كن فيكون" (1).
__________________________________________________
1- يقول الحافظ رجب البرسي في كتابه مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين، صفحة 69:" ورد في الحديث القدسي عن الرب العلي أنه يقول: عبدي أطعني أجعلك مثلي؛ أنا حيّ لا أموت، أجعلك حيّاً لا تموت، أنا غني لا أفتقر، أجعلك غنيّاً لا تفتقر، أنا مهما أشاء يكن، أجعلك مهما تشاء يكن. ومنه: إن لله عباداً أطاعوه فيما أراد فأطاعهم فيما أرادوا، يقولون للشي‏ء كن فيكون". وجاء في كتاب كلمة الله، صفحة 140:
" وروى كعب الأحبار هذا الحديث بالألفاظ التالية: يا ابن آدم أنا غنيّ لا أفتقر، أطعني فيما أمرتك أجعلك غنيّاً لا تفتقر، يا ابن آدم أنا حيّ لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت، أنا أقول للشي‏ء كن فيكون أطعني فيما أمرتك تقول للشي‏ء كن فيكون". ووردت هذه الرواية في عدّة الداعي صفحة 291، لكن مكان أنا غنيّ ورد أنا فقير.
وكذا في كتاب إرشاد القلوب صفحة 75:" وروي أن الله تعالى يقول في بعض كتبه: يا ابن آدم! أنا حيّ لا أموت، أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت، يا ابن آدم! أنا أقول للشي‏ء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشي‏ء كن فيكون".
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 47
                        يقول الله: أنا سمع وبصر ولسان العبد المطيع‏

أو مصداقاً للحديث القدسي الشريف:
" لا يزال يتقرب عبدي إليّ بالنوافل (وبالأمور الموجبة لرضاي، ويقرب منّي) حتى (يندكّ وجوده في وجودي ويفنى فيّ، وعندها سوف) أكون سمعه الذي‏
يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ..." (1).
                        لا تقتصر مسألة الانقياد والطاعة على الأوامر الشرعيّة البسيطة

إنّ التوجّه إلى هذه النكتة مهم جداً وهي: أن مسألة الانقياد والطاعة ليست منحصرة ومحدودة بالتكاليف الشرعيّة البسيطة والسهلة- كمسألة الطهارة والنجاسة وصور الشك في الصلاة- بل هي شاملة لجميع شؤون الإنسان في كل مرتبة وكل مرحلة من مراحل الكمال والرقيّ، لأن هناك الكثير من المخاطر والمهالك التي يبتلى بها الإنسان في حياته الدينيّة والتربويّة، تفوق بأهمّيتها وخطرها هذه التكاليف العاديّة
__________________________________________________
1- كتب آية الله الحاج الميرزا جواد الملكي التبريزي في كتابه أسرار الصلاة صفحة 175:
أما سمعت ما في الحديث القدسي:" لا يزال يتقرّب العبد إليّ بالنوافل حتى أجعله مثلي .. إلخ". و" لا يزال يتقرّب العبد إليّ بالنوافل حتى أحبه، وكنت سمعه الذي يسمع به ... إلخ".
وقد ذكر العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني، في كتاب معرفة الله، جزء 1، صفحة 274 وما بعدها، مصادر هذا الحديث مع اختلاف ألفاظه بشكل مستوفى، ومنها ما نقله عن شرح تائية ابن الفارض للفرغاني، ص 306:
 «ما تَقرّب إليّ عبدي بشي‏ءٍ أحبّ إليّ من أداءِ ما افترضتُ عليه؛ ولا يزال يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أُحبّه، فإذا أحببتُه كنت سمعَ الّذي يسمع به، وبصَره الّذي يبصر به، ولسانه الّذي ينطق به، ورجله الّذي يمشي بها؛ الحديث
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 48
ومسائل الشرع الظاهريّة بآلاف المرّات، فإنها توجب الانحراف والاعوجاج أكثر من تلك بكثير.
فالترديد والاضطراب والضياع والحيرة في المواقع الخطيرة والحسّاسة، ووجود اختلاف في الرأي وتفاوت في طبيعة الأشخاص في مختلف الطبقات- وبالأخص الآراء الصادرة من‏
مدّعي العلم والدراية والمتولّين لزمام الأمور- وإظهار الطرق المتفاوتة ... هي أمور لا يمكن التعامل معها بهذه السهولة؛ بأن يعتبر الإنسان نفسه مطلق العنان في ذلك، بحيث يمكنه أن يصل إلى هدفه بدون علم ولا يقين ولا شهود، كمثل من يرمي سهماً في الظلام يريد أن يصيب الهدف ويتعامل على أساس أنه أصاب الهدف.
ومن جهة أخرى نرى أن الحالات المختلفة للنفوس البشرية وكيفيّاتها وظهوراتها في مراحل الحياة
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 49
المختلفة وحالات سيرها التكاملي .. تتطلّب بشكل جدّي مهارة بارعة وخبرة خاصّة لاكتشاف ما وراء العلل والأسباب الظاهريّة والمعلومات البسيطة والمتعارفة للمسائل الشرعيّة والأحكام التكليفيّة. وهنا نجد أن الكثير من المدّعين هم عاطلون وفكرهم بسيط ونظرهم قصير وبصيرتهم في هذه الأمور في حد الصفر، وذلك لأن حالات هؤلاء الأشخاص كمثل الأحكام والتكاليف الشرعيّة لا تشتمل على جهة كليّة ونظرية حتى يمكنه من خلال نظرة سطحيّة أن يكتب فكرة معيّنة في كتاب أو مقال أو رسالة ويعتبرها حكماً كلّياً ينشره على الملأ. بل يوجد في هذا المجال حكم خاصّ لكل شخص، وينبغي أن يفتح له ملف خاصّ به، ويمكن أن يكون موضوع واحد ذا أحكام مختلفة باختلاف الأشخاص، لا ارتباط لحكم أي منهم بحكم الآخر، وإلى هذا المعنى تشير العبارة المشهورة" الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق" [1].
وهنا كلّما أحرز الإنسان تطوّراً وتقدّماً على صعيد القرب إلى الحق وتجرّد النفس والابتعاد عن التعلّقات وعالم الكثرة، صارت مخاطر الطريق عليه أصعب وعوائق السبيل وموبقاته أدق، وغدت حيل إبليس ومكره وحباله آكد. وهذه المسألة ليست من السهولة بحيث يمكن أن يتأتّى للعالم بالعلوم الظاهريّة والخبير بالمسائل والتكاليف الشرعيّة أن ينهض بأعبائها ويتخلص من حبائلها، بل إن الدخول في هذه الأمور يتطلّب من الإنسان قدرةً تمكّنه- من خلال ما يتمتّع به من بصيرة نافذة وإشراف كلّي وإحاطة وسيطرة على النفس الإنسانيّة وآثارها وحالاتها وملكاتها- تشخيص الصحيح من السقيم وتحديد
__________________________________________________
 [1]- اعتبر المرحوم السيد حيدر الآملي هذه العبارة رواية نبويّة، واستند إليها في كتابه جامع الأسرار ومنبع الأنوار ثلاث مرات في الصفحات التالية: 8 و 95 و 121.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 50
الطريق من غيره وتمييز السبيل عن الطريق المعوّج بشكل دائم، فلا يصف للناس التيه والضلال بدلًا عن الطريق فيوقعهم في الهلكات. فمن أين يمكن للفقيه والمتشرّع والعالم بالأحكام والمسائل الشرعية أن يرشد الناس وينجّيهم من الحيرة والتشويش الصادرة من النفس التي حصلت لها بعض المنامات والمكاشفات ووصلت إلى بعض الحالات البرزخية المعقّدة والملكوتية الصعبة، وكيف له ينبّههم إلى كمائن الشيطان ولوازم الطريق ومعداته ويبيّن لهم المهالك! فأين يمكن لذاك العالم الذي أفنى عمره بدراسة وتحقيق قسم من العلوم الإلهيّة، وليس لديه إحاطة وعلم بسائر الأقسام الأخرى منها- فضلًا عن اطّلاعه على حركة السير والسلوك إلى الله وتخطّي عوالم الظلمة والنور والوفود إلى حرم كبريائية الحق تعالى والإشراف الكلّي على جميع القضايا والأوضاع والأحوال السابقة والآتية- أن يكون متعهّداً ومسؤولًا عن هذه الأمور التي بدايتها هي الإحاطة بنفس المقلّد والشخص الذي أوكل زمام أمور دينه ودنياه إليه، ويطلب منه أن يوصله إلى أعلى مراتب الكمال والفعلية.
                        الابتعاد الزمانيّ والمكانيّ ليس له تأثير على إشراف الأولياء على النفوس‏

وهنا تتّضح بجلاء هذه النكتة التي نقلها المرحوم الوالد رضوان الله عليه عن المرحوم السيد الحداد قدس الله نفسه عندما عزم- بناء على أمره- أن يهاجر من النجف الأشرف ويعود إلى إيران، قال لأستاذه: إلى أين ترسلني يا سيدي! فالآن تذوّقت طعم صحبتك، وأدركت لذّة السكر في الشرب من الماء المعين وعين الحياة عندما وصلت إليك، فإلى أين أذهب؟ فقال له السيد الحداد: سيد محمد حسين! في أي نقطة من نقاط العالم كنت فأنا معك! وإن كنت أنت في مشرق الأرض وأنا في مغربها، فلا تحزن ولا تخف ولا تقلق ولا تدع طريقاً
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 51
للشك والدغدغة إليك، فأنا معك! وقد أثبتا هذا المدّعى عمليّاً بالنحو الأتمّ والأحسن والأكمل والأوفى، فرحمة الله عليهما رحمة واسعة.
في أحد الأيام قال المرحوم الوالد قدس الله سره للحقير كاتب هذه السطور: أينما تكون وفي أي مرتبة كنت فأنا على اطلاع بجميع زوايا وأسرار نفسك ولديّ إشراف كامل على خطوراتها. وقد لمست منه هذا الأمر وشاهدته بالعيان كراراً ومراراً.
ففي إحدى المرات صدر مني عمل، وهذا العمل وإن لم يكن فيه إشكال من جهة الظاهر لكنه كان منافياً لما تقتضيه المراقبة وصحّة العمل بالنحو الأحسن، وفي اليوم التالي بينما كنت مشغولًا بالمطالعة في غرفة عمله (مكتبته) خطرت هذه المسألة على ذهني فجأة، عندها كان الوالد جالساً خلف طاولته مشتغلًا بالكتابة والتأليف، فرفع رأسه وخاطبني: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [1].
من خلال هذه العبارة أفهمني أنك لا ينبغي لك أن تتصوّر في وقت من الأوقات أنك بعيد عن أعيننا الحادّة والنافذة، أو أنك مخفيّ عنها، فجميع أعمالك وتصرفاتك واضحة لنا وجلية كالمرآة، سواء شئت ذلك أم أبيت. ومشاهدة هذه المسألة منه لم تكن مقتصرة على الكاتب، بل جميع أو أغلب الأشخاص الذين كانوا على علاقة سلوكية وتربوية بهذا الرجل يذكرون حكايات وموارد من هذا القبيل، بحيث لم يكن لدى أيّ شخص منهم الجرأة في نقل خلاف هذا المطلب، وكانت هذه المسألة واضحة وبيّنة إلى حدّ لم يبق أي إنكار أو شك أو ترديد بين تلامذته في ذلك، فالجميع يعترف ويقرّ له بهذه الخصوصيّة سواء اعترف بها في حياته أو بعد وفاته.
__________________________________________________
 [1]- سورة الطور (52)، من الآية 48.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 52
وهنا يقرّ الكاتب ويعترف- باعتبار كونه ابناً له- بأن كلّ ما سمعه عن خصوصيّات وآثار الإنسان كامل ولوازم وفعليّات العارف الحقيقي بالله وبأمر الله، أو ما أدركه من خلال دراسته وتدريسه في متون العرفان النظري وكتب الفلسفة الإلهيّة، ينطبق على هذا الرجل دون أدنى شك وأي شبهة في ذلك، وقد صدّقنا ذلك بالتجربة، فأنا لست إنساناً سريع التسليم؛ يدخل أي وادٍ دون تحقيق ويلج كل مكان مهما كانت بضاعته ومتاعه، نعم‏
         من آن نيم كه دهم نقد دل به هر شوخى             در خزانه به مهر تو و نشانه تست [1]

                        المخلصون مُعفَون من مقام العرض والحساب‏

والمتحصّل أن هناك آيات أخرى شبيهة بهذه الآية من قبيل الآية الشريفة من سورة الصافات: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ* إِلَّا عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ [2].
أو كالآية الشريفة فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (هل كانوا أهل خير وصلاح أو كانوا مستوجبين العقاب والمؤاخذة ومستحقين للقهر الإلهي؟)* إِلَّا عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ (فأولئك فرغوا من الإحضار إلى مقام العرض والحساب والكتاب، ولن يُسألوا عن أعمالهم وتصرّفاتهم ولن يحاسبوا على أعمالهم الدنيوية) [3]. ومن جملة الآيات التي تبيّن موقعيّة الكمّل من الناس والأشخاص البارزين والمتميّزين عن سائر الناس؛ الآيات الواردة في سورة الواقعة:
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (إلى ساحة الأحديّة)* فَرَوْحٌ‏
__________________________________________________
 [1]- ديوان حافظ، غزل 77. والمعنى: أنا لست بذاك الذي يسلّم قلبه بأيّ كلام وأيّ مزاح، فمفتاح خزانة قلبي بيدك وعلامتها عندك‏
 [2]- سورة الصافات (37)، الآيتين 127 و 128.
 [3]- سورة الصافات (37)، الآيتين 73 و 74.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 53
 (حياة فرح وسرور لا نهاية لها) وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ* وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (وهم الذين يُعطَون كتاب حسابهم بيمينهم)* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ* وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (والمستكبرين)* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( [1]).
                        انقسام بني آدم إلى ثلاثة طوائف بلحاظ الانقياد للحقّ‏

وتوضيح ذلك: إن أفراد بني آدم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام باعتبار أعمالهم وتصرّفاتهم وميزان تسليمهم وانقيادهم للحق:
القسم الأول: الأشخاص الذين لم يؤثّر فيهم كلام الأولياء الإلهيّين وإنذار الأنبياء العظام، ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والوجدان في اتّباع البراهين العقليّة والأدلّة النقليّة، بل استكبروا عليها وواجهوها بالعناد، وملأت زخارفُ الدنيا وجاذباتُ عالم الغرور عيونهم وأسماعهم، وصدّتهم عن التوجّه إلى الكمال والعبور عن وادي الشهوات ورفض عالم التعلّقات والكثرات، وهكذا أمضوا أيامهم في ظلمة الغفلة، ووضعوا أنفسهم تحت تأثير التعدّي وأنواع الظلم وألوان الانغماس في الشهوات والفوز بالمطامع الدنيويّة واللذات الطبيعية الزائلة، ويعتقدون أن سعادتهم هي سعادة عالم الحسّ والطبع، وأن اللذّات منحصرة في الاستمتاع الدنيوي وإرسال الهوى الحيواني والبهيمي، ويتصوّرون أن الكمال في زيادة الطلب والإكثار من زخارف الدنيا، وكلّما وعظهم رسل الله وحذّرهم أنبياؤه وأولياؤه من سوء أعمالهم، ردّوا عليهم باستهزاء وبنظرة ساخرة، وقالوا بأن هذه المسائل الواقعية والحقائق هي أوهام وتخيّلات، وأنها تليق بتفكير العوام البعيدين عن مجريات الثقافة والحضارة، وكما ورد في الآية الشريفة:
__________________________________________________
 [1]- سورة الواقعة (56)، الآيات 88 إلى 94.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 54
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [1].
فهؤلاء وقفوا أنفسهم فقط على الحياة المادية والحيوانية والشهوانية، وابتعدوا بذلك عن رحمة الله وخرجوا من دائرة المرحومين والمغفور لهم، وحبسوا أنفسهم في عالم المادة وعالم الدنيا بعنادهم واستكبارهم، وعليه فلن يجدوا لهم موقعاً عند الله في يوم القيامة، وسيكون مصيرهم إلى نار جهنّم.
وأما القسم الثاني: فهم الأشخاص الذين نظروا إلى كلام الأنبياء الإلهيين نظر حق وتعاملوا معه معاملة القبول والإذعان، وجعلوا أنفسهم في مقام الإطاعة والانقياد لأوامرهم، ولم تزلّ قدمهم عن جادّة الصدق والصراط المستقيم في مقام العمل وحفظ حدود الشريعة وثغورها، وعملوا طبقاً للأوامر والإرشادات الصادرة عن العلماء الكبار والمتطابقة مع موازين الشرع المبين ومبانيه، وأفنوا حياتهم بعزم في سبيل تحصيل الرضا الإلهي والفوز بالنعم الأخروية ونيل الجنة والحور والغلمان والوصول إلى ما وعدهم الله تعالى، والحاصل أن عملهم كان على طبق الموازين الشرعيّة البعيدة عن الإجحاف وظلم النفس والتعدّي على الآخرين وتجاوز حقوقهم، وأدّوا ما عليهم من العبادات بالمقدار الذي يوجب رضا الله عنهم، فهؤلاء الأشخاص يُعرفون بأصحاب اليمين.
وبما أن موازين الخلوص ومراتب الصفاء والتجاوز والانقياد مختلفة فيما بينها ومتفاوتة، كان لأصحاب اليمين مراتب مختلفة من حيث قربهم من الله وبينهم درجات متفاوتة من جهة تعلّقهم بعالم الدنيا وميلهم إليها ورفضهم لأنواع الأنانيّات والحجب النورانية والظلمانيّة لعالم الكثرة .. فكذلك في ذلك‏
__________________________________________________
 [1]- سورة الأنعام (6)، من الآية 29.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 55
العالم يكون لهم مراتب ومنازل أيضاً مختلفة في جنة الله ونعيمه على أساس اختلاف مراتبهم ومنازلهم في هذه الدنيا، ويكون لكل منهم مكانه الخاص الذي لا يمكن له أن يتجاوزه إلى المرتبة التي تليه، بل منزلتهم ومرتبتهم في الجنة إنما هي على مقدار سعتهم الوجودية التي اكتسبوها في هذه الدنيا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [1]. ويمكن القول: إن هذا القسم يتشكّل من قاطبة المؤمنين- الأعم من العامي والعالم، المقلّد والمجتهد، المحصّل والجاهل وغيرهم- وذلك لأن درجات البشر في يوم القيامة قائمة على أساس السعة الوجوديّة ومقدار البصيرة التي حصل عليها في هذه الدنيا، من خلال اكتساب الملكات الحسنة والصفات الحميدة والروحيّة، إذ لا فرق بين أن يكون الشخص عامّياً أو عالماً.
                        المقرّبون أعلى من مرتبة الطاعة فهم فانون في الذات‏

وأما القسم الثالث: فهم الأشخاص الذين قاموا بوقف أنفسهم وجميع شؤونهم وجميع تعلّقاتهم بشكل حاسم وقطعي على حضرة المحبوب، ووصلوا في مقام الطاعة والانقياد إلى مقدار من الهيام بالحق تعالى والافتقار إليه والوله به، بحيث لم يعودوا يروا لأنفسهم وجوداً أصلًا كي يجعلوا الله في مقابلهم أثناء عباداتهم. فأولئك تجاوزوا مرتبة الفعل ومرحلة الإخلاص والثواب، ولم يعودوا يروا مؤثّراً سوى اللَه، كما أنهم بطبيعتهم لا ينسبون أي أثر لغير الله. فهؤلاء لا يرون لأنفسهم وجوداً أصلًا حتى تكون أعمالهم وفعالهم قائمة على هذا الأساس، بل يعتبرون أن وجودهم هو وجود حضرة الحق وأثر فيضه تعالى، ولا يحسبون لذاتهم مقابل ذات الله حساباً حتى‏
__________________________________________________
 [1]- سورة الكهف (18)، من الآية 49.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 56
يطابقون هذه الذات على إرادة الله ومشيئته. يقول الله افعل! يفعلون، يقول لا تفعل! لا يفعلون، يقول مت، يموتون، احيَ يَحْيون، يقول سأدخلك الجنة يدخلون، يقول لن أدخلك الجنة لا يدخلون. والحاصل أنهم قد تجاوزوا دائرة الطاعة وذهبوا أبعد من ذلك، فأفنوا أنفسهم ودكّوها في ذات الله، وكانوا بناء على ما ذكره المولى أمير المؤمنين على عليه السلام:
إن قوماً عبدوا الله رغبة (في ثوابه وأجره ونعمه) فتلك عبادة التجّار، وإن قوماً عبدوا الله رهبةً (وخوفاً من نار جهنّم وعذابها) فتلك عبادة العبيد (الذين يقدّمون الطاعة لخوفهم من بطش ساداتهم)، وإن قوماً عبدوا الله شكراً (وكانت عبادتهم فقط لأجل شكر رحمة الحقّ وعنايته ولكونه أهلًا للعبادة) فتلك عبادة الأحرار [1].
وهذه العبارة نظير العبارة الأخرى الصادرة عنه عليه السلام، حيث يقول:
إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً إلى جنّتك، بل وجدتك أهلًا للعبادة
__________________________________________________
 [1]- نهج البلاغة، شرح محمد عبده، حكمة 236، ج 4، ص 53.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 57
فعبدتك (بعيداً عن كلّ الاعتبارات الأخرى) (1).
نعم يرد أصحاب هذا القسم إلى الله تعالى بعيداً عن مقام الحساب ووزن أعمالهم وتصرّفاتهم، وبما أن عملهم لم يكن قد صدر منهم ابتغاء أجر أو ثواب، فلن يستطيع الملائكة أن يقدّموا أي تقييم لها أو يزنوها بميزان الحساب، كما لا يمكن لأي نعمة أن تكافئهم وتجازيهم على أعمالهم تلك؛ لأن هؤلاء كانوا أعلى شأناً من الثواب والأجر ولم‏
__________________________________________________
1- «تفسير الصّافي» ج 3، ص 353 باختلاف يسير فورد بدل كلمة «إلى» «في»، وبدل كلمة «بل» «لكن»، وقد ورد أيضاً في «بحارالأنوار» ج 41، ص 14 «وقال عليه‏السّلام في موضع آخر: إلهي ما عبدتُك خوفًا من عِقابك ولا طمعًا في ثوابك، ولكن وجدتك أهلًا للعبادةِ فعبدتك
وفي «شرح ابن ميثم على المئة كلمة» ص 219 وردت العبارة بهذا الشكل:
 «الثّاني قوله عليه‏السّلام مُناجيًا لربّه: إلهي ما عبدتك خوفًا من عِقابك ولا رغبةً في ثوابك ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك
وبهذا اللفظ ورد أيضاً في «تفسير الميزان» ج 11، ص 174، وفي «عوالي اللئالي» ج 1، ص 404، حديث‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 58
يكونوا يحسبون أي حساب لهذا الموضوع أبداً، بل لم يكن عملهم صادراً سوى لأجل رضا الحق، دون الالتفات إلى أي أمر آخر وراء ذلك. فنفس هؤلاء قد تجاوزت مقام الرغبة والإرادة والتمنّي، ولم يعد هدفهم منصبّاً على الجنة ونعمها كي يجازيهم الله تعالى على أعمالهم الصالحة بذلك. فقد صار هؤلاء من المقربين؛ يعني صارت وجهتهم أعلى من الجنّة ومن نِعَم الجنّة وأعلى من خصوصيات الجنان، وصاروا متعالين عن مقام العرض والمحاسبة وتقييم الأعمال.
                        المقربون يرِدُون على الله بغير حساب‏

ومن مفاد هذه الآية يستفاد أن الأولياء الإلهيين هم أشخاص قد تخطّوا في أفعالهم وأعمالهم مرحلة النفس ومرتبتها وصاروا متّحدين مع حقيقة التوحيد، وذلك لأن هؤلاء لم يعودوا يبتلون بآمال النفس ومتعلّقاتها وتمنّياتها وشوائبها كما يبتلى به غيرهم من الناس؛ حتى لو كانوا أناساً مؤمنين وصالحين. وبناء عليه فعمل هؤلاء هو عملٌ حقّ وتصرفهم هو فعل الحق، لأنهم من خلال هذه النعمة الإلهيّة العظمى قد اندكّوا واقعاً وفنوا في وجود الحق، فالعمل الصادر عن النفس وإرادة النفس هو عمل منبعث عن فعل حضرة الحق وإرادته تعالى.
والإنصاف أنه يجب أن تعتبر هذه الآية الشريفة من البراهين المبيّنة لنفس ولي الله والمثبّتة لذات العارف بالله. ويجب أن يكون ولي الله هكذا كي يستطيع الإنسان أن يأخذ فعل هذا الولي وقوله بعنوان كونه أسوة وقدوة يقتدي به وشاخصاً للحق ومميّزاً بين الحق والباطل. لأن الطاعة والانقياد وإن كان ينبغي أن يتحقّقا على أساس‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 59
الإدراك والشعور والميل والرغبة إلى المقصود. وتتفاوت هذه المسألة من شخص لآخر بحسب اختلاف ميزان معرفته ومستوى إدراكه، لكن نفس افتراض وتصوّر وجود مراتب متفاوتة في الإدراك والشعور تتطلّب وجود مرتبة بحيث يكون فيها الإنسان- في أي مرتبة كان وأي مرحلة بلغ- محتاجاً إلى المساعدة والإرشاد والتأسي والإطاعة لمن هو أفضل منه، وتلك المرتبة هي مرتبة الصدق المطلق والحق المطلق والواقع المطلق. لأن ملف حساب كل إنسان وكتابه مختصّ به، وسوف يُسأل ويحاسب هذا الإنسان طبقاً لميزان فهمه وشعوره وبمقدار إدراكه وسعته الوجودية، والآخرين في أي مرتبة من المعرفة كانوا فليكونوا، فليس لهم أي علاقة به، ولا يعتبر عملهم معياراً لعمله وفعله. كما هو الحال بالنسبة لعمل الطفل، حيث لا يعتبر الطفل أبداً ميزاناً لفعل الكبار ولا يؤخذ معياراً لعمل الراشدين. وهذه المسألة غاية في الدقّة وحسّاسة جداً وتستحق التأمل بها وفهمها فهماً صحيحاً، ومهما تأمّل الإنسان في هذا المطلب فيبقى تأمّله فيه قليلًا.
                        الإنسان الكامل يصير مصداقاً ل (ومنهم سابق بالخيرات)

ومن جملة الآيات الموجودة في القرآن والتي تشير إلى أوصاف الأفراد الكاملين والذين تجاوزوا الهوى والنفس، من الآية الثانية والثلاثين إلى الآية الخامسة والثلاثين من سورة فاطر:
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ* وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ.
أي: إنّا أورثنا كتابنا المتضمّن للقوانين‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 60
والمحتوي على أحكام صلاح الإنسان والمجتمع وفسادهما، لأولئك الذين اصطفيناهم وانتخبناهم. وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام.
فبعض هؤلاء: عبارة عن مجموعة توغّلت في الجهالة وانغمرت في عالم الشهوات، فصاروا بذلك ظالمين لأنفسهم ومضيّعين لسعادتهم، وقضوا حياتهم الدنيويّة منشغلين في الكثرات وادّخار الأموال وجلب الشهوات والغفلة عن مصيرهم ومآلهم، فاستوجبوا بذلك الخسران والتعاسة والهلاك.
والقسم الثاني: هم أشخاص يمتلكون أخلاقاً حسنة وفعالًا متعادلة ومطابقاً لما يقتضيه الحساب والكتاب والميزان، وقاسوا أعمالهم وأمورهم على أساس الصراط المستقيم والطريق القويم وضمن ممشى مقتصد ومسير موزون ومنظّم على طبق الدستورات الإلهيّة والأحكام الشرعية المبينة.
وأما القسم الثالث: فهم الذين لهم الأسبقيّة على الجميع، بحيث يتسابقون على طريق الخير والصلاح للقيام بما يرضي اللَه، ولا يستطيع أحد أن يقف مقابلهم في هذا المضمار، وليس لأحد الطاقة على مماشاتهم في ذلك، ومهما حاول الإنسان أن يصل بأعماله الحسنة والمنطبقة على الموازين الإلهيّة ومباني القرب إلى رتبتهم وقدرهم لا يمكنه ذلك، لماذا؟ لأن هؤلاء قد تجاوزوا مقام العمل وجعلوا فعالهم وتصرّفاتهم فعل الله وتصرّفه، فلم يعد عملهم منبعثاً من نفوسهم ومن شوائبهم النفسانية. هذا القسم من المؤمنين يدخلون جنان الخلد العالية، ويُزيّنون بلبس المجوهرات والذهب واللؤلؤ، ولباسهم فيها من حرير، وقالوا الحمد الله الذي أذهب إن ربنا لغفور شكور، الذي أسكننا دار البقاء والخلود بفضله وكرامته، حيث لا طريق للشعور بالعطش والمرارة ولا للشعور بالألم.
فكيف يمكن لشخص ما يزال معتدّاً بنفسه وذاته ومتعلّقاً بشوائب وجوده ومرتهناً لإراداته‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 61
وأمانيه- مهما بلغ في صلاحه- أن يفعل ما يفعله هؤلاء ويقوم بالمراقبة كما يقومون! والحال أن صلاته مختلفة عن صلاتهم، فهو أثناء الصلاة يفترض أن الله تعالى أمامه ويتحدّث معه ويبثّ إليه همومه وحاجاته، بينما أولئك لم يعودوا يروا الله أصلًا، بل صار وجودهم مندكّاً وفانياً في وجود الحق. وهنا لا يبقى للعبد والمخلوق وجود في مقابل الله وحضرة الحق تعالى كي يقوم بعبادته، ولا تقابل بينهما حتى يقصد التقرب إليه. فالإثنينية في هذه الحالة تكون قد ارتفعت بينهما بشكل جذري، وتكون قد مُحيت جميع آثار الوجود المقيّد وحدوده وثغوره بشكل كلّي، ولم يبق أي أثر من الوجود لهذا المصلّي في مقابل وجود حضرة الحق حتى يعبده ويصلّي له. فهنا يبقى موجود واحد فقط وحقيقة واحدة وواقع واحد وذات واحدة؛ وهي وجود ذات الله تعالى فقط. وعندها هو الذي يعبد وهو الذي يقف للصلاة وهو الذي يركع وهو الذي يسجد.
                        مقام عبودية الإمام الصادق عليه السلام أثناء الصلاة

وهنا يوجد رواية عن صادق آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يقول فيها أنه عندما وصلت أثناء قراءتي لسورة الحمد إلى الآية الشريفة إياك نعبد وإياك نستعين بدأت أكرّرها إلى أن وصلت إلى حدّ رأيت أن نفس الذي أنزل هذه الآية هو الذي يقوم بقراءتها على لساني، عندها لم أتحمّل هذه الحالة فوقعت على الأرض (1)
نعم، تصير نفس المصلي في هذه الحالة متّحدة مع ذات الحق تعالى، وتصير حركاته وسكونه حركة واحدة وسكون واحد، وهي تلك المستندة إلى ذات القدس الإلهي. أنعم به وأكرم! ما هذه الصلاة، وما هذا الذكر والورد، وما هذا الركوع وما هذا السجود! من هو الذي يطلب ومن هو الذي يذكر ومن هو الذي يلهج لسانه بذكر سبحان‏
__________________________________________________
1- ورد في كتاب فلاح السائل، ص 210: فقد رُوي أنّ مولانا جعفرَ بن محمّد الصّادق عليه السّلام كان يتلو القرآن في صلاته فغشي عليه، فلمّا أفاق سُئل: ما الّذي أوجب ما انتهتْ حالُك إليهِ؟ فقال ما معناه: ما زِلتُ أُكرّر آيات القرآن حتّى بلغتُ إلى حالٍ كأنّي سمعتها مُشافهةً ممّن أنزلَها على المكاشفة والعيان. فلم تقم القوّة البشريّةِ بمكاشفة الجلالة الإلهيّة.
وفي نفس هذا المصدر، ص 206 ورد:
روى محمد بن يعقوب ما معناه: إن مولانا زين العابدين عليه السلام وهو صاحب المقام المكين، كان إذا قال مالك يوم الدين يكرّرها في قراءته حتى يظن من رآه أنه قد أشرف على مماته.
ونقل في الكافي، كتاب فضل القرآن، حديث 13، ج 2، ص 602: عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعلى بن محمد القاساني جميعاً عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داوود عن سفيان بن عيينة عن الزهري قال: قال علي بن الحسين عليهما السلام: لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي. وكان عليه السلام إذا قرأ مالك يوم الدين يكررها حتى كاد أن يموت.
وروى في كاتب فلاح السائل، ص 211:
وقد ذكر محمد بن يعقوب الكليني أن الصادق عليه السلام سئل كيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بهم ويقرأ القرآن ولا تخشع له قلوب أهل الإيمان؟ فقال عليه السلام: إن النبي صلوات الله عليه كان يقرأ القرآن عليهم بقدر ما يحتمله حالهم.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 62
ربي الأعلى وبحمده؟!
                        فقط العباد المخلصون هم الذين يمكنهم أن يكونوا مسبّحين لله‏

وهنا يتّضح معنى هذه الآية الشريفة سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ [1]، وذلك‏
لأن الذي يمنع من وصف ذات الباري تعالى وتوضيحها وبيانها هو محدوديّة البشر في حمدهم لله وتسبيحهم الذي لا تتجاوز إطار مدركاتهم البشرية. وبما أنه لا يمكن للمعلول مهما كانت سعته وظرفية استعداده أن يحيط بالعلّة ويشرف عليها، فكذلك لا يمكن للحمد والتسبيح الصادر من المخلوقات- مهما بلغت من مراتب الكمال الروحي وعلوّ النفس- أن تكون لائقة بالمقام المنيع والعزيز لذات الحق. وبناء على هذا، إذا اعتبرت هذه الآية أن تسبيح عباد الله المخلصين مناسب لمقام الله ولائق بشأنه، يُعلم أن ذات الله هو الذي يسبّح نفسه ويمجّدها، وأن هذا التسبيح خارج عن دائرة مدركات النفس البشريّة وملكاتها. وهو وإن كان صادراً من لسان فرد بشري، لكن روحه وحقيقته وسرّه متّصل بذات الحق ومنبعث من إرادته ومشيئته، وليس هناك أي مشيئة أخرى أو تعلّق إضافي في هذا الأمر غير الإرادة والمشيئة الإلهيّة.
توضّح هذه الآيات مقام الإنسان الكامل وشأنه بشكل جليّ، وتحدّد الضابطة التي على أساسها يعمل هذا الإنسان؛ وهي أن عمله لم يعد يصدر منه بناء على موافقته للمصالح والمفاسد أو على أساس قصده وإرادته تطبيق الخير والصلاح، ولا يعود محتاجاً إلى التفكير في مصالحه وإعمال الرويّة لتصحيح عمله وتصرفه، كما هو المتعارف عند أهل الخير والصلاح، وليس محتاجاً إلى المراقبة والمجاهدة ليحصل على الإخلاص لله في عمله، ولا يبقى لديه قلق من وسوسة الشيطان وإغواء النفس الأمّارة. فقد قطع أيادي الشيطان وجنوده كلّياً ومنعها من التطاول على حرمه وحريمه، ووضع نفسه تحت سيطرة القوى العاقلة والملكوتية، وقد تحقّقت في ذاته جهات الفعلية العقلانية والكمال الروحي، وظهرت وبرزت لديه حقائق عالم التشريع، وانقشعت أمامه ملاكات الأحكام‏
__________________________________________________
 [1]- سورة الصافات (37) الآيتان 159 و 160.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 63
جميعاً، وبانت له علل الشرائع والقوانين بشكل جلّي، وتحقّقت في وجوده حقيقة جميع الأحكام الإلهيّة ودستورات الشرع المبين بعينها وحقيقتها التكوينية. عندها، كيف يمكن أن يتصوّر وجود خطأ في أعماله أو غلط أو هوى في أفعاله، أو أن يتصوّر حصول ندم على كلامه وتصرّفه أو أسف على نصائحه؟
وهنا نشاهد أن الكثير من العلماء الكبار والفقهاء العظام يرجعون إلى أساتذتهم العرفانيين وعلمائهم الربانيين والسلوكيين في موارد الشك في الحكم والترديد في استنباط الأحكام الشرعية، ويستفسرون منهم ويستوضحونهم ويطلبون منهم رفع هذه الشبهة، وكان هؤلاء يبيّنون لهم بالفعل حقيقة المسألة وواقعها ولبّ ذلك الحكم وجوهره 1.
                        العواقب السيّئة لزعامة وولاية من لم يعبر من مراحل النفس‏

يقول الحقير: لا أرى استطراداً أن أنقل رواية ذكرها صاحب كتاب ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث يروي بسنده عن أبيه عن محمد العطار عن الأشعري عن محمد بن حسان عن أبي عمران الأرمني عن عبد الله بن الحكم عن معاوية بن عمار عن عمرو بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
من وَلِيَ شيئاً من أمور المسلمين فضيّعهم ضيّعه الله عز وجل [2].
بمعنى أنه من تولّى أمراً من أمور المسلمين، وكان جاهلًا بالمصالح والمفاسد ولم يكن متعمّقاً بالقدر الكافي في تحديدها، فإن ذلك سيوجب فساد هذا الأمر واضمحلاله وخرابه، وسوف يبدّل الله تعالى عمره من السعادة إلى الخسران والهلاك.
وهذه المسألة ليست مزاحاً كي يكِل الإنسان أمره‏
__________________________________________________
1- كما حصل ذلك بالنسبة لتلاميذ المرحوم الحاج الميرزا جعفر كبوتر الآهنگى والمرحوم شيشه گر، وكذلك نقل عن عدة أخرى من تلاميذ العلماء والعرفاء الإلهيّين، الذين لا كلام في اجتهادهم.
 [2]- بحار الأنوار، ج 75، ص 345، نقلًا عن ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص 309.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 64
إلى شخص محتاج بذاته إلى من يرشده ويأخذ بيده ويهديه! وقد نقل لنا التاريخ مئات بل وآلاف الشواهد الواضحة والجليّة على هذه القضية. فهداية الخلق وإرشادهم يجب أن تكون بيد شخص ليس لديه أي تعلّق بنفسه‏
وأي ميل إلى الكثرات وخصوصياتها وآثارها في جميع أبعادها، وأن لا يكون لديه توجّهاً إلى الدنيا؛ لا فقط أن يمتنع عن المأكولات والمشروبات واللذّات الشهوانيّة- حيث يظن الكثير من الناس أن هذه الأمور من خصوصيات الشخص المتعلّق بالدنيا- بل أن يمتنع أيضاً عن المسائل الباطنيّة للنفس الأمارة والغرائز الشيطانية المخفيّة والمنطوية في نفس البشر، والتي هي أهم بكثير وأخفى وأشدّ خطراً من تلك الأمور السابقة.
فعمَر مثلًا كان يأكل الخبز والخل، وكان يتظاهر بذلك أمام عوام الناس الذين هم كالأنعام، وكان يضلّهم بذلك، والحال أنه لم يكن مستعدّاً أن يتخلى ولو للحظة واحدة عن الخلافة، فيسلّمها لصاحبها الحقيقي والأصلي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. فاللّذة التي كان يشعر بها هذا الرجل الذي لا يعرف شيئاً عن الله والمنغمر في الشهوات والأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، في تسلطه على الناس وحكومته عليهم، كانت أشد وأعلى بكثير من لذّة الطعام اللذيذ والشراب الهني‏ء ومقاربة الحسناوات وسائر النعم الظاهرية والدنيوية الأخرى.
فلا يتصوّر أحد أنه بمجرّد أن يحرم إنسان نفسه من بعض النعم الإلهيّة الظاهرية، ويكتفي بالقليل منها، ويرتكب بعض الأمور الأخرى التي يمكنه توجيهها أمام الناس البسيطين والذين لا
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 65
علم لهم بخصوصيّات النفس الأمّارة وحقائقها، ويبتعد عن الأمور التي يمكن أن تكون موضع شكّ وإبهام لدى الكثير، بأن هذا الشخص يمكنه أن يتعهّد تدبير أمور الحكومة وإرشاد الآخرين وأخذ زمام أمور الناس بيده. بل يجب أن يكون الإنسان المتصدّي لهذه الأمور قد حرّر نفسه من مستنقع النفس، ووصل وجوده بوجود الحق تعالى، وحوّل جميع صفاته وملكاته وغرائزه إلى صفات حضرة الحق بشكل جوهري، بحيث لم يعد في وجوده أي أثر من الآثار السيئة المخفية والمتوارية في زوايا النفس الأمّارة، وأي شائبة من الملكات الرذيلة الموجودة عند جميع أفراد البشر؛ هذه الآثار والملكات التي لا يمكن أن ترتفع أبداً من خلال المطالعة والقراءة والدرس والتدريس في مسائل العلوم الفقهية وسائر المعارف والعلوم المتداولة في عالم الدنيا. نعم، ذلك الشخص الذي هاجر من الجزئيّة إلى الكلّية وانتقل من عالم النفس الدنيّ إلى عالم التجرّد العليّ وارتفع من حضيض الكثرة إلى أوج الوحدة، هو الذي صار حائزاً على شرائط الإرشاد والوعظ والتربية ومسؤولية التدبير وإدارة الأمور الشخصيّة والاجتماعية.
يقول المؤلّف: من المناسب هنا أن نشير إلى بيانات المرحوم الوالد قدس الله نفسه في رسالته التي وجّهها إلى قائد الثورة الإسلاميّة في إيران آية الله الخميني رحمة الله عليه حول القانون الأساسي، حيث كتب في مقدّمة هذه الرسالة:
                        مقدّمة رسالة مسودة القانون الأساسيّ للمرحوم العلّامة

تعتبر الفلسفةُ التوحيديّة الإسلاميّة المتّخذة من القرآن الكريم والسنّة النبويّة أنّ روح الحكومة والولاية على الناس منحصرة بالمبادئ الرفيعة السامية، وتعتبر أنّ الشخص المناسب لهذا المقام هو أعلم الموجودين وأجمعهم للشروط وأنزههم،
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 66
وفي هذه الصورة، أي تحقّق قيادة أفراد الأمّة من قِبَل هذا القائد الواقعيّ البارّ بما يحمل من قلب منير واعٍ وعقليّة مفكِّرة وعزم راسخ، مضافاً إلى غلبته لهواه والتحاقه بالكلّيّة، فإنّها ستنشر عليهم أفضل المواهب الإلهيّة، وتظهر إلى الوجود جميع طاقاتهم ومواهبهم الذاتيّة، وتمتّعهم بجميع الغرائز والملكات الروحيّة بما يلبّي رغباتهم وطموحهم.
وفي ظلّ هذه الفلسفة، فإنّ الحُكم والقانون والقضاء ينتشر تدريجيّاً من الأعلى (أي من مقام التوحيد والطهارة الذي يمثِّل مقام وحدة وجامعيّة وليّ الأمر) إلى الأسفل ليشمل جميع طبقات الناس وأصنافهم.
فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيمًا [1].
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [2].
أمّا في الفلسفات المادّيّة، أو في القوانين الغربيّة التي لا تتمتّع بشي‏ء من روح التوحيد الإسلامي، فإنّ مصدر قرارهم صادر من الكثرة، أي من أفكار وأوهام عامّة الناس وإن كانوا في أدنى درجات الضعف، وحيث يعتبرون ملاك حقّ تعيين المصير وصنع القرار في الشؤون العامّة والسلطة منحصراً بآراء الأكثريّة لا غير.
فتقوم الحكومة في هذه الفلسفات على أساس الانتخاب، ويقسّمون كيفيّتها على ضوء نظام الملكيّة الدستوريّة أو النظام الجمهوريّ أو بعض الأنظمة الأخرى، ولذا فالنظام الجمهوريّ القائم‏
__________________________________________________
 [1]- سورة النساء (4)، الآية 65.
 [2]- سورة الأحزاب (33)، صدر الآية 36.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 67
على أساس الانتخاب لا يختلف عن النظام الملكيّ الدستوري، وهو وليد القوالب الغربيّة التي لا تنسجم مع روح الإسلام.
تستند حكومة ودولة الإسلام على نفسها، وتعتمد على أصل الحقّ الأصيل، ولا يمكن لأيٍّ من تلك القوالب تجسيد واقعيّة وشكل حكومة الإسلام.
وعلينا في هذه المرحلة الحسّاسة والمصيريّة التي نمرُّ بأدقّ لحظاتها أن نكون أكثر حيطة لكي لا نبيع الأصول الإسلاميّة النفيسة من حيث لا نشعر- والعياذ بالله- إلى الميول النزعات الغربيّة بسبب تشبّع الأدمغة بإلقاءات الغرب، وعدم الأنس بطريقة تشكيل الحكومة الإسلاميّة بشكلها الواقعيّ، وعلينا أن لا ندفن تلك الحقيقة في مقبرة النسيان بسبب الاعتماد على إشراف ورقابة أنظمة التسلّط والاستبداد والتجبّر!
وقد أخطأ أعلامُنا سواء مَن ناصر الاستبداد أم من أيّد النظام الدستوريّ في غمار معمعات وصراعات الحركة الدستورية، ففئة كانت ترى أنّ الناس المظلومين سيتحرّرون من نير الاستبداد وظلم الأمراء والحكّام الجائرين فساندوا النظام الدستوري، وارتأت الفئة الأخرى أنّ عنوان الاستبداد سيحفظ الناس وسط هالة من الدين، وأنّه سيسدّ ثغرة الحرّيّات غير المشروعة واستساغة التغرّب، ولأنّهم حصروا الطريق في هاتين النظرتين، فقد حاربوا بعضهم البعض، ولم يقل أحد إنّ النظام الدستوريّ غير صحيح وكذا الاستبداد، وأنّ الصحيح هو الإسلام لا غير، فحكومة الإسلام هي حكومة الإسلام، أي حكومة رسول الله، لا أقلّ من هذا ولا أكثر.
لذا شوهد في مدّة حياة النظام الدستوريّ الذي سُقيت شجرته بدماء المجاهدين الصادقين الزاكية ومخلصي طريق العدل والحرّيّة أنّه قد صُبَّت كلّ ألوان الظلم، وأنّ النظام الدستوريّ لم يدع في تسلّطه على هذه الأمّة مجالًا تسبقه فيه واحدة من‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 68
الحكومات الاستبداديّة عبر التاريخ البشريّ، ويا لشدّة تلك الظلامات المؤلمة التي لم تنفع معها أقوى المسكّنات تأثيراً! ويا لعظم ذلك الحرمان بحقّ أبسط حقوق الناس الأوّليّة باسم العدالة الاجتماعيّة والحرّيّة العامّة الخاوية من أيّ محتوى. هذا على الرغم من رعاية الدقّة الكافية في سنّ ذلك الدستور تحسّباً من الانحراف، مع كثرة الاهتمام في تطبيق قانون العدالة والحرّيّة. والعلة الوحيدة لكلّ هذا الحرمان تكمن في أنّ الحكومة قد انحرفت عن محورها الأصليّ، فقد سنّوا القانون تحت واجهة مجلس الشورى، وانفلتت من أيديهم السلطات الثلاث- التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة- فيكفينا بهكذا نظام دستوريّ تجربة، ورسول الله يقول: لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ" [1]، إلخ.
                        اشتباه العلماء في حادثة المشروطة كاشف عن عدم كفاية الفقاهة الظاهريّة

والحاصل أن مرادنا من سرد كلامه في هذه الرسالة وإن كان قسماً منها فقط؛ وهو ما ذكره من تدخّل علماء الدين في الأمور السياسية وما حصل في أحداث الحركة الدستورية، وأنه كيف وقعت هذه الدولة بأيدي الأجانب، مع وجود المراتب العالية من العلم والفقاهة، وذلك لأنها لم تكن تمتلك بصيرة وإشرافاً على المسائل الخفية والأمور المبهمة في عالم السياسة، ولم تكن على علم بكيد الكافرين ومكر الملحدين. فكم من دماء أريقت في هذا السبيل الذي لا طائل منه، وكم من رأس مال أهدر في ذلك وكم هتك لحرمات الدين والمتدينين قد ارتكبت ... لكن بما أن الفهم الصحيح لهذه الفقرات كان يستوجب بيان الفقرات السابقة قمنا بذكرها أيضاً لهذا
__________________________________________________
 [1]- مشكاة الأنوار، ص 319، وبحار الأنوار، ج 19، ص 346، وج 20، ص 144.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 69
السبب.
لقد أشار المرحوم الوالد في هذه الفقرات التي يجب أن تسمى واقعاً بميثاق الحكومة الإسلاميّة، إلى المطلب الذي كنّا قد بحثناه في السطور السابقة، وهو إيكال زمام الأمور إلى الفرد الكامل والبصير والخالي عن الخطأ والاشتباه والمنوّر بنور الإيمان والمتحقّق بحقيقة الولاية. باعتبار أن هذا الشخص هو الوحيد الذي يمكنه أن يأخذ الأحكام والقوانين والدستورات من مبدأ الوحي ومنبع الأحكام ومحل تنزّل الشرائع، ويوصلها إلى منصّة الظهور في أجمل حللها وأتقنها، مراعياً في ذلك ظرف الزمان والمجتمع. ولا يستطيع أي شخص آخر أن يقوم بهذه المهمة مهما كان قد بلغ من مراتب العلم والكمال. بل يجب أن تكون هذه الأمور بتدبير وإدارة مثل هذا الشخص الذي بلغت استعداداته فعليّتها، فمثل هذا الشخص هو الذي سيقوم بإيصال جميع الناس- كلٌّ بحسب سعته وظرفيته الوجودية- إلى الكمال والرشاد، وعلى مثل هذا الشخص يمكن للإنسان أن يعتمد لا على فرد آخر، لأن الذين كانوا في خضمّ أحداث هذه الواقعة (أحداث الحركة الدستورية) صاروا طعماً لهذا الخطب العظيم والخطأ الخطير والاشتباه العسير، فجميع هؤلاء كانوا من رؤوس علماء البلاد وفحول الفقهاء العظام؛ كالمرحوم الآخوند ملّا محمد كاظم الخراساني والشيخ عبد الله المازندراني والسيد محمد كاظم اليزدي والميرزا محمد حسن النائيني والشيخ فضل الله النوري، وغيرهم الكثير الذين كانوا يعتبرون مراجع لجمع غفير من الناس، وملجأ لأفراد مختلفة من طبقات المجتمع. لكن في النهاية رأينا كيف تسلّلت الأيادي الخفيّة والأصابع السرّية لسياسة الأجانب، حتى لوّث مكر هؤلاء وخداعهم ساحة الفقهاء وجعلوهم ملعبة لهم، وعندما علم العلماء بحقيقة هذا الخداع والمكر كانت الأمور
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 70
قد خرجت من أيديهم ولم يكن لديهم أي حيلة، حيث كان الحليف غارقاً في سكرة الانتصار يضحك ضحك المنتشي على كل أرباب الفضل والدراية والفقه والفقاهة؛ فقد تم له الفتح والانتصار، وجعلهم في مهب رياح المسخرة والاستهزاء. وعندما رآهم قد قاموا لمواجهته وأقدموا على منابذته، قام بقطع الطريق عليهم من أوله، وعمل على إخماد الأصوات قبل ارتفاعها وقبل بلوغها الحلقوم، وتربّع هو على عرش السلطة والحكم.
نعم، هذه نتيجة عدم البصيرة في الأمور، والاقتصار على النظر إلى المسائل بنظرة ظاهرية، وعدم التزوّد من المواهب الإلهيّة الخفيّة والاستفادة من ألطاف حضرة الحق الخاصّة، والإيقان بأنه يمكن من خلال الاعتماد على العلوم الظاهرية الشرعية وغير الشرعية التغلّب على مكائد ووساوس وحيل إبليس وجنوده، وأن يهيئ الطريق للسير نحو الكمال ويفتحها أمام المجتمع ويرفع الموانع والعقبات عنها. والحال أنه غافل عن أن الشيطان قد سبقه في تجربة جميع الطرق والاطّلاع عليها بشكل كافي ووافي، وأنه سيستفيد من كامل قدراته في حربه ضدّ صديقه، ولن يستطيع أي شخص أن يواجه علم الشيطان إلا إذا كان مشمولًا لتأييد الرب تعالى، وإلا إذا صار قلبه وسرّه وضميره متّصلًا بحقيقة الربوبية، كما ذكرنا ذلك سابقاً.
                        من علامات الإنسان الكامل الوصول إلى مرتبة اليقين والعلم الحقيقي‏

ومن جملة الآيات التي تدل على عوامل تحقّق الفرد الكامل وحقيقته، الآية الشريفة التي تقول:
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 71
مَسْؤُولًا [1].
حيث تضع هذه الآية الشريفة كلّ حكم وعمل مخالف لليقين والقطع، وقائم على أساس الظن والشك، موضع العتاب والملامة، لأنّ العمل الذي نشأ على أساس الظنّ والاحتمال هو عمل فاقد للاعتبار- حتى لدى العقلاء- إذا ما أريد وزنه والنظر إليه بما لديه من قيمة.
وبناء عليه، فعلى الإنسان في كل فعل وقول يصدر منه؛ إما أن يصل إلى حقيقة ذلك العمل وما يتمتع به من صلاح واقعي عبر العلم واليقين، وإما أن يكون ذلك من خلال الانقياد لشخص قد أحرز هذه المرحلة، وفي غير هذه الحالة سوف يكون الإنسان عرضة للنهي والزجر الإلهي.
وكلمة تَقْفُ مشتقّة من قفا يقفو بمعنى المتابعة والانقياد، أي عليك أن لا تتّبع أي أمر أو فعل ما دام صلاحه وفساده غير واضح لك بشكل كامل، كوضوح الشمس في وسط النهار. وما دمت لم تسمع بأذنك شيئاً ولم تشاهده بعينك ولم يُحط قلبك علماً بأمره وبأطرافه إحاطةً تامةً، لا ترتّب عليه أي أثر واختر لنفسك في ذلك سبيل الاحتياط والتروّي، وأحجم عن الإقدام على الأمور التي ليس لديك علم بجوانبها.
ولذا تتّضح جلّياً في هذه الآية الخصوصية البارزة والواضحة للإنسان الكامل، وهي الوصول إلى مرتبة اليقين والعلم الحقيقي والحصول على حقيقة الأشياء وواقعية الحوادث الخارجية والقضايا الاجتماعية. وفي هذه المرتبة إذا وقفت جميع الدنيا في وجهه واتخذ الناس في حقه موقفاً وقالوا فيه ما قالوا، يبقى محافظاً على موقفه مقابل هؤلاء كالجبل الراسخ، ولا يعير أي اهتمام أو يرى قيمة لآراء هؤلاء الناس‏
__________________________________________________
 [1]- سورة الإسراء (17)، الآية 36.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 72
وأفكارهم، لأنه يرى أن جميع هذه الأفكار هي وليدة القوى الواهمة والمتخيّلة لهؤلاء الناس والمنبعثة من العلل والمعلولات الظاهرية والقابلة للتغيّر والتبديل. فمثله كمثل الذي يرى الشمس بعينيه السالمتين ويحسّ بنورها ويلمس حرارتها ببدنه، ثم يأتي بعض الأشخاص ويقولون له: لقد دخل الليل، وكل ما تراه أنت منبعث عن تخيّلاتك وأوهامك! فمن الطبيعي أن لا يعتني هذا الإنسان بكلام هؤلاء، ولا يرتّب أثراً عليه، وذلك لأنه يرى أن ما يخبرون به سراب، ويرى نفسه متّصل بالمنبع السيّال لفيضان أنوار حضرة الحق تعالى.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 73
البصيرة؛ لأنه:
أولًا: إن أحكام الشرع ليست منحصرة في مسائل الطهارة والنجاسة وليست مقتصرة على أحكام الشكّ في الصلاة، فقد تعرّض الشارع الإسلامي المقدّس لبيان الأحكام المتعلّقة بكل فرد من المكلّفين- سواء كانت أموراً شخصية أو أموراً اجتماعية- بدءاً من جزئيات المسائل وأصغرها، وانتهاءً بأهمهما وأخطرها وأعظمها شأناً في حياته؛ حيث ابتدأ الشارع ببيان بالأمور الأولية كمسائل الصلاة والصوم، وتعرّض للأحكام والقوانين العبادية والاجتماعية مثل الحجّ والزكاة والخمس والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر المعاملات وعلاقة الناس فيما بينهم والمعاشرات والقصاص والديات وسائر الحقوق الأخرى والأمور المرتبطة بالحياة الاجتماعية والحياة الأخروية، فقد وضع لجميع هذه الأمور أحكاماً، وسوف يسأل الله كلّ فردٍ من الإنسان ويحاسبه على هذه الأحكام. فالمسائل اليومية التي نبتلى بها ليست مقتصرة على الأمور العبادية صرفاً وعلى الدعاء وقراءة القرآن فقط، حتى يمكن للإنسان أن يتجاوزها بسهولة وينجز أموره فارغ البال ومطمئن الخاطر!
فرعاية المسائل الخطيرة والحياتية المهمّة للأمة الإسلاميّة، والعمل على استقامة كيان الشريعة وحفظ الحدود والمصالح الاجتماعية للمسلمين، ليست مسألة بسيطة يمكن التجاوز عنها بسهولة ومزاح والمرور عليها بعدم اعتناء. كما أن حفظ دماء المسلمين وأعراضهم ونفوسهم وأموالهم ليس أمراً سهلًا يمكن للإنسان أن يجعلها في دائرة اختياره ومن وظائفه في الدنيا وضمن سعته الوجودية والشخصية، ثم يوم القيامة يخرجها عن عهدته، فالفرق كبير بين هذه المسألة وبين مسألة الشك في الصلاة ومسألة مفطرات الصوم وأحكام الدماء
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 74
الثلاثة، فالفاصل بينهما كبير جداً كالفاصل بين السماء والأرض. إذن من هو الذي يمكنه أن يتحمّل مسؤولية هذا الأمر الخطير والمصيري، وأي شخص يمكنه أن يتجنّب ما يلازمها من أحداث ومجريات قد تصل إلى إزهاق النفوس وإراقة الدماء وإتلاف أموال المجتمع الإسلامي وهدر إمكاناته ورصيده وهتك أعراض المسلمين وشرفهم؟!
                        رجوع حادثة المشروطة إلى فتويين متقابلتين‏

إن قضيّة الحركة الدستورية وما تبعها من الأحداث المتعلّقة بها، مثال مناسب ومؤيّد واضح لا خلل فيه على صحّة دعوانا ومطلبنا، كما أنها تُعتبر نقطة تحوّل في تاريخ الإسلام وعبرة لمن اعتبر ودرساً لأولي الألباب. والذي ينبغي الالتفات إليه قبل كل شي‏ء في هذه القصّة هو تدخّل طبقة العلماء والروحانيين وخصوصاً مراجع الدرجة الأولى في وقتها؛ كالمرحوم الآخوند الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي والشيخ فضل الله النوري وغيرهم. والذين لديهم اهتمام وإلمام بالكتب التي تعرضت لتاريخ الحركة الدستورية وأخبارها يدركون جيداً أن جميع هذه الأحداث- سواء كانت موافقة لهذه الحركة أو كانت مخالفة لها- كانت تدور حول محور علماء الدين، وعلى رأسهم مراجع الدرجة الأولى في ذلك الوقت. فقد كان الناس في إيران وفي سائر البلاد ينظرون في أمورهم وفي مواقفهم الاجتماعية إلى الأوامر والأحكام الصادرة عن المراجع في ذاك الوقت، وكانوا يتعاملون مع فتاواهم كأنها أحكام لا تقبل الردّ أو التبديل، تماماً كالوحي المنزل من قبل الله تعالى، وككلمات المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. وكثيراً ما كانوا يريقون دماء بعضهم البعض في هذا السبيل لأجل الحفاظ على حريم الإسلام وإطاعة الأوامر الصادرة عن مراجعهم. والله تعالى وحده العالم كم من حروب‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 75
جرت بين الطرفين! وكم من الدماء قد أهدر، وكم من المحرّمات هتكت، وكم من ماء وجه أريق، وكم من الرجال استشهد؛ كالشيخ فضل الله النوري، وكم تجرّع آخرون من سم في تلك الحقبة!
لقد كانت حركة؛ حكم فيها جمع بوجوب مواجهة نظام التسلّط بقيادة مرجع تقليدهم، وحكم جمع بحرمة مواجهة النظام والقيام بوجهه بأي نحو كان، ومن خلال هذه الأحكام والأوامر والفتاوى اشتعلت نار الحرب والدمار، واشتغل الناس المطيعون لمراجعهم بالتصدي لبعضهم البعض! إلى أن اتّضح في النهاية أن هناك أيادٍ خفيّة تولت هي زمام الأمور، وقامت تحرك هؤلاء الناس من وراء الستار حيث لم يكن أحد يعلم بذلك. فقد استطاع الاستعمار الإنكليزي المكّار والمحتال بالتعاون مع الشيطان الروسي- ومن خلال الاستفادة من نفوذ رجال الدين وسلطتهم المعنوية- أن يعتلي ظهور الناس الجاهلين في إيران للوصول إلى جميع أهدافه وميوله وأمانيه. لقد اعتبر هذا الجمع من الناس أنفسهم بأنهم المدافعون عن الإسلام والمحيون للشريعة الغرّاء ولسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن خصومهم المقابلين لهم كانوا يرون أنفسهم أنهم المحافظون على حريم الدين والتابعون لمدرسة سيد المرسلين والمقوّمون لأركان الشرع والشريعة والمميتون لأحكام البدع والضلالة، وكانت كل فرقة من هؤلاء تشدّ الناس الحيارى نحوها وتأخذ بهم من جهة إلى جهة ومن مدينة إلى أخرى. وبقي الأمر كذلك إلى أن ارتفع رأس مرجع من مراجع التقليد فوق أعواد المشنقة، وقامت أيادي الاستعمار الملوثة بتصفية علماء الدرجة الأولى في البلاد، ونقلتهم إلى الدار الأبدية. عندها التفت الجميع إلى الخديعة التي انطوت عليهم، وأنهم كانوا في غفلة عن هذه الأمور.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 76
لذا علينا أن لا نبتعد كثيراً، فقد نشبت في هذا الزمان، وبعد ظهور الثورة الإسلاميّة في إيران، حرب ضروس مدمّرة بين شعبي إيران والعراق الشيعيين والمسلمين، حيث أصدر بعض العلماء فتاوى بوجوب الدفاع والحفاظ على سيادة إيران بأي نحو من الأنحاء، وحكم آخرون بخلاف ذلك، وقالوا بلزوم المصالحة وإيقاف الحرب وحرمة استمرارها. فهذان حكمان متقابلان وفتويان مختلفتان ومتناقضتان!! ومن الواضح والمسلّم به أن مسألة الحرب والقتل وإراقة الدماء تختلف وتتفاوت كثيراً عن الأحكام الأوّلية- كما ذكرنا ذلك- فهناك تبعات كثيرة مترتبة على هاتين المسألتين، سوف تُدرك لاحقاً!
وبناء على هذا فمسائل الشرع ليست على مستوى واحد من الأهمّية، حتى نأتي ونقول إن الحجّية الظاهرية في الأخذ بالأحكام الظاهرية سوف توجب تنجّز ذلك الحكم على المجتهد وعلى مقلّديه، وأن مجرّد تقليد مجتهد ما في المسائل العادية والسطحيّة يوجب حجية فتواه في جميع المسائل؛ ولو كانت من قبيل المسائل التي ذكرناها. إن التوجّه إلى هذه النكتة مهم جداً، لكن لم يتمّ التعرض إليها في الكتب المدوّنة في هذا المجال بالقدر ذاته من الأهمية التي هي عليه.
                        عدم إمكان تعميم كل حكم لكل مكلّف ووضعه في الرسائل العمليّة

وثانياً: هل أن التكاليف والأمور التي يبتلى بها الإنسان مختصّة بخصوص هذه المسائل الشرعية الظاهرية؟ كلا! فالمشاكل الروحيّة والنفسية التي يبتلى بها الإنسان من خلال تعرّضه لبعض الأحداث التي يمر بها في حياته، والتجاذبات التي تصيبه من خلال طروّ بعض الأمور غير العادية والخارجة عن دائرة تفكير الناس وسعتهم العلميّة .. أكثر بكثير من التكاليف الظاهرية والأحكام الشرعية المدوّنة في الرسائل العمليّة.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 77
فمن أين يمكن للفقيه والمجتهد العالم بالأحكام والمسائل الظاهرية أن يشخّص الواردات النفسية التي تدخل ذهن الإنسان، وكيف يستطيع أن يميّز فيها بين الحقّ والباطل ويعمل على ترتيب الأثر عليها أو على تجاهلها؟ ومن أين يمكن للمجتهد أن يعرف أن هذه الرؤيا التي رآها شخص ما أو المكاشفة التي حصلت له تتضمّن تكليفاً وحكماً إلزامياً، أو لا تتضمّن؟ ومن أين يمكن له تشخيص أن هذه المكاشفة هي مكاشفة روحانية أو أنها- لا سمح الله- مكاشفة شيطانية؟ ومن أين يمكنه الاطلاع على الخصوصيّات النفسية للإنسان حتى يقدّم الحكم اللائق به والمناسب له! فمن الممكن أن يكون ذاك الإنسان في وضعيّة روحيّة تجعله غير مستعدّ لتلقي هذا الحكم والقبول به، فعندها سيكون إلقاء مثل هذا الحكم موجباً لتشويش خاطره، ومسبّباً لحصول اضطراب روحي لديه مما يؤدّي- لا قدّر الله- إلى انحرافه عن الطريق السويّ. أوَهل يمكن أن يُلقى أي حكم يتمّ الحصول عليه على جميع المكلّفين بنحو كلّي وفي درجة واحدة؟
أذكر أنه في أواخر حياة المرحوم الوالد رضوان الله عليه، كان أحد المراجع الفعليّين- الذي لم تكن مرجعيّته في وقتها قد بلغت ذروتها، ولم تطرح بشكل ثابت بعد- قد تشرّف بالذهاب إلى المشهد المقدس للإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام، حيث كان يذهب عادة في كل صيف إلى مشهد لهذا السبب، وفي أحد الأيام تفضّل وشرّف إلى منزل المرحوم الوالد للقاء به، وفي أثناء كلامه معه طرح المرحوم الوالد قدس الله نفسه مسألة شرعية وسأله عن رأيه فيها.
                        سؤال العلّامة الطهراني لأحد علماء الدين، وجوابه، وما يرد عليه‏

والمسألة كانت بهذا الشكل: إذا كان شخص يغتسل غسل الجنابة بشكل خاطئ نتيجة جهله وعدم فهمه‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 78
لمسألة الغسل وشروطه لمدة ثلاثين سنة، حيث كان يتصوّر وجوب غسل تمام البدن دفعة واحدة، بدلًا من تقديم الرأس والرقبة على الطرف الأيمن والأيسر، فما حكم صلاته التي صلّاها طوال هذه المدة؟ وكيف يمكن أن يُفهَّم هذا العامي الحكم الصحيح في المسألة؟
فقال ذاك العالم في جوابه: لا إشكال في ذلك، لأنه لا يشترط الموالاة في الغسل، يعني أن اغتساله الأول كان بدلًا عن غسل الرأس، والاغتسال الثاني- الذي يمكن أن يأتي به بعد عدة أيام- يحتسب عن غسل الجانب الأيمن، وعند الاغتسال في المرة الثالثة بعد أيام أيضاً يحتسب هذا الغسل بدلًا عن غسل الجانب الأيسر، فيكون قد أتمّ الغسل بالاغتسال الثالث!
وعندما سمعت هذه الفتوى لم أستطع أن أخفي تعجبي واستغرابي منها، وتصوّرت أن هذا الجواب أقرب إلى التفنّن منه إلى جواب شرعي؛ وذلك لأنه:
أولًا: إن الموالاة وإن كانت من شروط الوضوء لا من شروط الغسل، إلا أن عدم اشتراط الموالاة في الغسل ليس بالمعنى الذي يخرج صدق الاجتماع ووحدة الفعل المأتي عن حدّه العرفي، بحيث لا ينظر العرف إلى هذا العمل الشرعي بأنه فعل واحد، وبعبارة أخرى إن تحقّق الغَسل بهذه الشروط والخصوصيّات موجب لسلب لفظ الغُسل عنه، وعدم صحة إطلاقه عليه، أي أن عدم اشتراط الموالاة إنما هو في حدود بقاء الفعل على حقيقته العرفية، وعدم خروجه عنها؛ بمعنى أن تكون الفاصلة بين غسل الأعضاء لا تتعدّى الساعة أو أقل منها، لا أكثر.
وثانياً: إن نيّة التقدّم والتأخّر في أجزاء الغسل من جملة شروط صحة الفعل. فيجب على المغتسل في الغسل الترتيبي أن يرتّب نيّته في غسله الرأس والرقبة أولًا، ثم غسل الطرف الأيمن، ثم‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 79
غسل الطرف الأيسر، وإلا يكون غسله باطلًا. يعني مثلًا إذا وقف شخص تحت رشّاش الماء بحيث تمّ وصول الماء أولًا إلى رأسه ورقبته، ثم إلى جنبه الأيمن ثم إلى جنبه الأيسر دون أن ينوي الغسل في كل مرتبة، فغسله هذا باطل. إذن كيف يمكن للشخص الذي لم تتحصّل منه هذه النية أن يتحقّق منه الترتيب؟
وثالثاً: الأعجب من كلّ ما تقدّم، هو أنه بناء على تصحيح هذا الغسل بضمّ سائر الأجزاء في الأوقات اللاحقة، فما هو مصير الصلوات التي يأتي بها في الأوقات الفاصلة بين هذه الأغسال؟ لا شك أنه يجب الحكم على هذه الصلوات بالبطلان، وعندها تعود المسألة إلى حالتها الأولى!
والحاصل أن المرحوم الوالد رضوان الله عليه أراد من خلال هذا السؤال أن يفهم هذا العالم: أنك عمّا قريب ستُطرح مرجعيّتك، وسوف تصير مسؤولًا عن إصدار الفتاوى والأحكام للمقلِّدين والعوام. فإذا ابتلي أحد مقلّديك بمثل هذه المسألة وأنت في هذه الحالة، هل يمكنك أن تفتي ببطلان جميع الصلوات التي صلّاها في هذه الحالة، أو أن هناك طريقاً آخر لمعالجة هذه المسألة تحافظ فيه على إيمان هذا المكلّف ويتناسب مع ظرفيّته وسعة اطّلاعه؟ من الطبيعي أن طرح فتاوى كلّية وعامّة في مثل هذه الموارد، التي تعدّ من الأمور البسيطة والابتدائية، في الرسائل العملية على منوال واحد سوف يسبّب وجود عواقب وتبعات كبيرة، فكيف الحال إذا وصلت الأمور إلى الأحكام الخطيرة والمهمّة والحسّاسة. ومع أن المرحوم الوالد سعى كثيراً لإيصال هذا المطلب إلى ذاك العالم المحترم وإفهامه إياه، إلا أنه لم يتيسّر ذلك.
إن ملاحظة الشرائط الروحيّة للمقلِّدين وكيفيّة تعامل الفقيه معهم وكيفيّة إلقاء الأحكام إليهم، هي من أهم وأصعب مراحل استنباط
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 80
الأحكام وبيانها للمخاطبين. فإذا كان بيان حكم تكليفي بسيط يمتلك هذه الفروع والتشعيبات المختلفة، حيث أن كلّ فرع منها يتطلّب الإجابة عن حكمه الخاص به، فكيف الحال بالنسبة للإجابة على الأحكام النفسيّة والروحيّة ومعضلاتها، ومعالجة المشاكل الروحيّة والمسائل الغامضة التي يعجز الكثير حتى عن إدراكها فضلًا عن حلّها ورفع الشكّ والترديد عنها، فهل يكفي مراجعة أي شخص في ذلك والرجوع إلى أيٍ كان وطلب حلّ هذه المسألة من أي مكان؟!
                        أمر الإمام الباقر عليه السلام لأبي حمزة: فاطلب لنفسك دليلًا

يقول الإمام الباقر عليه السلام مخاطباً أبا حمزة الثمالي:
يا أبا حمزة يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلًا وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض، فاطلب لنفسك دليلًا [1]
يخاطب الإمام أبا حمزة بأنه إذا أراد أحدكم أن يسافر إلى مسافة قليلة لا تتجاوز بعضة فراسخ فإنه يلتمس دليلًا لبيان طريقه، فمن أين لك أن تشخّص طرق السماء وتميّز حجب عوالم الغيب، والحال أنك في هذه العوالم أجهل بكثير منك في طرق الأرض، وإذا كان الأمر كذلك فعليك أن تبحث على دليل ومرشد تعتمد عليه وتثق به كي تسلّمه زمام أمورك في سفرك وسيرك نحو الحق تعالى.
فهل يقصد الإمام الباقر عليه السلام بكلامه هذا المسائل التكليفيّة من قبيل الصلاة والصوم فقط، أو أن هناك أمراً آخر وراء هذه الأحكام؟ ما يظهر بوضوح من كلام الإمام هو أن إيكال الأمور العقائديّة وتفويض الاختيار والإرادة الشخصيّة إلى شخص عليم وخبير بالمسائل الحياتيّة
__________________________________________________
 [1]- الكافي، ج 1، ص 184.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 81
والأمور المصيريّة، والتسليم الكامل له في الأمور الخطيرة والمحورية في حياته.
                        اللوازم الوجوديّة للإنسان الكامل في كلام أمير المؤمنين عليه السلام‏

يقول أمير المؤمنين عليه السلام عند كلامه عن خصوصيّات هؤلاء الأشخاص في نهج البلاغة:
إن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظةٍ في الأسماع والأبصار والأفئدة. يُذكِّرون بأيّام الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات. من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه وبشّروه بالنجاة، ومن أخذ يميناً وشمالًا ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة. وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلّة تلك الشبهات ... [1]
يبيّن أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفقرات العجيبة خصوصيّات الإنسان الكامل والعارف بالله، ويشرح لوازم وجوده، وواقعاً هذه الفقرات جديرة بأن يجلس الإنسان عدّة شهور ويتأمّل فيها ويتدبّر معانيها بدقّة، ولا يمرّ عليها مرور الكرام. فالإمام يقول:
إن الله تعالى قد جعل ذكره موجباً لجلاء القلوب وشفافيتها، ومن لم يُجعل في قلبه ذكر الله، فسوف يصدأ هذا القلب ويمتلئ بالحقد والكدورة ويطفو بالأنانيّة والكبر والرياء، ولن يبقى في هذا القلب نور، وعليه فسوف يدرك الأمور والحقائق بشكل معوجّ، دون أن يقدر على إدراكها بتلك الشفافية والوضوح التي هي عليه. وقد جعل الله الذكر كذلك لكي يسمع قلبك بعد عدم سماعه، ولترى عين بصيرة القلوب بعد عميها، وينقاد
__________________________________________________
 [1]- نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 2، ص 211.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 82
الإنسان بعد العناد والاستكبار والأنانية والاستعلاء.
يعتبر الإمام في هذه العبارات أن لا قيمة لأذن الإنسان وعينه ولقلوب جميع الناس، وأن تلك القلوب التي لا تتوجّه إلى الحق في سرّها وضميرها هي قلوب ميّتة لا شعور لها ولا إدراك لديها، وأن حقيقة القلب واعتباره منحصر في ما يمتلكه من توجّه والتفات إلى التوحيد، ومن المسلّم به أن مجرّد الذكر الظاهري وحمل المسبحة وقراءة الأوراد والأذكار، ليس كافياً لتحصيل هذه المرحلة وهذا الموقف. وكم مرّ عبر التاريخ أشخاص مثل الخوارج حفظوا القرآن في صدورهم، وكانت أصواتهم تعلو دائماً بتلاوة كلام الله، وكانوا يستشهدون بالآيات القرآنية ويتمثّلون بها في حياتهم اليوميّة، لكن قلوبهم مع ذلك كانت سوداء مظلمة كالليل المدلهمّ.
إن المقصود من كلام الإمام عليه السلام هو انغمار قلوب هؤلاء الأشخاص وضمائرهم في حقيقة التوحيد والذات الأحديّة، حتى صارت حقيقة ذكرهم لله معجونة ومتمازجة مع روحهم، وأصبحت ذائبة في وجودهم كذوبان السكر في الماء؛ إلى أن تشكّلت منهما حقيقة واحدة. لا أن مقصوده أن هؤلاء الأشخاص العاديّين الذين يذكرون الله بما تمليه عليهم أفكارهم وتخيّلاتهم الماديّة، وبما تفرضه طرق لهوهم ولعبهم المتناسبة مع عالم الغرور وعالم الدنيا .. تنجلي قلوبهم ويحصل لديهم الصفاء المطلوب، وترتفع عن أنظارهم حجب الغيب، ويشرفون على حقائق عالم الوجود ويطّلعون على أسراره، هيهات أن يكون هذا مراده!
                        هداية الله لعباده الخلّص في أيام الفترات ليقوموا بإرشاد الناس‏

ثم بعد ذلك يوضح الإمام هذه الصفات والملكات في الإنسان العارف، بأن السنّة الإلهيّة المتعلّقة
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 83
بنعمه الغزيرة تقتضي أن يكون في كل زمان وفي كل فترة- وهي الزمان الفاصل بين النبي السابق والنبي اللاحق، أو في فترة الإمام المعصوم عليه السلام الذي لا يكون مشهوراً وظاهراً علناً أمام الناس- عباد مخلصون لله ومنتخَبون من قبله، أكرمهم الله تعالى بالقرب والكرامة وأحاطهم بالعناية الخاصّة، وناجاهم في عالم فكرهم وقواهم العقلانية، وكلّمهم في محض عقولهم ومقام تمييزهم وتشخيصهم، وعندها ستصير أنظارهم مبصرة وأسماعهم واعية وقلوبهم مستنيرة، بسبب ارتباطهم بالنور الإلهي ووصولهم إلى مرحلة" برهان من ربه" ولانكشاف حقائق عالم الوجود لديهم. فهؤلاء الأشخاص يقومون- من خلال هذه الهداية الخاصّة التي وصلوا إليها والضمير الواضح الذي يمتلكونه، هذا الضمير الذي صار محلًا لانعكاس أنوار جمال الحقّ وجلاله، وموضعاً لعلمه وقدرته وحياته- بهداية الناس وإرشادهم وينبّهونهم إلى مواقع نزول الجذبات الإلهيّة وأيّام حصول الجلوات، ويكشفون لهم أوقات استجلاب الفيوضات الإلهيّة وكسب أنوار عالم القدس، فقد ورد في الآية الشريفة التي تتكلم عن النبي موسى عليه السلام:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ (أي ظلمات الجهالة وكدورات عالم النفس) إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (أي أن هذه المسألة دليل على قدرتنا وإرادتنا على الناس، وهؤلاء لكي يصلوا إلى هذه المراتب يجب عليهم أن يكونوا صبورين وشاكرين لنعماتنا [1].
فهؤلاء الأشخاص هم الذين يحذّرون الناس ويخوّفونهم مقام عزّة الله وكبريائه (حيث إن لله مقام العزّة والغنى وعدم الاحتياج إلى الغير، بينما نرى أن‏
__________________________________________________
 [1]- سورة إبراهيم (14)، الآية 5.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 84
جميع الأشخاص الآخرين إلى أي فرقة انتسبوا، هم محتاجون إليه في بلوغهم أي مرتبة من مراتب الكمال، ومفتقرون إليه في استكمال حالاتهم الروحيّة، بل هم محتاجون إليه حتى في نفس بقائهم واستمرار وجودهم، وهذه حقيقة ثابتة لا تزلزل فيها، فليس لله مع أحد من الناس تساهل أو مجاملة في ذلك، بحيث لو كفر الناس جميعاً به فلن يؤثّر ذلك على كبريائه أبداً). ومثل هؤلاء الأشخاص كمثل دليل الطريق في الصحاري القفار، هم يقومون بترغيب من يريد أن يضع قدمه في الطريق الصحيح ويحثّونه على ذلك ويسهّلون عليه طريقه ويساعدونه على الاستمرار في هذا المسير ويقدمون له العون، ويبشّرونه بالنجاة والاستقامة، ومن يريد منهم أن ينحرف عن جادة الطريق ويذهب يميناً ويساراً، يذكّرونه بمخاطر هذا المسير ويعدّدون له آفاته ويحذّرونه من عواقب ونتائج هذا الانحراف ويخوّفونه من الهلاك والخسران. نعم، هؤلاء هم الحاملون لمصابيح الهداية في ظلمات النفس وفي مبهمات الحوادث المظلمة والمعوجّة والمشوّشة، والمرشدون في هذه الشبهات والمشاكل العويصة التي يعجز الفكر البشري الناقص أن يجد لها حلًا، أو يمّيز فيها بين الحقّ والباطل.
وهنا لا بد أن يعترف الحقير: بأني لا أقدر أن أفي بشرح هذه العبارات وتوضيحها بما يليق بها، لأنه مع الالتفات إلى قصور المدركات التي أمتلكها وضيق دائرة القدرة على التشخيص والتوقّف والركود في عالم الكثرات، أشعر بأني ليس لدي القدرة على فهم هذه المطالب فهماً صحيحاً والوصول إلى واقعية هذه المطالب العالية والمضامين الراقية، وأن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يوضح هذه العبارات، هو الذي يكون كنفس أمير المؤمنين عليه السلام، بأن يكون قلبه متّصلًا بالحقيقة وبجوهرة عالم الأمر، ويكون‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 85
قد وصل إلى مرحلة يأخذ ضميره الحقائق من منبع العلم الأزلي بدون توسّط الغير، ويصير قلبه من خلال اتّصاله بقلب الإمام وسرّه موضعاً لتجلّي وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [1]. والحاصل أنّه باتّصاله بمنبع الوحي وسرّ عالم التشريع يكون كلامه فصلًا ومنطقه حكماً ورأيه مصيباً وفكره صلاحاً مطلقاً وعمله حقيقة محضاً.
نعم هذه المهمة يمكن أن تكون بعهدة أشخاص مثل المرحوم الوالد رضوان الله عليه فقط، ولا يليق بنا أن نضع أنفسنا في موضع أقدام هؤلاء العظماء، ونطرح بعض المسائل والعبارات التي لم تخرج من صدق الضمير وخلوص النفس، بل خرجت من خلال التدبّر القاصر والتحقيق الناقص، ومن خلال تصفّح بعض الأوراق ونقل بعض المطالب الممتزج صحيحها بسقيمها وحقائقها بمجازاتها، فإن التصدي لهذا الأمر موجب لإراقة ماء وجهنا وإضلال الآخرين. لكن ماذا علينا أن نفعل؟ فكما ذكرنا من قبل إن المكان الذي كان يشغله هذا العالم الكبير خالي وفارغ، فصار لزاماً على أمثال الحقير أن يحمل القلم بيده، لكن إلى حدّ ما يجب القول أنه يمكن يُسدّ بعض الخلاء وتُعوض بعض هذه الخسارة، من خلال بيان وشرح ما نقل عن عظماء الطريق في شرح المباني والأفكار والعقائد والاعتماد على ما شاهدناه وسمعناه منهم في هذا الصدد.
وبناء على هذا فالمطالب التي يذكرها الكاتب في شرح هذه الفقرات، أو ما يكتبه في هذه الأوراق بشكل عام، هو عبارة عمّا سمعته أو شاهدته مباشرة عن العلماء الكبار، أو أنه حصيلة تجارب علميّة وتربويّة حصلت في حضورهم، وسوف أقتصر على كتابة هذه المطالب محافظاً- قدر
__________________________________________________
 [1]- سورة الزخرف (43)، الآية 4.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 86
الإمكان- على أن لا أبرز السليقة الشخصية، أو أظهر رأياً متفرّداً في ذلك.
                        الله تعالى يناجي أولياءه في أفكارهم‏

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في بيان صفات أولياء الله والعارفين بالله: بأن الله تعالى قد ناجى هؤلاء الأشخاص في فكرهم، فما هي حقيقة هذه المناجاة؟ وكيف يمكن أن يصل الإنسان إلى مقام الأنس والقرب من الحق، بحيث يصير جديراً بأن يناجيه الله تعالى في مقام الفكر، ويتكلّم معه في مقام العقل، ويضع بتصرّفه أسراراً من لوازم ذاته وأسمائه وصفاته؟ وكيف يمكن لضميره أن يرقى للاتصال بالله تعالى إلى حدّ يصير تفكيره وقواه العقلية مسخّرة من قبله، ويحصل تبادل لمعارف عالم التوحيد وأسراره بين ضمائر هؤلاء الأشخاص وقلوبهم وعقولهم من دون لفظ أو أخذ مظهر خارجي للتواصل! سبحان الله! وهذا الكلام يُظهر حقيقة الاتصال الواقعي للإنسان بحريم القدس الإلهي، ويبيّن واقعية رفع الحجب الظلمانية والنورانية أمامه جميعاً، واندكاك كلّ شوائب وجوده في ذات الحق تعالى.
ويجب الالتفات إلى أن إعمال القوة العاقلة في الإنسان تحصل من خلال اتصالها بالعقل الفعّال والأخذ من فيوضاته، وأما كيفيّة تحقّق إفاضة العقل الفعّال على القوّة العاقلة للإنسان وكمّية هذه الإفاضة، فهي مرتبطة بمدى تعلّق الإنسان بعالم الكثرات والموهومات والتخيّلات. فبمقدار ما يتعلّق العقل البشري أكثر بعالم الدنيا وعالم الاعتبارات والكثرات الموهومة وعالم المجاز، فسوف تتنزّل حقيقة الإدراك لديه من مرحلة التجرّد والنورانية إلى مرحلة التخيّلات والموهومات والأفكار المنحرفة، وبالعكس كذلك، فبمقدار ما يحرّر الإنسان نفسه بواسطة المراقبة والرياضات الشرعية والابتعاد عن الدنيا وزخارفها والابتعاد عن الكثرات،
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 87
بمقدار ما تزيد استفاضته من العقل الفعّال. وبما أن العقل متعلّق بالذات وبآثارها ولوازمها، وهذا التعلّق ناشئ عن حبّ النفس لذاتها ولآثارها الوجودية، فما دامت النفس لم تخرج من حبّ ذاتها ولم تتجاوز هذه المرحلة بعد، ولم ترفض جميع آثار تعلّقاتها وبقايا هذه التعلّقات بشكل نهائي، فلن يمكنها الاستفادة والاستفاضة التامة والصافية والطاهرة من العقل الفعّال، وسوف تؤثّر دائماً شوائب هذه النفس الوجودية وتعلّقها بعالم الطبع على إعمال العقل وتأثيره، وسوف تمنعه من الوصول إلى مرتبة الحق والصدق والطهارة في القضاء والأحكام والقضايا؛ الشخصية منها والكلّية. وما دام في وجود الإنسان ذرّة من آثار النفس وبقايا تعلقات النفس، فلن تتجلّى في مرآة نفسه وضميره تلك الحقيقة الصافية والمطهّرة من الدنس، ولن يرتوي قلبه من ذاك الماء الصافي الزلال.
وبناء على هذا فيجب على العبد أن يتقدّم في مقام العبودية والانقياد والمجاهدة والمراقبة إلى حدّ لا يحصل لديه أيّ انحراف أو اعوجاج؛ لا في مقام الفعل والعمل ولا في مقام التصوّر والتخيّل، وبعبارة أخرى أن لا يشاهد في نفسه أي انحراف في مقام ظهور الصور المثاليّة والبرزخية، بل عليه أن يتقدّم أكثر للوصول إلى أعلى من هذه المرتبة، ويذهب بحقيقته الوجودية إلى أبعد من عالم المثال والملكوت حتى يصل إلى ساحة الجبروت واللاهوت، وينحر نفسه قرباناً لحريم المحبوب حتى لا يبقى في نفسه وضميره أثر لأي شائبة من شوائب ذاته وأي من تعلّقاتها، ويطهّر هذه النفس من كل هذه الشوائب والتعلّقات عند قيامه بامتثال الأحكام والتكاليف. بل إنه عندما يفني نفسه ولا تعود لديه ذات متحقّقة في الخارج غير ذات الحق تعالى، فكل ما يصدر منه‏
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 88
فهو صادر من ذات الحق، وأي إدراك يقوم به فالحقيقة العلميّة لذات الحق هي التي تدرك، وأي فعل يقوم به هو في الواقع فعل الحق الذي ظهر بهذا الشكل. فهذا العبد لم يعد يفكّر أين الصلاح من الفساد ليقوم بفعل الصلاح، ولم يعد يلتفت إلى سلسلة العلل الظاهرية ليختبرها ويحلّلها للحصول على نتيجة قياس ظاهرية واعتبارية؛ يستطيع من خلالها تمييز الحقائق عن الأوهام والأباطيل. فقد صار فكره في هذه الحالة عبارة عن ظهور الإرادة العلميّة للحق بلا واسطة، وصار فعله ظهور لإرادة قدرة الحق بلا واسطة، وكلامه ظهور لكلام وقول الحق كذلك. لقد تجاوز هذا الإنسان مرتبة البشرية وصار ربّانياً، وخرج عن حيطة المدركات البشرية وصار في حريم المدركات الإلهيّة، وبعبارة واضحة إذا أردنا أن نصفه في مقام الثبوت، يجب القول: إنه عبارة عن الإله المجسّم والمقيّد والمحدود في عالم الطبع والكثرة. ونذكر هنا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قاله في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال:
                        كلام رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تسبّوا علياً فإنه ممسوس في ذات الله‏

لا تسبّوا عليّاً (ولا تبحثوا له عن عيوب، فهو ليس مثلكم وأعماله ليست كأعمالكم وآرائكم) فإنه ممسوسٌ في ذات الله (وفانٍ فيه) [1].
وبعبارة أخرى لقد صُقل علي من قبل الله، فلم يعد علي بشراً حتى يمكنكم أن تزنوا أعماله‏
__________________________________________________
 [1]- بحار الأنوار، ج 39، ص 313، ومناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 21، وفرائد السمطين، ج 1، ص 165، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 9، ص 130، وكنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، ج 11، ص 621، والمعجم الأوسط، ج 9، ص 143.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 89
بموازين الحسن والقبح التي لديكم، وتقيسوا أفعاله بواسطة آرائكم الناقصة والباطلة، ثم تحكموا عليها بالصحّة والبطلان، وذلك لأن فعله فعل اللَه، وعندها كيف يمكن أن تقوّم وتقيس العقول الناقصة فعل الله تعالى؟ فإن فعل الله ليس قائماً على أساس المصلحة والمفسدة حتى يقاس عليها ويوصف بالصحة والسقم بناء على انطباقه عليها أو عدم انطباقه، بل المصلحة تنشأ من فعله وتتحقّق في الخارج من خلاله.
أذكر أن واحداً من أقدم الرفقاء السلوكيين للمرحوم الوالد رضوان الله عليه، وهو المرحوم الحاج غلامحسين السبزواري رحمة الله عليه- الذي كان من أقدم تلامذة الأستاذ والمربي الأخلاقي العارف الكبير المرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد جواد الأنصاري الهمداني قدّس الله نفسه- كان ينقل للوالد المعظّم بعض الخصائص والصفات البارزة للمرحوم الأنصاري، ومن جملة ما قاله: إن من خصوصيّات المرحوم الأنصاري الواضحة جداً، ولم أر طوال عمري أحداً غيره يتمتع بها، هو أنه عندما كان يعطي رأيه في أي موضوع، فإن المصلحة وإن لم تكن واضحة فيه من أول الأمر لجميع الناس، إلا أنه بعد مرور مدّة يتّضح أن المصلحة كانت مطابقة لرأيه ونظره. وبعد سكوت المرحوم الوالد رضوان الله عليه فترة تأييداً لكلام المرحوم السبزواري قال: إلا أن المسألة بالنسبة للحاج السيد هاشم الحداد لها شكل آخر وتختلف كثيراً عن المرحوم الأنصاري، فالمسألة عند السيد الحداد كانت في أن نفس كلامه منشأ للمصلحة وهو الموجب والموجد لها، لا أن كلامه منطبق على المصلحة وتجري عليه معايير الصحّة والسقم، بل إن أصل الصلاح متولّد من فعله وكلامه وهو عينه، وهذا يختلف كثيراً عمّا تذكره بالنسبة للمرحوم الأنصاري.
                        اختلاف مراتب أولياء الله هو في سعتهم‏

                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 90
                        الوجودية

والنكتة المهمة جداً والحائزة على أهمّية كبرى في المقايسة بين هاتين الشخصيتين العظيمتين وهذين الرجلين الإلهيين تكمن في أن انكشاف الحقائق وبيان حقيقة الأمور وحوادث عالم الوجود للمرحوم الأنصاري كانت تحصل على أساس إحضار الصور المثالية وانطباقها على نفس الأمر والواقع، ثم يستخرج منها الأصلح والأرجح، وبعبارة أخرى إنها تقوم على أساس إعمال القوة العاقلة وتجلّيها في مظاهر الأسماء والصفات وتعيين الفرد الأحسن قياساً للمورد المنظور بالموارد الأخرى. أما بالنسبة للسيد الحداد فلا وجود أصلًا للمقايسة والتحقيق والتفحّص والتطبيق، بل الموجود عنده هو حقيقة واحدة تتجلّى في نفسه، وهذه الحقيقة بعينها تتجلّى على لسانه أو تظهر في مقام العمل والفعل. فهنا لا يوجد تفكّر ولا تعقّل، ولا يوجد ترتيب قياسات أو مقارنة بين قضايا مختلفة، ولا معنى في هذه الحالة لرعاية الفرد الأحسن والأصلح. فهل الله تبارك وتعالى يفعل هكذا، وهل يقوم بوضع الموارد أمامه ثم ينتخب الأفضل؟ كلا! فاختيار حضرة الحق هو نفس إرادة" كن" ونزولها إلى مرتبة التعيّن والخارج، فأين المصلحة في فعله وأي معنى للتفكير في اختياره، وما هو الوجه في مراعاة الفرد الأصلح عند الله؟
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (أي أن إرادة الله ومشيئته قائمة على أساس أنه عندما يتعلّق اختياره بشي‏ء خارجي من خلال نفس هذه الإرادة، فسوف يتحقّق ذلك الشي‏ء في الخارج)* فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ (وتحت قدرته الأزلية) مَلَكُوتُ (حقيقة وباطن وعلّة) كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [1].
ولازم هذه المرتبة هو أن يندكّ السالك تماماً في‏
__________________________________________________
 [1]- سورة يس (36) الآيتين 82 و 83.
                        أسرار الملكوت، ج‏2، ص: 91
ذات الحضرة الأحديّة، وهي التي يعبّر عنها في لسان أهل المعرفة بالفناء الذاتي والتجرّد التام، وهنا سيكون فعل العبد فعل الله، وكلامه كلام الله وإرادته إرادة الله، فلن يبقى في هذه الحالة وجود للعبد كي يأتي بالأعمال الصحيحة، بل هناك حقيقة واحدة وهي الله؛ هي الله في مرتبة الفعل، والله في مرتبة القول والكلام، والله في مرتبة عالم الطبع، والله في جميع التصرفات والأعمال التي يقوم بها العارف في هذه الحالة.
فهذا ابن الفارض المصري العارف العظيم الشأن وصاحب المرتبة العالية، يشرح- وبشكل واف- موقع العباد المخلَصين ومنزلتهم في هذه المرتبة وهذا المقام. وأنه كيف يمكن للنفس الإنسانية من خلال مخالفة الهوى والأنانية أن تصير مطيعة بحيث تصير كالمرآة الصافية والجليّة التي انجلى عن وجهها الصدأ، تنقش في داخلها الصور، فبما أن النفس قد خرجت عن الأنانية والذات صارت مرآة لظهور أسماء حضرة الحق وصفاته.
         گناهى جز خودى نبود چو خود             رها كردي شود ذنب تو مغفور [1]

                        مقام ومنزلة عباد الله المخلصين في كلام ابن الفارض‏

يقول ابن الفارض:
          1- وكلُّ مَقامٍ عن سُلوكٍ قَطعته             عُبوديّةً حَقّقتُها بعُبودةِ
             2- وصرتُ بها صَبًّا فلمّا تركتُ ما             اريد أرادَتني لها وأحبتِ‏
             3- فَصرتُ حبيبًا بَل مُحبًّا لنفْسه             وليسَ كقَولٍ مَرَّ نفسي حبيبتي‏
             4- خَرجتُ بها عَنّي إليها فلم أعد             إليّ ومثلي لا يقول برَجعةِ
             5- وأفردْتُ نَفْسي عَن خروجي تكرُّمًا             فلَمْ أرضَها مِن بعد ذاكَ لِصُحبَتي‏
             6- وغَيَّبتُ عَن إفرادِ نفْسي بحيثُ لا             يُزاحِمُني إبداءُ وَصفٍ بحضْرتي‏
             7- وها أنا ابدي في اتّحادي مَبدَئي             وأُنهي انتِهآئي في تواضُع رِفعَتي‏
             8- جَلَتْ في تَجلّيها الوجودَ لِناظِري             ففي كُلِّ مَرئيٍّ أراها برؤيةِ
             9- وأشهدتُ غَيبي إذ بَدَت فوجدتُني             هُنالك إيّاها بجَلْوةِ خَلوتي‏
             10- وطاحَ وُجودي في شهودي وبِنتُ عَن             وجودِ شُهودي ماحياً غير مُثبتِ‏

Tidak ada komentar:

Posting Komentar