Pages

Selasa, 18 Oktober 2011

ma'rifatullah Allamah Thaba'thabai 226-324

- «ديوان ابن الفارض» ص 142، الطبعة الاولى، 1372 ه-؛ و طبعة بيروت 1382 ه-؛ «نظم السلوك» البيت 719 إلى 726؛ و قد ورد البيت الخامس في كِلا النسختين هكذا: أجدى وسيلةٍ. و في الشرح العربيّ للفرغانيّ في ج 2، ص 201: أجدى وسيلتي و هو الصحيح.
2- عن «مشارق الدراري» المشروح بالفارسيّة ص 457، و الذي ذكر هذا الحديث في ص 46.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 295
و الثاني في شرحه لقول هذا العارف:
         وَ جَاءَ حَدِيثِي في اتِّحَادِيَ ثَابِتٌ             رِوَايَتُهُ في النَّقْلِ غَيْرُ ضَعِيفَةِ

و قد ذكر هذا البيت، و بيتين آخرين بعده، سبقت الإشارة إليهما هنا، و استدلّ بهذا الخبر في موضعين أثناء شرحٍ وافٍ لهما، و لأنّ شرحه، في الحقيقة، هو شرحٌ للحديث الذي نحن بصدده، فما أجمل أن ننقل هنا عباراته، حتى نتعرّف أكثر على مفاد و محتوى هذا الحديث، و أن نستوعب واقع معنى أبيات ابن الفارض بشكل أفضل:
                        شرح الفرغانيّ لأشعار ابن الفارض حول حديث «لَا يَزَالُ العَبْدُ»

يقول الفرغانيّ [1]: «يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: «وَ جَاءَ حَدِيثِي...» أن يَكُونَ عَلَى‏
                        ترجمة سعد الدين الفرغانيّ و بيان مقامه العلميّ‏

__________________________________________________
1- و لبيان عظمة المقام العِلميّ للفرغانيّ و القيمة الأدبيّة لكلامه، نكتفي هنا بذِكر ما قاله آية الله مير سيّد حامد حسين الموسويّ النيشابوريّ الهنديّ في كتاب «عبقات الأنوار» ج 1، من المجلّد (12): سند حديث الثقلينِ و الموجود في القسم الثاني حسب طبعة مؤسّسة نشر نفائس المخطوطات (إصفهان)، من ص 473 إلى 475، برقم 113. فقد قال آية الله النيشابوريّ الهنديّ ما ترجمته:
 «و أمّا إثبات سعيد الدين محمّد بن أحمد الفرغانيّ لحديث الثقليْنِ فقد قال في شرحه بالفارسيّة على القصيدة التائيّة لابن الفارض عن تفسيره للبيت التالي:
         وَ أوْضَحَ بِالتَّأوِيلِ مَا كَانَ مُشْكُلًا             عَلِيّ بِعِلْمٍ نَالَهُ بِالوَصِيَّةِ


ما يلي: لقد أوضح على بالتأويل ما قد أشكلَ من المعنى و أشبه فيه من مراد القرآن و الحديث على غيره من الصحابة و خاصّة عمر؛ و هو الذي كان يُردّد دوماً (مقولته المشهورة) بهذا الخصوص: لَوْ لَا على لَهَلَكَ عُمَرُ. مع أن (عليّاً) كان قد تطرّق إلى هذه المشكلات و حلّها بالعِلم الذي كان قد ورثه عن المصطفى بواسطة الوصيّة التي قال فيها: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي! اذَكِّرُكُمُ اللهَ في أهْلِ بَيْتِي، ثلاث مرّات، ثمّ عاد و كرّر قوله: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى غَيْرَ أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي. و بواسطة قوله: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ على بَابُهَا- انتهي كلام الفرغانيّ.
ومحامد العلّامة الفرغانيّ المبهرة و معاليه المُزهرة واضحة لكلّ مَن يبحث في كتاب «عبرٌ في خَبر مَن غبر» للذهبيّ، و «نفحات الانس» لعبد الرحمن الجاميّ، و «كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار» لمحمود بن سليمان الكَفويّ، و «كشف الظنون» لمصطفي بن عبد الله القُسطنطينيّ، و غير ذلك من الكتب الأخرى. و قد سَبقَ بِعون الله المُنيلِ في مجلّد حديثِ مدينةِ العلمِ، بيانُها بالتفصيلِ. و هنا نكتفي بالإشارة إلى ما قاله عبدالرحمن الجاميّ في كتاب «نفحات الانس»، و هو (ما ترجمته):
وكان الشيخ سعيد الدين الفرغانيّ رحمه الله تعالى من أكمل أرباب العرفان و أكابر أصحاب الذوق و الوجدان. فلم يُبيّن أحد مسائل عِلم الحقيقة بهذه الدقّة و الصحّة كما فعله هو في ديباجة «شرح القصيدة التائيّة الفارضيّة». فقد قام أوّلًا بشرحها بالفارسيّة، ثمّ عرض ذلك على شيخه (الشيخ صدر الدين القَونويّ قدّس سره، فاستحسن شيخه ذلك و كتب بعض العبارات في هذا الباب، فوضع الشيخ سعيد تلك العبارات المكتوبة بعينها في ديباجته على الشرح الفارسيّ تَيمّناً و تبرّكاً. و ثانياً، و لتعميم الفائدة و تتميمها، قام بنقلها إلى العربيّة و أضاف عليها فوائد كثيرة و زيادات أخرى. جزاه اللهُ عن الطالبين خيرَ الجزاء.
وله مُصَنَّفٌ آخر يُسمى ب- «مناهج العباد إلى المعاد» في أصحاب المذاهب الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين و هو في مسائل العبادات و بعض المعاملات التي لا غنى لسالكي هذا الطريق عنها؛ و التي لا يمكن سلوك طريق الحقيقة بدونها في بيان آداب الطريقة بعد إصلاح و تصحيح أحكام الشريعة. و الحقّ أنّه كتاب مفيد و هو ما لابدّ لأيّ طالبٍ و مريد- إلى آخره.
فهذا الفرغانيّ، شيخُهم السعيد المسعود، و حَبرُهم الحميد المحمود؛ قد أثبتَ هذا الخبرَ النافحَ كالأزهار و الورود العاطِر، كالقُتار الساطِع من العود. فالعجبُ كلُّ العجب من الجاحد العَنود، و المنكر الكَنود؛ كيف لا يَزعُه وازعٌ عن الإنكار و الجُحود، و لا يَصرفهُ صارفٌ عن البغي و المُرود! و اللهُ العاصمُ عن شرِّ كلِّ معاندٍ حسودٍ لدودٍ، و هو الواقي عن زيغِ كلِّ حيودٍ ميودٍ».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 296
لِسَانِ الجَمْعِ الإلَهِيّ؛ فَإنَّ هَذَا حَدِيثٌ إلَهِيّ. وَ يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ على لِسَانِ الجَمْعِ المُحَمَّديّ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ.
و يُشير ذلك الحديث على تحقّق محبّة الحقّ لي و محبّتي له، و ذلك بعد
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 297
طلبي للتقرّب و الزلفى إلى الحقّ بأداء النوافل و الفرائض و العبادات. و يبدو موضع الإشارة في هذا الحديث إلى الاتّحاد واضحاً و جَدّ جليّ و صريح كنور الشمس الوضّاح في صدر النهار و كبد السماء؛ و ذلك ممّا قَصَدَه بقوله: كُنْتُ لَهُ سَمْعاً.
و أمّا لفظ الحديث، كما ورد في «صحيح البخاريّ» و مسلم فهو:
مَا تَقَرَّبَ إلى عَبْدِي بِشَي‏ءٍ أحَبَّ إلى مِنْ أدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ. وَ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلى بِالنَّوَافِلِ حتى احِبَّهُ؛ فَإذَا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ، وَ بَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، وَ لِسَانَهُ الذي يَنْطِقُ بِهِ، وَ رِجْلَهُ التي يَمْشِي بِهَا- الحديث.
و اعلم، أن المحبّة شدّة الرغبة الباطنيّة من أجل الوصول إلى كمالٍ من الكمالات، و حقيقتها: الآصرة القويّة الوحدانيّة بين الطالب و المطلوب، و معناها: تسلّط عوامل الاتّحاد أو الاشتراك، ممّا يستلزم زوال عوامل التفاضل أو الاختلاف بين الطالب و المطلوب.
و المحبّ هو من تظهر فيه هذه الآصرة أوّلًا، و تتغلّب و تتسلّط عليه حتى يقوم الطالب بإزالة عوامل التفاضل عن نفسه، أو عمّا يطلب. و أصل هذه المحبّة، هو حقيقة فَأحْبَبْتُ أن اعْرَفَ، حيث كانت ذات الحقّ الواحدة مُحبّة، و كان المحبوب كمال وجوده و ظهور الكمالات الأسمائيّة له، و تعكس مرآة المحبوب، الحقيقة الإنسانيّة، صورةً و معنى، و لا شي‏ء غيرها. لِكَمَالِ جَمْعِيَّتِهَا وَ تَمَامِ مُضَاهَاتِهَا وَ قَابِليَّتِهَا، وَ قُصُورِ غَيْرِهَا عَنْ ذَلِكَ.
وَ إليه الإشَارَةُ فِيمَا رُوِيَ مِنَ الحَدِيثِ الإلَهِيّ خِطَاباً لِمُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‏] وَ سَلَّمَ: لَوْ لَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الكَوْنَ.
و بحكم هذه المحبّة، تعيّن تجلٍّ من الله، بصورة إجماليّة في باطن‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 298
تلك الحقيقة الإنسانيّة في جوهرها، و التي تشير إلى البرزخيّة و الجمعيّة بين الواحديّة و الأحديّة أوّلًا، و بين العلم بالعالم و بين الوجود ثانياً، ثمّ سار و تنزّل من باطن تلك الحقيقة الإنسانيّة في صورٍ تفصيليّة، و التي هي عبارة حقائق العالم، لكمال الظهور الذي كان هو المحبوب الأوّل، حتى يصل إلى هذه الصورة العنصريّة الإنسانيّة، و هي الصورة الإجماليّة الواقعيّة لتلك الحقيقة الإنسانيّة.
و أمّا مرآة الجمعيّة و كمال ظهور ذلك التجلّي، فواقع الوحدانيّة لذلك النزوع و المحبّة، تزامن مع هذا التجلّي، و هي مستترة في باطنه.
و لمّا كان ذلك التجلّي وحدانيّاً، كان لزاماً أن يكون محلّه و مرآته و ظهوره في هذا النزول، أمراً وحدانيّاً كذلك، و ما كان لغير العدالة و الاعتدال الموحّدين للكثرة في هذه المراتب، بل في عالم التركيب و الكثرة من أثر و ظلّ و صورة من حقيقة الوحدة، و لا جرم أن مرآة ظهور ذلك التجلّي في كلّ مرتبة، هي أمر معتدل، حتى تكون مرآته، حقيقة وسطيّة، و عدالة إمكان كلّ ممكن في عالم المعاني و الأرواح، و ذلك بين جهة الوجوب وجهة المحال. و أمّا في عالم المثال و الحسّ، فلم يكن مظهر ذلك التجلّي إلّا مزاجاً معتدلًا من الطبيعة و العناصر و المولّدات، و حصيلة هذه الجملة من مراتب الاعتدالات، هو إظهار الاعتدال الإنسانيّ الموجود في الوسط، و صورة الوحدة و العدالة لذلك هي البرزخيّة الاولى و الثانية.
و لمّا كان ظهور ذلك التجلّي في نزوله، في جملة هذه المراتب، و لأنّه تلبّس بصور إنسانيّة تفصيليّة و إجماليّة، فقد اجتمعت حوله أحكام الكثرة و التعيّنات، و النسب و الإضافات، و التي هي من مستلزمات الأجزاء و الأطراف، و آثار الانحراف، فخرج كلّ حكم من تلك الأحكام على صورة أمل و امنية و طلب لذّة و شهوة، و أرادت التغلّب على حُكم الوحدة و البساطة
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 299
و صورة الجمعيّة و عدالتها و توجيهها نحو أوصاف الكثرة و التركيب و أحكام الانحرافات و التغلّب عليها. و كان أمر الشجرة، و الهبوط من الجنّة، صورة و أثراً لتلك الغلبة.
فتطلّبت تلك المحبّة الوحدانية- و هي الآصرة المستترة في باطن التجلّي- وضع ميزان اعتداليّ يمثّل الشريعة و الطريقة، لتربط هذا الإنسان المتعرّض للمحبوب بالواسطة، بجملة من الإرادات و المقاصد و الحركات و السكنات الخاصّة بها، و بالوحدة و العدالة، ظاهراً و باطناً.
                        معنى «سَمِعَ الله لمنْ حَمِدَهُ» هو كلام الله على لسان عبده‏

و تستتر حقيقة هذه المحبّة في الباطن، و هي لسان هذا الميزان الذي هو عين الفرائض، بحكم انتشار وحدة الأمر «وَ مَا أمْرُنَا إلَّا وَاحِدَهٌ» فإنَّ مُطْلَقَ الأمْرِ يَقْتَضِي الفَرَضِيَّةَ، فيسري أثر هذه المحبّة في باطن أجزاء عمود الميزان و كفّتيه، اللتين هما بمثابة سنن و نوافل هذا الميزان، فتغدو حُجُب الحقيقة الإنسانيّة ضعيفة و شفّافة و لطيفة، تلك الحقيقة التي تكون بمرتبة المحبوبيّة بحكم العناية اللا عليّة في الأزل، و التي غلبت عليه بحكم الوجوب و الوحدة، و بحكم استعداده الكامل زمان السير و المرور عبر المراتب تنازلياً، طرأت الحجب الضعيفة و الشفّافة و اللطيفة عليه، فإذا تيسّر أداء الفرائض بإخلاص و بالكامل بسبب محبوبيّته، فبمجرّد أداء تلك الفرائض ظاهراً و باطناً ترتفع الحُجُب، و حينها، يظهر حكم حقيقة تلك المحبّة و الوحدة الحقيقيّة فيه، و التي باطنها لسان في قلبه، فتجذبه نحوها رغم إرادته، و تجعل منه مرآة كمال ظهورها، حتى يظهر الحكم السابق فَأحْبَبْتُ فيه بواسطتها، و تكون نتيجة ذلك الظهور أن اللهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ.
و ذلك تحقيق قوله: مَا تَقَرَّبَ إلى عَبْدِي بِشَي‏ءٍ أحَبَّ إلى مِنْ أدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ. ذلك أن لا شي‏ء من الميزان أقرب إلى الوحدة من لسان‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 300
الميزان؛ و كذا لا شي‏ء أقرب إلى الوحدة الحقيقيّة للمحبّة من أداء الفرائض عند سريان وحدة الأمر فيه.
و أمّا إذا كان ذلك موجوداً من قبل في مبدأ الحكم و الاستعداد الإنسانيّ، في زمان مروره و نزوله عبر المراتب، فستجتمع حوله قيود و صفات الكثرة الإنسانيّة و بكثافة، و تتغلّب على حكم وحدته، فسيحتاج ذلك الشخص إلى رياضة و مجاهدة كثيرتين، و لا تتيسّر استقامة و اعتدال ذلك الميزان الذي يمثّل أداء الفرائض قلباً و قالباً، إلّا بملازمة السنن و النوافل من الأذكار و الأعمال و شتّى أنواع القُرُبات، التي تخالفها النفس، شرط توفّر الإخلاص و مجانبة الشبهات و صغائر الرياء، و ترك جميع اللذّات و الشهوات النفسيّة التي تتوقّف عليها استقامة ميزان الشريعة و الطريقة بصورة كاملة. كما جاء في الحديث:
إن أوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ؛ فَإنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أفْلَحَ وَ أنْجَحَ، وَ أن فَسَدَتْ خَابَ وَ خَسِرَ. وَ أن انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْئاً قَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَ تعالى: انْظُرُوا! هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكْمَلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ؟! ثُمَّ يَكُونَ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ.
يدلّ ظاهر الحديث على أن النوافل هي مكمّلات للفرائض.
                        معنى «كُنْتُ سَمْعَهُ وَ...» هو انكشاف تجلّي وجود الله في أفعال السالك‏

و على هذا، فيلزم على السالك الذي وقع في رتبة المحبّ منذ الأزل المداومة على هذه السنن و النوافل، حتى يتسنّى له بعد ملازمته للإخلاص و التوحيد في العمل الاقتراب من لسان الميزان، و يتمكّن أثر المحبّة الكامن في كفّتي و أجزاء عمود ميزان الشريعة و الطريقة من إزالة كلّ صوَر و أحكام انحرافات نفس هذا السالك، حتى تعتدل كفّتا الميزان و عموده. و حينئذٍ، يظهر القلب الذي هو محلّ ذلك اللسان المذكور، و يظهر فيه ذلك التجلّي الوجوديّ بوحدته الحقيقيّة، و يزيل ذلك الأثر من المحبّة الذي تزامن مع‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 301
هذا التجلّي و اللسان و رافقهما كلّ حُكم امتيازيّ فيما بين الوجود المضاف إلى النفس و القوى و المدارك الباقية فيه، و يُظهر بدلًا من ذلك حكم عوامل الاتّحاد.
فينكشف حينئذٍ هذا المعنى لهذا السائر المحبّ، في الحقيقة، بظهور حكم المحبّة الذي هو إزالة للأحكام الامتيازيّة للنسب و الإضافات أن هذا الوجود الواحد الذي كان سمعه و بصره و لسانه و يده و رِجله حتى هذه اللحظة، و أنّه لم يكن يسمع إلّا بنور الوجود الواحد الحقّ، و لم يكن ليري و لا لينطق و لا يبطش و لا يسير إلّا به.
و قد كان محجوباً عن هذا العلم حتى الآن بسبب تقيّده بأحكام تلك النسب و الإضافات التي هي أحكام امتيازيّة، فارتفعت الحجب و الموانع بسبب حقيقة المحبّة التي أزالت تلك القيود، و انكشفت حقيقة هذا العمل ساطعة و ضّاءة.
و هذا هو معنى قوله: وَ لَا يَزَالُ العَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلى بِالنَّوَافِلِ حتى احِبَّهُ؛ فَإذَا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ وَ بَصَرَهُ وَ لِسَانَهُ وَ يَدَهُ- الحديث.
و إذن، ففي هذا الحديث الصحيح دلالة صريحة على صحّة و ثبوت ما ادّعيته في التوحيد؛ وَ اللهُ المُلْهِمُ لِلصَّوَابِ. [1]
__________________________________________________
1- شرح «مشارق الدراري» ص 605 إلى 610، طبعة انجمن فلسفه و عرفان اسلامي (بالفارسيّة)؛ و الشرح بالعربيّة المطبوع في مصر سنة 1293 ه-: ج 2، ص 197 إلى 200.
قال العلّامة شمس الدين محمّد بن محمود الآمليّ في كتاب «نفائس الفنون» ج 2، ص 26 و 27 (ما ترجمته):
 «و لأنّ حقيقة المحبّة هي نوع من علاقات الاتّحاد التي تربط المحبّ بالمحبوب، و جذبة من جذبات المحبوب التي تجذب المحبَّ نحوه، فينسلخ المحبوب تدريجيّاً من جميع صفاته نتيجة هذه الجذبة و تلك العلاقة، ثمّ تسلبه ذاته بقبضة قويّة و مقتدرة و تضفي عليه ذاتاً أخرى غيرها تناسب اتّصافه بصفاته هو. و بعد ذلك، تتبدّل صفاته الموجودة داخل تلك الذات؛ كما قال الجُنيد:: المحبّةُ دخولُ صفات المُحَبِّ على البدن من المُحِبِّ. و هنا يتّضح لدينا سرّ فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعاً وَ بَصَراً، و هي حقيقة
                  أنَا مَنْ أهْوَى وَ مَنْ أهْوَى أنَا             نَحْنُ رُوحَانِ حَلُلْنَا بَدَنَا
 فَإذَا أبْصَرْتَنِي أبْصَرْتَهُ             وَ إذَا أبْصَرْتَهُ أبْصرْتَنَا


ومع ذلك فلا يوجد سبب معيّن للمحبّة (كما قيل) حيث:
                  إن المحبّةَ أمرُها عجبُ‏
 تُلقَي عليكَ و ما لَها سببُ‏


ثمّ قال في ص 32: «و قال بعضهم: أن الفَناء هو الغياب عن الأشياء، و البقاء حضور مع الحقّ؛ و هذا المعنى هو نتيجة السُّكْر. فقد قال صاحب «العوارف»: الفناءُ المطلقُ المطابقُ، هو ما يَستَولي من أمر الحقّ سبحانَه على العبدِ، فيَغلبُ كونُ الحقِّ على كونه العبدَ. و هذه هي حقيقة مطلق الفَناء».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 302
                        أشعار المغربيّ و الحكيم السبزواريّ في حقيقة الفَناء في وجود الحقّ‏

و على أساس فناء الصفات و اندكاك عالم الوجود في عالم الحقّ، يصرّح العارف الجليل المغربيّ بقوله:
         ديده‏اى وام كنم از تو، به رويت نگرم             زانكه شايستة ديدار تو نبود نظرم‏
             چون ترا هر نفسى جلوه به حُسنى دگر است             هر نفس زان نگران در تو به چشمى دگرم‏
             توئى از منظر چشمم نگران بر رخ خويش             كه توئى مردمك ديده و نور بصرم [1]

__________________________________________________
1- يقول: «أعرني بصراً لأنظر إليك به و إن كانت عيني لا تليق النظر إليه.
إن في كلّ نَفَسٍ منك يتجلى مظهر آخر لجمالك، و في كلّ مرّة أخافُ فيها عليك فألحظك بعيني الأخرى.
أنت ناظر إلى حُسنكَ و جمالك من نظرات عيوني، لأنّك أنت إنسان عيني و بُؤبُؤها و نور بصري».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 303
         هر كه بي‏رسم و اثر گشت به كويش پي‏برد             من بي‏رسم و اثر ناشده، پى مي‏نبرم‏
             تا زمن هست اثر، از تو نيابم اثري             كاشكى در دو جهان هيچ نبودى اثرم‏
             نتوانم به سر كوى تو كردن پرواز             تا ز اقبال تو حاصل نبود بال و پرم‏
             بوى جانبخش تو همراه نسيم سحر است             زان سبب مردة انفاس نسيم سحرم‏
             يار هنگام سحر بر دل ما كرد گذر             گفت چون جلوه‏كنان بر دل تو مي‏گذرم‏
             مغربى آينة دل ز غبار دو جهان             پاك بزْداى كه پيوسته در او مي‏نگرم [1]

و نظم الحكيم الجليل الحاجّ ملّا هادي السبزواريّ شعراً قال فيه:
__________________________________________________
1- يقول: «أن مَن ذاب في الحقّ و انمحى فيه قد وصل إلى طُوره، لكنّني لم أصل إليه لأنّني ما ذُبتُ و لا انمحيتُ فيه.
فما زال أثر منّي موجوداً، لم أعثر لك على أثر، فيا ليت ما كان لأثري من وجود في العالمين.
ليست لي القدرة على الطيران في سمائك، حتى تمنَّ على بجناحَيْن.
إن ريحك العطرة تعانق نسيم السَّحَر، و لهذا تراني قتيل نسيم ذلك السحر.
مرّ الحبيب بجانب قلبي ساعة السَّحَر، قال: سأمُرُّ على قلبك كما يفعل مَن يُريد الظهور (للآخرين).
يا مغربيّ! أزِل غُبار العالمين عن مرآة القلب و طهِّرها، لأنّني ما فتئتُ أنظر فيها».
 «ديوان شمس مغربي» ص 86 و 87، طبعة الإسلاميّة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 304
         اى به ره جستجوى، نعره زنان دوست دوست             گر به حرم ور به دير، كيست جز او، اوست اوست‏
             پرده ندارد جمال غير صفات جلال             نيست بر اين رخ نقاب، نيست بر اين مغز پوست‏
             جامه دران گل از آن نعره زنان بلبلان             غنچه بپيچد به خود، خون به دلش تو به توست‏
             دم چو فرو رفت هاست، هوست چو بيرون رود             يعنى از او در همه هر نفسى هاى و هوست‏
             يار به كوى دل است، كوى چو سرگشته گوي             بحر به جوى است و جوى اين همه در جستجوست‏
             با همه پنهانيش هست در اعيان عِيان             با همه بي‏رنگيش در همه ز او رنگ و بوست [1]

__________________________________________________
1- يقول: «يا مَن تصرخ في بحثك: الحبيب الحبيب، مَن ذا غيره موجود في الحَرم أو الدير؟ إنّه هوَ.
لا ستار يُغطّي الجمال سوى صفات الجلال، و لا خمار يُخفي هذا الوجه و لا قشر يحيط بهذا اللبّ.
إن الزهور تشقّ أكمامها لغناء البلابل، و البراعم تملأ قلوبها بالدم.
إن النَّفَس حين يدخل في الشهيق، و يخرج في الزفير يعني أن منه (من الله) شهيقاً و زفيراً في كلّ نفس.
إن الحبيب (موجود) في طريق القلب و الطريق كأنّه حيران، و اتّحد البحر بالغدير و أضحى الغدير يبحث كلّ هذا البحث.
إنّه مع اختفائه و استتاره ظاهر و عيان في الأعيان، و بالرغم من عدم تَلوُّنه فقد اقتبس كلّ شي‏ء لونه و عبيره منه».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 305
         يار در اين انجمن يوسف سيمين بدن             آينه خانه جهان، او به همه رو به روست‏
             پرده حجازى بساز يا به عراقى نواز             غير يكى نيست راز؛ مختلف از گفتگوست‏
             مخزن اسرارِ اوست سرّ سويداى دل             در پيَش اسرار باز در به در و كو به كوست [1]

روي آية الله المرحوم الحاجّ ميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ هذا الحديث على صورتَيْن. فقد قال: فَلَوْ كَانَ العَمَلُ عَمَلًا فَلَا بُدَّ أن يُثْمِرَ نُوراً وَ مَعْرِفَةً في القَلْبِ. فَلَا يَزَالُ يَزْدَادُ نُورُهُ حتى يَكُونَ مَحْسُوساً لِكُلِّ أحَدٍ. أمَا سَمِعْتَ مَا في الحَدِيثِ القُدْسِيّ:
لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ العَبْدُ إلى بِالنَّوَافِلِ حتى أجْعَلَهُ مِثْلِي- إلى آخره.
وَ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ العَبْدُ إلى بِالنَّوَافِلِ حتى احِبَّهُ وَ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ- إلى آخره. [2]
                        معنى كلام الإمام الصادق عليه السلام «حتى سَمِعْتُهَا مِنَ المتَكَلم بِهَا»

و يصف المحقّق الفيض الكاشانيّ سماع الإمام جعفر الصادق عليه‏
__________________________________________________
1- يقول: «أن مَثَل الحبيب في حفلنا هذا كمثل يوسف ذي الجسم الفضّيّ اللون، يُشبه الحجرة المُغطّاة جدرانها بالمرايا، فأينما وَلّيتَ وجهك رأيته، فهو أمام الجميع.
اصنَع ستاراً حجازيّاً أو اعزِف لحناً عراقيّاً، فلا وجود إلّا لسرّ واحد؛ مختلف عن كلّ (ما عهدناه من) حديث.
إنّه هو مخزن الأسرار و عيبتها و هو سرّ سُوَيداء القلب، و هو الذي يعرف الأسرار جميعاً».
 «ديوان حكيم حاج ملّا هادي سبزواري» المعروف ب- «الأسرار» ص 38 و 39، مكتبة ثقفي، أصفهان.
2- «أسرار الصلاة» ص 175، طبعة مطبعة الحيدريّ، سنة 1380 هجريّة قمريّة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 306
السلام كلامه هو كلام الله و بإذن الله بما يلي:
وَ عَنْهُ عليه السلام: أنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَالَةٍ لَحِقَتْهُ في الصَّلَاةِ حتى خَرَّ مَغْشِيَّاً عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا أفَاقَ قِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا زِلْتُ ارَدِّدُ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى قَلْبِي حتى سَمِعْتُهَا مِنَ المُتَكَلِّمِ بِهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ جِسْمِي لِمُعَايَنَةِ قُدْرَتِهِ. [1]
و يقول المحقّق الفيض أيضاً في هذا الكتاب [2]: «و قد أخبر جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام عن أعلى درجات هذه الحالة بقوله: وَ اللهِ لَقَدْ تَجَلَّى اللهُ لِخَلْقِهِ في كَلَامِهِ وَ لَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ. [3] و بعدها بصفحة واحدة يورد الفيض هنا نفس الرواية السابقة التي نقلها في «أسرار الصلاة».
يقول السيّد ابن طاووس رحمه الله في كتاب «فلاح السائل» [4]: فَقَدْ رُوِيَ أن مَوْلَانَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ [عَلَيْهِ‏السَّلَامُ‏] كَانَ يَتْلُو القُرْآنَ في صَلَاتِهِ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا أفَاقَ سُئِلَ: مَا الذي أوْجَبَ مَا انْتَهَتْ حَالُكَ إليه؟ فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: مَا زِلْتُ اكَرِّرُ آيَاتِ القُرْآنِ حتى بَلَغْتُ إلَى حَالٍ كَأنَّنِي سَمِعْتُ مُشَافَهَةً مِمَّنْ أنْزَلَهَا، عَلَى المُكَاشَفَةِ وَ العِيَانِ، فَلَمْ تَقُمِ القُوَّةُ البَشَرِيَّةُ بِمُكَاشَفَةِ الجَلَالَةِ الإلَهِيَّةِ.
و بعدها يقول السيّد في توضيحه: «أنت الذي لا تعرف حقيقة هذا الأمر، إيّاك و أن تستبعد ذلك، أو يوسوس الشيطان لك فيجعلك تشكّ أو
__________________________________________________
1- «المحجّة البيضاء» ج 1، ص 352، طبعة مكتبة الصدوق، سنة 1339 شمسيّ (1380 ق)، كتاب «أسرار الصلاة»؛ و يقول في التعليق عليه: عن «بحار الأنوار» عن «فلاح السائل».
2- ج 2، ص 247، كتاب آداب تلاوة القرآن.
3- يقول في تعليقه: قد نقله الشهيد في «أسرار الصلاة» ص 204.
4- ص 107 و 108، طبعة فرهومند، سنة 1382 هجريّة قمريّة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 307
تتردّد في قبول هذا الذي نرويه لك. فعليك أن تؤمن بذلك، أفلم تسمع بقول البارئ جلَّ جلاله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ موسى صَعِقًا».
و يحكي آية الله الحاجّ ميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ في رسالة «لقاء الله» [1] و كذلك في كتاب «أسرار الصلاة» [2] نفس عبارة السيّد في «فلاح السائل»، و يقول في ص 212 من هذه الطبعة (و في ص 93 من الطبعة القديمة): «و الارتقاء هو أن تسمو به القراءة صعوداً حتى يصل إلى الحالة التي يسمع بها كلام الله كما رأيت في قراءة الإمام الصادق عليه السلام في الجملة التي يقول فيها: حتى سَمِعْتُهَا مِنَ المُتَكَلِّمِ بِهَا».
و في ص 242 من هذه الطبعة (ص 107 من الطبعة القديمة) يقول: وَ مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنْ غَشْوَةِ الصَّادِقِ عليه السلام عِنْدَ تَكْرَارِ «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»؛ و ما روي عن الإمام السجّاد عليه السلام: إ ذَا قَرَأهُ، يُكَرِّرُهُ حتى يَكَادُ أن يَمُوتَ».
                        الطرق العديدة عن الخاصّة و العامّة للخبر الصادقيّ: «مَا زِلْتُ...»

يروي المجلسي رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» [3] عن «فلاح السائل»: «قال صاحب كتاب «زهرة المهج و تواريخ الحجج» بسنده عن الحسن بن محبوب، عن عبدالعزيز العبدي، عن ابن أبي يعفور أنّه قال: قَالَ مَوْلَانَا الصَّادِقُ عليه السلام: كَانَ علي بن الحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ وَ اصْفَرَّ لَوْنُهُ وَ ارْتَعَدَ كَالسَّعَفَةِ». [4]
و بنفس المعنى يروي الكلينيّ أن مولانا زين العابدين عليه السلام كَانَ‏
__________________________________________________
1- من النسخة الخطّيّة بقلم الحقير: ص 16 و 17؛ و من النسخة المطبوعة: ص 43.
2- الطبعة الحجريّة، أحمد شاهي: ص 84 و 85؛ و طبعة فروهمند: ص 195 و 196.
3- طبعة الإسلاميّة، ج 84، ص 247، كتاب الصلاة، باب آداب الصلاة.
4- «فلاح السائل» ص 101- التعليقة.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 308
إذَا قَالَ: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»، يُكَرِّرُهَا في قِرَاءَتِهِ حتى كَانَ يَظُّنُّ مَنْ يَرَاهُ أنَّهُ قَدْ أشْرَفَ عَلَى مَمَاتِهِ. [1]
وَ رُوِيَ أن مَوْلَانَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَ يَتْلُو القُرْآنَ في صَلَاتِهِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا أفَاقَ سُئِلَ مَا الذي أوْجَبَ مَا انْتَهَتْ حَالُهُ إليه، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: مَا زِلْتُ اكَرِّرُ آيَاتِ القُرْآنِ حتى بَلَغْتُ إلَى حَالٍ كَأنَّنِي سَمِعْتُهَا مُشَافَهَةً مِمَّنْ أنْزَلَهَا». [2] انتهت رواية المجلسيّ رحمه الله.
و يروي الكلينيّ في «اصول الكافي» [3] عن علي بن إبراهيم، بإسناده عن الزُّهريّ قال: «قَالَ علي بن الحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: لَوْ مَاتَ مَنْ بَيْنَ المَشْرِقِ وَ المَغْرِبِ لَمَا اسْتَوْحَشْتُ بَعْدَ أن يَكُونَ القُرْآنُ مَعِي. وَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا قَرَأ «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» يُكَرِّرُهَا حتى كَادَ أن يَمُوتَ.
يقول الملّا عبدالرزّاق الكاشانيّ في كتاب «الاصطلاحات» على هامش «شرح منازل السائرين» في «مائة باب» للخواجة عبد الله الأنصاريّ: المُطَّلَعُ هُوَ مَقامُ شُهُودِ المُتَكَلِّمِ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ كَلَامِهِ مُتَجَلِّياً بِالصِّفَةِ التي هي مَصْدَرُ تِلْكَ الآيَةِ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ [عَلَيْهِمَا السَّلَامُ‏]: لَقَدْ تَجَلَّى اللهُ لِعِبَادِهِ في كَلَامِهِ وَ لَكنْ لَا يُبْصِرُونَ. وَ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ في الصَّلَاةِ فَخَّرَ مَغْشِيَّاً عَلَيْهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: مَا زِلْتُ اكَرِّرُهَا حتى سَمِعْتُ مِنْ قَائِلِهَا.
قالَ الشَّيْخُ الكَبِيرُ شِهَابُ الدِّينِ قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُ: كَانَ لِسَانُ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عليه السلام في ذَلِكَ الوَقْتِ كَشَجَرةِ موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ
__________________________________________________
1- «فلاح السائل» ص 104- التعليقة.
2- «فلاح السائل» ص 107 و 108- التعليقة.
3- ج 2، ص 602، كتاب فضل القرآن، الطبعة الثانية، سنة 1381 ه- مكتبة الصدوق.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 309
نِدَائِهِ مِنْهَا بِأنِّي أنَا اللهُ. وَ لَعَمْرِي أن المُطَّلَعَ أعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَ هُوَ مَقَامُ شُهُودِ الحَقِّ في كُلِّ شَي‏ءٍ مُتَجَلِّياً بِصِفَاتِهِ التي ذَلِكَ الشَّي‏ءُ مَظْهَرُهَا؛ لَكِنْ لَمَّا وَرَدَ في الحَدِيثِ النَّبَوِيّ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ‏]: «مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَ لَهَا ظَهْرٌ وَ بَطْنٌ، وَ لِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ وَ لِكُلِّ حَدٍّ مُطَّلَعٌ» خَصُّوهُ بِذَلِكَ. [1]
يقول الغزّاليّ في «إحياء العلوم» [2]: و أخبر جعفر بن محمّد الصادق رضي الله عنه عن عظمة قراءة القرآن قَالَ: وَ اللهِ لَقَدْ تَجَلَّى اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِخَلْقِهِ في كَلَامِهِ وَ لَكِنَّهُمْ لَا يُبصِرُونَ. وَ قَالَ أيْضاً وَ قَدْ سَألُوهُ عَنْ حَالَةٍ لَحِقَتْهُ في الصَّلَاةِ- حتى آخر الرواية المروية في «فلاح السائل» و عندها يقول: «و عليه ففي مثل هذه الدرجة، تزداد حلاوة القراءة و لذّة المناجاة حتى يقول أحد الحكماء: لقد اعتدتُ على قراءة القرآن ولكن بدون أن أشعر بحلاوة ذلك، حتى صرتُ أقرأه بشكلٍ و كأنّي أسمعهُ بصورة مباشرة من لسان النبيّ و هو يتلوه على أصحابه. و بعد ذلك، ارتقيتُ مرتبة أعلى، و ذلك بقراءته بشكل يجعلني و كأنّي أسمعُ جبرائيل عليه السلام و هو يلقيه على النبيّ، و بعدها أكون في حالة و كأنّي أسمعهُ من الناطق بالقرآن نفسه. و هنا، أشعرُ بلذّة و نعيم لا أقوى عليهما و لا أتملّك نفسي»- انتهى كلام الغزّاليّ.
يقول مؤلّف «كشف الغايات في شرح ما اكتنفت عليه التجلّيات» [3] و هو شرح على كتاب «التجلّيات الإلهيّة» لمحيي الدين بن عربي: كَانَ الإمَامُ‏
__________________________________________________
1- الطبعة الحجريّة، ص 120.
2- طبعة دار الكتب العربيّة الكبرى، ج 1، ص 259.
3- طبعة مركز نشر دانشگاهي- طهران 1408 ه-، بتحقيق عثمان إسماعيل يحيي، ص 172.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 310
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذَاتَ يَوْمٍ في الصَّلَاةِ، فَخَرَّ مَغْشِيَّاً عَلَيْهِ. فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا زِلْتُ اكَرِّرُ آيَةً حتى سَمِعْتُ مِنْ قَائِلِهَا، فَكَانَ بِي مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ. (عن «عوارف المعارف» للسهرورديّ و «إحياء العلوم»).
يقول الحكيم السبزواريّ في «ديوان أسرار» [1]:
         شورش عشق تو در هيچ سرى نيست كه نيست             منظر روى تو زيب بصرى نيست كه نيست‏
             نيست يك مرغ دلى، كش نفكندى به قفس             تير بيداد تو تا پر به پرى نيست كه نيست‏
             ز فغانم ز فراق رخ و زلفت به فغان             سگ كويت همه شب تا سحرى نيست كه نيست‏
             نه همين از غم او سينة ما صد چاك است             داغ او لاله صفت بر جگرى نيست كه نيست [2]

__________________________________________________
1- ص 39 و 40، طبعة كتابفروشي ثقفي- أصفهان، سنة 1338 شمسي (
/ 1379 ق).
2- يقول: «ليس من رأس إلّا و فيه هياج حبّك، و ليس من بصر إلّا و هو ناظر إلى طلعتك الجميلة.
لقد أسرتَ في قفصك كلّ طائر من طيور القلوب و حبسته فيه، و أن سهامك القاتلة لا تعرف الخيبة أبداً.
ما بقي صوت لعواء كلبٍ عند حيّك لارتفاع صوت صراخي و أنيني كلّ ليلة إلى وقت السَّحَر.
ليست صدورنا هي وحدها التي تمزّقت بسبب الحزن عليه و حسب، بل أن الأسى الذي خَلّفَه فينا وَضعَ علائمه واضحة على جميع الأكباد».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 311
         موسئى نيست كه دعوى أنا الحقّ شنود             ور نه اين زمزمه اندر شجرى نيست كه نيست‏
             چشم ما ديدة خفّاش بود ور نه ترا             پرتو حسن به ديوار و درى نيست كه نيست‏
             گوش اسرار شنو نيست وگر نه اسرار             برش از عالم معنى خبرى نيست كه نيست [1]

__________________________________________________
1- يقول: «ليس هناك موسى ليسمع نداء (أنا الحقّ)، و إلّا فليس من شجرة إلّا و تضجّ بهذا النداء.
لا شكّ أن عيوننا تشبه عيون الخفافيش، و إلّا، فنور جمالك الذي لا نظير له يملُا الأبواب و الجدران.
وليست هناك اذُنٌ واعية تعي تلك الأسرار، و إلّا فمن أين حصل «أسرار» على (كلّ تلك) الأخبار من عالَم المعني؟».
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 313
                        البَحْثَانْ الحَادِي عَشَرَ وَ الثَّانِي عَشَر اللهُ في كُلِّ مَكَانٍ، افْتَحْ عَيْنَيْكَ وَ حَدِّقْ‏

وتفسير الآية المباركة
مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ اللهِ فَإنَّ أجَلَ اللهِ لأتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 315
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ‏
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم‏
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ‏
وَ لَعْنَةُ اللهُ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‏
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ‏
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللهِ فَإنَّ أجَلَ اللهِ لأتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. [1]
و الآيات السابقة لها هي:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏
الم، أحَسِبَ النَّاسُ أن يُتْرَكُوا أن يَقُولُوا ءَ امَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، أمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ.
أمّا الآيات اللاحقة لها فهي:
وَ مَن جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ أن اللهَ لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَ الَّذِينَ ءَ امَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أحْسَنَ الذي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
__________________________________________________
1- الآية 5، من السورة 29: العنكبوت.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 316
في الآية، موضوع البحث، يعد الله سبحانه و تعالى شأنه، المشتاقين إلى رؤيته صراحةً بلقائه و زيارته، و ينبّه إلى أن الأمر لا ينتهي بمجرّد قول الشهادتين و الإيمان باللسان، بل أن المؤمنين أمامهم امتحانات عديدة عليهم اجتيازها، و بدون الاختبار، و وضع المتفوّهين بالشهادتين و الإيمان باللسان على محكّ التجربة، يستحيل على أحد الصعود إلى درجات النعيم و الفوز بالجنان و لقاء جمال الواهب المنّان، و هي سنّة سنيّة، و دأب قديم للّه في إخضاع كلّ الامم و الأقوام للامتحان، حتى يتبيّن المؤمن الصادق من المدّعي الكاذب.
و لقد ساء ما يعتقد به البعض و ضلّ ضلالًا كبيراً، أنّه بارتكاب القبائح و المعاصي يسبقون إرادة الله و اختياره و قدره و قضاءه، بل سيندحرون، و سيتبيّن لهم أنّهم توهّموا كونهم أحراراً غير مقيّدين في ارتكابهم تلك الأعمال في عالم الكون و الأمر و الخلق و الإيجاد، ساء ما يعتقدون به و يظنّون، حيث لم يعقلوا أن استباقهم لأمر الله و تأخّرهم عنه، هو أمر إلهيّ محيط بهم، و أنّهم بطريقة تفكيرهم هذه إنّما يضعون أنفسهم في قبضة إرادة الله القاهرة و مشيئته الغالبة.
و أمّا الذين يتُوقون إلى رؤية الله و لقائه، فستتحقّق لهم امنيتهم تلك، و لن يخيب أملهم أو تحبط مساعيهم؛ و سيحين موعد اللقاء، و تطوي صفحة البُعد و الهجران، فالله الواحد العالم بالخلق و السميع بهم؛ على علمٍ تامّ بتلك الامنية، و سيكشف النقاب عن وجهه المشرق، و سيُلقّى السالك جائزته لقاء سعيه و اجتهاده الحثيث في سبيل لقاء الله و رؤيته.
إن اجتهاد الناس و رغبتهم في لقاء الله، لا ينفع الله في شي‏ء، لأنّه غنيّ عن العالمينَ، و أن مردود و ثواب اجتهاد و سعي الإنسان المجاهد و الساعي و السالك، إنّما هو عائد له.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 317
إن الذين آمنوا بالله لا بلسانهم بل بأعماق قلوبهم، و أعقبوا ذلك أعمالًا صالحة تُرضِي الله المحبوب الأزليّ، الذين تجيش في نفوسهم فكرة لقاء الله، فلا جرم أن الله سبحانه سيغفر ما تقدّم من ذنوب هؤلاء المحبّين الصادقين و يثيبهم على صالح أعمالهم.
                        تفسير «الميزان» لآية: مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ الله فَإِنَّ أجَلَ الله لأتٍ‏

                        تفسير أيات أوائل سورة العنكبوت في امتحان المؤمنين و رجاء لقاء الله‏

قال جناب استاذنا الأعظم المفسّر الأكبر: العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تربته المنيفة في تفسير هذه الآيات:
 «يلوح من سياق آيات السورة و خاصّة ما في صدرها من الآيات أن بعضاً ممّن آمن بالنبيّ صلى الله عليه و آله بمكّة قبل الهجرة رجع عنه خوفاً من فتنة كانت تهدّده من قِبَل المشركين، فإنّ المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملّتهم و يضمنون لهم أن يحملوا خطاياهم إن اتّبعوا سبيلهم فإن أبوا فتنوهم و عذّبوهم ليعيدوهم إلى ملّتهم.
يشير إلى ذلك قوله تعالى: وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَ امَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ- الآية. [1]
و قوله: وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَ امَنَّا بِاللهِ فَإذَآ اوذِيَ في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ- الآية. [2]
و كأنّ في هؤلاء الراجعين عن إيمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن يرجع و إلحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشمّ من قوله تعالى: وَ وَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَ إن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا- الآية [3]، و قد نزلت‏
__________________________________________________
1- الآية 12، من السورة 29: العنكبوت.
2- الآية 10، من السورة 29: العنكبوت.
3- الآية 8، من السورة 29: العنكبوت.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 318
السورة في شأن هؤلاء.
فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها و ختامها و السياق الجاري فيها أن الذي يريده الله سبحانه من الإيمان ليس هو مجرّد قولهم: ءَ امَنَّا بِاللهِ، بل هو حقيقة الإيمان التي لا تحرّكها عواصف الفتن و لا تغيّرها غِيَر الزمن، و هي إنما تتثبّت و تستقرّ بتوارد الفتن و تراكم المحن.
فالناس غير متروكين بمجرّد أن يقولوا: ءَ امَنَّا بِاللهِ دون أن يُفتنوا و يُمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الإيمان أو وصمة الكفر فليعلمنّ الله الذين صدقوا و يعلم الكاذبين.
فالفتنة و المحنة سُنّة إلهيّة لا معدّل عنها تجري في الناس الحاضرين كما جرت في الامم الماضين كقوم نوح و عاد و ثمود و قوم إبراهيم و لوط و شعيب و موسى فاستقام منهم من استقام و هلك من هلك. وَ مَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَ لَكِن كَانُوا أنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. [1]
فعلى من يقول: ءَ امَنْتُ بِاللهِ أن يصبر على ايمانه و يعبد الله وحده فإن تعذّر عليه القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة و لا يَخَفْ عسر المعاش فإنّ الرزق على الله.
وَ كَأيِّن مِّن دَآبَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَ إيَّاكُمْ. [2]
و أمّا المشركون الذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه إلّا أن يقولوا: رَبُّنَا اللهُ فلا يحسبوا أنّهم يُعجزون الله و يسبقونه، فأمّا فتنتهم للمؤمنين و إيذاؤهم و تعذيبهم فإنّما هي فتنة لهم و للمؤمنين غير خارجة عن علم الله و تقديره، فهي فتنة و هي محفوظة عليهم إن شاء أخذهم بوبالها في‏
__________________________________________________
1- ذيل الآية 33، من السورة 16: النحل.
2- صدر الآية 60، من السورة 29: العنكبوت.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 319
الدنيا و إن شاء أخّرهم إلى يوم يُرجعون فيه إليه، و ما لهم من محيص.
و أمّا ما لفّقوه من الحجّة و ركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم و الحجّة قائمة تامّة عليهم.
ثمّ يصل سماحة الاستاذ إلى تفسير الآية الثانية فيقول:
قوله تعالى: وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.
اللامان للقسم، و قوله: وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حال من الناس في قوله: أحَسِبَ النَّاسُ، أو من ضمير الجمع في قوله: لَا يُفْتَنُونُ. و على الأوّل فالإنكار و التوبيخ متوجّه إلى ظنّهم أنّهم لا يُفتنون مع جريان السنّة الإلهيّة على الفتنة و الامتحان، و على الثاني إلى ظنّهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوماً و لا يفتن آخرين، و لعلّ الوجه الأوّل أوفق للسياق.
فالظاهر أن المراد بقوله: وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أن الفتنة و الامتحان سنّة جارية لنا و قد جرت في الذين من قبلهم و هي جارية وَ لَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا. [1]
و قوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا إلى آخر الآية، تعليل لما قبله، و المراد بعلمه تعالى بالذين صدقوا [و] بالكاذبين ظهور آثار صدقهم و كذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة و الامتحان الملازم لثبوت الإيمان في قلوبهم حقيقة و عدم ثبوته فيها حقيقة فإنّ السعادة التي تترتّب الإيمان المدعو إليه و كذا الثواب إنما تترتّب على حقيقة الإيمان الذي له آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره و الصبر على طاعة الله و الصبر عن معصية الله لا على دعوى الإيمان المجرّدة.
__________________________________________________
1- ذيل الآية 23، من السورة 48: الفتح.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 320
و يمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعليّ الذي هو نفس الأمر الخارجيّ، فإنّ الامور الخارجيّة بنفسها من مراتب علمه تعالى، و أمّا علمه تعالى الذاتيّ فلا يتوقّف على الامتحان البتّة.
و المعنى: أحَسِبُوا أن يتركوا و لا يُفتنوا بمجرّد دعوى الإيمان و إظهاره، و الحال أن الفتنة سنّتنا و قد جرت في الذين من قبلهم، فمن الواجب أن يتميّز الصادقون من الكاذبين بظهور آثار صدق هؤلاء و آثار كذب اولئك، الملازم لاستقرار الإيمان في قلوب هؤلاء و زوال صورته الكاذبة عن قلوب اولئك.
و الالتفات في قوله «فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ» إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل و تربية المهابة، و الظاهر أنّه في أمثال المقام لإفادة نوعٍ من التعليل.
و ذلك أن الدعوة إلى الإيمان و الهداية إليه و الثواب عليه لمّا كانت راجعة إلى المسمّى بالله الذي (مِنْهُ يَبْدَا كُلُّ شَي‏ءٍ، وَ بِهِ يَقومُ كُلُّ شَي‏ءٍ، وَ إليه يَنْتَهي كُلُّ شَي‏ءٍ بِحَقيقَتِهِ.) فمن الواجب أن يتميّز عنده حقيقة الإيمان من دعواه الخالية، و يخرج عن حال الإبهام إلى حال الصراحة، و لذلك عدل عن مثل قولنا: فَلَنَعْلَمَنَّ، إلى قوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ.
                        المراد ب- «الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ» هم المشركون الذين...

قوله تعالى: أ مْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ.
 «أمْ» منقطعة، و المراد بقوله: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ المشركون الذين كانوا يفتنون المؤمنين و يصدّونهم عن سبيل الله، كما أن المراد بالناس في قوله: أحَسِبَ النَّاسُ هم الذين قالوا: ءَ امَنَّا، و هم في معرض الرجوع عن الإيمان خوفاً من الفتنة و التعذيب.
و المراد بقوله: أن يَسْبِقُونَا، الغلبة و التعجيز بسبب فتنة المؤمنين و صدّهم عن سبيل الله، على ما يعطيه السياق.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 321
و قوله: سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ، تخطئة لظنّهم أنّهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة و صدّ، فإنّ ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم و صدّ لهم عن سبيل السعادة؛ وَ لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأهْلِهِ. [1]
ثمّ يصل العلّامة بعد بيان موجز إلى هذه الآية، فيقول في تفسيرها و تفسير الآيتينِ اللتين تعقبانها:
 «قوله تعالى: مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللهِ فَإنَّ أجَلَ اللهِ لأتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. إلى تمام ثلاث آيات. لما وبّخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الإيمان و رجوعهم عنه بأيّ فتنة و إيذاء من المشركين، و وبّخ المشركين على فتنتهم و إيذائهم المؤمنين و صدّهم عن سبيل الله إرادة لإطفاء نور الله و تعجيزاً له فيما شاء و خطأ الفريقين فيما ظنّوا. رجع إلى بيان الحقّ الذي لا معدّل عنه و الواجب الذي لا مخلص منه، فبيّن في هذه الآيات الثلاث أن من يؤمن بالله لتوقّع الرجوع إليه و لقائه، فليعلم أنّه آتٍ لا محالة و أن الله سميع لأقواله عليم بأحواله و أعماله، فليأخذ حذره و ليؤمن حقّ الإيمان الذي لا يصرفه عنه فتنة و لا إيذاء و ليجاهد في الله حقّ جهاده، و ليعلم أن الذي ينتفع بجهاده هو نفسه و لا حاجة للّه سبحانه إلى إيمانه و لا إلى غيره من العالمينَ، و ليعلم أنّه إن آمن و عمل صالحاً فإنّ الله سيُكفّر عنه سيئاته و يجزيه بأحسن أعماله.
و العلمان الأخيران يؤكّدان العلم الأوّل و يستوجبان لزومه الإيمان‏
__________________________________________________
1- الآيتان 42 و 43، من السورة 35: فاطر: وَ أقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهْدَى مِنْ إحدى الامَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إلَّا نُفُورًا، اسْتِكْبَارًا في الأرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّي‏ءِ وَ لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إلَّا سُنَّتَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَ لَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 322
و صبره على الفتن و المحن في جنب الله.
فقوله: مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللهِ، رجوع إلى بيان حال مَن يقول: آمنت فإنّه إنّما يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقّعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة، إذ لولا المعاد لَلُغِي الدين من أصله، فالمراد بقوله: مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللهِ: مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ؛ أو من كان يقول: آمَنْتُ بِاللهِ. فالجملة من قبيل وضع السبب موضع المسبّب.
                        بيان العلّامة: لقاء الله لا ينحصر في القيامة

و المراد ب- لِقَآءَ اللهِ وقوف العبد موقفاً لا حجاب بينه و بين ربّه، كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى:
وَ يَعْلَمُونَ أن اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ. [1]
و قيل: المراد بلقاء الله هو البعث. و قيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء مَلَك الموت و الحساب و الجزاء. و قيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب. و قيل: ملاقاة حكمة يوم القيامة، و الرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف.
و هذه وجوه مجازيّة بعيدة لا موجب لها إلّا أن يكون من التفسير بلازم المعنى.
و قوله: فَإنَّ أجَلَ اللهِ لأتٍ، الأجل هو الغاية التي ينتهي إليها زمان الدين و نحوه، و قد يطلق على مجموع ذلك الزمان و الغالب في استعماله هو المعنى الأوّل.
و أجَلَ اللهِ: هو الغاية التي عيّنها الله تعالى للقائه، و هو آت لا ريب فيه و قد أكّد القول تأكيداً بالغاً، و لازم تحتّم إتيان هذا الأجل و هو يوم القيامة أن لا يسامح في أمره و لا يستهان بأمر الإيمان بالله حقّ الإيمان‏
__________________________________________________
1- ذيل الآية 25، من السورة 24: النور.
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 323
و الصبر عليه عند الفتن و المحن من غير رجوع و ارتداد، و قد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله: وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، إذ هو تعالى لمّا كان سميعاً لأقوالهم عليماً بأحوالهم فلا ينبغي أن يقول القائل: آمنت بالله إلّا عن ظهر القلب و مع الصبر على كلّ فتنة و محنة.
و من هنا يظهر أن ذيل الآية: فَإنَّ أجَلَ اللهِ لأتٍ من قبيل وضع السبب موضع المسبّب كما كان صدرها: مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللهِ أيضاً، و الأصل من قال: آمَنْتُ بِاللهِ. فليقله مستقيماً صابراً عليه مجاهداً في ربّه.
و قوله: وَ مَن جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ أن اللهَ لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ، المجاهدة و الجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، و فيه تنبيه لهم أن مجاهدتهم في الله بلزوم الإيمان و الصبر على المكاره دونه ليست ممّا يعود نفعه إلى الله سبحانه حتى لا يهمّهم و يُلغوه لغِناهم عنه، بل إنّما يعود نَفعُهُ إليهم أنفسهم، لغناهُ تعالى عن العالمين، فعليهم أن يلزموا الإيمان و يصبروا على المكاره دونه.
فقوله: وَ مَن جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ تأكيد لحجّة الآية السابقة. و قوله: أن اللهَ لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ تعليل لما قبله.
و الالتفات من سياق التكلّم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مرّ من الالتفات في قوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا.
و قوله: وَ الَّذِينَ ءَ امَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أحْسَنَ الذي كَانُوا يَعْمَلُونَ. بيان لعاقبة إيمانهم حقّ الإيمان المقارن للجهاد و يتبيّن به أن نفع إيمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه و أنّه عطيّة من الله و فضل.
و على هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الإيمان و العمل الصالح، فإنّها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة: «و من‏
                        معرفة الله، ج‏1، ص: 324
جاهد» من قوله في هذه الآية: «و الذين آمنوا و عملوا الصالحات».

Tidak ada komentar:

Posting Komentar