Pages

Selasa, 18 Oktober 2011

Allamah Thaba'thabai "Shalat Jumat.. 158-

                        صلاة الجمعة، ص: 158
الوجوب التعييني، بل يستفاد منه أنّ عقد صلاة الظهر جماعة بأربع ركعات عند عدم وجود المنصوب من المخالفين لا مانع منه إن لم يكن خلاف التقيّة.
الاحتمال الثالث: أن يكون المراد ب «مَن يجمع بهم» هو المنصوب من قِبَل الإمام عليه السّلام، و المراد من «صلاة الظهر» صلاة الجمعة و يكون حاصله السؤال عن جواز عقد الجمعة أو وجوبها عند عدم المنصوب من قِبَل الإمام فحينئذٍ يدلّ على الوجوب التَّعييني أيضاً، لكنّ هذا الاحتمال بعيد في نفسه لمكان تقييد الوجوب المستفاد من الجواب بعدم الخوف، لأنّ الظاهر حينئذٍ أنّ الخوف إنّما يتحقّق فيما إذا أقاموا الجمعة بأنفسهم دون ما إذا أقامها المنصوب من قِبَل الإمام مع أنّ الخوف حاصل في كِلا المقامَين.
هذا مضافاً إلى أنّ أصل المنصوب من قِبَل الإمام في زمان التقيّة بعيد جدّاً.
الاحتمال الرابع: أن يكون المراد ب «مَن يجمع بهم» هو المنصوب من قِبَل الإمام عليه السّلام، و المراد من «صلاة الظّهر» هي الإتيان بأربع ركعات، و يبعّده قوله «إذا لم يخافوا» لأنّه لا تقيّة في صلاة الجماعة في القرية اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ القرية لمكان قُربه من المدينة يجب على أهل القرية عند العامّة السعي إلى المدينة و الحضور في جمعتهم، فعقد الجماعة مخالف للتّقيّة و هو كما ترى!
لكن يحتمل أن يكون في القرية منصوب من قِبَل المخالفين، فعلى هذا يصحّ التقيّة، و بالجملة أنّك بالتأمّل الصّادق تعرف أنّ الاحتمال الأوّل أولى من جهاتٍ، فإذَن دلالة هذه الموثّقة في الوجوب التعيينيّ أيضاً ظاهرة [1].
__________________________________________________
 [1]- لا يبعد أن يكون أمر الإمام عليه السّلام على الوجه الأوّل بأن يكون لشدّة الاستحباب، فلا ينافي الوجوب التخييري عند عدم المنصوب من قِبَله عليه السّلام. (منه عُفي عنه)
                        صلاة الجمعة، ص: 159
و أمّا ما في رواية طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام قال:
 «لا جمعة إلّا في مصر تقام فيه الحدود [1]».
و كذا ما في «المستدرك» عن الشيخ جعفر بن أحمد القمّي في كتاب «العروس» عن الصادق، أنّه قال:
 «لا جمعة إلّا في مصر تقام فيه الحدود [2]».
و عنه عليه السّلام أنّه قال:
 «ليس على أهل القرى جماعة، و لا الخروج في العيدين [3]» [4].
فهي مضافاً إلى ضعف سند الاولى و الإرسال في الثانية لا تقاوم المطلقات الكثيرة الدالّة على الوجوب التعيينيّ مضافاً إلى قوّة صدورها تقيّة كما سيأتي الإشارة إليها، هذا مضافاً إلى ما في «المستدرك» عن «الدعائم» عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال:
 «يجتمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فصاعداً، و إن كانوا أقلّ من خمسة لم يجتمعوا [5]». انتهى.
__________________________________________________
 [1]- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة و آدابها، باب 3، ج 5، ص 10، ح 3.
 [2]- مستدرك الوسائل، ج 6، ص 12، ح 6299/ 1.
 [3]- المصدر السابق، ح 6300/ 2.
 [4]- جميع هذه الرّوايات يدلّ على لزوم المنصوب من قِبَل الإمام عليه السّلام، فصحّة صلاة الجمعة مشروطة به لا وجوبها، و لا يلزم أن تحمل على التقيّة و ترفع اليد عن ظاهرها. (منه عُفي عنه)
 [5]- مستدرك الوسائل، ج 6 ص 11، ح 6298/ 2.
                        صلاة الجمعة، ص: 160
الدّال بإطلاقها على الوجوب التّعيينيّ بمجرّد تحقّق الخمسة كما لا يخفى. [1]
                        الطائفة الخامسة من الرّوايات و الجواب عنها

الطائفة الخامسة: الرّوايات الّتي دلّت على أنّ للإمام أن يأذَنَ للناس في ترك الجمعة و الخروج إلى رحالهم و منازلهم فيما إذا اجتمع الجمعة و العيد، مثل خبر إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه:
 «إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يقول: إذا اجتمع عيدان للناس في يوم واحد فإنّه ينبغي للإمام أن يقول للنّاس في الخطبة الاولى إنّه قد اجتمع لكم عيدان فأنا اصلّيهما جميعاً، فمن كان مكانه قاصياً فأحَبَّ أن ينصرف فقد أذنتُ له [2]».
و مثل خبر سلمة عن أبي عبدالله عليه السّلام، قال:
 «اجتمع عيدان على عهد أميرالمؤمنين عليه السّلام. فقال: هذا يوم اجتمع فيه عيدان فمَن أحَبَّ أن يجمع معنا فليفعل و من لم يفعل فإنّ له رُخصةً. يعني من كان متنحياً [3]».
و خبر الحلبي أنّه سأل أبا عبدالله عليه السّلام عن الفطر و الأضحى إذا اجتمعا في يوم الجمعة فقال:
 «اجتمعا في زمان عليّ عليه السّلام، فقال: مَن شاء أن يأتي إلى الجمعة فَليأتِ، و مَن قعد فلا يضُرّه وليُصَلّ الظهر، و خطب خطبتَين جمع فيها خطبة
__________________________________________________
 [1]- قد بيّنّا سابقاً عدم التّنافي بين هذه الأخبار و الدّالّة على الوجوب بوجه. (منه عُفي عن جرائمه)
 [2]- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب صلاة العيد، باب 15، ج 5، ص 116، ح 3.
 [3]- المصدر السابق، ح 2.
                        صلاة الجمعة، ص: 161
العيد و خطبة الجمعة [1]».
و لا يخفى عدم إمكان الاستدلال بها على المنصبيّة لأنّه يستفاد من الأخيرين أنّ صلاة الجمعة لمن حضر صلاة العيد ليست بواجبة.
و أمّا الخبر الأوّل الوارد فيه بلفظ «الإذن» فإنّه و إن كان ربّما يستشعر منه أنّ الإمام إن لم يأذَن لهم في الترك فليس لهم الترك، إلّا أنّه يستفاد بالتّأمّل أنّ المراد من الإذن هو بيان الرخصة الواقعيّة و الإباحة، كما يدلّ عليها الخبران الأخيران، هذا مضافاً إلى أنّه على فرض دلالته على كونه حقّاً للإمام يجوز له إسقاطه و عدم إسقاطه، نلتزم بكونه حقّاً لمطلق من يخطب لا خصوص المعصوم. [2]
هذا كلّه في الطوائف من الرّوايات التى يمكن الاستدلال بها على المنصبيّة.
                        دليل من ذهب إلى عدم حرمة صلاة الجمعة و إجزائها عن الظهر

و أمّا من ذهب إلى عدم الحرمة بل إلى وجوبها و إجزائها عن الظُّهر مع وجود الفَقيه و إلى حرمتها مع عدم وجوده، ذهب إلى أنّ الفَقيه منصوب من قِبَل الإمام.
                        ليست الصلاة محصورة على المسائل السياسيّة فحسب (ت)

و فيه: عدم وفاء أدلّة النّيابة لمثل هذه الامور [3].
__________________________________________________
3- لا يخفى إمكان شمول أدلّة النّيابة لمثل هذه من الامور الاجتماعيّة المحتاجة إلى الرئيس و القائد و صلاة الجمعة من أوضح مصاديقها، و أمّا الخبر المرويّ عن الاحتجاج عن الحسن العسكري عن الصّادق عليهما السّلام: «بأنّ مجاري الامور بِيَدِ العلماء بالله الامناء على حلاله و حرامه» فمضافاً إلى أنّه يستفاد منه أنّ الفقيه الجامع للشرائط كان له البطش و القبض و إجراء الحدود و القضاء و الإعلان بالدّفاع و الجهاد و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر و المداخلة في امور يحقّ للرئيس المداخلة فيها و منها صلاة الجمعة، يستفاد منه أيضاً أنّ الفقيه الجامع للشرائط هو الّذي يكون له مَلَكةٌ قدسيّة إلهيّة، و يكون له قلب نوراني تتجلَّى فيه الأنوار الملكوتيّة و النفحات الربّانيّة* (منه عُفي عنه)
ليست الصلاة محصورة على المسائل السياسية فحسب (ت)
ليست الصلاة محصورة على المسائل السّياسيّة فحسب (ت)
*- و ينبغي للخطيب أن يلقي خطابه بالمواعظ البالغة بما فيها من الوعد و الوعيد و المآثر الرّاقية من أهل بيت الوحي خصوصاً إيراد خطب نهج البلاغة و طُرَفٍ من قصص الأولياء و قصار كلماتهم و ظرائف عباراتهم و إن كان له صوت حسن فيقرأ أشعاراً راقيةً عن العرفاء بالله كما نبّه عليه العلّامة النّحرير الجامع الخبير المجلسيّ الأوّل و الأقدم حيث قال: و ينبغي للإمام أن يقرأ أشعاراً من مولانا جلال الدين المثنويّ في خطبته** حيث إنّها تُحيي القلوب و تُميت الأهواء و تمحي الرّين و الأدناس من النفوس، و ليست الصلاة محصورة على المسائل السّياسيّة فحسب بل هي تنبيه و تذكارٌ لإحياء المصلّي و نشاطه المعنوي و تبدّله و تحوّله إلى السّير في طريق المعرفة و التّقرّب إلى الله تعالى طيلة الاسبوع حتّى الجمعة القادمة. و هذا لازم أن يلقى من قلب خاشع و نفس مطمئنة و ضمير إلهيٍّ منوّر بنور الهُدى و مستنير من أنوار عالم القدس و الطهارة.
معنى عدم افتراق المسائل الشّرعيّة عن السّياسيّة في الإسلام (ت)
فلا ينبغي لكلّ أحدٍ أن يتصدّى لهذه المسؤوليّة و لو بلغ ما بلغ، بل هو آيات بيّنات في صدور الّذين اوتوا العلم و الرّشاد و الفوز و السّداد، و هو الّذي كان عارفاً بالمسائل الدّينيّة و الحقائق الرّبانيّة حقّ المعرفة و الإيمان بالمشاهدة و العيان و هو العارف الكامل و السالك الواصل المفني نفسه في ذات الله، و لهذا لا يرى إلّا الله و لا ينظر إلّا بالله و لا يتكلّم و لا يقفو إلّا بما هو مُلقى من ناحية مشيّة الله و إرادته، ففي هذه المرتبة يكون خطابه النّصحي عين خطابه الشّرعي، و خطابه الشّرعي عين خطابه السّياسي، و خطابه الاجتماعي عين خطابه المعنوي و الاخروي، و هذا معنى عدم افتراق المسائل الشّرعيّة عن السّياسيّة في الإسلام، فتدبّر جيّداً. (منه عُفي عن جرائمه)
**- لوامع صاحبقرانيه.
 [1]- المصدر السابق، ص 115، ح 1.
 [2]- إذا كان منصوباً من قِبَله عليه السّلام، و أمّا الالتزام بمطلق من يخطب و لو من عند نفسه، فيه بُعدٌ و غرابة. (منه عُفي عنه)
                        صلاة الجمعة، ص: 162
                        معنى عدم افتراق المسائل الشّرعيّة عن السّياسيّة في الإسلام (ت)

و القدر المتيقّن من هذه الأدلّة من التوقيع المبارك و خبر أبي خديجة و نظائرهما هو الافْتاء و القضاء.
                        صلاة الجمعة، ص: 163
و أمّا قوله عليه السّلام:
 «مجاري الامور بِيَدِ العلماء [1]».
فلم يفهم منه إلّا العلماء العاملين العارفين بالله الوسائط بينه و بين العباد و هم الذين نوّر الله قلوبهم بمعرفته بتجلّي الأنوار في قلوبهم و انشرحت صدورهم للاكتساب من الفيوضات الرّبانيّة من العوالم النورانيّة كالأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين و من يتلو تلوهم كالأولياء و هم الذين يقتفون أثرهم و يتّبعون أمرهم لا مطلق الفقهاء العارفين بمسائل الحرام و الحلال.
و ربّما يُستدلّ على المنصبيّة بأنّ وجوب الجمعة بلا اشتراط الإمام أو المَنصوب الخاصّ أو العامّ كالفقهاء يوجب اختلال النظام و الهرج و المرج الشديد.
قال المحقّق في محكيّ «المعتبر»:
 «إنّ الاجتماع مظنّة النزاع و مثار الفتن، و الحِكمة موجبة لحسم مادّة النزاع و قطع نائرة الاختلاف و لن يستمرّ إلّا مع السلطان [2] ... إلى أن قال: لا يقال لو لزم ما ذكرتم لما انعقدت الجمعة ندباً مع عدمه، لانسحاب العلّة في الموضعَين و قد أجزتم ذلك إذا امكنت الخطبة لأنّا نجيب بأنّ النّدب لا تتوفّر الدّواعي على اعتماده فلا يحصل الاجتماع المستلزم للفتن إلّا نادراً ... إلى ءآخر ما ذكرَه.» [3].
و تبعه في هذه الاستدلال العلّامة و جماعة من المتأخِّرين، منهم العلّامة الهمداني و صاحب «الجواهر» قدّس الله سرّهم.
__________________________________________________
 [1]- المكاسب، ج 3، ص 551؛ نقلًا عن تحف العقول، ص 237؛ و عن البحار، ج 100، ص 80، ح 37.
 [2]- في بعض النسخ: و بقى مستمرّاً إلّا مع السلطان.
 [3]- المعتبر، ج 2، ص 280؛ مدارك الأحكام ج 4، ص 25.
                        صلاة الجمعة، ص: 164
                        هل الاجتماع مظنّة النّزاع و مثار الفتن؟

و فيه: أوّلًا: أنّ الأخبار دلّت على وجوب صلاة الجمعة عند عدم الخوف، فإذا يخاف من الفتنة لا تجب كما لا يخفى.
و ثانياً: أنّ ما ذكره يرد في مسألة الخلافة، فعلى تماميّته لابدّ و أن يكون خلافة شخص معيّن من قِبَل الله تعالى ممتنعاً لإباء النّفوس عن الانقياد بالنسبة إليه.
و غير ذلك من الإشكالات الواردة على هذا الاستدلال الذي جعلوه دليلًا عقليّاً للمنصبيّة كما يظهر بأدنى تأمّل، فالاعتماد على هذه الوجوه للمنصبيّة في قبال المطلقات و العمومات التي عرفتَ صراحتها في الوجوب أشبه شي‏ء باستدلالات العامّة المنحرفين عن جادّة الحقّ المنكرين للصّواب كما لا يخفى [1].
__________________________________________________
 [1]- لا بأس بالاعتماد بهذه الوجوه على المنصبيّة في مقام التحقّق و الصّحّة و الإجزاء لا في مقام الوجوب كما لا يخفى. (منه عُفي عنه)
                        صلاة الجمعة، ص: 165
                        الفصل الخامس: في أدلّة القائلين بالوجوب التخييري‏

                        صلاة الجمعة، ص: 167
بسم الله الرّحمن الرّحيم‏
و استدلّ القائلون بالوجوب التخييريّ على وجوه:
                        الدّليل الأوّل للقائلين بالوجوب التخييري الإطلاقات الواردة و الجواب عنها

الوجه الأوّل: ورود إطلاقاتٍ دالّةٍ على وجوب صلاة الظُّهر أربع ركعاتٍ، و إطلاقاتٍ دالّةٍ على وجوب صلاة الجمعة ركعتين و خطبتين، و حيث دلّ الإجماع القطعيّ على عدم وجوبهما معاً في ظهر يوم الجمعة فلابدّ و أن يُقيّد ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر فيستفاد منه التخيير، كما يُذهب إلى التخيير في قوله عليه السّلام:
 «إذا خفي الأذان فقصّر [1]» و قوله: «إذا خفيت الجدران فقصّر [2]» [3].
و غير ذلك من الموارد، و قد وجّه هذا المعنى بعض أساتذتنا المحقّقين في مجلس الدرس.
__________________________________________________
 [1] و 2- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 6، ج 5، ص 506، ح 3 و 1، كلاهما نقل بالمضمون.
 [2]-
 [3]- لا معنى محصّل للتّخيير في أمثال هذه التعابير لانجراره إلى التّضادّ و التّناقض، بل هما عنوانان مشيران إلى حدّ خاصّ قاطع للحضور. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 168
و فيه: أولًا: أنّ الرّوايات الدّالّة على وجوب صلاة الجمعة تكون أخصّ مطلقاً بالنسبة إلى الإطلاقات الدالّة على وجوب صلاة الظهر أربع ركعات، لأنّها مطلقة بالنسبة إلى يوم الجمعة و غيره، هذا و على فرض وجود إطلاقاتٍ دالّةٍ على وجوب أربع ركعات في ظهر الجمعة فلا ريب في وجوب حملها على التسعة المستثناة من وجوب صلاة الجمعة [1]؛ أو على ما إذا لم يجتمع الشرائط من العدد و الخطيب و غيرهما و ذلك لأنّ قوله عليه السّلام «صلاة الجمعة واجبة» لا يعذر النّاس فيها و قوله عليه السّلام:
 «إنّ الله فرض خمساً و ثلاثين صلاة منها صلاة الجمعة [2]».
لابدّ و أن يؤتى بها في جماعة إلى يوم القيامة نصّ في كون صلاة الجمعة تعيينيّاً لا تخييريّاً، فهذا النَّحو من الجمع الّذي ذهب إليه مدّ ظلّه ممّا يأبى منه الذّوق العرفيّ فيخرج عن الجمع الدّلالي كما لا يخفى.
                        الدّليل الثّاني للقائلين بالوجوب التخييري رواية زرارة و الجواب عنها

الوجه الثّاني: رواية زُرارة و هي صحيحةٌ، قال:
 «حثّنا أبوعبدالله عليه السّلام على صلاة الجمعة حتّى ظننتُ أنّه يريد أن نأتيه فقلت: نغدو عليك، فقال: لا إنّما عنيتُ عندكم [3]».
و ذلك لأنّه يستفاد من هذه الرّواية أوّلًا أنّ زرارة كان تاركاً لصلاة الجمعة كما يستفاد هذا المعنى من عتاب الصادق عليه السّلام لعبد الملك بن أعين في صحيحة زرارة الاخرى:
__________________________________________________
 [1]- هذا الحمل أوّلي. (منه عُفي عنه)
 [2]- وسائل الشيعة، أبواب صلاة الجمعة و آدابها، باب 1، ج 5، ص 2، ح 1.
 [3]- المصدر السابق، باب 5، ج 5، ص 15، ح 2.
                        صلاة الجمعة، ص: 169
 «مثلك يهلك و لم يصلّ فريضة فرضها الله»، الخ [1].
و لا معنى لتركه إلّا عدم وجوبها له ضَرورة أنّه لو كانت واجبة عليه كيف كان تاركاً لها مع شدّة الاهتمام بها مع أنّ غالب المطلقات الدالّة على وجوب صلاة الجمعة واردة من طريق زرارة؟!
و ثانياً: أنّ لفظ «الحثّ» المساوق للتحريص و الترغيب يدلّ على شدّة الاهتمام مع جواز الترك المساوق للاستحباب المؤكّد، فلذا لا يقالُ حثَّنا على أداء الأمانة.
و ثالثاً: أنّ زُرارة كان يعلم بعدم وجوب الصلاة و عدم إيقاعها إلّا مع الإمام و كان هذا المعنى مغروسا في ذهنه فلذا سأل عن الغدوّ عليه، ضرورة أنّه لو لم يعلم بوجوب الصلاة مع الإمام لا معنى لسؤاله عن الغدوّ بل كان واجباً عليه أن يأتي بها مع جمع من المسلمين بلا احتياج إلى إقامة الإمام، لكنّ الإمام لمّا أجازه بالإقامة عندهم مع عدم خروجه عليه السّلام للإقامة بقوله عليه السّلام «لا إنّما عنيت عندكم» فقد أذِن له في الإقامة، فعلى هذا يستفاد من هذه الصحيحة إذْن الإمام و ترخيصه بالنسبة إلى صلاة الجمعة عند عدم حضور الإمام مع بقاء المنصبيّة على حالها، و هذا عين الوجوب التخييّري.
و فيه: أوّلًا: أنّ لفظ «الحثّ» يستعمل في كِلا الموردَين، خصوصاً إذا كان الواجب مهجوراً لبعض الناس للتقيّة و الخوف بحيث اعتاد الناس على تركه و يثقل عليهم إتيانه بعد رفع التقيّة و الخوف أيضاً فيحتاج الإتيان بها إلى الحثّ و الترغيب لا محالة.
__________________________________________________
 [1]- بل في موثّقة ابن بكير عن عبدالملك عن زرارة عن الباقر عليه السّلام مخاطِباً لعبد الملك: «مثلك يهلك و لم يصلّ»، الخ. (منه عُفي عنه)
                        صلاة الجمعة، ص: 170
و ثانياً: إنّ ترك زرارة إنّما كان لمكان التقيّة لعدم قدرته على الإتيان بها حتّى مع نفر يسير من أصحابه سرّاً، لأنّ الزّمان زمان التقيّة و زرارة و أضرابه من الأصحاب ممّن كانوا معروفين مشهورين فيحضرون جماعة المخالفين، و إلّا فبمجرّد عدم حضورهم كانوا يتّهمون بالمخالفة فيُآخذون فيعرفون بالخلاف. و إن شئت فقس هذا النحو من التقيّة بالتقيّة الحاصلة في زمان الفهلوي لعنه الله تعالى حيث رأينا بأعيننا أنّ الناس ما كانوا متمكّنين من إقامة العزاء في الخلوات و لا من إقامة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حتّى مع عيالاتهم و أولادهم سرّاً فضلًا مع أصحابهم و أصدقائهم. مع أنّ زُرارة و عبدالملك كانا ساكنَين بالكوفة و هي من أعظم مدن الإسلام في ذلك الزّمان لأنّها محلّ الخليفة و عاصمة البلاد، لكن لمّا ضعفت التقيّة حين النزاع بين بني اميّة و بني العبّاس ففي زمان الفرجة كانت الأصحاب متمكّنين من إقامة الجمعة، فلذا حثّهم الإمام على الإتيان بها بأنفسهم، و لمّا كان الجمعة مع حضور الإمام لا تنعقد إلّا به لمكان أولويّته، فلذا سأل زرارة عن الغدوّ عليه، و معلوم أنّه مع إرادة إقامة الإمام لا يجوز لأحدٍ أن يتقدّم عليه و لا أن يعقد جمعة بدونه مع لزوم وحدة الجمعة في المدينة، فلمّا أخبر الإمام بعدم إقامتها بنفسه لمكان بقاء التقيّة بالإضافة إليه دون زُرارة فقد وجب على زرارة الإتيان بها. [1]
                        كيفيّة التقيّة في زمن الصادقَين عليهما السّلام‏

لا يقال: كيف تكون التقيّة في زمن الصادقَين عليهما السّلام و الحال أنّ الحسن البصري و الأوزاعي و أحمد بن حَنبل في إحدى الرّوايَتين عنه ذهبوا إلى‏
__________________________________________________
 [1]- و هذا أوّل دليل على أنّه لا يشترط حضور الإمام أو نائبه أو الحاكم المبسوط في وجوب الصلاة و لا في صحّتها، فتنبّه. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 171
عدم الاشتراط؛ لأنّا نقول:
أوّلًا: إنّ التقيّة تكون في مخالفة مَن كانت فتواه مشهورة، و هو أبوحنيفة القائل بالاشتراط.
و ثانياً: عدم اشتراطهم و إن كان حقّاً إلّا أنّهم كانوا يقدّمون سلاطين الجور من باب الأولويّة فلذا أقام بها الخلفاء منذ كانوا خلفاء، و معه كيف يمكن للأئمّة الإقامة بها المستلزمة لتقدّمهم على الخلفاء؟! و من هذا تعرف أنّ ما ربّما قيل: بأنّ أمر الإمام عليه السّلام لزُرارة هو النّصب؛ فيردّ عليه أنّ أمره بزرارة أعمّ من كونه مأموماً أو إماماً، مضافاً إلى أنّ النَّصب لو يتحقّق بهذا الأمر العموميّ فقد تحقّق بها في جميع الأزمان، لأنّه لايستفاد من الحثّ الوارد في هذه الرّواية كون خصوص زرارة مورداً للحثّ، بل المورد له عموم الناس، و بالجملة ادّعاء الوجوب التخييريّ بهذه الوجوه ممّا لا يخفي ضعفها، فإن كانت صلاة الجمعة من مناصب الإمام فتحرم بدون إذْنه و لا يتجزَّى بها عن صلاة الظهر قطعاً و إلّا فيجب على الجميع، فلا يخلو الأمر من أحد أمرين، و حيث قد عرفت نهوض الأدلّة على عدم الاشتراط، فيتعيّن كونها: واجباً تعيينيّاً لكلّ أحد إلى يوم القيامة.
و أمّا من ذهب إلى وجوبها بعد الانعقاد لا عقداً فيمكن أن يَستدلّ بظاهر الآية و بادّعاء سياق الإطلاقات للجماعات المنعقدة.
و فيه: أنّ ظاهر الآية خلافه، لأنّ المراد من النداء كما عرفتَ هو دخول الوقت أو النّداء لمطلق فريضة الظّهر لا النّداء لخصوص صلاة الجمعة، و أمّا الإطلاقات فيستحيل سوقها لوجوب الحضور في الجماعات المنعقدة مع كون الجماعات في تلك الأزمان منحصرة بجماعات المخالفين، فلا محيص عن الالتزام‏
                        صلاة الجمعة، ص: 172
بالوجوب التّعييني.
                        المحصّل من جميع ما ورد في الباب (ت)

هذا آخر ما سنح [1] ببالي القاصر في هذا الباب، و نحمد الله تعالى على التّوفيق‏
__________________________________________________
1- و المحصّل من جميع ما ورد في الباب هو أنّ صلاة الجمعة واجبة على الإطلاق و لا يعذر فيها أحدٌ إلّا التسعة المذكورة، و العدد و وجود من يخطب إنّما هما شرطان للتحقّق و الوجود، فيجب على المسلمين الاجتماع و إقامة الحكم الشرعيّ الإسلامىّ كى يتمكّن الحاكم العادل من إقامتها و أمّا مع فرض عدم إقامة الحاكم لعدم بسط يده فيما إذا أقامها حاكم الجور أو المنصوب من قِبَله، أو فيما لم تكن الحكومة حكومة إسلاميّة، أو فيما لا يتمكّن الحاكم العدل إيراد الخطبة الصّحيحة الحاوية لمصالح المسلمين و إرشادهم إلى ما ينفعهم في امور دينهم و دنياهم؛ و تذكيرهم لما يضرّهم و يفسدهم في أيّة جهة من جهات التقيّة تكون إقامته صلاة الجمعة حينئذٍ مندوباً و ممدوحاً. و بعبارة اخرى: على فرض عدم تحقّق الجمعة على ما هي عليه من إقامة الإمام أو المنصوب من قِبَله بانتصابٍ فرديّ أو نوعيّ، و على فرض العصيان و ارتكاب هذه الكبيرة الموبقة تكون صلاة الجمعة مستحبّةً على نحو الترتّب، فتكون أفضل فردَىِ الواجب التخييريّ، و هكذا الأمر بالنسبة إلى أهل القرى و لو مع وجود مَن يخطب فيهم، و لعلّ هذا هو مراد الفقهاء من الواجب التخييري، فافهم.*
*- هذا الكلام منه هيهنا مناقضٌ صريحٌ لما التزم به في المتن و التعليقة من ارتكاب الحرام و الالتزام بالعصيان عند عدم إقامة الحكومة العادلة و حرمة إقامة الصلاة و بطلانها فراجع. (منه عُفي عن جرائمه)
هذا تمام ما أردنا إيراده من الحواشي على ما كتبناه سالفاً في هذا المقام من وجوب صلاة الجمعة، و الحمد لله أوّلًا و آخراً، و صلّى الله على محمّد رسوله و آله الطّاهرين و سلّم تسليماً كثيراً.
وأنا الراجي عفو ربّه السيّد محمّد حسين الحسيني الطهراني‏
في سلخ جُمادي الاولى/ 1399 هجريّة قمريّة
                        صلاة الجمعة، ص: 173
لضبطه بالتحرير، و نسأله تعالى أن يوفّقنا لجميع ما يحبّه و يرضاه و يمنعنا عن جميع ما يسخطه و ينهاه، و السلام و الصلاة على سيّدنا محمّد و آله الطّاهرين، و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.
قد فرغت من تحرير هذه البحوث في اللّيلة التاسعة من شهر صفر الخير بعدما مضى سنتان و سبعون و ثلاثمِائة و ألف (سنة 1372) من الهجرة النبويّة على هاجرها التحيّة و السلام.
و أنا الرّاجي عفو ربّه الغَنيّ‏
محمّد حسين الحسينيّ الطهرانيّ‏
في شرائط الجمعة
                        صلاة الجمعة، ص: 175
                        خاتمة: في شرائط الجمعة

                        صلاة الجمعة، ص: 177
بسم الله الرّحمن الرّحيم و به نستعين‏
و الصّلوة و السّلام على خير خلقه محمّد و آله الطيّبين الطّاهرين‏
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين‏
                        من الشرائط: أن لا يكون هناك جمعة اخرى‏

و من شرائط الجمعة أن لا يكون هناك جمعة اخرى و ما بينهما دون ثلاثة أميال، و قد ادّعى عن جماعة الإجماع عليه، و يدلّ عليه حسنة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
 «يكون بين الجماعتَين ثلاثة أميال، يعني لا تكون جمعة إلّا فيما بينه و بين ثلاثة أميال، و ليس تكون جمعة إلّا بخطبة، قال: فإذا كان بين الجماعتَين ثلاثة أميال فلا بأس أن يجمع هؤلاء و هؤلاء [1]».
و موثّقته أيضاً عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:
 «تجب الجمعة على من كان منها على فرسخين [2]».
__________________________________________________
 [1]- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة و آدابها، باب 7، ج 5، ص 16، ح 1.
 [2]- مستدرك الوسائل، ج 6 ص 12، ح 6302/ 1.
                        صلاة الجمعة، ص: 178
و معنى ذلك إذا كان إمام عادل و قال: «و إذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال فلا بأس أن يجمع هؤلاء و يجمع هؤلاء و لا يكون بين الجماعتين أقلّ من ثلاثة أميال».
و قَبْل البحث في المطلب لابدّ من تقديم مقدّمة: و هي أنّ ألفاظ العبادات و إن كانت موضوعة للأعمّ إلّا أنّها في مقام الخطاب و التكليف منصرفة إلى الصحيحة لا محالة، فالمراد بعدم جواز عقد جمعتين ما دون الفرسخ إنّما هو فيما إذا كانتا صحيحتين، و أمّا لو فرض أن إحديها كانت فاسدة فلا بأس بعقد جمعة اخرى، لكنّ المراد بالصّحّة ليس هي الصحّة الواقعيّة بل الصّحّة عند المصلّين بحيث تكون مقتضية للإجزاء في ظاهر الشرع، فعلى هذا لو انعقدت هناك جمعة المخالفين لا بأس في انعقاد جمعة ما دون الفرسخ لأنّ عباداتهم غير مجزية لهم.
ففي «الكافي» عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الصلاة خلف المخالفين فقال عليه السّلام:
 «ما هم عندي إلّا بمنزلة الجدر [1]».
و أمّا إذا اعتقد إمام جمعة عدم وجوب السورة مثلًا يأتي بصلاة بلا سورة، لا يجوز لمن يرى وجوب السورة عقد جمعة اخرى و إن لا يجوز له الاقتداء به، و ذلك لأنّ صلاته صحيحة مجزية له في ظاهر الشرع، فتشملها الأخبار الدالّة على عدم جواز عقد جمعة اخرى حينئذٍ [2]، و هذا كسقوط الأذَان و الإقامة لمن يريد أن‏
__________________________________________________
 [1]- الكافي، ج 3، ص 373.
 [2]- و فيه نظرٌ: لأنّ المنع إنّما هو لإمكان إتيان الواجب بالاقتداء بهذا الإمام، و أمّا مع عدم جوازه من ناحية و وجوب الصلاة مطلقاً من ناحية اخري فلا إشكال في وجوب الإقامة للمعتقدين بإيراد السورة تامّة. نعم يمكن أن يقال: إنّه يجب على الإمام أن يأتي بسورةٍ كاملة رعايةً للأدلّة و المأمومين، فتذكّر. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 179
يصلّي منفرداً في مكان انعقدت فيه الجماعة، حيث إنّ السقوط دائر مدار صحّة صلاة الجماعة عندهم لا عند هذا الشّخص، و أمّا هذا الرّجل لمّا يرى بطلان صلاة الإمام فيجب عليه عقد جمعة اخرى في رأس ثلاثة أميال أو فيما زاد عنها إن اجتمع عنده شرائط الوجوب من العدد و الخطيب و إلّا فيسقط تكليفه عن الجمعة فيصلّي ظُهراً فرادى. و هذا بخلاف ما إذا لم يأت الإمام ببعض الأجزاء و الشرائط نسياناً فيما لا يشمله حديث لا تعاد، فإذا دخل في الصلاة بلا وضوء أو مستدبر القبلة أو لم يأت بالركوع نسياناً فسدت صلوته في ظاهر الشرع سواء علم بنيانه أو لم يعلم. فإذَن لا بأس بعقد جمعة اخرى، و أمّا في الإجزاء و الشرائط التي تشملها حديث لا تعاد إذا نسيها الإمام، كانت صلاته صحيحة واقعاً فلا يجوز جمعة اخرى حينئذٍ.
ثمّ اعلم: أنّك لو اعتقدت فسق الإمام لكن يراه المصلّون عادلًا لا يجوز لك عقد جمعة اخرى، لأنّ عدالة الإمام في صحّة الجماعة ليست من الشروط الواقعيّة، بل هي شرط علمي، فإذا اقتدت به أربعة معتقدون عدالته تنعقد هنا جمعة صحيحة، لأنّ الجماعة تنعقد بخمس نفرات. [1]
ثم إنّ المراد من عدم إمكان انعقاد جمعتين صحيحتين في ما دون الفرسخ، ليس هو الجمعتين الصحيحتين من جميع الجهات، لوضوح أنّ أحد شروطها هو البُعد عن جمعة اخرى بهذا المقدار، فلو لم يكن بينهما هذا المقدار من البُعد كيف‏
__________________________________________________
 [1]- في المتن اضطراب و تشويش. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 180
يعقل صحّتهما؟! بل المراد من الصّحّة هو الصّحّة من سائر الجهات مع غمض النظر عن اشتراط البُعد. إذا عرفتَ هذا فنقول: إنّ الظاهر من الروايتين المذكورتين هو عدم صحّة الجمعتين إلّا إذا كان الفصل بينهما ثلاثة أميال سواء تقارنتا في الزمان أو كانت إحديهما مسبوقة بالاخرى، أمّا في صورة المقارنة فواضح لكن يبقى الكلام في أن كلتيهما فاسدة، أو أن الفاسدة هي إحديهما لا بعينها.
                        حكم انعقاد الجمعَتين المقارنتَين بأقلّ من ثلاثة أميال‏

قال بعض أساتذتنا مدّ ظلّه في مجلس البحث: إنّه لا يمكن أن يستفاد من الخبرين بطلان كلتيهما معاً، لأنّ مفهوم قوله عليه السّلام، «فإذا كان بين الجمعتين»، الخ. هو أنّه إذا لم يكن بينهما ثلاثة أميال ففي انعقاد الجمعتين بأس، لكن يمكن أن لا يكون بأس في انعقاد إحديهما لا بعينها، و يعيّن ما هو الصحيح منها بالقرعة كمن وكّل رَجُلَين كلّ واحد منهما لعقد اختَين فعقد كلٌّ منهما إحديهما في زمان واحد حيث أفتوا بصحّة أحد العقدين، فيحتاج في تعيينه إلى القرعة. [1]
و استشكل فيه: بأنّ القرعة مع قطع النظر عن أنّ مواردها مشخّصة معيّنة في الشريعة لابدّ و أن يكون هنا واقع معلوم مجهول عندنا فيعيّن الواقع بها، و أمّا لو كان الواقع مشتبهاً أيضاً، لا مجال للقرعة أصلًا، و منه يَظهَر أنّ أصل المسألة في مورد التنظير، و هو العقد على الاختين غير مسلّم. و بالجملة حيث لم يكن وجه لرجحان إحدى الصلاتين على الاخرى في الواقع فاللازم بطلانهما معاً.
__________________________________________________
1- القرعة لا تغيّر الحرام إلى الحلال، بل هو لتبيين الحلال الواقع الواضح عند الله المختفى عندنا، و فيما نحن فيه فمن حيث إنّ إجراء العقد للُاختين في زمان واحد حرامٌ بالضرورة، فنفس عقد أحدهما يبطل الآخر، فالعقدان كلاهما باطلان لتعارض العلّتين على حلّيّة المنكوحة واقعاً، و هذا كتعارض أصالة البراءة في أطراف العِلم الإجمالي. فتنبّه فإنّه دقيق. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 181
أقول: الظاهر من مفهوم الخبرين هو بطلان كِلْتا الجمعتين في دون ثلاثة أميال و ذلك لأنّ قوله عليه السّلام «فلا بأس» لم يرد على الجمعتين حتّى يكون مفهومه البأس عند انعقاد الجمعتين، بل ورد على كلِّ واحد من الجمعتين، لأنّ حرف العطف في قوّة تكرار العامل، فيصير المعنى حينئذٍ: أنّه إذا كان بين الجماعتين ثلاثة اميال فلا بأس بأن يجمع هؤلاء، و لا بأس بأن يجمع هؤلاء. فأنت كما ترى يكون مفهومه أنّه: إذا لم يكن كذلك فبأس بأن يجمع هؤلاء، و بأسٌ بأن يجمع هؤلاء. و على هذا لا يحتاج في الحُكم ببطلان كلتيهما إلى هذه التطويلات، و لا فرق في بطلانهما بين أن يكون كلٌّ من الجماعتين جاهلين بالجمعة الاخرى، أو عالمين، أو إحدى الجماعتين عالمين دون الاخرى لأنّ البُعد شرط واقعي فعند عدم حصوله تبطل الصلاة، كما هو الأمر في سائر الشرائط الواقعيّة.
و توهّم انصراف النصّ إلى اشتراط العِلم بالبُعد حتّى يصحّ الجمعتين عند جهل مصلّيهما أو إحديها عند جهل مصلّيها بلا وجه، لعدم المقتضي لذلك بَعْد كونه مسوقاً لبيان حُكم وضعي. و أمّا في صورة سبق إحديهما على الاخرى فكذلك تبطل كِلتَا الجمعتين، لأنّك قد عرفت أنّ الظاهر من الخبرين بطلان جمعتين في محلّ واحد لا خصوص الجمعة المتأخِّرة، فيستفاد من إطلاقهما البطلان حتّى في صورة السبق. [1]
و ربّما يتوهّم صحّة الجمعة السابقة، لأنّه حين انعقدت انعقدت صحيحةً و لم يكن مانع عن صحّتها، و أمّا المتأخِّرة فتكون فاسدة لاختلال شرطها و لا يمكن أن‏
__________________________________________________
 [1]- و فيه منع واضح لقيام المتقدّم بما هو وظيفته و تكليفه، و عصيان المتأخِّر، هذا كلّه في صورة عدم النصب، و أمّا معه فلا معنى لهذه الفروع. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 182
يكون مانعة عن صحّة الاولى لما عرفتَ من أنّ المانع عن صحّة الجمعة هو الصلاة الصحيحة دون الفاسدة.
لكنّه مدفوع لأنّ صحّة الصلاة الاولى أوّل الدعوى لأنّا ندّعي أنّ شرط صحّتها هو عدم انعقاد جمعة اخرى في وقت الجمعة كما هو الظاهر من إطلاق النصّ، كما أنّ فساد الثانية أيضاً أوّل الدعوى؛ و بعبارة اخرى أنّ كلّا من هاتين الجمعتين صحيح على الفرض لولا انعقاد جمعة اخرى، لأنّ الكلام في أنّها تامّة لجميع الأجزاء و الشرائط إلّا شرط البُعد الذي هو محلّ الكلام فكما أنّ الاولى مانعة عن صحّة الثانية كذلك الثانية مانعة عن صحّة الاولى، و بعبارة اخرى: أنّ التمانع واقع بينهما فإذَن تفسدا معاً، لأنّ التمانع بين صحيحتين و هو مقتضٍ لامتناع حصولهما إلّا فاسدتين من غير أن يكون بين الفاسدتين علّيّة أو ترتّب، و مجرّد سبق الجمعة الاولى لا يكون مرجّحاً لصحّتها، لعدم الدليل في المقام على مرجّحيّة السابق. [1]
إن قلتَ: إنّ اشتراط صحّة الاولى على عدم انعقاد الجمعة في الزمان المتأخِّر مبنيّ على الالتزام بصحّة الشرط المتأخِّر و هو فاسد.
قلتُ: هذا توهّم فاسد، لأنّ الشرط المتأخِّر الممتنع هو ما يرجع إلى تقدّم العلّة على معلوله كتقدّم الحُكم بالنسبة إلى موضوعه، فإذا كان شرط من شرائط الموضوع متأخِّراً زماناً عن الموضوع لا يعقل ترتّب الحكم عليه، و أمّا في المقام لا يلزم من اشتراط صحّة الاولى بعدم انعقاد الثانية في الزمان المتأخِّر تقدّم للعلّة على المعلول، لأنّ الوجوب ليس مشروطاً بذلك للفرض بأنّه مطلق و إنّما الشرط كان‏
__________________________________________________
 [1]- و قد عرفت المنع آنفاً. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 183
شرطاً للواجب، نظير الأمر بالصلاة السابقة بعدم طروّ الرياء و العُجب بعدها، فكما أنّ عدم الرياء و العجب شرط لصحّة الصلاة كذلك الأمر فيما نحن فيه.
و إن شئت فقل: إنّ المقام نظير اشتراط الإتيان بالتسليمة في صحّة التكبيرة و الإتيان بالتكبيرة في صحّة التسليمة، لأنّ الأمر وقع على مركّب ذي أجزاء، فيكون مرجعه إلى أنّ صحّة كلّ جزء من أجزائه منوط بإتيان بقيّة الأجزاء، و الأمر في المقام من هذا القبيل لأنّ الوجوب تعلّق بإتيان جمعة واحدة، و معناه الإتيان بذات الجمعة الّتي لم يكن سواها جمعة اخرى، و من هذا تعرف أيضاً أنّه لا فرق في بطلان الصلاتين بينما إذا كان انعقاد الثانية قبل الفراغ من الاولى أو بعده، لأنّ إطلاق النصّ هو عدم صحّة صلاتين فيما دون ثلاثة أميال على الإطلاق و ظاهره في جميع وقت الجمعة. [1]
ثمّ تعرف مواضع الخدشة في «مصباح الفقيه» و لا نطيل الكلام بذكرها.
ثمّ إنّه قد يتوهّم بطلان الصلاة الاولى دون الثانية إذا علم الجماعة الاولى انعقاد جماعة اخرى و لم يعلم الجماعة الاخرى انعقاد الاولى، و كذا بطلان الثانية دون الاولى إذا علم الجماعة الاخرى انعقاد الجمعة الاولى و لم يعلم الجماعة الاولى.
__________________________________________________
1- لا إشكال في أنّ صلاة الجمعة بلحاظ خصوصيّاتها هي صلاة خاصّة يعرفها أهل الإسلام و يهتمّون بإقامتها و يجعلون لإقامتها مكاناً خاصّاً و رتبة متمايزةً مع سائر الصلوات، فكيف يمكن أن تقام في أقلّ من ثلاثة أميال صلاتين معاً مع وضوح بطلان الصلاة فيه؟! و هذا أمرٌ يعرفه عوامّ الناس فضلًا عن الإمام، فطرح هذه المسألة لا موقع له أساساً و بغضّ النّظر عن هذا، إذا لم يكن السّبق بداعٍ دنيويّ فيلزم على الآخر تركها، و أمّا إذا اتّفق أحياناً بدون علم و غرض فمقتضى القواعد صحّتهما معاً. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 184
و هو فاسد [1] لبطلان كِلتَا الصلاتين على جميع التقادير و توضيح ذلك: أنّ انعقاد جمعتين لا يخلو إمّا أن يكون كلّ من الجماعتين جاهلًا بانعقاد الاخرى، أو عالماً به، أو إحدى الجماعتين عالماً دون الجماعة الاخرى فالصور أربعة:
                        صور المسألة في ما اتّفق تقارن الجمعَتين بأقلّ من ثلاثة أميال‏

الاولى: ما إذا كان كلٌّ من الجماعتين جاهلًا. و قد عرفتَ أنّ الشرط في البُعد لمّا كان واقعيّاً [2] فلازمه بطلان كِلتَا الجمعتين، ثمّ لو علموا بَعْد إكمال الصلاة بانعقاد جمعة اخرى قَبْل أو بَعْد فيجب عليهم السعي إلى مكان يكون بُعده عن كلٍّ من الجمعتين ثلاثة أميال و عقدوا فيها جمعة اخرى، لعدم سقوط تكليفهم عن الجمعة بما أتوا بها، و لا يمكن أن يعقدوا جمعة اخرى في المحلّ الأوّل، لفرض بطلانها بعين ما ذكرنا في وجه بطلان الاولى.
الصورة الثانية: ما إذا كان كلٌّ من الجماعتين عالماً بعقد جمعة اخرى، فاللازم أيضاً بطلان كلّ من الصلاتين ثمّ إذا تمشّى من كلّ واحد من الجماعتين قصد القربة بأن لا يعلموا فساد صلاتهم لجهلهم بالحكم فالبطلان إنّما هو للتمانع بينهما، فإذا علموا الحكم بالبطلان بَعْد الانعقاد فالواجب عليهم السّعي إلى مكان يبعد عن كلّ واحد من الجمعتين بثلاثة أميال و عقد الجمعة فيه إذا فرض سعة الوقت بهذا المقدار من العمل و إلّا فينتقل فرضهم إلى الظهر. و أمّا القول بأنّ كِلتَا
__________________________________________________
2- البُعد ليس شرطاً بالنّسبة إلى مشروعيّة الصلاة كالوقت و الاجتماع، بل هو شرط للصلاة بَعْد تحقّق وجوبها، و النّهي عن الإقامة في أقلّ المسافة من باب التّزاحم فحينئذٍ عدم العلم بالإقامة يكفي للصّحّة و الإجزاء كما لا يخفى لقوله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) أو (إنما يتقبل الله من المتقين) لصدق التّقوي و الإحسان حينئذٍ لا محالة. (منه عُفي عن جرائمه)
 [1]- بل هو قويّ على ما قرّرناه. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 185
الصلاتين باطلة لمكان الأمر بالسعي بالنسبة إلى كلٍّ من الجماعتين إلى الجمعة الاخرى المنعقدة، للنهي عن الضدّ بناءً على القول بالفساد، فهو إنّما يتمّ إذا لم يبق بعد إتمام الصلاتين مقداراً من الوقت يفي بتباعدهم عن الجمعتين بثلاثة أميال و عقد جمعة اخرى في ذلك المكان.
و أمّا إذا لم يتمشّ منهم قصد القُربة بأن علموا فساد صلاتهم لعدم وجود الشرط فالبطلان ليس مستنداً إلى التمانع، لما عرفتَ أنّ التمانع إنّما هو بين الصلاتين الصحيحتين من جميع الجهات غير هذا الشرط، بل الفساد مستند إلى عدم قصد القُربة، فوجود هاتين الصلاتين كالعدم لا يؤثِّر في بطلان الثالثة، فيجب على كلّ من الجماعتين عقد جمعة اخرى مع إحراز هذا الشرط أيضاً قَبْل أن يخرج الوقت، بأن يتّفقا و يصلّيا جمعة واحدة، أو يبعد كلّ جماعة عن الاخرى بثلاثة أميال و عقدوا في ذلك المكان، سواء كانت هاتان الجمعتان بعيدتين عن كلّ واحد من الجمعتين الاوليين بثلاثة أميال أم لم يكن. لما عرفتَ من أن الاوليين لمّا كانتا فاسدتين في نفسهما لا يمكن أن تؤثّران في صحّة الجمعة.
الصورة الثالثة: ما إذا علم جماعة الثانية انعقاد جمعة قَبْل، و لم تعلم الجماعة الاولى بعقد جمعة بَعْد، فإن تمشّي من الجماعة الثانية قصد القُربة فاللازم بطلان كِلتَا الصلاتين للتمانع بينهما [1]، ثمّ اللازم عليهم و على الجماعة الاولى على تقدير علمهم بفساد صلاتهم عقد جمعة اخرى في بُعد ثلاثة أميال، إن لم تمشّ من الثانية قصد القُربة بأن كانوا عالمين بالحكم فاللازم فساد خصوص صلاتهم دون الاولى، لأنّ الثانية في نفسها باطلة لا يمكن أن يؤثِّر في فساد الاولى.
__________________________________________________
 [1]- الظاهر صحّة الجمعة الاولى بالوجه الّذي قدّمناه. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 186
و بالجملة: أنّ جميع هذه التفاصيل تجري في صورة المقارنة أيضاً، و المحصّل من الكلام عدم الفرق بين صورة الاقتران أو السبق و التأخُّر بوجهٍ.
ثمّ إنّ الجماعة الّتي تريد عقد الجمعة لابدّ و أن يحرزوا الشرط كما هو الشأن في سائر الشروط، فإذا قلنا: إنّ الواجب عليهم هو الصلاة المتّصفة بعدم عقد جمعة اخرى معها بأن يكون الشرط هو عدم السبق و الاقتران و التأخُّر فلا مجال لهم لإحراز هذا الشرط بالاصل، لأنّ أصالة عدم جمعة اخرى لا يثبت أنّ هذه الجمعة غير مسبوقة و لا ملحوقة بجمعة اخرى، بل الواجب عليهم إحرازه بالعلم أو البيّنة، و على فرض عدم وجود البيّنة و عدم التمكّن من تحصيل العلم لتعسّره أو تعذّره لابدّ و أن يعملوا بالظنّ لانسداد الإحراز القطعي في هذا المقام، لكنّ الظاهر من الروايتين عدم دخالة الاتّصاف في متعلق التكليف، بل الواجب عقد الجمعة بحيث كان عدم انعقاد جمعة اخرى شرطاً في صحّتها أو عقدها مانعاً عنها لكن لم يكن عنوان الاشتراط أو المانعيّة دخيلًا في عنوان التكليف. فإذَن، لا مانع من إجراء الأصل بالنسبة إلى عدم انعقاد جمعة اخرى، لأنّ التكليف مركّب من أمر وجودي محرز بالوجدان و أمر عدمي محرز بالأصل، و جريان هذا الأصل لإفادة عدم عقد جمعة اخرى إلى زمان عقد هذه الجمعة بلا إشكال و لكنّ إجراءه بالإضافة إلى الجمعة المتأخِّرة مبتنٍ على جريان الاستصحاب في المستقبل. فإن قلنا بجريانه فهو، و إلّا فلابدّ من إحراز عدم عقدها في الزمان اللاحق بالعلم أو بالتعبّد و بالظّن عند عدم التمكّن منهما.
ثمّ إنّه هل يمكن أن يقتدي رجل بإحدي الصلاتين بإجراء أصالة الصحّة فيها بأن يبنى على صحّتها لمكان بنائه على أنّ هذه الصورة كانت من الصورة
                        صلاة الجمعة، ص: 187
الرابعة التي بنينا على أن الجماعة الاولى صحيحة دون الثانية على تقدير أم لا يمكن؟ فالظاهر أنّه لا مانع منه إذا قلنا بأن أصالة الصحّة أصل برأسه.
و لا يقال: إنّ جريان هذا الأصل يستلزم البناء على فساد الثانية، و لا يمكن حمل فعل المسلم على الصحّة إذا استلزم حمل فعل مسلم آخر على الفساد.
لأنّا نقول: إنّ صلاة الجماعة الثانية فاسدة على جميع التقادير و ليس فسادها مبتنياً على صحّة صلاة الجماعة الاولى. نعم، إذا قلنا: بأنّ أصالة الصحّة لم يثبت في الشريعة بل هو من بناء العقلاء في أعمالهم المبنى على حصول الظنّ الاطميناني كما هو الأظهر، فلا مجال للاقتداء بهم إذا حصل الاطمينان بجهلهم بعقد جماعة اخرى مع علم الجماعة الاخرى بانعقاد هذه الجمعة مع كونهم عالمين بالحكم.
ثمّ إنّه قد ادّعى الإجماع على صحّة السابقة دون اللاحقة، بل في «مصباح الفقيه» أنّه لم يعرف الخلاف فيه عن أحد و لا يخفى أنّ رفع اليد عن الإطلاق بهذا الإجماع مشكل إذ لا اعتبار بأمثال هذه الإجماعات. فتأمّل. [1]
                        فيمن تجب عليه الجمعة

فيمن تجب عليه الجمعة
اعلم: أنّ الجمعة وجبت على كلّ أحد لا يعذر فيه، إلّا تسعة: الصبي و الكبير و المريض و المجنون و المرأة و المسافر و الأعمى و العبد و مَن كان على رأس فرسخين.
__________________________________________________
 [1]- إنّ الإجماع هيهنا مبتنٍ على ما مرّ منّا من صحّة المتقدّمة على حسب القواعد فلا إطلاق حينئذ حتّى يعارض الإجماع، و قد سبق منّا مراراً عدم حجّيّة الإجماع مطلقاً لا في هذه الموارد و لا في سائر الموارد. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 188
و الدليل على ذلك: 1- صحيحة زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
 «فرض الله على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً و ثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها الله عزّ و جلّ في جماعة و هي الجمعة، و وضعها عن تسعة، عن: الصغير و الكبير و المجنون و المسافر و العبد و المرأة والمريض و الأعمى و مَن كان على رأس فرسخين [1]».
2- صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله عليه السّلام قال:
 «يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زاد، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم، و الجمعة واجبة على كلّ أحد، لا يعذر الناس فيها إلّا خمسة: المرأة و المملوك و المسافر و المريض و الصبيّ [2]».
3- قول أميرالمؤمنين عليه السّلام في خطبة:
 «و الجمعة واجبة على كلّ مؤمن إلّا على الصبي [3]» ... الخ.
و لكن في صحيحة محمّد بن مسلم و النبويّ و غيرهما أنّ المعذور منها أربعة.
                        كيفيّة الجمع بين الرّوايات الموجودة

و قد يتوهّم التنافي بين هذه الروايات تارةً من أجل اختلاف عقد المستثنى منه في رواية الأربعة الدّالّ على وجوبها على ما سوى الأربعة، و بين عقد المستثنى منه في رواية الخمسة الدّالّ على وجوبها على خمسة نفرات، و هكذا الأمر بالنسبة إلى المستثنى منه في هاتين الروايتين مع عقد المستثنى في روايات التسعة، و اخرى من أجل مفهوم العدد.
و لكنّه مدفوع: أمّا الأوّل: فلأنّ ظهور عقد المستثنى منه في وجوب الجمعة
__________________________________________________
 [1]- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة، باب 1، ج 5، ص 2، ح 1.
 [2]- المصدر السابق، باب 2، ج 5، ص 8، ح 7 و باب 1، ص 5، ح 16.
 [3]- المصدر السابق، باب 1، ج 5، ص 3، ح 6.
                        صلاة الجمعة، ص: 189
بالنسبة إلى المسافر في رواية الأربعة إنّما هو بالعموم، و وجوبها عليه في عقد المستثنى من رواية الخمسة إنّما هو بالمنصوصيّة و معها يرفع اليد عن العموم لا محالة.
لا يقال: إنّ عقد المستثنى منه في رواية الأربعة و إن كان في نفسه ظاهراً في شموله للمسافر إلّا أنّه بَعْد استثنائه بالأربعة يصير نقصاً في شموله له، و على هذا يقع التنافي بينه وبين المستثنى في رواية الخمسة.
لأنا نقول: استثناء خصوص الأربعة في رواية الأربعة و إن كان يوجب قوّة الظهور في المستثنى منه بالنسبة إلى شموله للمسافر إلّا أنّ ظهوره لا يعمل إلى مرتبة يمكن أن يقاوم النّصّ، فإذَن لابدّ من تقديم عقد المستثنى في رواية الخمسة عليه. فإذا عرفتَ الحال في عدم التنافي بين رواية الأربعة و الخمسة فقد عرفت عدم التنافي أيضاً بين هاتين الروايتين و بين روايات التسعة بهذا المنوال.
و أمّا الثّاني: فلأنّ العدد إنّما يكون له مفهوم إذا ورد في مقام التحديد بأن يكون في مقدار العدد مدخليّة في الحُكم كما يقال: إنّ نصاب الزكاة مثلًا أربعون شاة، و أمّا إذا لم يكن للعدد مدخليّة في الحكم بل كان لمجرّد الإشارة إلى عناوين خاصّة كانت هي مناط الحكم و موضوعها فلا يكون له مفهوم، و المقام من هذا القبيل لأن عنوان الأربعة و الخمسة و التسعة الوارد في المستثنى إنّما هو لمجرّد الإشارة إلى ما له دخل في عدم وجوب الجمعة- و هو عنوان المسافر و المريض- لا أن يكون في خروج الأربعة و الخمسة بما هو أربعة و خمسة خصوصيّة.
فبذلك تعرف أنّ مفهوم العدد في المستثنى أيضاً لا يوجب منصوصيّة المستثنى منه في العموم، كما أنّه لا يكون التنافي في نفس المستثنيات.
                        صلاة الجمعة، ص: 190
                        هل العَرَج أيضاً عذرٌ مانع أم لا؟

و بالجملة أنّ عدم وجوب الجمعة بالنسبة إلى الطوائف التسعة ممّا لا إشكال فيه، لكنّ المحقِّق زاد في «الشرائع» الأعرج أيضاً، و لم يكن له مستند عدا ما حُكي عن السيّد في مصباحه مرسلًا أنّه قال: و قد رُوي أنّ العرج عذر، فإن ثبت انجباره بالشهرة فهو، و إلّا فلا وجه لرفع اليد عن العمومات بالنسبة إليه. و أمّا دعوى إطلاق اسم المريض عليه بلا شاهد بل الشاهد، على خلافه. [1]
نعم، إن كان السعي حرجاً عليه فهو مرفوع لعمومات أدلّة نفي العسر و الحرج الحاكمة على أدلّة التكاليف الواقعيّة لكن لا يختصّ هذا بالأعرج بل كلّ من كان الحضور عسراً عليه كان التكليف ساقطاً عنه، و أمّا الطوائف المستثناة فتسقط عنهم الجمعة بمجرّد صِدْق هذه العناوين عليهم سواء كان السعي و الحضور عسراً عليهم أم لم يكن كما هو مقتضي الإطلاق، و ما ربّما يرى من تقييد بعضهم المريض و الكبير بأن يكون الحضور متعذراً عليهما أو متعسراً، تقييدٌ بلا دليل، كما أنّ تقييدهما بأن يكون السعي عليهما موجباً للمشقّة العرفيّة بدعوى أنّ المناسبة بين الحكم و الموضوع مقتضية لصرف إطلاق الأدلّة إليها بلا شاهد، بل مجرّد استحسان محض، فالحقّ سقوطها عنهما و إن كانا في غاية القدرة و التمكُّن من السعي و الحضور. [2]
                        قال أبوعبد الله عليه السّلام: لا بأس بأن تدع الجمعة في المطر

ثمّ إنّ الظاهر سقوطها أيضاً مع المطر و إن لم يترتّب عليه المشقّة، لصحيحة عبدالرحمن عن أبي عبدالله عليه السّلام قال: «لا بأس بأن تدع الجمعة في المطر [3]».
ثمّ إنّ المراد من الصبي و إن كان من يعدّ صبيّاً في العُرف فلا يشمل من كان‏
__________________________________________________
 [1]- يمكن أن يستدلّ على عدم توجّه التكليف إليه بالعسر و الحرج. (منه عُفي عن جرائمه)
 [2]- و فيه تأمّل. (منه عُفي عن جرائمه)
 [3]- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة و آدابها، باب 23، ج 5، ص 37، ح 1.
                        صلاة الجمعة، ص: 191
عمره اثنى عشر سنة فضلًا عن من كان قريباً إلى خمسة عشر إلّا أنّ الظاهر بقرينة الروايات الدالّة على أن قلم التكليف لا يجري على من لم يحتلم أو لم يبلغ عمره إلى خمسة عشر الآبية عن التخصيص، كان المراد منه مَن لم يصل إلى أحد هذين الحدّين، كما أنّه مورد الإجماع القطعي أيضاً.
و أمّا الكبير، فالمراد منه الشيخ البالغ إلى حدّ الهرم بحيث يطلق عليه الشيخ الكبير في العرف، و لا يبعد في زماننا هذا إطلاقه على من بلغ ثمانين سنة، و أمّا تفسيره بالشيخ الفاني و المقعد و غير القادر أيضاً بلا وجه كما ترى وجهه.
و أمّا المسافر، فقد صرّح جماعة بأنّ المراد منه المسافر الشرعي، فيخرج منه المقيم و كثير السفر و العاصي و ناوي إقامة العشرة و المتردّد ثلاثين يوماً، و لكنّه أيضاً بلا دليل، لأنّ السفر ليس له حقيقة شرعيّة [1] بل السفر هو ما يعدّه العرف سفراً و إنّما يوجب القصر إذا قيّد بقيود خمسة المذكورة في محلّه.
فكلّ ما دلّ الدليل على تقييده بخصوصه و إلّا فلابدّ من الأخذ بالإطلاق، فعلى هذا مَن ذهب سبعة فراسخ ذهاباً أو ذهاباً و إياباً تسقط عنه الجمعة لصدق اسم المسافر عليه، بخلاف من ذهب ثمانية فراسخ في طول عشرة أيّام أو أكثر بأن يذهب كلّ يوم مقداراً ما، ثمّ مكث مقداراً طويلًا حيث كان سفره شرعيّاً، لكن يجب عليه السعي للجمعة لعدم إطلاق اسم المسافر عليه [2]، و كذا تسقط عن الصبي و المقيم عشرة أيّام ناوياً، و أمّا المتردّد ثلاثين يوماً فيختلف صِدْق المسافر عليه باختلاف الأحوال و الخصوصيّات، و المسافر الذي كان في إحدى المواضع الأربعة
__________________________________________________
 [1]- بل الأمر هكذا لوجود هذا العنوان في سائر الابواب كالصلاة و غيرها. (منه عُفي عن جرائمه)
 [2]- بل تسقط عنه بلا شبهة. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 192
سقطت عنه الجمعة سواء أراد أن يصلّي قصراً أو تماماً.
                        هل توجد الملازمة بين وجوب الجمعة و بين الإتمام‏

و ربّما يدعى الملازمة بين وجوب الجمعة و الإتمام لقيام الخطبتين يوم الجمعة مقام الركعتين، فالجمعة واجبة لكلّ من كان وظيفته أربع ركعات، و هو الحاضر الشرعيّ لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال:
 «في قوله تعالى حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ [1] وأنزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول الله في سفر فقنت فيها و تركها على حالها في السفر و الحضر و أضاف للمقيم ركعتين، و إنّما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبيّ يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام، فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيّام» [2].
وجه الدلالة أنّ المراد من المقيم في هذه الرواية هو غير المسافر الشرعيّ لأنّه من المعلوم أنّ إضافة ركعتين إنّما هي بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى خصوص المقيم العرفي الذي هو في قبال المسافر العرفي، فإذَن دلّت الرواية على وضع ركعتين لمكان الخطبتين إنّما هو بالنسبة إلى من يعدّ مقيماً في الشرع، و هو من كان وظيفته أربع ركعات.
و فيه: الصحيحة كانت في مقام بيان مجرّد أنّ وضع الركعتين إنّما هو لمكان الخطبتين، و لم تكن بصدد بيان حدود من يجب عليه أربع ركعات و قيوده، فلا يكون المراد من المقيم من لا يكون مسافراً شرعاً، بل المراد منه الحاضر العرفي [3] و
__________________________________________________
 [1]- سورة البقرة (2) صدر الآية 238.
 [2]- بحار الأنوار، ج 86، ص 194.
 [3]- و في الرّواية دلالة واضحة على أنّ المراد من المقيم هو الشّرعي و كذا مقابله. (منه عُفي عن جرائمه)
                        صلاة الجمعة، ص: 193
أنّ الجمعة أيضاً واجبة بالنسبة إليه، و أمّا حكم المسافر العرفي المنتفى عنه القيود الخمسة الموجبة للقصد فيستفاد من أدلّة اخر.
هذا تمام الكلام في هذا المقام، و الحمد لله ربّ العالمين أوّلًا و آخراً و له الحمد و الشكر أبد الآبدين؛ قد فرغتُ من تحرير هذه الأبحاث بعد ما تأمّلت في أدلّتها يوم الخامس عشر من شهر صفر بعد ما مضى اثنان و سبعون بعد ثلاثمِائة و ألف من الهجرة النبويّة. [1]
و أنا الراجي عفو ربّه الكريم‏
السيّد محمّد حسين الحسيني الطهراني‏
                        النكتة الأساسيّة لبناء هذه الرسالة (ت)

__________________________________________________
1- و قد تلخّص ممّا ذكرناه و تعمّقنا في ما أفاده سيّدنا الوالد المفدَّى قدّس الله سرّه و أفاض علينا من بركات نفحاته القدسيّة و أنفاسه الربّانيّة و وجدنا أنّه العماد العميد و السناد السّديد لهذه المسألة المهمّة الإلهيّة و الاجتماعيّة، و لم أرَ مَن ألّف في هذه المسألة رسالة وصل إلى ما وصل إليه قدّس سرّه و أدّى حقّ المسألة و أوضحها بأحسن بيان و خير نطاق، و نحن مقتفون أثره و سالكون منهجه في الاهتمام بهذه الفريضة العظمى.
النكتة الأساسية لبناء هذه الرسالة (ت)
ولَعَمْري لو عمل بها و أمعن في غاياتها لوجد المجتمع صلاحه و حياته النكتة الأساسيّة، هذه الرسالة و هذه هي النّكتة الأساسيّة الّتي بنى عليها رسالته و اهتمّ بإنجازها بأبلغ بيان و أشدّ التّعابير، و كان يرى القيام بها لا ينجح إلّا ضمن تشكيل الحكومة الإسلاميّة و لذا قال بوجوب القيام بإيجادها و عمل رسالة في هذا الباب سمّيت ب (وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام) و كان من أقدم الرّوّاد و القادة لإنجازها مع الزّعيم القائد الفقيه آية الله السيّد روح الله الخميني- رحمة الله عليه- و كانا معاً مؤسّسَين للنهضة الشّعبيّة الإسلاميّة كما كان رحمه الله يستشيره في كلّ المجالات و يأخذ برأيه و نظراته، و كان هو السّبب لإقامة صلاة الجمعة بعد استقرار الثورة الإسلاميّة حيث تكلّم مع السّيّد القائد و ألزمه بإقامة الصلاة، لأنّ السيّد القائد كان يرى التخيير بينها و بين أربع ركعات حتّى أصرّ عليه بإقامتها بنفسه، و لكنّ السيّد القائد (ره)
                        صلاة الجمعة، ص: 194
__________________________________________________
لم يقبلها لعدّة موانع فعلى كلّ حال إذا لاحظ القارئ رسالته هذه يعرف مدى اهتمامه لإقامة هذه الفريضة المؤكّدة نهاية التأكيد و لكنّنا رأينا حسب فهمنا القاصر أنّها واجبة في كلّ الأحوال و المجالات من غير أيّ شرط لا في الوجوب و لا في الصّحّة. نعم هي في الحكومة الإسلاميّة من مختصّات الحاكم الشّرعي و هو الوحيد المخوّل لنصب الأئمّة و الخطباء و لا يجوز القيام بها قِبل الآخرين، و أمّا في القُرى و سائر الأماكن الّتي لا يوجد فيها إمام و خطيب منصوب من قِبَله فاللازم عليهم القيام بها بنفسهم مع رعاية الشّرائط و المصالح.
هذا و إن كان الّذي نراه من فحوى عباراته في هذه الرسالة ميلًا إلى القول بإقامتها في غيرها أيضاً و الأدلّة الّتي أقامها على مبناه هي بنفسها أبلغ أدلّة على مبنانا من القيام بها في كلّ الأحوال، و لهذا نحن مستضيئون من أضواء أدلته الشّاسعة على منهجنا، و مستقون من مَعين ينبوعه لسقيا لوعتنا، فله التّقدّم و الكمال و الفضل‏
هو خير ثواباً و أحسن عملًا.
هذا و قد تمّت تعليقاتنا على رسالة صلاة الجمعة للآية الحجّة العَلَم العلّامة الآية العظمى و حجّته الكبرى السيّد محمّد حسين الحسيني الطهراني- رضوان الله عليه- باختصار و إيجاز و استعجال عند تشرّفنا لزيارة الاعتاب المقدّسة في العراق على ما سنح بخاطرنا القاصر و رأينا الفاتر لمزيد الإفادة و الاستبصار و تتميم البيان للآراء و الأنظار، و ما قلت و لا أقول إنّها نهاية المطلب و غاية المأمول، بل تذكرة و تبصرة للطّالب و الفحول، و هو غاية المسؤول إنّه وليّ التّوفيق. و قد تمّ الفراغ منها في ليلة الخميس أوّل جُمادي الآخرة سنة 1427 هجريّة قمريّة ليلة استشهاد ناموس الإله العظمى و سرّ الله الكبرى سيّدة نساء العالمين بنت النبيّ الأكرم الصِّدِّيقة الطّاهرة سلام الله عليهما و على أولادها المعصومين الطاهرين و اللعنة الأبديّة على أعدائهم و غاصبي حقوقهم و منكري فضائلهم إلى يوم الدّين في العتبة المقدّسة للإمامَين الهمامَين موسى ابن جعفر و محمّد بن علي الجواد عليهم الصلاة و السّلام.
السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني‏

Tidak ada komentar:

Posting Komentar